تاريخ فلسطين

مراجعة 00:27، 20 ديسمبر 2005 بواسطة 213.178.224.229 (نقاش)

(فرق) → مراجعة أقدم | مراجعة معتمدة (فرق) | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)


الدكتور اميل توما


جذور القضية الفلسطينية





                                                                      دائرة الاعلام والثقافة 
                                                                م . ت . ف 


تمهيد تتصف مؤلفات الدكتوراميل توما، بالعمق في التحليل والجرأة في الطرح.. وتكتسب مؤلفاته أهمية إضافية لدى القارىء العربي في ضوء الموقع النضالي المتميز الذي يتابع منه حهوده الفكرية البارزة مقترنة بممارسته النضالية اليومية العملية ، حيث أنه من مناضلي شعبنا البارزين داخل الوطن المحتل . وفي كتابه " جذور القضية الفلسطينية " ومثل كافة مؤلفاته الأخرى ، يعالج الدكتور أميل توما القضية الفلسطينية من منطلق اشتراكي علمي ، ولا يقتصر على العرض التاريخي ، وقد كان من شأن ذلك أن يعطي كتابه هذا أهمية خاصة تبدّت من إقبال القارىء على اقتنائه كمرجع أساسي في التأريخ للقضية الفلسطينية . وقد رأت دائرة الاعلام والثقافة تلبية هذه الحاجة الملحة بإصدار طبعة جديدة من الكتاب لتكون في متناول الجميع .

                                                           دائرة الاعلام والثقافة 
   

وعاد شافتسبري ليؤكد هذا الأمر بعد ربع قرن. ففي مقال كتبه عام 1876 تحدث عن اليهود بوصفهم تجارآ بارزين وقال إن سورية تحتاج إلى رأس مال وسكان . واستنتج أن اليهود يستطيعون تزويدها بالأمرين ، وسأل شافتسبري: أوليس لبريطانية مصلحة في ذلك ؟... وأجاب: " إنها لضربة لانجلترة إذا ما استولى أي من منافسيها على سورية. فامبراطوريتها التي تمتد من كندة في الغرب إلى كلكتا (الهند) وأسترالية في الجنوب الشرقي تقطع نصفين... يجب أن تصون إنجلترة سورية لنفسها... ألا تستدعي السياسة إذن أن تنمي إنجلترة ، وهي دولة تجارية بحرية عظمى ، قومية اليهود وأن يرجع إليها فضل استيطان اليهود في فلسطين " (سجل ذلك ناحوم سوكولوف في كتابه تاريخ الصهيونية المجلد الأول ص 206) . وبين هذين التاريخين: 1840و 1876 عالج عدد من الكتاب والساسة البريطانيين غير اليهود ما كان يطلق عليها آنذاك المسألة التركية أو المسألة الشرقية وأكدوا أمرين ، بالتساوي تقريبآ: ضرورة سيطرة بريطانية على الشرق الأدنى وبالتحديد سورية (وتشمل فلسطين) واستخدام اليهود أو العبرانيين في استيطان فلسطين أوسورية لتثبيت السيطرة البريطانية على المنطقة وحماية طريق الهند. وكان أحد هؤلاء الكولونيل شارلزهنري تشرشل (1814- 1877) أحد ضباط الحملة البريطانية التي حاربت القوات المصرية العربية في سورية عام 1840. كتب في مقدمة كتابه " جبل لبنان " (بالانجليزية صدر عام 1853): إن كنا نريد الاسراع في تقدم المدنية وأردنا توطيد سيادة إنجلترة في الشرق فمن الواجب أن تقع سورية ومصر تحت سيطرتها ونفوذها بهذا الشكل أو بذاك. ودعا إلى مثل هذا المستشرق البريطاني السير أوستن هنري لايارد (1817-1894) عضو البرلمان في سنوات الخمسين من القرن التاسع عشر، قال في إحدى خطبه التي عالج فيها المسألة التركية: "علينا أن لا ننسى أنه إذا كانت مصرطريقآ من الطرق إلى الهند فسورية ووادي الدجلة والفرات هي الطريق والدولة التي تسيطر على هذين القطرين تتحكم في الهند". (مجموعة خطاباته في المسألة التركية ص 10 صدر بالانجليزية عام 1857). وقال الكولونيل جورج جولر (1796- 1869) في خطاب ألقاه في 20 كانون الثاني (يناير)1853 : لقد وضع القدر سورية ومصر.. إنجلترة وأعظم مناطق امبراطوريتها الكولونيالية ومراكزتجارتها في الهند والصين والأرخبيل الهندي وأوسترالية. وأضاف ان استيلاء اي دولة على مصر وسورية يهدد تجارة بريطانية ، ولذلك يدعو القدر إنجلترة الى تحسن سورية وتطورها وذلك بنشاط أبناء إسرائيل ومساعيهم. وتؤكد هذه التصريحات فعالية المحرك الكولونيالي في دفع كتاب انجلترة وساستها إلى الدعوة الى بسط النفوذ البريطاني على سورية (فلسطين) واستخدام أبناء اسرائيل أو العبرانيين في استيطانها على نسق المستوطنين الأوروبيين في أميركة لتحقيق ذلك، فهذا فقط يفسر صدور الكتب العديدة نسبيأ التي تدعو الى هذا الأمر (1). وقد طابق اشتداد الاهتمام الكولونيالي في الشرق الأدنى أزمات سياسية دولية معينة ، الأولى أثناء محاولة محمد علي وولده إبراهيم إقامة الدولة العربية الكبيرة في مصر وسورية ، والثانية أثناء التوتر الذي رافق مسألة حفر قناة السويس وملابساتها . ولاحظ هذا الأمر هوراس مايركالن في كتابه " الصهيونية والسياسة الدولية " فكتب: انتشرت فكرة بعث إسرائيل باعتبارها ممكنة التحقيق على صعيد السياسة العملية والمستوى الدينى (2) في بريطانية وفرنسة بين غير اليهود بشكل أوسع وأشد من أنتشارها بين اليهود، فبالنسبة لهولنغورث حين كتب عام 1952 في إنجلترة (ملاحظات حول وضع اليهود في فلسطين) لم تكن إقامة الدولة اليهودية في فلسطين عملأ إنسانيأ وعادلأ بل ضرورة سياسية في الذهن البريطاني لحماية الطريق عبر آسية الصغرى إلى الهند- أما المحرك المباشر فكان الحديث الملح حول قناة السويس . فهذا المشروع الكبير حرك الفرنسيين للتفكير بالفكرة نفسها (بعث إسرائيل) كما يظهرذلك من كتاب دينبي " المشكلة الشرقية الجديدة " وكتاب لاهرامي : " المسألة الشرقية " (ص 48- 49) . وهكذا ينبه هذا الكاتب إلى أن سياسة الكولونيالية البريطانية الصهيونية... أي تبني إنجلترة فكرة "بعث إسرائيل " قابلتها في مرحلة قصيرة سياسة كولونيالية فرنسية صهيونية . وبذلك جرى التنافس الكولونيالي حول فلسطين في ميدان واحد هو ميدان (البعث الاسرائيلي ) إلا ان هذه الفترة كانت قصيرة جداً . والكولونيالية الفرنسية لم تهتم الاهتمام الضخم بالمشروع الكولونيالى الاسرائيلي الذي أيدته بريطانية منذ عام 1840 ومابعد. وتعود إلى هذه الفترة محاولة " تخفيف حدة التنافس الأنجلو- فرنسي باقتراح هنري دونانت ، في رسالة مفتوحة تأليف جمعية شرقية دولية يؤيدها الرأي العام الدولي لبعث الشرق زراعيآ وصناعيأ وتجاريأ ، وخاصة فلسطين ، بالتعاون مع الاسرائيليين وبتأييد أصحاب القول الفصل في فرنسة وبريطانية وغيرها. (تاريخ الصهيونية المجلد 2 ص 295) . هذا ويلاحظ المؤرخ أن الحماس البر يطاني لفكرة الاستيطان اليهودي خف في - الربع الأخير من القرن التاسع عثر ثم عاد وتجدد في القرن العشرين . ولهذا أسباب منها أن لينين لاحظ في دراسته العبقرية " الامبريالية اعلى مراحل الرأسمالية " انه في أوج ازدهارالمزاحمة الحرة عالميأ في مرحلة 1840- 1860 كان السياسيون البرجوازيون في بريطانيه ضد السياسة الكولونيالية وكانوا يعتبرون تحرر المستعمرات وانفصالها التام عن انجلترة أمرأ محتومأ . (حركة شعوب الشرق الوطنية التحررية ص 168). ولذلك لم تكن بريطانيه ، التى احتلت مناطق عديدة في العالم تفكر في المرحلة هذه ، باحتلال مناطق جديدة بل بمواصلة سياسة الاستيطان الكولونيالي الذي بدأ في القرن السابع عشر. وترى فيه سبيلأ لحماية مصالحها التجارية وهذا ما ظهرمن كل تصريحات وكتابات الساسة البريطانيين . وهذا ما أكده سوكولوف فكتب : إن فكرة استعمار سورية نشأت في حين كان استعمار امريكا وأوسترالية يجري على قدم وساق... واضاف: فالسيطرة على القطر السوري كانت تزيد في موارد بريطانية التجارية وقواها الدفاعية (تاريخ الصهيونية ، المجلد الأول، ص 105- 106) . ثم هناك سبب آخر أبعد بريطانيه عن فكرة احتلال سورية آنذاك ، ونقصد به التوازن الدولي في العالم . فقد كان يستبعد اجراء تغييرات في أوضاع الامبراطورية العثمانية تمنح أي من الدول الكولونيالية إمتيازآ على الأخرى . وأهمية صيانة هذا التوازن ظهرت في السياستين اللتين كانت فيهما الحرب بين روسية القيصرية والامبراطورية العثمانية ، ففي المناسبة الأولى- وعرفت بحرب " القرم " (3)- هزمت في بدايتها روسية القيصرية الامبراطورية العثمانية فاقتحمت بريطانيه ومعها فرنسه وسردينيه وبروسيه ميدان المعركة وقلبت نصر روسيه القيصرية هزيمة وعقد مؤتمر باريس عام 1856 وقرر " تمامية السلطنة العثمانية " وتكامل أراضيها . أما في المناسبة الثانية فهزم روسيه القيصرية الامبراطورية العثمانية عام 1876 لم يؤد إلى تدخل عسكري واستطاعت روسيه القيصرية أن تفرض على الامبراطورية العثمانية معاهد سان ستيفانو، إلا أن بريطانيه نجحت في أن تجند دول أوروبه الكبرى وأن تفرض على روسيه القيصرية الاشتراك في مؤتمر برلين والقبول بنتائجه وأهمها إعادة الولايات التي احتلتها روسيه القيصرية إلى الامبراطورية العثمانية . وقد دخل عامل التجارة في الموقف البريطاني من يهود الشرق الأدنى . في كتابة " تقريرحول سوريه " وصف جون بردنغ اليهود في دمشق فكتب أن التجار اليهود الأجانب في دمشق هم الفئة الأغنى بين التجار وذكر عائلتين تملك كل منهما مليون ونصف مليون جنيه (وهذه ثروة ضخمة في ذلك الحين) وأضاف أن أكثر البيوتات التجارية تتاجر مع بريطانيه . (سوكولوف تاريخ الصهيونية المجلد الأول ص 76) . وهذا قد يكون عاملأ من العوامل التى جعلت بريطانيه تمد حمايتها على يهود الامبراطورية العثمانية في سنوات الأربعين من القرن التاسع عشر، أي في هذه الفترة من شيوع الصهيونية الكولونيالية البريطانية غير اليهودية .

   ولاحظ سوكولوف أن عوامل سياسية أيضآ دفعت بريطانية نحو مد حمايتها لتشمل اليهود في الامبراطورية العثمانية . (تاريخ الصهيونية ، المجلد الأول ص 118) . 
  وفسر ضرورات السياسة البريطانية هذه الدكتور إدوارد روبنسون (1797 -1863) في كتابه " تنقيبات توراتية في فلسطين " ، حين كتب:

" كانت فرنسه منذ وقت طويل حامي الدين الكاثوليكي (التابع لروما) المعترف بها... ووجد أبناء الكنيسة الأورثوذكسية (الرومية) أنصار أشداء في الروس... ولكن لا يوجد متحيزون للانجليز في أي مكان من الامبراطورية العثمانية " .

وبما أن الدول الكولونيالية. في مساعيها للتسرب الى الامبراطورية العثمانية واقتسام تركتها في الشرق الادنى كانت تستفيد من التظاهر بالدفاع عن هذه الطائفة او تلك فقد وجدت بريطانيه انها في حاجة الى طائفة لتواجه روسيه القيصرية وفرنسه . فأرادت أن تتوكأ على اليهود ، وقد لجأت فيما بعد حين اشتد الصراع بين الدول الامبريالية الى زعماء الدروز تماما كما وجدت فرنسه بنيتها في زعماء الموارنة وروسيه القيصرية في زعماء الروم الأورثوذكس (4) 

وهنا نستطيع ان نجيب على السؤال لماذا خفت الدعوة الى بعث اسرائيل في الربع الأخير من القرن التاسع عشر؟ اوضح لينين كما ذكرنا ان فترة المزاحمة التجارية بين 1840 و 1860 خلقت الاعتقاد بأن تحرر المستعمرات [ المستوطنات على وجه التحديد ] امر محتوم ، على اعتبار ان وجودها يعرقل نمو التجارة واتساعها ، ولكنه اضاف في كتابه " الامبر يالية اعلى مراحل الرأسمالية " ان الوضع تغير بنمو الاحتكارات وتراجعها عن مبدأ المزاحمة الحرة في التجارة الدولية . لقد بدأت الكولونيالية تتحول الى امبريالية. ومر ملامح الامبريالية اتمام تقسيم العالم بين الدول الامبريالية. ولهذا اشتد الصراع بينها على المستعمرات. وكتب لينين في هذا الصدد : " ان مرحلة اشتداد الاستيلاء على المستعمرات ،اشتدادا كبيرا، هي بالنسبة لانجلتره سنوات 1860- 1880، واشتدادا ملحوظا جدا في العقدين الاخيرين من القرن التاسع عشر . ومرحلة الاشتداد الكبير بالنسبة لفرنسه والمانيه هي العقدان الاخيران بالضبط " [ حركة شعوب الشرق الوطنية التحررية ص 183] .

وهكذا ففي الربع الاخير من القرن التاسع عشر، خصوصا بعد افتتاح قناة السويس عام 1869، اشتد الصراع الامبريالي على الامبراطورية العثمانية. 

وكان الصراع على اشده بين بريطانيه وفرنسه في الشرق الادنى. ولم يكن الصراع على مجرد النفوذ أو المواقع الاقتصادية ، بل على الاقطار نفسها فالاستيلاء على القطر المعين كان يمنح احتكارات الدولة السائدة المواقع الاقتصادية ويمكنها من السيطرة على سوقها ومقدراتها . وفعلا ركزت بريطانيه جهودها لاحتلال مصر ونجحت في ذلك عام 1882 في حين نجحت فرنسه في احتلال تونس قبل سنة من هذا التاريخ . يقسم دافيد هيل في كتابه " تاريخ الدبلوماسية في التطور الدولي في اوروبه " تاريخ السياسة الدولية التي مارستها بريطانيه العظمى من سنة 1870 وما بعد الى اربع مراحل:

1 - الآسيوية الأولى وفيها قاومت بريطانيه تقدم روسيه في آسيه الوسطى في اتجاه الهند.

2- الافريقية سنوات 1885- 1902 على وجه التقريب وفيها اشتد الصراع بين بريطانيه وفرنسه من اجل اقتسام افريقيه ووقعت حادثة فاشودا (5) ، فأصبحت الحرب بين القطرين قاب قوسين أوأدنى. 3- الآسيويه الثانية وخلالها عقدت بريطانيه معاهدة مع اليابان للتصدي ، لروسيه القيصرية. 4- الاوروبية وفيها وقعت بريطانيه أمام المانيه التي كانت تريد إعادة تقسيم المستعمرات لتفوز بحقها منها.

والمهم هنا ان بريطانيه احتاجت فكرة بعث اسرائيل في فترة المزاحمة الحرة ولم تكن في حاجة لها في وقت الصراع الشديد مع فرنسه في نهاية القرن التاسع عشر فقد كان ميدان الصراع مصر وافريقيه وفيهما لم يكن من الممكن الاستفادة من صهيونية بريطانيه الكولونيالية.
    الا انها احتاجت من جديد الى الصهيونية في بداية القرن العشرين .
   ولكن انذاك كانت الصهيونية قد اصبحت يهودية. وكانت منظمتها قد بدأت تحتل مكانها في بعض المحافل الاوروبية.

هوامش (1) من هذه الكتب : كتاب توماس كلارك فلسطين لليهود وفيه أبرز الكاتب أن استيلاء اليهود على فلسطين بحماية بريطانية ضرورة قصوى . كتاب هولنغورث تاريخ اليهود في فلسطين الصادر عام 1852 ويدعو إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين لحماية طريق الهند . (2) لقد انتشرت فكرة دينية - إلى جانب الفكرة السياسية المذكورة - تقول إن دعوة اليهود إلى فلسطين أو بعث اسرائيل يقرب خلاص الإنسانية وعودة المخلص ولذلك على المسيحيين الدعوة إلى ذلك . (3) 1854- 1856 (4) تمتعت الدول الأوروبية بنظام الامتيازات في الامبراطورية العثمانية وهذه كانت تمنح من يمتع بالحماية الاجنبية حقوقاً خاصة منها عدم المثول أمام المحاكم المحلية . (5) قريبة على حدود السودان التقت فيها قوتان بريطانية وفرنسية كانتا تحددان حدود امبراطورية كل منهما آنذاك رفضت بريطانيا السماح لقوة فرنسية من التقدم واضطرت فرنسه للتراجع .







الفصل الثاني ملاحظة على مرحلة ماقبل الصهيونية

يختلف الكتاب الصهيونيون في تقديرماهية الصهيونية ويتفاوتون في نهجهم عند تعقبهم آثار نشوئها، دون ان يؤثر ذلك على استنتاجاتهم الجوهرية المعاصرة.
 وفي هذا الصدد يقرأ المرء ، على سبيل المثال ، هذا التقدير لأحد كبار زعماء الصهيونيين القدامى ناحوم سوكولوف:

" إنها حقيقة بسيطة... يبدأ تاريخ اسرائيل بالصهيونية ، ويبين هذا التاريخ في الأزمنة السحيقة طريق تحقيق الصهيونية... فالخروج من مصر كان مثلا للجمع بين الهجرة الكولونيالية (استعمار الارض- أ. ت)... والعودة من بابل كانت حدثا صهيونياً عظيماً [ كتابه تاريخ الصهيونية الجزء الأول ص 15 من المقدمة ] .

 ولكن مقابل هذا اللون من الغيبية القومية . التى تتجاوزمراحل التاريخ وتخلط بين المقولات الاجتماعية يستطيع المرء ان يجد نسقا اقرب الى العقلانية في ما كتبه بن هلبرن: 
  " أدى الانعتاق (مساواة اليهود بالمواطنين عامة بعد الثورات البورجوازية في القرن الثامن عشر- أ. ت) الى خلافات ايديولوجية بشأن مبادىء الكيان اليهودي ومؤسساته ، وبين الايديولوجيات التى نشأت آنذاك [ القرن التاسع عشر جوهريا - أ. ت ].

وفي هذه الفترة كانت الصهيونية تطورا مختلفا عن الركب نسبيا. لقد ظهرت في صورة نقد لحل المسألة اليهودية على اساس التحرر المدني وحده وكانت محاولة لمواصلة الفرضيات التقليدية حول طبيعة التاريخ اليهودي وهدفه ، الأمر الذي نبذه تلامذة التنوير اليهود " [ كتاب فكرة الدولة اليهودية ص 4 ] . وكان التفاوت في التوجه عاما لم يفلت منه الصهيونيون الاشتراكيون! ففي حين ، اعتبر بوروخوف الصهيونية : الرد على احتياجات الشعب اليهودي الاقتصادية والثقافية ولذلك فهي بعث قومي واجتماعي معاصر [ اليهود وفلسطين بقلم س. ليفنبرغ ص 9- 10 ] ،. اقتفى س. ليفنبرغ نفسه آثار " الشوق الى صهيون " والعودة الى فلسطين من أيام الأنبياء العظام ليبنى منه إيديولوجيته " الاشتراكية " الصهيونية [ كتابه اليهود وفلسطين ص 35- 38 ] . صحيح أن الأنبياء تحدثوا عن جمع بقايا اليهود من الشتات من اربعة اطراف الارض (1شعيا 2) (2- 4) وعن غربلة بيت اسرائيل من بين جميع الامم ، وانهاء سبي شعب اسرائيل وغرسهم في ارضهم فلا يقلعوا منها ابدا " عاموس 9 (9 و 14-15 ) " ، الا أن ذلك ارتبط عبر الاجيال بقدوم المسيح وحلول الاخرة انذاك كما تنبأ ميخا: يعيد الرب شعبه الى أرضهم ويملك عليهم في جبل صهيون " 4 (6- 7) " وكتب أ. شارف ، عند تقويمه حركات المسيحية في القرن السابع والثامن ميلادي: إن دعاة المسيحية بين اليهود . على الرغم من تباين انطلاقاتهم الدينية اعتقدوا أن الصراع بين بيزنطيه والخلافة الاسلامية هو الصراع الاخير وسيسبق [ اليوم الآخر ] . (من كتاب تاريخ الشعب اليهودي العالمي محرره س . روث ص 56) . وبمرور الأجيال وإخفاق حسابات المتدينين لتحديد موعد [ اليوم الآخر ] ساد اقتناع الطوائف اليهودية أن معجزة قدوم المسيح المرتقب ستحل في موعدها بإرادة الرب ولذلك فمن التطاول والتجديف السعي للاسراع بها ، ولم يتخل المتدينون عن هذا الرأي وقاوموا الصهيونية حتى وقت متأخر جدآ . (وعد بلفور، أصوله وخلفيته ، بقلم السيد ادجار دوغديل، ص 8 ) . ولاحظ بن هلبرن، إعتمادآ على تراث القرن التاسع عشر أن الوعد بقدوم المسيح أفترض أن لايقوم اليهود بأي عمل لاعادة سيادتهم [ القومية ] فعليهم أن يواصلوا رسالتهم بين الامم على إعتبار أن الخلاص سيأتي من جراء تدخل إلهي . (فكرة الدولة اليهودية ، ص 88) . إن فكرة المسيحية- أوقدوم " المخلص "- تعود إلى أزمنة غابرة وعرفتها الشعوب والطوائف الدينية المختلفة ، ولا تزال تتمسك بها طوائف إسلامية ونصرانية ، على الرغم من أن النصرانية قامت على الايمان بقدوم المسيح الذي كان يترقبه اليهود ، والاسلام قام على أساس أن النبي محمد خاتم الرسل والأنبياء . وقد عرفت النصرانية في بداية عهدها تيارأ شبيها بالتيار اليهودي . الذي إنشغل رجاله بإجراء الحسابات لتحديد موعد قدوم المسيح . واقترنت فكرة ترقب ، في التيار النصراني. عودة المسيح . بقيام دولة الله على الأرض في القدس . كذلك عرف الاسلام. بالاضافة الى الترقب العام بقدوم المهدي . حركات مهدوية ، إما طائفية دينية مثل حركة الأئمة الاثنى عشر. وإما سياسية- اجتماعية كانت ثورة المهدي في السودان أبرزها في التاريخ المعاصر. ولا نعدو الحقيقة إذا لاحظنا أن الشوق الى المسيح أو المهدي هومن شوق الانسانية الى "الفردوس المفقود " أو " عصر الانسانية الذهبي " الذي تتفق الأساطير على أن الانسانية ولدت فيه وعاشت في ظلاله ردحاً من الزمن قبل أن تبدأ مصاعبها . كتب بون هنيس هولمس: (تشكل المسيحية في أصلها وجوهرها العميق رؤيا الهروب. ففي الأيام التي سبقت الشتات كانت هروبأ من حكم روما الحديدي ، وفي الأيام التى أعقبت الشتات كانت هروباً من التحقير والاضطهاد اللذين حلا بطوائف اليهود الموزعين في أقطار عديدة ) [ كتابه، فلسطين اليوم وغدا. ص 77 ] .

ويكشف التدقيق التاريخي أن ترقب المسيح بين الطوائف اليهودية الذي كان يقترن طبيعيا بالعودة الى صهيون ، كان يشيع في أقطارعينية وفي تواريخ محددة [ في سورية في القرنين السابع والثامن، وفي أسبانيا في القرن الحادي عشر ] حين كانت الطائفة اليهودية في ذلك القطر أوذاك وفي التاريخ المعين ، تعيش في ظروف صعبة ، تتوق الى الخلاص فتتشبث بالمسيحية وفكرة العودة الى صهيون .

ولكن هذه الفكرة كانت دينية . ولذلك لم تتجسم تنظيمياً إلا في حالات قليلة جداً وفي أقاليم عينية. وهكذا تجسمت في سورية تنظيمياً في القرنين السابع والثامن ، وكانت اشتياقاً دينياً شائعاً في أسبانيا في القرن الحادي عشر ، وهذا الشكل التنظيمي ، لم يتجاوز بضع حالات، إندثرت عبر القرون وانتهت في القرن السابع عشر.

وهكذا فالفرق كبير بين الشوق الى صهيون أوفكرة المسيحية التى كانت ولا تزال تؤلف عقيدة من عقائد الايمان الديني في اليهودية- مثلما تؤلف فكرة عودة المسيح أو قدوم المهدي عقيدة من عقائد الايمان في النصرانية والاسلام - وبين الصهيونية بوصفها إيديولوجية سياسية معاصرة نشأت في قرن محدد ونشطت في ظروف تاريخية ملموسة-- ومارست حياتها في أوضاع عالمية عينية.

ولا يغير في ذلك أن الصهيونية اقتبست هذا الشوق وأقامت بناءها الايديولوجي على الدين اليهودي وجعلته جوهر القومية التى أرادت خلقها.

  • * *

ولا بد عند هذا الحد من معالجة أسطورة أخرى نسجتها الصهيونية الى جانب أسطورة الشوق " الخالد " الى صهيون الذي لم يكن سوى شوق غيبي للهروب و " للخلاص " !! ونقصد بذلك أسطورة الشتات التى زعمت الصهيونية أن القوى الظالمة فرضته على اليهود وحالت عبر التاريخ دون عودتهم الى أرض " الميعاد " . إن التاريخ ينسف هذه الاسطورة تماما ، ويلاحظ أن اليهود رحلوا عن " أرض الميعاد " طلبا للرزق قبل أن يطاردهم احد . واذا تركنا جانبا قصة " هبوطهم " الى أيام يعقوب [ الذي تكنى بإسرائيل ] هربا من الجوع في أرض كنعان ، نجد أنهم عادوا الى الهجرة بعد قيام ملك إسرائيل وقبل سبي بابل في القرن السادس قبل الميلاد. ويكتب ناتان أوسيبل في كتابه " كتاب المعرفة اليهودية " : ووجد الأسرى الذين نقلهم نبوخذ نصر الى بابل في 586 قبل الميلاد " في أرض سبيهم طوائف يهودية كبيرة وعميقة الجذور نشأت في القرن الثامن (قبل الميلاد) . ويمكن أن نفترض أن القادمين الجدد زادوا عدد هذه الطوائف . وحين عاد المنفيون من بابل الى القدس بعد قرن من الزمن كان مدهشا أن نرى ، حسب أقوال عزرا ونحميا- لا اكثرمن 60 ألف يعودون فقط. بديهى أن أكثرية المنفيين اختارت أن تبقى في بابل [ ص 126-127] . هذا الأمر الذي تؤكده المصادر التاريخية عامة يوافق إتجاه ذلك العصر. وقد جاء في تاريخ كمبردج القديم [ حرره ج . ب. بري وس. أ. كوك وف . أ . ادكوك ] أن المحتمل أن يكون اليهود تعاونوا مع أشقائهم الفينيقيين الذين كانوا في ذلك العصر قد بدأوا ينتشرون في العالم المعروف ويتعاطون التجارة خاصة مع الشرق [ الجزء السادس ص 137 ] .

وقبل أن يقمع الرومان الثورة اليهودية في فلسطين ويدمروا الهيكل عام 70 بعد الميلاد كان اليهود قد انتشروا في مراكز الاقتصاد والتجارة  في الامبراطورية الرومانية ، ولم يمنعهم من التمركز في " أرض الميعاد " سوى إرتباطهم الوثيق  بتجارة واقتصاد تلك المراكز من مثل الاسكندرية. فآنذاك لم تكن قد نشأت صعوبات للعودة الى صهيون. 

وكتب ناتان أوسيبل في معرض الحديث عن [ الشتات ] قبل تدمير الحياة اليهودية المستقلة في 70 قبل الميلاد : "والحقيقة الساطعة أنه من قبل الكارثة كان [ تشتت ] اليهود يتسع منذ وقت طويل..." [ كتاب المعرفة اليهودية ص 126 ] . وهناك من يقدر أن نسبة اليهود في " أرض الميعاد " في أيام الرومان قبل تدمير الهيكل بلغت الربع وفي مصر لوحدها كان عدد اليهود مليون من مجموع ثمانية ملايين هم سكان البلاد في ذلك العصر . [ تاريخ كمبردج القديم الجزء9 ص 429 ] . ولهذا فمن التعدي على التاريخ والعقلانية العلمية ، الحديث عن الصهيونية " منذ فجر التاريخ " والخروج من مصر أو عن إجبار اليهود على الشتات . وانطلاقا من هذه الحقيقة يصبح الحديث عن الشعب اليهودي الموحد عبر الأقطار والقارات ضربآ من البلادة الفكرية . فمنذ أن هاجر اليهود وأستقروا في مختلف الأقاليم أيام البابليين ، دمر الرومان الهيكل وقضوا على مقومة الشعب اليهودي في فلسطين . ولهذا كان من الممكن رؤية التفاوت في المصير في فترات مختلفة من التاريخ وفي أقطار متباينة من العالم ، ففي حين دمر الرومان الهيكل وقضوا على مقاومة الشعب اليهودي في فلسطين وشردوا أبنائه تمتعت الطوائف اليهودية في مواطنها بعطف الامبراطورية ولم تمس ، وحافظت ، على سبيل المثال ، الطائفة اليهودية في الاسكندرية على ازدهارها الاقتصادي بغض النظر عن مصير اليهود في فلسطين آنذاك .

 وبدون أن نحاول تعقب تاريخ الطوائف اليهودية بالتفصيل نستطيع أن نلاحظ أن الطوائف اليهودية في مختلف أنحاء الامبر اطورية العربية الاسلامية ازدهرت مثلها مثل سائر الشعوب والطوائف ما دامت الامبراطورية في عصورها الذهبية وشاع فيها الاستقرار، وأصابها التدهور والجمود حين تدهورت الامبراطورية باشتداد الصراع الاجتماعي في داخلها وازدياد ضغط القبائل التركية عليها. ولعل ما طرأ على يهود اسبانيا في العهد العربي الاسلامي لأبلغ دليل على صحة هذا الارتباط فقط حين أنتصر الاسبانيون على العرب وأشاعوا محاكم التفتيش كان على اليهود ، مثلهم في ذلك مثل المسلمين ، أن يختاروا بين البقاء والتكثلك أو الفرار والتشريد .

كذلك لا بد من أن نلاحظ أن تدهور الامبراطورية العربية الاسلامية أدى الى إنتقال مراكز إستيطان الطوائف اليهودية من شرق حوض البحر الأبيض المتوسط الى أوروبة التي كانت تتطور بسرعة ، وتحولت أكثرية هذه الطوائف من طوائف آسيوية شرقية الى طوائف أوروبية. وهكذا عند بداية العصر الحديث ، على الرغم من بقاء الطوائف اليهودية في العراق ومصر وأقطار شمال إفريقيا بأعداد قليلة ، تحول مركز الثقل من حيث الاستيطان الى أوروبة. وهناك ، لا في الشرق ، نشأت الايديولوجية الصهيونية وأقامت حركتها السياسية المعاصرة. الثورات البرجوازية وانعتاق اليهود

  عاشت الطوائف اليهودية- في أوروبه في القرون الوسيطة في الغيتوات. 
  ولم يكن ذلك دائما بسبب التفرقة الدينية واتجاه الكنيسة النصرانية نحوعزل اليهود عن النصرانيين، فالتاريخ يعرف مناسبات طالب فيها قادة هذه الطوائف بالانعزال عن سائر المواطنين.

وفي هذا كتب هوارد مورلى ساخر في كتابه " مسيرة التاريخ اليهودي المعاصر ": " من سخرية القدر أن يطالب اليهود بأنفسهم في إقامة الغيتوات الأولى في إسبانيه وصقليه في العصر الوسيط المبكر باعتبارها رمزا ماديأ لتنظيمهم الذاتي " . وأضاف أن بعض اليهود إكتشفوا اخطار هذه الانعزالية في القرن السادس عشر ولكن ذلك جاء متأخرأ فآنذاك فرضت الغيتوات فرضأ على اليهود (ص 29). كذلك ليس دقيقأ القول أن التضييق على نشاط اليهود الاقتصادي وحرمانهم من العمل الزراعي هو الذي فرض عليهم إختيار الاشتغال بالتجارة والربا في العصور الوسطى . فكما لاحظ كتاب تاريخ كمبردج الوسيط أن اليهود منذ القرن السادس أقاموا المستوطنات التجارية في أوروبه وحافظوا على علاقات ودية مع أبناء دينهم في إيطاليه وأسبانيه والشرق [ الجزء الثاني ص 156 ] . وهذا الاتجاه استمرعبر القرون حتى اشتهرت الطوائف اليهودية بالشؤون المالية ومعرفة قوانين التجارة . أما اشتغالهم بالربا فيعود الى تحريم الكنيسة الكاثوليكية في أوروبه التعامل بالربا على النصارى ونشوء فراغ أشغله أغنياء اليهود .

    وتجدر الاشارة هنا الى أن الطوائف اليهودية التي كانت تستقرهنا أوهناك لم تكن في طبيعة الحال طبقة واحدة بل طبقات ، مثلها في ذلك مثل سائر المجتمعات، إلا أنها كانت تقوم عادة حول نواة تجارية- ماليه وتؤلف طائفة انعزالية بسبب نظام الغيتوات . 
 وهكذا وصف كتاب تاريخ كمبردج الوسيط عملية الاستيطان في أوروبه في بدء عهدها: "وكان كثيرون من اليهود في الأيام الأولى من الاستيطان في أوروبه مزارعين. إلا أن المهاجر المسالم الى بلاد مأهولة لا يستطيع الاستيطان بسهولة على الأرض. ثم أن الطبيعة الطائفية وضرورة القيام بالطقوس الدينية اليهودية جعلت من الأفضل الابقاء على الصلات الدائمة التى لا يسهل القيام بها في ظروف الوحدات الريفية " المتباعدة " هذا وطد الاتجاه الطبيعي بين القادمين الجدد نحوالبقاء في المستعمرات التى كان قد أقامها أبناء ملتهم ".

ويضيف: " وبلا شك كانت الطلائع التي تغلغلت في أوروبه الغربية وأقامت المستوطنات [ اليهودية ] تجارية وعملت في التجارة " [ الجزء السابع ص 643-644 ] . ثم ان موقع هذه الطوائف الاقتصادي والتعصب الدينى الذي امتازت به القرون المظلمة في العصر الوسيط خلق ظروف الاضطهاد الديني الذي تعرضت له بعض الطوائف في أيام الصراع الاجتماعي القاتمة ، ولذلك كان بديهيا أن يشتد هذا الاضطهاد مثلا أيام الصلييين ويصل درجة المذابح ، فالصليبية جسمت خطورة الصراع الاجتماعي المتفجر في المجتمع الاقطاعي الأوروبي. ومع كل هذا الاضطهاد الذي وصل حدودأ وحشية في بعض الأحيان لم تنشأ أيديولوجية صهيونية وبقيت فكرة المسيحية في إطارها الالهي.

    وجدير بالذكر هنا أن الراب منشي بن اسرائيل الذى سافر الى انجلترة في القرن السابع عشر ليسترحم حاكمها ، كرومويل ، ليسمح بإستيطان اليهود في تلك البلاد ، كان يعلن أن على اليهود أن ينتشروا في اربعة أطراف المعمورة قبل أن يعيدهم الرب الاله الى " أرض الميعاد " [ تاريخ الصهيونية. ناحوم سوكولوف الجزء الاول ص 17- 18 ] .

ولم يكن الاضطهاد مقتصرأ على اليهود فالنظام الاقطاعي السائد آنذاك أمتزج بالتعصب الديني واستخدمه الاقطاعيون في الصراعات الاجتماعية ، ولذلك شاهدت تلك الحقبة من الزمن مذابح دينيه ذهب ضحيها أبناء الأقليات النصرانية في أوروبه [ البروتستانت في فرنسه والكاثوليك في بريطانيه ] ، كما أستنفرت حروبأ دينيه مدمرة بين الكاثوليك والبروتستانت رأى المؤرخون الماديون في جذورها صراعأ بين الكثلكة الاقطاعية والبروتستانتية الرأسمالية.

ودشن نمو الرأسمالية في أوروبه عصرأ إقتصاديأ جديدأ. وحين حققت الثورات البرجوازية سيادة الرأسمالية سياسيأ، بالاضافة الى سيادتها الاقتصادية ، حدثت ثورة في حياة الطوائف اليهودية. ويجمع المؤرخون على أن انتصار الثورة البرجوازية في اوروبه عامة حطم جدران الغيتوات وفتح الطريق واسعة امام إندماج الطوائف اليهودية بالشعوب التى كانت تعيش بين ظهرانيها. وإذا كانت الثورات البرجوازية قد أعربت عن نمو القوميات وتبلورها في حدودها الاقليمية ، واكتسابها المميزات القومية العينية ففي الوقت ذاته بدأت عملية اكتساب الطوائف اليهودية مميزات القوميات التى كانت تمتزج بها. ودشنت الثورة البرجوازية الفرنسية الانعطاف الحاسم في انهيار الاقطاعية وانتصار الرأسمالية على الصعيد الأوروبي العام. ولذلك جسدت نقطة حاسمة في عملية انعتاق اليهود وإندماجهم بالشعوب اقتصادياً وسياسيأ واجتماعيأ وثقافيآ. ونزعم أن الثورة البرجوازية الفرنسية شكلت نقطة البداية في هذه العملية للأمرين التاليين: - لأن الحروب النابليونية. بغض النظرعن طابعها التوسعي . نقلت مبادىء الثورة البرجوازية الديمقراطية - ومنها مساواة اليهود بسائر ابناء الشعوب - الى الأقطار الأوروبية التي وصلت إليها هذه الجيوش . - ولأن الامبراطور نابليون جسم هذه العملية بعقد مجلس السنهدرين - وهو هيئة قضائية عليا كانت قائمة في أزمنة مملكة إسرائيل الغابرة - واستصدر قرارات منه بهذا المعنى.

ويقينأ أن التثام مجلس السنهدرين كان حدثأ هامأ في حياة الطوائف اليهودية في أوروبه في القرن التاسع عشر لأنه وضع أسس ايديولوجية لحل المسألة اليهودية في ظروف صعود البرجوازية. وصاغ فكرة الانعتاق واندماج الطوائف اليهودية بالشعوب التي تطبعوا بطبائعها القومية

لقد التأم السنهدرين بحضورثمانين شخصية دينية وعلمانية من مختلف أنحاء الأقاليم كانت تسيطر عليها فرنسة نابليون في أوائل شباط [ فبراير ] 1807 لاعطاء أجوبة على أسئلة محددة من مثل : أيحق لليهود تعدد الزوجات ؟ أيصح الطلاق في اليهودية ؟ أيمكن الزواج بين اليهود والنصارى ؟ أيعتبر اليهود الذين ولدوا في فرنسه، فرنسه وطنأ لهم ؟ هل تشجع القوانين اليهودية الربا بين اليهود . واتضح أن الأسئلة كانت مصيرية على أعتبار أنها ستحدد العلاقات بين اليهود والشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها . ولم تكن الأجوبة اصطناعية شكلية. ولم تكن من النوع المثالي المجرد، لقد جاءت في القضايا الجوهرية تجسم عملية التطور التاريخي . وبحق أكد المورخ هوارد مورلي ساخر أن السنهدرين كان مخلصاً بلا شك حين أكد أن اليهود داروا ظهورهم على فكرة وجودهم كأمة ( كتابه مسيرة التاريخ اليهودي المعاصر ص63 ) وأن فرنسة وطنهم . وآنذاك أعلن أحد كبار رجال السنهدرين المالي الكبير أبراهام فورتادو: " لسنا نؤلف أمة في داخل أمة ... إن فرنسة وطننا ، أيها اليهود هذا هو وضعكم ، إن واجباتكم قد تحددت والسعادة تنتظركم " . ( المصدر أعلاه ) . وفسر الكاتب أهداف نابليون من عقد السنهدرين ومن هذه المظاهرة بتحقيق مساواة اليهود بالفرنسيين وإعلان فرنسة اليهود ، تفسيرات عديدة لعل أوقعها أنه أراد الاستفادة من اليهود في بولونيه لتزويد جيشه الذي كان يعده للزحف على روسيه القيصرية، وأضاف أن نابليون بعقد السنهدرين كسب إخلاص يهود فرنسة ويهود بولونية على السواء (المصدرذاته).

   إلا أن القضية الهامة هنا أن عملية الاندماج لم تكن طارئة، حلت بحلول نابليون وذهبت بذهابه ، بل عميقة الجذور، ولذلك استمرت بعد هزيمة نابليون واتخذت طابعا طبيعيا تماما في مختلف الأقطار الأوروبية ، ولم يكن التطوركما أراده نابليون- تطورأ يؤدي الى ولاء اليهود في كل مكان لفرنسه- بل كما قضت به الأوضاع الموضوعية، فكان ولاء كل طائفه يهوديه للقطرالذي ترعرعت في ظله واندمجت كل طائفه في حياة شعبها وبدأت تسهم في عملياته الاجتماعية.
   واتضح الانقسام الطبقي في هذه الطوائف تمامأ كما اتضح في سائر الشعب في هذا القطر أوذاك . وكما أن حركة الطبقة العاملة آنذاك عرفت قادة من أبناء الطوائف اليهودية في أوروبه كذلك عرفت الاحزاب البرجوازية من بين قادتها من انتسبوا الى الطوائف اليهودية.
   لقد بدأت مرحلة أصبح أبناء الطوائف اليهودية يعلنون أنهم فرنسيون وبريطانيون والمان يدينون بالدين اليهودي أو الموسوي.
  ونتيجة التطور غير المتعادل بين أقطار أوروبه كان من الطبيعي أن تتفاوت عملية انعتاق اليهود وإندماجهم، ولذلك تخلف انعتاق يهود الولايات الألمانية عن انعتاق يهود فرنسه، واتخذت عملية انعتاق اليهود في روسيه القيصرية طابعآ معقدآ.
 وعند هذا الحد لا بد من التوقف عند مسألة يهود روسيه القيصرية، فبينهم بذور الفكرة الصهيونية وزعمت الحركة الصهيونية حين قامت في الغرب أنها قامت في الدرجة الأولى لانقاذهم .   

لا جدال في أن القيود على اليهود في روسيه القيصرية بقيت زمنآ طويلأ بعد أن حطمت الثورة الفرنسية البرجوازية الديمقراطية جدران الغيتوات في فرنسه وغيرها من أقطار أوروبه الغربية. لقد حاصرت القيصرية اليهود في منطقة في غربي امبراطوريتها شملت منطقة كبيرة من بولونيه الشرقية التى كانت تؤلف جزءآ من الامبراطورية القيصرية. وفي هذ المنطقة كانت حياة اليهود صعبة إلا أنها كانت أفضل من حياة الفلاحين الروس التى انحطت الى الدرك الأسفل في ظل الاقطاعية الروسية [ كتاب مسيرة التاريخ اليهودي المعاصر ص 85 ـ 86 ] . وتمايز اليهود طبقيآ وتباينت القيود عليهم ، فالأغنياء منهم تخلصوا من عبء الاضطهاد الطائفي والفظاظة الاقطاعية في حين حلت المصائب بجماهير اليهود مثلهم في ذلك مثل سائر سكان الامبراطورية القيصرية . صحيح أن القيصرية لجأت. فيما لجأت إليه من أساليب. لقمع الثورة الاجتماعية الى تشجيع المنازعات القومية. على أساس مبدأ فرق تسد. مما أدى الى مذابح في القفقاس وفي غيره من المناطق وفي هذا الاطار استخدمت القيصرية سلاح معاداة اليهود وشنت عليهم تحريضأ دينيأ سافلأ ونظمت مذابح كانوا ضحاياها. ولكن كل هذا لم يغير القوانين الموضوعة.. ولأن الحركة الثورية الاجتماعية كانت عميقة الجذور واسعة القاعدة اتسمت حركة الأنعتاق اليهودي في روسيه القيصرية- كما لاحظ ذلك لينين- بالاتساع والعمق بفضل يقظة الوعي البطولي بين البروليتاريا اليهودية [ مجموعة كتاباته النسخه الانكليزية الجزء السابع ص 101 ] . ولهذا حين بدأت الصهيونية نشاطها في روسيه القيصرية بدأته في ظروف يقظة الوعي الطبقي بين جماهير البروليتاريا اليهودية التي إنخرطت في العملية الثورية ، وحاولت أن تجذبها بعيدآ عن هذه العملية الثورية كما سنرى.

 في أواسط القرن التاسع عشر حين فرضت القيصرية تجنيد أبناء اليهود ، كان أبناء اليهود الأغنياء يتخلصون من الجندية بأساليب الرشوة مما أثار حقد اليهود الفقراء فأعربوا عن ذلك بأغنية شعبية معناها : أبناء السيد " روكوفر " الغني سبعة .. لايلبس أحدهم طقم الجندية ... ولكن الأرملة الفقيرة " ليه " ابنها واحد ولكنهم يطاردونهم كأنهم طريدة برية ... من الحق تجنيد الجماهير الكادحة !! الحذائون والخياطون فهم "مجرد حمير " ولكن ابناء الأغنياء الكسالى .. من حقهم أن يواصلوا حياتهم " الهادئة " .


الفصل الثالث نشوء الصهيونية وايديولوجيتها لم يكن من قبيل المصادفة أن تنشأ الصهيونية في اوروبه وأن يكون توقيت ظهور منظمتها في نهاية القرن التاسع عشر ، وأن تصوغ ايديولوجيتها على الوجه الذي صاغته فيه. فالأوضاع الاقتصادية والسياسية هي التي خلقت التربة لظهور اللاسامية ، والصهيونية التي زعم أصحابها أنها الرد الوحيد على اللاسامية.

إن الاستيطان الكولونيالي الذى بدأ في القرن الثامن عشر استمرفي القرن التاسع عشر وخاصة في أقطار أفريقيه ، الا أن الأمر الحاسم الذي ميز الربع الأخير من ذلك القرن كان انتقال الرأسمالية في أوروبه الى أعلى مراحلها: مرحلة الامبريالية. وهذا كان يعنى تحول رأسمالية التنافس الحر الى الاحتكار واندماج المال المصرفي بالصناعة وتصدير رؤوس الأموال وإقامة احتكارات عالمية وتقسيم المستعمرات تمامأ. هذا من ناحية ، أما من الناحية الأخرى فالانتقال من الرأسمالية إلى الامبريالية شدد الصراعات الاجتماعية والقومية ، وجعل الصراع بين الطبقة العاملة والرأسمالية الصراع الجوهري الذي يترك طابعه على كل ميادين الحياة ونواحي التطور . ولم ير القرن التاسع شيوع أيديولوجية الاشتراكية العلمية ومولد الحركة الشيوعية العالمية (1) فحسب. بل شهد أول محاولة في التاريخ تقوم بها الطبقة العاملة (الفرنسية) ، لخلع نير الرأسمالية إقامة المجتمع العادل الذي يقضي على إستغلال الانسان للانسان. لقد هزت هذه المحاولة التى يعرفها التاريخ بكومونة باريس عام (1871 ) الرأسمالية وخاصة أوروبه وايقظها على خطورة الطبقة العاملة التى إتسعت صفوفها بفضل التطور الصناعي المتواصل ، وتحسن تنظيمها بفضل خبراتها المتراكمة، وتعمقت نضاليتها الثورية نتيجة ظروفها القاسية.

  ولجأت الرأسمالية إلى مختلف الأساليب لوقف المد الثوري.
  فمن الناحية الواحدة استخدمت القمع والعنف في وقف مد النضال الطبقي الثوري ، ومن الناحية الاخرى لجأت إلى الاستيطان الكولونيالي في سبيل تخفيف عنف هذا الصراع.

هكذا وصف الامبريالي سيسل رودس ( 2) ، دور الكولونيالية الاستيطانية في هذا الصراع في عام ( 1895 ) : " كنت أمس في الأيست أند (حي العمال في لندن) وحضرت إجتماعأ من إجتماعات العمال العاطلين وقد سمعت هناك خطابات فظيعة كانت من أولها الى آخرها صرخات الخبز! الخبز! وأثناء عودتي الى البيت كنت أفكر بما رأيت ، وتبينت أوضح من السابق أهمية الاستعمار... إن الفكرة التي أصبو إليها هي حل المسألة الاجتماعية ، أعنى: لكيما ننقذ أربعين مليوناً من سكان المملكة المتحدة من حرب أهلية مهلكة ينبغي علينا نحن الساسة طلاب المستعمرات أن نستولي على أراض جديدة لنرسل إليها فائض السكان ولنقتني ميادين جديدة لتصرف البضائع التي تنتجها المصانع والمناجم. فالامبراطورية ، وقد قلت ذلك مرارأ وتكرارا، هي مسألة البطون . فإذا كنتم لا تريدون الحروب الأهلية ينبغي عليكم أن تصبحوا استعماريين " (3) . ولم تكتف الرأسمالية بهذين الاسلوبين بل استخدمت اللاسامية أيضأ حين دعتها إلى ذلك ضرورة تحويل الصراع الاجتماعي عن مساربه الصحيحة. وابتدع الرجعيون اللاسامية- وهي من الايديولوجية العنصرية السيئة الصيت- في هذه المرحلة بالذات ، مرحلة الانتقال من الرأسمالية الى الامبريالية واحتدام الصراعات الاجتماعية في أوروبه لإنهم اعتقدوا أنها سهلة الترويج.

  ويحدد كثيرون من المؤرخين وقت ظهور اللاسامية في سنوات السبعين من القرن التاسع عشر ويؤكدون أن الساسة لجأوا إليها خدمة لأغراضهم .
  وهذا ما يؤكده ماكر ديمونت في مؤلفه (اليهود والله والتاريخ) حين كتب:

إن اللاسامية وهي أيديولوجية معاصرة تختلف تمام الاختلاف عن معاداة اليهود ، في القرون الوسطى ، نشأت في أواخرالقرن التاسع عشر- ص ( 311 و 312 ) ، وشاعت بين الفئات المتوسطة التى كانت قلقة بحكم عدم استقرار أوضاعها الاجتماعية ص ( 315 ) ، وأضاف أن ساسة اليمين استخدموها في محاربة ساسة اليسار، ثم كتب : وفسر الساسة عدم إستقرار هذه الفئات لا بأسبابه الاجتماعية والاقتصادية ، بل بسبب شرور اليهود ، فاذا كانت هذه الفئات تخاف أخطار الرأسمالية عليها، لوحوا لها باليهودي الرأسمالي المستقل ، أما إذا كانت تخاف الشيوعية فكانوا يلوحون لها بالشيوعي اليهودي المتآمر. ص( 318 ) .

  وهكذا فظهور الأيديولوجية العنصرية رافق الامبريالية التي كانت تبرر احتلالها وسيطرتها على الأقطار المختلفة في آسيه وأفريقيه بذريعة ( تمدين )  شعوبها .
  وذريعة ( التمدين ) التى اتخذت مسارأ لها ( عبء الرجل الأبيض ) إستنفرت بطبيعة الأمور فكرة رقي شعوب الدول الامبريالية عرقأ على الشعوب المتخلفة ونقواتها العنصرية بالنسبة لتلك التي أدنى منها تطورأ أو ( أغمق ) منها لونأ.
 وتؤكد حقائق التطور أن الأيديولوجية العنصرية كانت أسبق من اللاسامية التى تفرعت عنها، وأن اللاسامية انتشرت أول ما انتشرت في المانيا الامبريالية في وقت الصراع الاجتماعي.

ويتفق كافة المؤرخين على أن مستشار المانيه بسمارك الذي قام بدوركبير في إنعتاق اليهود ودمجهم في الحياة الألمانية ، لجأ بنفسه الى اللاسامية في معركته السياسية حين قاد معركة حزب المحافظين مع الاحرار الذين اعتبرهم تقدميين . وكتب هوارد مورلي ساخرفي مؤلفه [ مسيرة التاريخ اليهودي المعاصر ] يؤكد إرتباط اللاسامية بالصراع الاجتماعي على النحو التالي: " وكانت سنوات السبعين في القرن التاسع عشر بالحقيقة سنوات أزمة الطبقة الوسطى الدنيا. كانت سنوات هبوط اقتصادي فقد خلالها أصحاب الحوانيت والمعلمون. بشكل خطير مكانتهم بوصفهم أصحاب الياقات البيضاء " . وأضاف: " وخلال هذه الفترة بالضبط ظهر المدعو أدولف ستوكروأدرك كره هذه الفئة الاشتراكية الماركسية والبروليتاريا فأسس (حزب العمال المسيحي الاجتماعي) واستخدم اللاسامية في دعايته لكسب الأنصار " ص [ 224 - 225 ] . ويتأكد ارتباط اللاسامية بالأوضاع الاجتماعية الاقتصادية في انها لم تظهر إلا في أوقات احتدام الصراعات الاجتماعية وتبددت حين لم تعد هناك ضرورة لها. ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن اللاسامية التى شاعت في المانيه في سنوات السبعين والثمانين في القرن التاسع عشر إختفت تقريبأ من الحياة السياسية عند نهاية القرن المذكور ومطلعه لنعود إليها في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى . في وقت احتدم فيه الصراع الاجتماعي احتداما هائلأ واتسعت صفوف الحركة الشيوعية وتعاظم دورها في الحياة الاقتصادية والسياسية . وليس يهمنا طبعأ من اللاسامية هنا غير مقولتها الأساسية ، فهي انطلاقأ من مصدر أيديولوجيتها العنصرية تعتبر اليهود أمة منفصلة لا يمكن لأفرادها أن يندمجوا بالشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها. ولذلك كانت اللاسامية نقيض حركة انعتاق اليهود التى اقترنت بالثورات البرجوازية ، في اوروبه على وجه التحديد وخطت خطوات بعيدة المدى في دمج الطوائف اليهودية بالقوميات التى تعيش في أقطارها. واقترن ظهور اللاسامية بتطور عيني في الفكرة القومية في أوروبه . لقد كانت الحركات القومية في أوروبه حركات تقدمية دينامية هدفت إلى تصفية تجزئة الاقطاعية وانعزالية ولايات الشعب الواحد. وفي الفترة التي نحن بصددها ، على الرغم من بقاء جيوب الكفاح القومي في الامبراطوريات المتعددة القوميات في أوروبه ، كانت الفكرة القومية قد فقدت طابعها التقد مي وأصبحت أداة في أيدي الامبرياليين يستخدمونها لتوسيع امبراطورياتهم تحت شعار [ الكبرياء القومي ] [ وتمدين الشعوب ] . وظهرهذا التغيير في طابع الحركات القومية في الحرب الفرنسية- البروسية التى خاضتها بروسيه من أجل خلق الأوضاع لاتمام وحدة المانيه. ولكن هذه الحرب الايجابية في بدايتها تجاوزت طابعها التقدمي حين تخطت الجيوش البروسية حدود المانيه وغزت الأراضي الفرنسية. وهكذا إذا اسثنينا بعض الشعوب التي كانت ترزح تحت قيود الكبت القومي نستطيع أن نقول أن القومية أصبحت في أوروبه أداة بيد القوى الرجعية . الايديولوجية الصهيونية

    تبلورت الفكرة الصهيونية السياسية المعاصرة التي ظهرت في القرن التاسع عشر في كتاب تيودور هرتسل - الدولة اليهودية الذي ظهر عام 1896.

صحيح أن منظمات احباء صهيون نشأت أساسا في روسيه القيصرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ودعت الى الهجرة الى فلسطين ، إلا أنها لم تترك أثرا عميقا في حياة جماهير الطوائف اليهودية وكان من الممكن أن يعد الذين لبوا هذه الدعوة بالعشرات ، فجماهير هذه الطوائف في روسيه القيصرية كانت قد انصبت في موجة الحركة الثورية الناهضة. كذلك عالج القضية اليهودية من منطلقات مماثلة لمنطلقات هرتسل اليهودي الروسي مواطن أوديسا ليوبنسكر ووضع استنتاجاته في كتابه " التحرر الذاتي "، إلا أن دعوته لاقامة دولة يهودية - لا في فلسطين بالضرورة إذ استبعدها. واعيآ - لم تجد إطارأ تنظيميآ، وكان يجهلها هرتسل وأولئك الذين أقاموا المنظمة الصهيونية فيما بعد. ولهذا إقترنت الحركة الصهيونية بهرتسل لأنه قرن ايديولوجيته بالمنظمة الصهيونية التى نشأت بعد المؤتمر الصهيوني العالمي الذى عقد في بال من أعمال سويسرا في عام 1897.. ما هي أسس الايديولوجية الصهيونية !؟ إن منطلق أصحاب هذه الايديولوجية الأول ، كما صاغه هرتسل وحلفاؤه من بعده " أن الشعوب التى يعيش اليهود بين ظهرانيها هي ، إما ضمنآ أو صراحة ، لا سامية وأن اليهود هم شعب واحد.. جعلهم أعداؤهم هكذا بدون موافقتهم كما يحدث مرارآ وتكرارآ في التاريخ ". (هرتسل: "الدولة اليهودية " إصدار مجلس الصهيوني الامريكي عام 1946 ص 92).

   وهكذا ينطلق الصهيونيون من المقولة الغيبية التى تتجاهل العوامل الاقتصادية - الاجتماعية التي خلقت اللاسامية ويؤكدون أن اللاسامية أبدية قائمة بين كل الشعوب قاطبة، وهي لطابعها العدائي أنشأت الشعب اليهودي ووحدته ، بدون إرادته أو موا فقته.
  وهذا يعني أن الصهيونية قبلت مقولة اللاسامية وأصبحت وجهها الآخر.
  وفي هذا الصدد كتب بن هلبرن صاحب كتاب " فكرة الدولة اليهودية " :

" نمت اللاسامية السياسية إذن بوصفها حركة مضادة للثورة معادية للوضع القائم لا بالنسبة لوضع اليهود فحسب، بل بالنسبة إلى البناء الديمقراطي والمواقف الليبرالية التي إتخذتها المجتمعات المعاصرة عامة " (ص 10). وأضاف أن جمهرة اليهود رفضت مقولة اللاسامية واعتبرت نفسها جزءآ من القوميات التي إقترنت حياتها بحياة طوائفها اليهودية : " فقد أنكر اليهود الساعون نحو الانعتاق أن يكونوا قومية منفصلة " (ص 12) . وعلى هذا الضوء يظهرأن الصهيونية فرضت الايديولوجية اللاسامية حول " القومية اليهودية المنفصلة " على الطوائف اليهودية . على الرغم من مقاومتها ذلك. وفي الواقع وجدت الصهيونية صعوبة كبيرة في الانتشار بين الطوائف اليهودية في أوروبة الغربية حيث ظهرت المنظمة الصهيونية في البداية . ومن الدلائل على ذلك أن الطائفة اليهودية في ميونخ من أعمال ألمانيه رفضت بشدة عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينتها،مما دفع القيمين عليه لعقده في بال السويسرية . وقرر التقارب بين اللاسامية والصهيونية ، ايديولوجيآ، على الرغم من التناقض الظاهر بينهما ، قرره إلى حد كبير موقف المنظمة الصهيونية من اللاسامية ، فالقيادة الصهيونية لم تجد في اللاسامية عدوآ خطيرآ بل عاملأ مساعدآ على تحقيق برامجها ، إنطلاقآ من مقولة هرتسل أن أعداء اليهود هم الذين جعلوهم شعبآ واحدآ. بل إن هرتسل ذهب إلى أبعد من ذلك ، وفي وصفه إنتقاله من معسكر أنصار الانعتاق والاندماج إلى أنصار الانعزالية الطائفية كتب أنه إكتشف " أن اللاسامية وهي قوة غير واعية وشديدة المراس بين الجماهير لن تضر اليهود " وأضاف أنه يعتبرها " حركة مفيدة لتطوير الخلق اليهودي ". (يومياته- مختصرة إصدار المكتبة الكونية ص 10) .

وهكذا ، فعلى الرغم من التناقض بين اللاسامية التى تصف اليهود بكل المثالب التى إكتشفتها العقليات المتعصبة ، والصهيونية التى تضفي على اليهود كافة نعوت الكمال الانساني، فقد كان التقارب ملازمآ لهما على صعيد العمل ، إذ كانت الصهيونية ترى في اللاسامية محركها التاريخي وتحتاج إلى نشاطها لتحقق أهدافها. 

واتخذ هذا التقارب لا شكل سكوت عن اللاسامية فحسب بل إطار تعاون وثيق بين اللاساميين والصهيونيين. وهذا ما أظهرته حقائق التعاون بين القادة الصهيونيين مع النازيين قبل الحرب العالمية الثانية . وليس الوقت ببعيد حين نشرت بعض مجلات هذه البلاد فضيحة المنظمة الصهيونية في العراق التى ألقت القنابل على الكنس وتجمعات اليهود بقصد إجتثاث جماهير الطائفة اليهودية من تربتها الطبيعية . التي نمت فيها عبر قرون . وتهجيرها إلى اسرائيل. واعتمادآ على المقولتين: " أبدية اللاسامية " وفشل " عملية الانعتاق والاندماج، أولأ، ووجود الشعب اليهودي بفضل أعدائه . ثانيآ، استنتجت الصهيونية أن المشكلة اليهودية لا حل لها بغير تجميع " شتات " اليهود في مركز واحد يقيمون فيه دولتهم وتنتهي مشكلتهم التي "إمتدت حوالي ألفي سنة " منذ أن " شتتهم الرومان " !! (4). ولم يترك الصهيونيون ايديولوجيتهم بهذه البساطة بل تعمقوا في بحث ملامحها وألبسوها حللأ " علمية " . ومن هذا القبيل ما كتبه ليوبنسكر في كتابه " التحرر الذاتي ". فقد إعتمد في بنائه الايديولوجي على أن اليهود هم قوم شبح لا وطن لهم ، وبما أن الانسانية تكره الأشباح لذلك تنزل بهم الشعوب الاضطهاد والتعذيب ، والحل إذن يكمن في تحويلهم من قوم شبح إلى قوم طبيعي . وهذا يتم إذا ما أقاموا وطنأ لهم في مكان ما ، فعندئذ يتوقف إضطهادهم حتى لوبقيت بعض طوائفهم في أقطار مختلفة فهم عندئذ يكونون جالية كسائر الجاليات التى تعيش بين قوميات أخرى . ولم يكن تعيين الوطن أمرآ مفروغأ منه منذ البداية . فليوبنسكر إستبعد فلسطين عند بحثه أمر إختيار الوطن ، واعيآ ، على اعتبار أن ذكرياتهم المرتبطة بها قد تكون عاملأ معرقلأ. كما أن المنظمة الصهيونية ، مع أنها في مؤتمرها الأول دعت إلى إقامة الوطن القومي في فلسطين ، إلا أنها عادت في عام 1903 ووافقت على إقتراح ممثل الامبريالية البريطانية تشمبرلين إقامة الوطن القومي في أوغنده . أما الاتفاق نهائيآ على اختيارفلسطين فيعود إلى عاملين: نشوء ظروف تساوقت فيها مصلحة الامبريالية البريطانية والصهيونية أولأ واكتشاف الصهيونيين أن من الأسهل إستنفار جماهير الطوائف اليهودية لبناء وطن قومي في فلسطين بسبب إقترانها بالدين اليهودي وذكريات تاريخية قديمة . كذلك ارتأت الايديولوجية الصهيونية ان الأمة اليهودية لا أمة عالمية فحسب ، بل أمة من نوع فريد تتجاوز التقسيمات الطبقية وينتفي فيها الصراع الاجتماعي. ولهذا كانت دعوة هرتسل معادية للاشتراكية التى وضعها التاريخ على بساط البحث في تلك الفترة التاريخية في أوروبة . وكان واضحآ أن الصهيونية التي كان من الممكن أن نجد قاسما مشتركآ مع اللاسامية ، لم تجد قاسماً مشتركآ مع الاشتراكية العلمية ، وكان اصطدامها بها تصادما مباشرآ على طول الجبهة. ففي حين كانت الحركة الاشتراكية الثورية آنذاك تدعو إلى وحدة النضال الطبقي بين العمال عامة بغض النظرعن إنتمائهم القومي أوالطائفي وترى في القضاء على حكم الطغيان الرأسمالي حلأ للمشاكل القومية والطائفية ومن بينها المشكلة اليهودية، وتنادي باندماج اليهود مع سائر القوميات ، ظهرت الصهيونية عنصرأ مخربآ في الطبقة العاملة تدعوإلى إنسحاب العمال اليهود من النضال الطبقي والسير وراء سراب الصهيونية وتعميق العزلة الطائفية والقومية في مرحلة النهوض الطبقي الثوري . وفي حين أن القيادة الصهيونية لم تبذل أي جهد لجذب اليهود الرأسماليين النشيطين من الأحزاب البرجوازية ( ليبراليه كانت أم محافظة ) ، بذلت جهودأ ضخمة ، لجذب اليهود من الحركات الثورية . وفرضت تطورات الحياة السياسية- الاقتصادية في أوروبة والولايات المتحدة حيث تدفقت الهجرة اليهودية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين تغييرات في الايديولوجية الصهيونية التى لم تجد جذورا لها بين جماهير عمال الطوائف اليهودية . ولهذا ظهرتياران لا يتعارضان بالضرورة : تيار الصهيونية التقليدي الذي يرتئي الدولة اليهودية ، في وطنها المقبل دولة برجوازية ، مثل سائر الدول البرجوازية في أوروبة... وتيار الصهيونية " الاشتراكية " الذى يقبل بمقولات الصهيونية كلها ، إلا أنه يدعو إلى أن تكون الدولة دولة " اشتراكية " . ونؤكد أن هذين التيارين لم يتعارضا وبقيا في إطار الايديولوجية الصهيونية البرجوازية، المتناقضة تناقضأ لا مهاودة فيه مع الاشتراكية العلمية لأن تيار الصهيونية " الاشتراكية "! انطلق من قاعدة التعاون الطبقي باعتباره الطريق الوحيد لاقامة الوطن القومي وتنفيذ برنامج الصهيونية الاقليمي . وتتبلور الايديولوجية القومية البرجوازية في هذه الصهيونية " الاشتراكية " ! في توجهها الجوهري لمشكلة الطوائف اليهودية " فالصهيونية الاشتراكية " كما اذاعها بير بوروخوف ترى الصراع القومي سابقآ للصراع الطبقي- الاجتماعي ولذلك لا بد من تجميع الشتات واقامة القوم أولأ، وهذا ما يتعارض مع الاشتراكية العلمية التى ترى التطور التاريخي حصيلة الصراع الاجتماعي منذ أن نشأت الطبقات بعد عهود الانسانية الأولى.. والأمر الجوهري الذي يميز الاشتراكية العلمية عن الايديولوجية البرجوازية ان الاشتراكية العلمية ترى في نشوء القوميات واقامة الدول ظاهرة اقترنت بنشوء الرأسمالية وانتصارها على التمزق الاقطاعي لا ظاهرة أزلية . وهنا ينشأ السؤال: هل يمكن اعتبار الصهيونية بوصفها أيديولوجية قومية، أيديولوجية حركة تحرر قومي يهودي؟ إن نشوء القوميات والدول القومية اقترن بنشوء البرجوازية وانتصارها على الاقطاعية..

    هذا ما وقع في بريطانية وفي فرنسة وفي غيرها.

وفي مثل هذه الأقطار لم تكن هناك حركات قومية بل حركات اجتماعية تسلمت قيادتها البرحوازية وأيدتها الطبقات الشعبية- من العمال والفلاحين في معركتها مع الاقطاعية . ولكن نتيجة التطور غير المتعادل والتفاوت في ظروف القوميات الأوروبية نشأت بين القوميات المكبوتة في الامبراطوريات العثمانية والروسية القيصرية والنمساوية - الهنغارية حركات تحرر قومي هدفت إلى إقامة الدول القومية المستقلة. وأيدت الانسانية المتقدمة وفي طليعتها قوى الاشتراكية العلمية هذه الحركات القومية باعتبارها حركات تدعم مسيرة التقدم الاجتماعي. وقد أسهمت هذه الحركات فعلأ في تقويض دعائم الامبراطوريات الاقطاعية وتدعيم الديمقراطية البرجوازية وخلق الظروف الأفضل لنمو النضال الطبقي . ولكن أيديولوجية القومية البرجوازية التقدمية كانت قد تحولت ، في اوروبة في نهاية القرن التاسع عشر، وقت ظهور الصهيونية ، إلى ايديولوجية التوسع الإقليمي على حساب الشعوب وبهذه الايديولوجية اقترنت الصهيونية لا بغيرها.

ثم ان الايديولوجية الصهيونية في مسيرتها لم تسهم في الظروف الموضوعية في حركات التقدم الانساني، بل دعمت قوى الردة والامبريالية على الصعيدين الأوروبي والعالمي. فمن الناحية الأوروبية الداخلية وقفت الصهيونية ضد حركات إنعتاق اليهود العامة واندماجهم بمجتمعاتهم في كل قطر من الأقطار، كما صادمت الحركات الاشتراكية الثورية بمحاولتها جذب العمال اليهود بعيدآ عن تلك الحركات. ومن الناحية العالمية دعت إلى الاندماج في مخططات الامبريالية العالمية بشقيها الكولونيالي الاستيطاني والسياسي الاستراتيجي.

هوامش (1) تأسست الأممية الأولى عام [ 1864 ] وحلت عام [ 1876 ] ، وتألفت الأممية الثانية عام [ 1889 ] (2) سميت أقاليم في أفريقيا بإسمه : روديسية الجنوبية ، روديسية الشمالية ، وروديسية الشمالية لاتزال

      تحكمها أقلية بيضاء من المستوطنين ، أما الجنوبية فاستقلت .
   (3) نشر الحديث الصحفي ستيد واستشهد به لينين في كتابه الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية . 
   (4) لاحظنا في البداية زيف هذا الزعم ، فحين قضى الرومان على ما يسمى بالهيكل الثاني في سنة 70 ميلادية كان ثلاثة أرباع اليهود في انحاء مختلفة من الامبراطورية .   



الفصل الرابع

الصهيونية حتى وعد بلفور

مخطط هرتسل والاستيطان الاستعماري كان كتاب تيودور هرتسل " دولة اليهود " ، تجسيدآ للايديولوجية الصهيونية، ومخططأ لبناء الدولة اليهودية ، عالج أدق تفاصيل عملية البناء إبتداء من إقامة " جمعية اليهود "- الهيئة التي ستشرف على المشروع- والشركة اليهودية- المؤسسة التى ستنفذه إقتصاديآ- حتى قضايا تهجير اليهود بطبقاتهم وتنظيم المدن في دولتهم واختيار لغتهم وعلمهم وسن دستورهم . وعلى هذا الضوء يعتبر كتاب " الدولة اليهودية " مخطط الممارسة الصهيونية ، وتظهر فيه ملامح السياسة العامة التى اختطتها المنظمة الصهيونية بعد أن قامت في المؤتمر الصهيوني الأول. وحسب المخطط تكون البداية في تعيين رقعة الأرض التى ستقوم عليها الدولة اليهودية، و " جمعية اليهود " هي التى ستختار فيما بعد إذا كانت هذه الرقعة ستكون فلسطين أو الأرجنتين ( " دولة اليهود " بالانجليزية إصدارمجلس الطوارىء الصهيوني الامريكي عام 1946 ص 90) ثم تأتي " الشركة اليهودية لتنفذ المشروع عمليأ " لتصفي مصالح اليهود المهاجرين... وتنظم التجارة في القطر الجديد " المصدر ذاته ص 92. ويحتل فصل " الشركة اليهودية " حيزآ محترمأ في كتاب " دولة اليهود " لأن هرتسل أراد أن يعالج بالتفصيل- إلى حد ما طبعآ- مسألة تصفية أموال اليهود غير المنقولة ونقلها مع رؤوس الأموال السائلة إلى القطر الجديد لاستخدامها في بناء المساكن وشراء الأراضي وتنظيم التجارة . وحدد هرتسل رأسمالأ لهذه الشركة بمقدار ألف مليون مارك ( 50 مليون جنيه أو 200 مليون دولار بسعر بداية القرن العشرين) واختارمركزآ لها لندن لتكون تحت سلطة بريطانيه القانونية وحمايتها. (المصدر ذاته ص 98). وتصور هرتسل وأقرانه تنفيذ المشروع على نسق الاستيطان الكولونيالي في الجزائر وروديسية وغيرها ولذلك حين أسسوا أداة الصهيونية المالية في عام 1902 أطلقوا عليها اسم الشركة اليهودية الاستعمارية (الكولونيالية) واعتبروها " أداة الحركة الصهيونية المالية وهدفها الجوهري تطوير فلسطين والأقطار المجاورة لها صناعيآ واقتصاديآ " (تاريخ الصهيونية ناحوم سوكولوف جزء2 ص 371) . ولم تكن القضية مجرد تشابه في الأسماء، فقادة الصهيونية أكدوا فيما بعد التماثل بينهم وبين الممارسة الاستعمارية (الكولونيالية). وكتب الزعيم الصهيوني ناحوم سوكولوف في معرض تفسيره دوافع تأسيس شركات المنظمة الصهيونية المالية في بريطانيه : " وشجعت الانجازات العظيمة التى حققها الغزو السلمي البريطاني (الاستيطان الاستعماري " الكولونيالي " - أ. ت) الحركة الصهيونية لتضع ثقتها وأموالها (في بريطانيه- أ. ت) . لقد "خلق " سيسل رودس (الامبريالي البريطاني الذي قاد احتلال ولايات عدة في أفريقيه وسميت روديسيه باسمه أ. ت) بمبلغ مليون جنيه فقط روديسيه التى تمتد مساحتها 750 ألف ميل مربع. وسيطرت شركة شمال بورنيو البريطانية برأسمال 000، 800 جنيه على 31,000 ميل مربع ، وشركة أفريقيه الشرقية البريطانية التى أشرفت على إدارة 000، 200 ميل مربع بدأت بالمبلغ الذي بدأت فيه الشركة اليهودية الاستعمارية أي بمبلغ 250,000 جنيه ". (المصدر أعلاه المجلد 2 المقدمة ص 47). وأكد سوكولوف هذا الأمر حين عاد وكتب في معرض مناقشته المتشككين: " وتسأل ما هي سياستكم ؟ وآخرون يقولون يجب إستبعاد السياسة فالصهيونية يجب أن تكون إما استعمارأ وإما حركة روحية... (ولكن) يجب أن نكون صهيونيين في إستعمارنا وروحنا وديننا " . (المصدر أعلاه المجلد 2 ، ص 17) .

 ولذلك لم يكن غريبأ أن تتجه الحركة الصهيونية إلى الامبراطورية البر يطانية وفي هذا الصدد كتب ناحوم سوكولوف أيضأ " وكان واضحآ أن تقوم بريطانيه بدورعلى غاية من الأهمية في السياسة الصهيونية . ومنذ البداية كانت لندن مركز المنظمة الصهيونية المالية ومحجة الصهيونية السياسية ". وأضاف ولذلك قادت الطريق هرتسل إلى لندن... فبريطانيه هي التي اقترحت إقامة الدولة اليهودية في أوغنده ( افريقيه ) ونظمت بعثة العريش... لقد كانت المالية الصهيونية إنجليزية والنظرة السياسية الصهيونية إنجليزية.

وهذا التجاوب بين القيادة الصهيونية وبريطانيه الامبراطورية منذ بدء المنظمة الصهيونية أكده اللورد ملتشت في كتابه " جارك " فكتب أن الحركة نمت بعد المؤتمرين الثاني والثالث "وتحقق تقدم هام في انجلتره حيث كان غير يهود لامعين من مؤيدي مثل العودة إلى صهيون " (ص 111) . وفعلأ بدأت في هذه الفترة بالذات المفاوضات بين هرتسل ممثل المنظمة الصهيونية وجوزيف تشمبرلين سكرتير (وزير) المستعمرات البريطاني بشأن استيطان اليهود الاستعماري الكولونيالي في عدد من الأقطار. وفي المفاوضات الأولى بين هرتسل وتشمبرلين تقدم هرتسل في 22 تشرين الأول (اكتوبر) 1902 بمشروع لاستعمار قبرص وشبه جزيرة سيناء حتى العريش ، إلا أن تشمبرلين إستبعد قبرص لأن اليونانيين والمسلمين (الأتراك) سيرفضون ذلك ، ولكنه نظر نظرة إيجابية نحومشروع استعمار شبه جزيرة سيناء (وعرف فيما بعد بمشروع العريش ) واقترح على هرتسل الاجتماع باللورد لاندسون من وزارة الخارجية لهذا الغرض... (هرتسل ريدر ص 121) . وتابعت المنظمة الصهيونية المشروع الذي كان يجب أن يعتمد على موافقة المندوب السامي البريطاني في مصر آنذاك ، اللورد كرومر. وأرسلت بعثة لاستقصاء الحقائق الى سيناء، بدأ بعدها هرتسل يفاوض اللورد كرومر في هذا الشأن ، إلا أن الأخير تحفظ من المخطط فسقط المشروع . وبعد ذلك اقترح تشمبرلين منح أوغنده (في كينيه) للاستعمار الصهيوني واقتنع هرتسل بالعرض فبحثه في المؤتمر الصهيوني السادس في بال الذي عقد بين 23- 28 آب (أغسطس) 1903، ونجح في أخذ موافقة أكثرية المندوبين على قبول العرض وإقامة " فلسطين جديدة " في تلك المنطقة . ولكن المشروع فشل لأكثرمن سبب ، ومن أهم الأسباب مقاومة المستوطنين الانجليز أي استيطان يهودى واسع يهدد مواقعهم ، على اعتبار ان المنطقة ستتحول إلى اقليم حكم ذاتي يهودي لو تم المشروع ، ومنها معارضة قسم من الصهيونيين اختيار" أوغنده إعتقادآ منهم أنها لن تحرك عواطف اليهود كما تحركها فلسطين التى ترتبط بتقاليدهم وطقوسهم الدينية . وهنا تجدر الملاحظة أن مخططات بريطانيه في هذه الفترة من بداية القرن العشرين تباينت، إلى حد ما، مع مخططاتها في أواسط القرن التاسع عشر، آنذاك كانت محافلها تدعوإلى " بعث صهيون " أو" إعادة اسرائيل " في فلسطين ، وكان ذلك كما لاحظنا قد ارتبط بمشاريعها الاستعمارية- في منطقة الشرق الأوسط إبان الهزة السياسية التى أحدثتها مصر في عهد محمد علي عند محاولتها إقامة الدولة العربية الكبيرة بين 1831- 01840 أما في مطلع القرن العشرين فكانت بريطانيه قد احتلت مصرولم تكن تستطع في ظروف التوازن الدولي الدقيق الذي أبقى الامبراطورية العثمانية على كف عفريت (فسميت رجل أوروبه المريض) أن تخطط للاستيلاء على فلسطين ، ولذلك كان اهتمامها بالمنظمة الصهيونية قائما على رغبتها في تسخيرها لتنظيم استيطان استعماري في بعض أنحاء الامبراطورية البريطانية وبشكل خاص في أوغنده .

ولكن تغيير الأوضاع في العالم إبان الحرب العالمية الأولى وسنوح فرصة لتقسيم ممتلكات الامبراطورية العثمانية (التركية) بعثا المشروعات الامبريالية البريطانية القديمة وعاد البحث من جديد في " إعادة اسرائيل " .

المنظمة الصهيونية في الميدان الدولي

   بين 21- 31 آب (أغسطس) 1897 عقد في بال المؤتمر الصهيوني الأول الذى أقام المنظمة الصهيونية العالمية وصاغ البرنامج الصهيوني على الوجه الآتي :

" تسعى الصهيونية إلى بناء وطن للشعب اليهودي في فلسطين يضمنه القانون العام (الدولي).

 ويرتئي المؤتمر استخدام الأساليب الآتية ( لتحقيق ذلك):

- تنمية استعمار فلسطين بالعمال الزراعيين والصناعيين. - تنظيم وتلاحم اليهودية كلها (الطوائف اليهودية أ. ت) بالمؤسسات الملائمة على الصعيدين المحلي والدولي حسب قوانين كل قطر. - تقوية وتنمية الوعي ومشاعر القومية اليهودية. - اتخاذ إجراءات تمهيدية للحصول على الموافقة (الدولية أ. ت) حيث هي ضرورية لتحقيق أهداف الصهيونية. ويتضح من هذا أن التأكيد كان على أمرين: تنفيذ إقامة الوطن القومي أو الدولة اليهودية على نسق الاستيطان الاستعمارى. والحصول على الموافقة الدولية حيث هي ضرورية لتحقيق أهداف الصهيونية. ويقينآ أن السنوات القليلة التى قضاها هرتسل بعد المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 إلى وفاته في 3 تموز (يوليو) 1904 كانت سلسلة من المحاولات للحصول على موافقة الدول الامبريالية على مساعدة الصهيونية على تحقيق أهدافها ، مقابل إسهام المنظمة الصهيونية في تدعيم استراتيجيتها الامبريالية . والملاحظة البارزة في هذا الشأن اتصال الصهيونيين بكافة الدول الامبريالية إبتداء من الامبراطورية العثمانية المتداعية والامبراطورية الألمانية الفتية الناهضة حتى الامبريالية البريطانية العريقة والدولة الايطالية الحديثة التى بدأت تتطلع إلى الفوز بحصة من المستعمرات. " وإذا كانت اتصالات هرتزل على الصعيد الدولي قد بدأت باجتماعه بالوزير العثماني في 21 حزيران (يونيو) 1896 لبحث الاستيطان الاستعماري في فلسطين تحت رعاية السلطان فقد كانت إحدى مقابلاته الأخيرة في 23 كانون الثاني (يناير) 1904 مع ملك إيطالية الذي أبدى عطفأ على مشروع الصهيونية استيطان طرابلس الغرب تحت الحماية الايطالية. (احتلت إيطالية طرابلس الغرب واستعمرتها استعمارأ استيطانيأ في 1912 وما بعد ) .

   والحقيقة أن القيادة الصهيونية، في نشاطها على الصعيد الدولي، كانت ترى مشروعاتها جزءأ من النشاط الامبريالي واعربت عن أهدافها بهذه الروح .

ولا حاجة بنا الى المغالاة في تقديرأهمية توجه هرتسل الى المستشار الألماني الامبراطوري بسمارك ليستشيره في مشروعه ويطالبه في أن يقرر في مدى فائدته للامبريالية الألمانية الناهضة (تاريخ اليهود ابرام ليون ساخر ص354 ) إنما نريد أن نثبت أن هرتسل كان دائما يؤكد فائدة مخططه الصهيوني لأوربا الامبريالية . لقد كانت مقابلة هرتسل الأولى لبحث مخططه- قبل انعقاد المؤتمرالصهيوني الأول- مع الدوق الكبير بادن في كارلسرو، وكتب يصفها في يومياته فذكر أنه تكلم حول الفائدة العظمى التي تجنيها أوروبة من إقامة الدولة اليهودية وأضاف مستعرضا أقواله أمام الدوق : "وسنبنى خطوط السكك الحديدية في آسية لتكون طريق الشعوب المثقفة ولن تكون هذه الطريق في حوزة أي من الدول الكبرى". وقال الد وق- وفي هذا أكثرمن مدلول: " وستحل المشكلة المصرية فبريطانيه تتمسك بمصر لأن عليها أن تدافع عن طريقها إلى الهند " . (هرتسل ريدر ص 108) ! ومع هذا ركز هرتسل جهودأ كبيرة لكسب تأييد الامبريالية الألمانية . وفي مقابلاته الثلاث مع قيصر ألمانية غليوم الثاني- الأولى في استمبول في 18/10/1898 والثانية في فلسطين 29/10/1898 والثالثة في القدس في 2/11/1898 - أكد على الفوائد التى ستجنيها ألمانية الامبريالية من تبنيها المشروع الصهيوني وحمايته . فالاستعمار الصهيوني في فلسطين برعاية ألمانية وحمايتها سيفتح الطريق البري لآسية من البحر المتوسط إلى الخليج الفارسي ، وبذلك يدشن عهدا جديدأ ويفتح آفاقأ رحبة.

لقد أضاء وجه القيصر- حسب تعبير هرتسل- حين تكشفت أمامه الرؤيا التى رسمها هرتسل بمخططه (يوميات هرتسل المحرر مارفن لوينثال ص 272).

وحين لم تثمر المساعي في إقناع القيصر الألماني لوضع الاستعمار الصهيوني تحت حمايته لاعتبارات دولية أهمها العلاقات الألمانية- العثمانية وعدم رغبة القيصر الألماني في تعكيرها، وبعد أن احجم السلطان عبد الحميد عندما قابله هرتسل في 19 أيار (مايو) 1901 عن منح " الفرمان " بالاستعمار الصهيوني في فلسطين ركزهرتسل جهوده على كسب تأييد بريطانيه التي بادرت كما أسلفنا إلى عرض استعمار أوغنده على الصهيونيين في عام 1903. وازأء هذا لم يكن غريبآ أن يطرق هرتسل أيضآ باب القيصرية الروسية التي اقترفت مذابح اليهود في بعض محاولة منها إشغال الرأي العام وإبعاد الثورة عن بلادها. وفي هذا الاطار اجتمع هرتسل بوزير الداخلية القيصري بهلفه الذي عرف بمعاداته اليهود وكان مسؤولآ عن مذبحتهم في كيشينوف، في 10/8/1903 . وفي هذه المقابلة، والمقابلة التي أعقبتها في 14 آب (أغسطس) 1903، توصل الاثنان إلى قدركبير من التفاهم، فهرتسل تعهد بأن تسلخ الصهيونية اليهود عن صفوف الاشتراكيين، وتعهد بهلفه بتمكين المنظمة الصهيونية بالعمل (وكما قال سمح لليهود بالتنظم ، الأمر الذي حرمه على المسيحيين)، كما وعد بالتدخل مع السلطان لتسهيل الاستيطان الاستعماري الصهيوني في فلسطين. (يوميات هرتسل- المحرر مارفي لوينثال- ص 389 و401 و 402 ). وأصبحت مقاومة الحركات الاشتراكية الثورية التى تبناها هرتسل آنذاك تقليدآ عميق الجذور في القيادة الصهيونية ولا تزال السياسة الصهيونية في هذا الميدان على حالها.

الخلاف بين الصهيونية العملية والصهيونية السياسية

  ومع نموالتنظيم الصهيوني على الصعيد القطري تبلورت ولاءات المنظمات القطرية كل للدولة القومية التي تتسب إليها.
 وهكذا كان ولاء المنظمة الصهيونية في ألمانيه للامبريالية الألمانية كما كان ولاء المنظمة الصهيونية البريطانية للامبريالية البريطانية.
    وتجسم هذا الأمر في مجريات المؤتمر الصهيوني السابع الذي عقد في بال بين 27 تموز (يوليو) و 2 آب (أغسطس) 1905، وكان المؤتمر الأول بعد وفاة هرتسل . فلقد قرر في هذا المؤتمر التخلي عن فكرة استعمار الصهيونية أوغنده والعودة إلى البرنامج الأصيل الذي حدد فلسطين هدفآ للاستيطان الاستعماري الصهيوني... وعلى الأثر انشق عنه فريق من كبار الصهيونيين البريطانيين بقيادة إسرائيل زانغويل وألفوا " الاتحاد الاقليمي اليهودي " وهدفه تنمية استيطان اليهود في أي جزء ملائم من العالم. 
    وكان هذا الانقسام انعكاسا للصراع بين الدول الامبريالية في المنظمة الصهيونية.
 ورفض المؤتمر العرض البريطاني لاستعمار أوغنده ، وتأكيده على العمل العملي في فلسطين. واختياره المصرفي الالماني دافيد ولفسون رئيسآ له رجح كفة القوى الصهيونية الموالية للامبريالية الالمانية مما دفع زانغويل وعددآ من الصهيونيين البريطانيين إلى الانسحاب وإقامة منظمة عرفت بالمنظمة الاقليمية وهدفها التفتيش عن أقاليم لاستعمارها تحت العلم البريطاني!

ولذلك كان طبيعيآ فيما بعد أن يحل اسرائيل زانغويل منظمته حين وعدت بريطانيه. وعدها المعروف باسم وعد بلفور، وبذلك دمجت المخطط الصهيوني باستراتيجيتها وألغت الفروق بين الصهيونيين البريطانيين والصهيونيين عامة على إعتبار أن الدول الامبر يالية الأخرى لم تكن في الميدان آنذاك. وقد كانت القومية الصهيونية الالمانية ، الحاسمة في المنظمة الصهيونية العالمية حتى بداية الحرب العالمية الأولى حين بدأت مرحلة الحسم بين المجموعتين الامبرياليتين الكبيرتين في العالم. آنذاك انعكس الصراع بين القوى الصهيونية الموالية للامبريالية الالمانية والقوى الصهيونية الموالية للامبريالية البريطانية في أكثرمن ميدان ، ويصورحاييم وايزمن هذا الأمر بدون أن يعترف بظاهرة إنعكاس الصراع الامبريالي في المنظمة الصهيونية حين يصف في كتابه (التجربة والخطأ ) معركة اللغة التى دارت في عشية الحرب العالمية الأولى في فلسطين، فيكتب عن وجود شبكات تعليم ثلاث في فلسطين الأولى باشراف "اليانس ازرائيلي يونفرسال " ومقرها باريس ولغة التعليم فيها الفرنسية ، والثانية " هلفسفير ين در دويتشن يودين" ومقرها برلين ولغة التعليم في مدارسها الالمانية ، والثالثة مدرسة " أفيلينا دي روتشيلد" في القدس ولغة التعليم فيها الانجليزية .

ويلاحظ أن منظمة " الهلفسفير ين " كانت أداة الدسائس (كذا بالضبط) الألمانية في الشرق الأدنى. (كتابه التجربة والخطأ إصدار شوكن نيويورك ص 142) .

ثم ينتقل إلى معركة اللغة فيذكر نشوء " التخنيون " في حيفا تحت حماية ألمانيه والمنافسة التى جرت في هيئة " الهلفسفيرين " حول لغة التعليم ويصف دعاة التعليم باللغة الالمانية بيهود القيصر ويضيف أنهم ألمان أكثر من الألمان ولكنه لا يعترف أن دعاة التعليم العبري كانوا من أنصار الامبريالية البريطانية (ص 143) . ونجح يهود القيصر الالماني، على حد تعبير وايزمن، في تفضيل اللغة الالمانية بأكثرية ساحقة، ولكن إضراب المعلمين في التخنيون في حيفا وتمسكهم بالعبرية حسم الأمر ضد. اللغة الالمانية. (ص 144). وفي هذه الفترة ظهر الصراع بين الدولتين الامبرياليتين- الكبيرتين بريطانيه وألمانيه ، في المنظمة الصهيونية ، وكأنه خلاف بين الصيونيين- السياسيين - والصهيونيين العمليين ومع هذا فلم يكن هذا الخلاف مجرد إنعكاس الصراع الامبر يالي . وهنا علينا أن نتوقف عند هذا الخلاف بين الصهيونيين السياسيين والصهيونيين العمليين. لم يكن هذا الخلاف حول ايديولوجية الصهيونية وأهدافها بل حول أسلوب تحقيقها. ففي حين دعا الصهيونيون السياسيون وكان خطهم مسيطرآ في أيام هرتسل إلى استصدار تشريع دولي بتأييد المشروع الصهيوني، دعا الصهيونيون- العمليون - بدون الانتقاص من اهمية- التشريع الدولي- إلى البدء باستيطان فلسطين استعماريآ لخلق حقائق قائمة. وكان دعاة الصهيونية- العملية- في البداية صهيونيي روسيه القيصرية الذين حاولوا توجيه الهجرة من بلادهم وأوروبه الشرقية إلى فلسطين بدلأ من الولايات المتحدة ، ولذلك لم يكن في وسعهم الانتظار حتى تصدر الدول الكبرى وعدآ بإقامة الوطن القومي اليهودي أو الدولة اليهودية . وبكلمات أخرى كان الصهيونيون - العمليون- بدعوتهم إلى استيطان فلسطين يحاولون تحويل التيار الجارف من الهجرة عن الولايات المتحدة وغيرها من الأقطار الغربية التي كانت ترحب بالهجرة الأوروبية. وفي هذا الاطار كانت الدعوة إلى الصهيونية " العملية "، دعوة إلى إنقاذ الايديولوجية الصهيونية بذاتها وصيانة فكرة الدولة اليهودية ، إذ أن الهجرة من أوروبة الشرقية إلى النصف الغربي من الكرة الأرضية أكدت ، لا التماسك اليهودي القومي ، بل الاندماج الانساني العام القائم على الرغبة في الهروب من الاضطهاد والتفتيش عن الحياة الكريمة ، الحياة الانسانية . وهكذا تبلورت الصهيونية " العملية " ، في تهجير اليهود إلى فلسطين، التي ألغت آنذاك جزءأ من الامبراطورية العثمانية بدون إنتظار وعد دولي بإقامة الدولة اليهودية. ولكن حين اشتد الصراع الامبريالى البريطاني- الالماني اصبح في مصلحة الامبريالية الالمانية التي تحالفت مع الامبراطورية العثمانية أن تسخر الصهيونية لمقاصدها. فتؤيد الاستيطان الاستعمارى في فلسطين ، الواقعة في الامبراطورية العثمانية ، في حين كانت الامبريالية البريطانية ، كما اتضح، تريد تسخير هذه المنظمة ، لمقاصد الاستيطان الاستعمارى في ممتلكات الامبراطورية في افريقيه. ومع هذا فمن الخطأ تقسيم الصهيونيين بهذه البساطة وبهذا الشكل الميكانيكي ، فقد داخلت الاتجاهات في المراحل المختلفة وكان الانقسام في الولاء الامبريالي بين الدولتين واضحأ في فترة مشروع أوغنده وحتى عشية الحرب العالمية الأولى. وتؤكد هذه الحقيقة لأن عددأ من الصهيونيين الذين كانوا من اشد الموالين للامبريالية البريطانية- وبينهم وايزمن- انتسبوا إلى الصهيونيين " العمليين " وعارضوا مشروع أوغنده بدون أن يعني ذلك تأييدأ للامبريالية الالمانية . وفي نهاية المطاف اندمجت الصهيونية " السياسية " بالصهيونية " العملية " بعد التخلي عن مشروع اوغنده وأصبح هذا الاندماج يخدم الدولة الامبريالية التى استطاعت الاستفادة منه- وكانت الامبريالية البريطانية .

الاستيطان الاستعماري في فلسطين

    لم يؤد ، المؤتمر الصهيوني السابع الذى تخلى عن فكرة استعمار أوغنده والتمسك بفلسطين إلى وقف عملية الهجرة اليهودية الواسعة من أوروبة إلى العالم الجديد.
   لقد دعت المنظمة الصهيونية إلى الاستيطان في فلسطين على إعتباره تجسيمأ للكيان القومي وبذلت كل جهد لجذب المضطهدين من يهود أوروبة الشرقية إليها ، إلا أنها لم تستطع وقف التيار الجارف من أولئك اليهود المضطهدين الوافد على الولايات المتحدة، فالنهوض الاقتصادي في العالم الجديد وشروط الاستيطان الأفضل تغلبآ على دعوة " البعث القومي " الصهيوني .
وهكذا في فترة قصيرة إمتدت بين 1881 و 1918 أصبح عدد اليهود في الولايات المتحدة حوالي أربعة ملايين في حين كان عدد اليهود في فلسطين في عشية الحرب العالمية الأولى . 80,000 وهبط أثناءها إلى 65 ألفآ.
ومع هذا، وعلى الرغم من المناقشة التى دارت بين الصهيونيين " العمليين " الذين يريدون الاستيطان حالا، والصهيونيين " السياسيين " الذين أرادوا " فرمان " اعتراف من الدول قبل البدء بالاستيطان ، فقد كان يجري استيطان بطىء ويقيم اليهود المهاجرون مستعمرات في مختلف أنحاء فلسطين . وحسب المعطيات كانت هناك 6 مستوطنات يعمل فيها 400 فلاح على 25 ألف دونم في عام 1882 ، زادت قليلأ في الفترة التى سبقت الحرب العالمية الأولى.

ومن المعروف أن المنظمات الصهيونية كانت تشتري الأراضي لتقيم عليها المستعمرات من الاقطاعيين الغائبين بوجه خاص ، مما سبب تصادمات بين الفلاحين العرب الذين كانوا يستغلون تلك الأراضي والفلاحين اليهود الذين تسلموا الأراضي التى اشترتها لهم منظمتهم من " صاحب " الأراضي " الشرعي " . وهكذ! ولد الاتصال الأول إحتكاكأ معاديآ بين العرب واليهود. ولم يكن الاحتكاك ناجمأ فقط عن تجريد الفلاحين من أراض هم عرفا أصحابها وإن لم يكن قانونأ، بل عن توجه المستوطنين اليهود نحو الشعب العربي عامة. ويصف " أجاد هعام " أحد كبار الصهيونيين في مطلع القرن العشرين تصرفات المستوطين في (مقالته " الحقيقة من فلسطين " كتب عام 1891) : "إننا نفكرأن العرب جميعأ متوحشون مثل الحيوانات ولا يدركون ما يجري من حولهم. هذا خطأ كبير " . وبعد أن ينصح المستوطنين بعدم اثارة التذمر ضدهم مهما كانت الظروف وبمعاملة العرب بروح ودية واحترام ، كتب ، " ولكن كيف يتصرف أخواننا في فلسطين ؟ بالعكس تماما ! كانوا اقنانا في أرض الشتات وفجأة وجدوا أنفسهم في حرية لا حدود لها وهذا التغير أيقظ فيهم ميلأ نحوالطغيان ، إنهم يعاملون العرب بالمعاداة والقسوة ، يجمردونهم من حقوقهم ويسيئون اليهم بلا سبب وحتى يفتخرون بأعمالهم ولا يوجد بيننا من يقارم هذا الميل المزري الخطير " . ولم يتغير هذا التوجه ، ولعل الوصف الذي أورده آرثركوستلر (في كتابه " الوعد والوفاء"- فلسطين 1917- 1949) يصورالنظرة التى أرشدت القيادة الصهيونية في موقفها من المواطنين العرب. كتب آرثركوستلر: أن يوسف بن داوود طعن بحرية شيخ قبيلة (أبورمان؟) القوية التي حطت بالقرب من بيتح تكفا وأرداه قتيلأ... وكان ذلك لأن قطعان القبيلة رعت في أراضي المستوطنة وسرقت القمح. وأضاف أن يوسف بن داوود حمل هو وآخرون جثة الشيخ المطعون على ظهر فرس ودخلوا به مخيم البدو وبذلك رفعوا اسم اليهود عاليأ وجعل العرب يعترفون بعجزهم عن إجلاء اليهود عن أراضيهم . (الوصف نقله كوستلر عن كتاب الياهو جولومب تاريخ الدفاع الذاتي اليهودى في فلسطين) . وحتى في هذا الوقت المبكر كانت القيادة الصهيونية تتعاون مع الحكم العثماني للبطش بالفلاحين العرب الذين أجلوا عن أراضيهم بعد أن باع الاقطاعيون الأراضي التى كانوا يعملون عليها. كتب أهرون كوهين في كتابه " اسرائيل والعالم العربي " وصفآ دقيقآ لهذه العملية وأبرز أن " مكفيه اسرائيل " والخضيرة والمطلة وغيرها اقيمت بعد إجلاء الفلاحين العرب، النسخة الأنجليزية ( 56- 58 ) . ومن هنا نرى بداية ما أصبح يعرف فيما بعد باحتلال الأرض في فلسطين. ومن هنا نرى بداية استخدام العنف ازاء المواطنين العرب لفرض الصهيونية عليهم وإجبارهم على الاستسلام. ولم تكن ممارسة الصهيونية في نشاطها الاستيطاني الاستعماري تقتصرعلى العنف حيال العرب، واحتلال الأراضي فحسب ، بل أضافت لذلك ما عرف فيما بعد باحتلال العمل. وقد شرح ايديولوجية احتلال العمل س. ليفنبرغ في كتابه " اليهود في فلسطين "، فكتب "أن الصهيونية توحيد أضداد تجمع بين الشعور الطبقي والوعي القومي فالعامل يرى طبقته كجوهرالأمة... ويرى استعمار البلاد (فلسطين) ونمو الطبقة العاملة أمرأ مترابطأ ترابطأ متبادلاً " (ص 55 ) . وإذا كان استعمار البلاد ونمو الطبقة العاملة، أمرأ متداخلأ فقد أصبح من الضرورى أن يحتل العمال اليهود العمل وأن يكونوا أداة الاستعمار صناعيأ وزراعياً. وأضاف ليفنبرغ في هذا الصدد " على العمال اليهود أن يدافعوا عن أنفسهم حيال استبدالهم بعمال عرب فلسطينيين ومن الأقطار المجاورة يتناولون أجورا رخيصة " !! (ص66). في هذا تتجسم الانعزالية الصهيونية وتعصبها القومي الذي لم يحتمل التعاون مع الجماهير العربية. ولهذا كان الاستيطان الاستعماري منذ البداية معاديأ لا للاقطاعيين العرب كما يدعي زعماء الصهيونية زورآ وبهتانآ ، بل للفلاحين والعمال العرب . في كتاب " بن غوريون ، سيرة حياة سياسية " وصف موريس أدلمان غضب بن غوريون حين زار بيتح تكفا ووجد أن عدد العمال العرب فيها في عام 1909، 1200 والعمال اليهود 25 . وكتب أن بن غوريون أكد أنه بدون حركة عمال يهودية تؤكد حقها في العمل فالمستعمرات ستزدحم بالعمال العرب ذوي الأجور الرخيصة (ص 39) . واضاف أن بن غوريون لم يكن معاديآ للفلاحين العرب (كذا) فصراعه معهم كان ناجمآ عن رغبته في تأكيد حقوق اليهود... (ص 46). ولأنه استرشد بالقومية المتعصبة ، وبالانفصال القومي ، لا بالتعاون مع العمال العرب من أجل أجور متساوية ، فقد توصل إلى سياسة احتلال العمل ، وتنظيم فرق ضاربة من العمال اليهود لمطاردتهم وطردهم بالعنف. وهكذا ظهرت الصهيونية في ممارستها في فلسطين حركة تقوم على العنف واحتلال الأرض والعمل . ومع هذا لم تكن الحركة الصهيونية ناجحة، فنسبة اليهود الذين كانوا يتسربون إلى فلسطين كانت لاشيء بالنسبة إلى الملايين التى صبت في الولايات المتحدة وأقطار أمريكه اللاتينية . والمؤتمرات الصهيونية التي عقدت بين 1900 و 1913 عكست ازمة الفكرة الصهيونية، لقد كانت فكرة بعيدة عن الطوائف اليهودية وعن اتجاهها نحوالاندماج مع الشعوب التي تعيش بين ظهرانيها. ولكن مصير الصهيونية تغير أيام الحرب العالمية الأولى وكان وعد بلفور بداية مرحلة جديدة في تاريخها.





الفصل الخامس

وعد بلفور

   " حين انفجرت الحرب على العالم بدا مؤكدآ أن البناء الصهيوني الصغير سيتحطم وتذروه الرياح ".

هكذا وصف إبرام ليون ساخر الوضع في الحركة الصهيونية في بداية الحرب العالمية الأولى في كتابه " تاريخ اليهود " (الطبعة الخامسة، نيويورك- ص 361). ولم يكن هذا المؤرخ وحيدأ في تقويمه الحركة الصهيونية على هذا النحو فازيا برلين بروفسور النظرية الاجتماعية والسياسية في جامعة اكسفورد كتب في كتاب حاييم وايزمن مايلي: " ستبقى السنوات التى سبقت الحرب العالمية الأولى فصلأ جافآ في تاريخ الصهيونية. كثيرون يئسوا، وضايقت الحركة الصهيونية من الجانب الواحد سخرية اليهود الاورثوذكس التى كانت الصهيونية بالنسبة إليهم محاولة كافرة لاستباق المسيح ومن الجانب الثاني معاداة اليهود الأحرار المثقفين والناضجين في الغرب الذين رأوا في الصهيونية محاولة خطرة لاشغال اليهود بشوفينية تسعر اصطناعيآ ويمكن أن تسوء علاقاتهم مع زملائهم المواطنين من العقائد (الدينية) الأخرى " (حاييم وايزمن - حياته بأقلام عديدة - حرره ماير ويزجال وجون كارميخائيل- لندن 1962 ص 29). لقد إفتخر زملاء هرتسل وتلامذته بأن إنجاز الزعيم الصهيوني تلخص في أنه" جعل الصهيونية عاملأ سياسيآ تقر به دول العالم (الكبرى) " (كتاب ماكس نوردو إلى شعبه- مقدمة بقلم ب. نتنياهو 1941 ص52) وتبجح ماكس نوردو زميل هرتسل الأقرب في خطابه أمام المؤتمر الصهيوني السادس (بال- 24 آب (أغسطس) 1903) بأن أربع دول هي أعظمها وتسيطرعلى الكرة الأرضية أعربت عن عطفها إن لم يكن على الشعب اليهودي فعلى الأقل على الحركة الصهيونية . الامبراطورية الالمانية أعربت عن عطفها... بريطانيه قرنت عطفها بالاستعداد العملي لتساعد الصهيونية... الحكومة الروسية (القيصرية) أعلنت خططها لمساعدتنا... والولايات المتحدة اتخذت خطوات دبلوماسية توحي بالأمل بأنها ستكون عطوفة حين يحين الوقت (المصدرذاته ص 142). ولكن في عشية الحرب العالمية الأولى إنشغلت هذه الدول الامبريالية التى تفاخر نوردو"بعطفها " على الصهيونية (وأكد أن عطفها لم يكن على اليهود)، بمصالحها التوسعية ولم تر مكانأ للصهيونية في إطار تلك المصالح . ولكن أزمة الصهيونية لم تنجم عن إنشغال الدول الامبريالية عنها فحسب بل نجمت عن إنشغال جماهير الطوائف اليهودية عنها أيضأ. وفي هذا الشأن يمكن قبول تقويم " بن هلبرن" الذي كتب: في العقد الذي سبق الحرب العالمية الأولى كانت أيديولوجيات يهودية مختلفة بحلولها للقضية اليهودية ، كانت هناك الصهيونية والاقليمية والتحرر المدني والدعوة للفوز بحقوق الأقليات في التركيز الاقليمي واللغه والثقافة . (كتابه فكرة الدولة اليهودية ص157). ومع أن هلبرن لا يحدد مكانة الصهيونية في هذه الدوامة من الايديولوجيات إلا أن الوقائع تؤكد أنها كانت اضعفها. وفي هذا الصدد يعترف هوراس مايركالين في كتابه " الصهيونية والسياسة الدولية " : أن الصهيونية في الولايات المتحدة خرجت من تفاهتها بهبوب الحرب عام 1914 فقط وحتى ذلك الوقت كان أنصارالمنظمة الصهيونية حفنة. (ص 131).

المنظمة الصهيونية تنقسم إلى قوميات

أشرنا سابقأ إلى أن المنظمة الصهيونية كانت مسرحآ للتناقضات الامبريالية وخاصة بين الدولتين الامبرياليتين بريطانيه والمانيه. ولاحظنا أن الصهيونيين جوهريأ انقسموا بين هذين المعسكرين، فالصهيونيون الألمان ناصروا امبراطوريتهم النامية، والصهيونيون البريطانيون ناصروا امبراطوريتهم الوطيدة. وفي المرحلة التى سبقت صياغة برنامج المنظمة الصهيونية حاول الصهيونيون الألمان إدخال إطروحتهم القومية الآتية إلى البرنامج: " مرتبطين سوية بانحدارهم وتاريخهم المشترك يؤلف يهود كافة الأقطار جماعة قومية. وهذا الاعتقاد لايناقض بحال من الأحوال مشاعرهم الوطنية النشيطة وقيامهم بواجبات المواطنة وخاصة تلك التى يشعر بها اليهود الالمان حيال وطنهم الأم المانيه " (فكرة الدولة اليهودية- بن هلبرن ص 139). وحاييم وايزمن في العقد الذي سبق الحرب لاحظ أيضأ أن " الصهيونية في إنجلتره عكست الوضع المتأزم العام في الحركة في أسوأ حال . ففي هذا الوقت كانت الصهيونية في إنجلترة تكتسب نكهة تميل الى أن تتحول إلى وطنية بريطانية دنيا - وطنية بريطانية قائمة على إلتصاق وهمي لقطر خيالي لم يره أحد ولم يعرفه أحد " (ريتشارد كروسمان في كتابه: أمة بعثت ص 27- 28). ولذلك ما أن وقعت الحرب العالمية الأولى في عام 1914 بين كتلتين من الدول الامبريالية: بريطانيه وفرنسه وروسيا القيصرية من ناحية والمانيه والنمسه- المجر وتركيه من ناحية أخرى حتى إشتد التقاطب القومي في المنظمة الصهيونية وتعمق الصراع الاجتماعي في الطوائف اليهودية توافقأ مع موضع اليهود الطبقي. وهكذا فإلى جانب الصراع الطبقي في الأقطار الأوروبية الكبرى خلال الحرب واتخاذ اليهود مواقعهم حسب إنتمائهم الطبقي سار الصهيونيون مع أقطارهم ولوحوا بأعلامهم القومية حتى حين كانت عواطفهم الطائفية تتعارض مع هذا المطمح أوذاك من سياسة حكوماتهم. وفي هذا الصدد كتب بن هلبرن أن يهود أمريكه (ويقصد الطبقة المتمولة) أقنعوا حكومتهم بإلغاء اتفاقها التجاري مع روسيه القيصرية بسبب تمييزها ضد اليهود الذين يحملون جنسية امريكية، وأن يهود بريطانيه وفرنسه ( ويقصد أولئك الذين ينتمون إلى الطبقة الحاكمة) كانوا يرغبون في الوقوف مثل هذا الموقف إلا أنهم وجدوا أنفسهم يتعاونون في حملة استنفار المشاعر القومية لحرب تقف فيها روسيه القيصرية إلى جانب بريطانيه وفرنسه. وأضاف: أن مهمة يهود برلين ( ومن جديد يقصد أبناء الطبقة العليا) كانت أسهل. (كتابه فكرة الدولة اليهودية ص158 - 159 ) . ولذلك كان من الطبيعي أن تنقسم الصهيونية العالمية على أساس إنتماء قادتها القومي . لقد كان مقر المنظمة في وقت إندلاع الحرب العالمية الأولى في برلين . وحاول قادتها، وجلهم من الصهيونيين الموالين لالمانيه ، أن يسخروها خدمة لأغراض الامبريالية الالمانية، وفي سبيل ذلك نقلوا المكاتب رسميآ من برلين إلى عاصمة الدانمارك كوبنهاغن المحايدة. ولكن كما لاحظ بن هلبرن: بقي مقر المنظمة الصهيونية في كوبنهاغن على صلة مع المانيه أكثر مما كان مع الحلفاء . وفسر هذا التوجه فكتب : ثم إن فلسطين حتى قبل نهاية الحرب بقليل كانت تحت سيطرة تركيه ولم يكن ثابتآ أنها لن تبقى كذلك حين تنتهي الحرب ولم يكن الصهيونيون في برلين واستنبول يستطيعون العمل على فرضية أخرى. وأضاف: والصهيونيون في أقطار الدول الحليفة لم يكن في مقدورهم القيام بمفاوضات مع الحلفاء إلا على أساس استعدادهم على نسف المنظمة الدولية... وفعلآ تحطمت المنظمة... وعمل وايزمن والصهيونيون الامريكيون في عزلة عن الصهيونيين في كوبنهاغن ودول المركز (المانيه والنمسه- المجر وتركيه) (كتابه فكرة الدولة اليهودية ص 163). وجدير بالملاحظة هنا أن ماكس نوردو الذي أصبح يبالغ بعد الحرب العالمية الأولى بالود نحوالامبريالية البريطانية دعا في فترة الحرب العالمية الأولى إلى تجميد عمل الصهيونية والترقب دون التدخل في أي شيء والاكتفاء بنشاط بنك الاستعمار اليهودي. (ثائر وسياسي- قصة فلاديمير جابوتنسكي- بقلم جوزيف ب. شختمان - نيويورك 1956 ص 209). أما مجلة الصهيونيين الامريكيين: " المكابيين " في السنة الأولى من الحرب فقد اكتشفت ذرائع مقنعة لدخول تركيه إلى جانب دول المركز وبررت إنتهاج السلطات التركية سياسة إبعاد اليهود من فلسطين بوصفهم رعايا دول أجنبية معادية (المصدرذاته ص 211- 212).. والثابت أن جناح الصهيونيين الموالين لدول المركز كان قويآ. ومن مؤيدي التعاون مع تركيه دافيد بن غوريون رئيس وزراء اسرائيل السابق ، وبن زفي، الرئيس الراحل. لقد أخطأ، على حد تعبير ميخائيل بارزوهرفي كتابه " النبي المسلح " : تاريخ حياة بن غوريون- لندن 1961 ص 27 حين طالبا بدمج يهود فلسطين في الامبراطورية التركية ، وعارضا سياسة وايزمن وجابوتنسكي القائمة على التحالف مع الحلفاء باعتبار انها تضر يهود فلسطين. (المصدر ذاته ص 28) . وهكذا في حين علق حاييم وايزمن وزملاؤه المستقبل الصهيوني على انتصار الحلفاء اعتبر الصهيونيون الألمان وبعض النارلين في فلسطين أن الواجب يدعوإلى الأندماج بالامبراطورية التركية والتعاون مع جبهة المركز وفي قيادتها الامبراطورية الالمانية. (فكرة الدولة اليهودية- بن هلبرن ص 165 ) .

الصراع الأنجلو- فرنسي داخل الحلف

لم يكن الصراع جديدأ بين الدول الامبريالية على ما كان يطلق عليه آنذاك تركة الرجل المريض (الامبراطورية العثمانية- التركية) . فالصراع احتدم في القرن التاسع عشرومطلع القرن العشرين واستطاعت بعض هذه الدول أن تقضم هذا الجزء أوذاك ولكن التركة كما بقبت كانت أصعب من أن تتفق على توزيعها الدول الامبريالية قبل الحرب العالمية الأولى. بل يكاد يتفق المؤرخون أن بقاء الامبراطورية التركية أوالرجل المريض حتى الحرب العالمية الأولى كان بفضل التوازن الدقيق بين الدول الامبريالية واتفاقها على صيانة تكامل الامبراطورية. ولكن نشوب الحرب ازال وضع التوازن الذي جمد الامبراطورية المتداعية وأصبحت تركة الرجل المريض بين الأسباب التى يدورحولها القتال بين الكتلتين الامبرياليتين المتحاربتين. وكان معروفأ قبل الحرب العالمية الأولى أن لكل من الدول الحليفة : روسيه القيصرية وبريطانيه وفرنسه مطامع في هذه التركة تصطدم بعضها ببعض ولذلك لم يكن من الممكن أن تؤدي وحدة المصالح في محاربة دول المركز- الامبراطوريات في المانيه والنمسه- المجر وتركيه- إلى إلغاء تصادم المطامع ، بل إلى محاولة تسويتها بشكل من الأشكال وبطريقة لا تمزق الحلف بينها. وبعد مفاوضات دبلوماسية دارت رحاها- إذ أنها من نوع الحرب الباطنة- في لندن وباريس وبتروغراد تم الاتفاق بين الدول الامبريالية الثلاث على تقسيم التركة بحيث تستولي كل دولة على القسم الأهم مما كانت تتوق إليه . وعرف الاتفاق الأنجلو- فرنسي- الروسي (الذي تم الوصول اليه بين نيسان (ابريل) وأيار (مايو) 1916) باتفاق سايكس بيكو (1) وكان على صورة تبادل وثاثق بين وزارات خارجية الدول الثلاث . وبموجب الاتفاق تحددت حصة روسيه بالقسطنطينية (استنبول) مع عدد من الأميال إلى الداخل على ضفتى البوسفور وبقطعة كبيرة من شرق الأناضول تضم تقريبأ كامل الولايات الأربع المجاورة للحدود الروسية - التركية في حين غنمت فرنسه لنفسها القسم الأكبر من سوريه الطبيعية مع جزء كبير من جنوب الأناضول ومنطقة الموصل في العراق. وتألفت حصة بريطانيه من منطقة إمتدت من طرف سوريه الجنوبية حتى العراق حيث تتوسع بشكل مروحة لتضم بغداد والبصرة و جميع البلاد الواقعة بين خليج فارس (الخليج العربي) والمنطقه الفرنسية (2) . وتقررأن تقع المنطقة التى اقتطعت فيما بعد من جنوب سوريه وعرفت بفلسطين تحت إدارة دولية يتم الاتفاق على ملامحها بالتشاور بين بريطانيه وفرنسه وروسية القيصرية. ولكن الاتفاق نص على منح بريطانيه في هذه المنطقة مينائي، حيفا وعكا على أن يكون ميناء حيفا حرأ تستخدمه فرنسه التي منحت بريطانيه بالمقابل استخدام ميناء الاسكندرونه، الذي كان سيقع في حوزتها، ميناء حرآ. لذلك كان من حق لويد جورج الذي رأس الوزارة البريطانية في الفترة الأخيرة من الحرب وبعدها أن يكتب في كتابه " الحقيقة حول معاهدات الصلح " ( لندن 1938 المجلد الثاني ص 1115 ) : أن نوايا الدول الحليفة بشأن فلسطين حتى عام 1916 جسدها إتفاق سايكس- بيكو بموجبه " كانت البلاد ستشوه وتمزق إلى أقسام لا تبقى هناك فلسطين " .

   وجديربالملاحظة أن الاتفاق تم  لافي عزلة عن نشاط الصهيونية في بريطانيه بل على الرغم منه في هذه الفترة .
   فما أن وضعت الحرب تركة الامبراطورية التركية على جدول الأعمال حتى تقدم هربرت صموئيل الذي اشترك في الوزارة البريطانية في هذه الفترة وكان أول مندوب سام بريطاني في فلسطين فيما بعد بمشروع يقوم على ضم فلسطين إلى الامبراطورية البريطانية وزرع ثلاث أو أربعة ملايين يهودي فيها وبذلك يتحقق حلف بين الفريقين يخدم مصالح بريطانيه.  
   وفي هذا الوقت بالذات في نهاية عام 1914 ومطلع عام 1915 كان حاييم وايزمن يكتب لأحد أساطين الامبرياليين س . ب سكوت محرر مانثستر غارديان:

" في حالة وقوع فلسطين في دائرة النفود البريطاني وفي حالة تشجيع بريطانيه استيطان اليهود هناك... فستستطيع خلال عشرين أوثلاثين سنة من نقل مليون يهودي أوأكثر إليها فيطورون البلاد ويشكلون حارسآ فعالأ يحمي قناة السويس " (كتابه التجربة والخطأ طبعة نيويورك شوكن 1966 ص 149).

    وهكذا فمع أن العامل الصهيوني لم يغب عن أساطين الامبريالية البريطانية فقد اختاروا بين عام 1914 وعام 1916 اهماله.
   وإذا كان إدراك أهمية العامل الصهيوني في استراتيجية الامبريالية البريطانية لم يغب إدراك أهمية هذا العامل في المنافسة بين بريطانيه وفرنسه. فقد كتب رئيس وزراء بريطانيه هربرت اسكويث في كتابه " ذكريات وتأملات 1852- 1928 " تحت التاريخين 28 كانون الثاني (يناير) و 13 آذار (مارس) 1915 يصف بعض ملامح مشروع هربرت صموئيل ولاحظ أن " الغريب في الأمر أن يكون نصير المشروع الوحيد الآخر (في الوزارة) لويد جورج ولا حاجة بي للقول أنه ( لويد جورج) لا يهتم بالمرة باليهود. لا بماهيتهم ولا بمستقبلهم ولكنه يعتقد أنه من انتهاك الحرمة السماح بانتقال الأماكن المقدسة (في فلسطين) إلى حوزة أو حماية " فرنسه اللا ادرية الملحدة " (الجزء2 ص 71 و 78) .  لقد تعلم الامبرياليون منذ وقت طويل تغليف مطامحهم بغلافات الحماس الدينى والقلق على مصيره. فلويد جورج، وفي عهد رياسته الوزارة صدر وعد بلفور ، كان في هذا الوقت المبكرمن الحرب يرى فائدة العامل الصهيوني في ضم فلسطين للامبراطورية البريطانية بشكل من الأشكال . وفي سبيل ذلك  كان مستعدآ أن " يمنح الأماكن المقدسة لليهود " حماية لها من " فرنسه اللا ادرية الملحدة "!!

دخول العامل الصهيوني الميدان

بحق كتب أبرام ليون ساخرأن الاتفاقات زمن الحرب كانت تتغير بسرعة ، وكانت التعديلات ترافق كل حدث حربي . والوعود لم تكن سوى حركات في اللعبة الدبلوماسية. فكل قطر كان منهمكآ بمناورات معقدة من وراء ظهر القطر الآخر في محاولة لضمان مصالحه السياسية والاقتصادية ، ووسط هذه المؤامرات والمفاوضات أعلنت بريطانيه تأييدها للصهيونية وتحول فجأة الحلم الصهيوني إلى حقيقة. (كتابه تاريخ اليهود ص 365- 366) . والسؤال ما هي العوامل التي جعلت بريطانيه تعلن تأييدها للصهيونية في أواخر عام 1917؟ في كتابه " مفترق الطرق إلى اسرائيل " ( لندن 1965) استشهد كريستوفر سايكس- ابن مارك سايكس - بالكاتب الصهيوني ليونارد شتين ، الذي أكب سنوات على دراسة أصول وعد بلفور، ليؤكد الاستنتاج بأن أحدآ لا يعرف بالضبط دوافع الوعد فهناك أسباب عديدة عزيت إليه بحيث لم يعد ممكنآ الايمان بأي واحد منها منفردا. (ص 16). إن بعض النظريات السخيفة حول دوافع بريطانيه لاعلان الوعد بإقامة وطن قومي يهودي في فلسطين ساعدت على تشويه الرؤيا والتشكيك بمحركات الوعد الحقيقية . ومن هذه النظريات أن بريطانيه أصدرت الوعد اعترافآ منها بخدمات البحاثة حاييم وايزمن في اكتشاف الأسيتون الاصطناعي (الحيوي جدآ) في أدق مراحل الحرب. وتروى الأسطورة أن لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني آنذاك سأل وايزمن "بماذا يستطيع أن يكافئه " فأجابه وايزمن "إصنع شيئأ لشعبي " " فتأثر" أساطين الامبراطورية وأصدروا الوعد. (حتى البحاثة المعاصر ميخائيل بارزوهر يقبل هذا التعليل قي كتابه " النبي المسلح " حياة بن غوريون ص 33) . وهناك النظرية الانسانية التى روجها صاحب الوعد نفسه اللورد بلفور الذي زعم أن اليهـود تعرضوا في أوروبه للطغيان والتعذيب ولذلك كان الوعد تكفيرأ عن الجرائم التي ارتكبتها أوروبه بحقهم . (خطابه في مجلس اللوردات البريطاني في 21 حزيران (يونيو) 1922 كما أورده كريستوفر سايكس في كتابه "مفترق الطرق إلى إسرائيل ص 18 - 19 ). ولكن هناك معطيات عديدة توضح الدوافع الجوهرية التى جعلت بريطانيه تصدر الوعد وتتمسك به . وبحق لاحظ أبرام ليون ساخر أن بريطانيه كانت تشطب الوعد بسرعة لو استدعت مصالحها إعادة النظر في سياستها وأضاف إن المناداة بفيصل ملكآ على سوريه عام 1920 (وهذا أعرب عن نهوض كبير في حركة التحرر القومي العربية في سورية الطبيعية ) جعلت وعد بلفورحقيقة (كتابه تاريخ اليهود ص 369). ولذلك فمن المؤكد أن بريطانيه حين أصدرت الوعد أخذت في عين الاعتبار ممكنات استخدام الصهيونية في مواجهة حركة التحرر القومي العربية التى كانت قد بدأت تتبلور بوضوح وتتحول إلى حركة ذات جذور بين الجماهير العربية في سورية الطبيعية والعراق وغيرها . إن مصالح بريطانية امبريالية عميقة جعلت بريطانيه تصدر الوعد وتتمسك به. وفي معرض بحثه لدوافع بريطانيه كتب كريستوفر سايكس يكشف بعض الملابسات التي رافقت الوعد ما يلي: " في وقت ما بين أواخرعام 1916 وأوائل عام 1917 ساد الاعتقاد أن وعدآ مؤيدآ للصهيونية سيحول الرأي العام اليهودي الأميركي إلى جانب الحلفاء ويؤثرعلى الرأي الأميركي العام وكان هذا الاعتقاد حافزآ كبيرآ للساسة البريطانيين ، ولكن هذا الاعتقاد لم يبق منه سوى القليل إن بقي منه شيء على الاطلاق عند المرحلة الأخيرة من المفاوضات ( الاصدار الوعد أ. ت.). فيبدو أنه نسي . وفي وقت آخر كان هناك خوف كبير من أن يستبق الألمان الحلف بوعد منهم بشأن وطن قومي لليهود . وفي المرحلة الأخيرة قبل تشرين الثاني (نوفمبر) 1917 ساد الاعتقاد أن تأييدا بريطانيأ علنيا للصهيونية يبعد اليهود الروس عن الحزب البولشفي ويضمن أن تبقى الثورة لا معتدلة فحسب ، بل حليفأ محاربأ إلى جانب بريطانيه وفرنسه ". وأضاف إنها كلها اندفاعات عابرة من المؤكد أن تكون أثرت على الحدث إلا أنها لا تفسره (كتابه "مفترق الطرق إلى إسرائيل " ص 27).

وأبرز لويد جورج في كتابه " الحقيقة حول معاهدات الصلح " بعض هذه العوامل ، فأكد مثلأ أن بعض ما حفز بريطانيه إلى إصدار الوعد المعلومات بأن  قيادة أركان الجيش الألمانية في 1916 ألحت على الأتراك أن يلبوا مطالب الصهيونيين بشأن فلسطين (ص 1116) وأن الحكومة الألمانية كانت في أيلول (سبتمبر) 1917 تبذل مساعي جدية للاستيلاء على الحركة الصهيونية (ص 1121). واستطرد أن جمعية يهودية ألمانية تأسست في كانون الثاني (يناير) 1918 بعد وعد بلفور وأن الوزير التركي طلعت، بإيعاز من الألمان ، وعدها وعدآ واهبآ بتحقيق رغبات اليهود العادلة في فلسطين (ص 1141) .

ويؤكد كثيرون وبينهم حاييم وايزمن نفسه أن كسب يهود أميركه ليبذلوا جهودأ في إقناع الولايات المتحدة بالوقوف إلى جانب الحلفاء كان عاملأ جوهريآ في إصدار الوعد . وبدون التقليل من وزن هذا الاعتبار فهناك ما يوحي بأن الوضع كان على العكس ، فقيادة الصهيونية البريطانية استنجدت بالصهيونيين الأمريكيين ليقنعوا حكومتهم بالضغط على بريطانيه لتصدرتصريح بلفور . ئم إن توزيع ألوف نسخ الوعد بالطائرات على يهود روسيه القيصريه وبولونيه وألمانيه والنمسه- المجر(3) يوحي بأن أصحاب الوعد اعتقدوا أنهم بذلك يكسبون تأييد اليهود في روسيه ضد البلاشفة وفي دول المركز ضد حكوماتهم . ولعل مثل هذه الاعتبارات هي التى قصدها لويد جورج حين كتب في " الحقيقة حول معاهدات الصلح " : " إن أسبابا دبلوماسية وعسكرية ملحة حققت إجماعآ (إجماع الوزراء- أ. ت.) حول الموضوع (موضوع الوعد أ. ت.). وحتى السيد مونتاجو (وزيرالهند اليهودي الذي عارض الوعد وكان من أشد أضداد الصهيونية أ. ت.) استسلم وقبل بالتصريح (تصريح بلفور) بوصفه ضرورة عسكرية " . (ص 1134). ولكن العامل المقررفي نهاية المطاف كان مصلحة الامبريالية البريطانية لا الآنية فقط ، بل البعيدة المدى . وهذا ما أعربت عنه الصحافة البريطانية البرجوازية في الفترة التى سبقت الوعد وأعقبته، فتحت عنوان "سياسة بريطانيه في فلسطين- ضرورة عبرية بريطانية " كتبت "ماندي كرونيكل" "ولا يوجد جنس آخر في العالم كله يستطيع أن يقوم بهذه الخدمات لنا غير اليهود أنفسهم.. ولدينا في الحركة الصهيونية القوة المحركة التى ستجعل امتداد الامبراطورية البريطانية إلى فلسطين- في غير هذه الحالة ضرورة غير مسرة- مصدركبرياء وركن قوة". وقبل هذا الكلام دعت الصحف البريطانية الأخرى حكومتها إلى إعادة فلسطين إلى اليهود خوفآ من أن تقع في أيدي مؤذية ( للامبراطورية البريطانية). وكتبت " ايفننغ ستاندرد ": " لقد أوضحت المصالح البر يطانية منذ وقت طويل ضرورة قيام دولة حاجزة بين مصر وحكومة تركية معادية ، والصهيونية تزودنا بالحل ". وتجرأت الصحف البريطانية بعد صدور الوعد في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917 فكتبت على سبيل المثال جلاسكوهيرالد تؤكد أنه سيكون للوعد أثرسياسي مباشر في امريكا وروسيه وبولونيه والمجر ثم أضافت " ومن وجهة النظر البريطانية فالدفاع عن قناة السويس يتم على أفضل وجه بإقامة شعب في فلسطين ملتصق بنا ، وإعادة اليهود إلى فلسطين تحت الرعاية البريطانية يضمن ذلك " وفي هذا الصدد كتب نورمان بنتويتش في كتابه " اسرائيل الناهضة " ( لندن 1960): لقد ربط " حاييم وايزمن عجلة الصهيونية بنجم إنجلتره معتقدآ أن بناء فلسطين يجب أن يكون شراكة بريطانية يهودية (ص 29). وشرح مدلول ربط عجلة الصهيونية بنجم إنجلتره ماكس نوردو في خطاب ألقاه في احتفال جرى في ألبرت هول عام 1919 بحضور كبار الامبرياليين لويد جورج واللورد بلفور- آنذاك كان ماكس نوردو قد تخلص من ولائه لالمانيه المهزومة وأصبح يهتدي بالنجم البريطاني قال: " نعرف ( أيها السادة أ. ت) ما تتوقعونه منا. تريدون أن نكون حرس قناة السويس . علينا أن نكون حراس طريقكم إلى الهند عبر الشرق الأدنى . نحن على استعداد لأن نقوم بهذه الخدمة العسكرية ولكن من الضروري تمكيننا من أن نصبح قوة حتى نقدر على القيام بهذه المهمة ". (" ماكس نوردو إلى شعبه " ص 57 ) . ولم تغب أهمية العامل الصهيوني في التنافر الأنجلو- فرنسي على كريستوفر سايكس فهويعترف بأن المسؤولين البريطانيين في الحكومة البريطانية رأوا في الصهيونية في فلسطين فرصة رائعة لمواجهة أي توطيد فرنسي في سورية . (كتابه مفترق الطريق إلى اسرائيل ص20 ) .

وهذا العامل إكتسب أهمية خاصة بعد الحرب حين أصبح الحلفاء في وضع يمكنهم من تحقيق إتفاقات توزيع الأسلاب اوتركة الامبراطورية التركية المنهارة .

ولذلك من الممكن أن نلخص دوافع وعد بلفور فنقسمها إلى جوهري وثانوي ، آني وبعيد المدى. فالجوهري كان رؤية ممكنات البرنامج الصهيوني في توطيد مواقع الامبريالية في الشرق الأدنى، وهذا يعنى صد الحركة القومية العربية واجهاضها إذا أمكن . وهذا الهدف ، وهو هدف بعيد المدى ، قرر أيضآ صيغة وعد بلفور . أما الثانوي الآني فكان تفويت الفرصة على الامبريالية الالمانية لكسب الصهيونية، والاستفادة من تأييد من يمكن جذبهم من اليهود لقضية الحلفاء وخاصة في الولايات المتحدة . أما مسألة استخدام الصهيونية في المنافسة بين بريطانيه وفرنسه فقد كان ثانويآ حين صدر الوعد، ولكنه تحول في فترة الصراع بعد الحرب إلى عامل جوهري بعيد الأثر. ولا جدال في أن استخدام الصهيونية كما ذكر كريستوفر سايكس ، لإبعاد اليهود الروس عن البلاشفة كان عاملأ ثانويآ ولكن أهميته ازدادت باشتداد الحاجة إلى مقاومة الشيوعية والاتحاد السوفيتى عامة. وتتأكد المصلحة العليا البريطانية- بوصفها العامل الحاسم في الوعد- من صيغته. وبحق لاحظ " أحد هعام " المفكر الصهيوني الكبير أن الوزارة البريطانية صاغت وعدها في نهاية المطاف بدون إهتمام بمقترحات الصهيونيين أو اضداد الصهيونية . فقد جاء في هذا الوعد الذي إتخذ صورة رسالة من اللورد بلفور وزيرخارجية بريطانيه إلى اللورد روتشيلد : " إن حكومة جلالته لتنظر بعين الارتياح إلى إنشاء وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي وستبذل أطيب مساعيها لتسهيل بلوغ هذه الغاية . وليكن معلومآ أنه لن يحمل شيء من شأنه أن يلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية الموجودة في فلسطين أوبالحقوق التي يتمتع بها اليهود في أي بلد آخر والمركز السياسي الذي حصلوا عليه " . أما الصهيونية البريطانية فقد كانت تطالب بأن يأخذ بيان الحكومة البريطانية شكل إعتراف بحق اليهود التاريخي في فلسطين وبفلسطين وطنآ قوميآ لليهود ( لاوطنأ قوميآ يهوديآ في فلسطين). كذلك لم تشمل المقترحات الصهيونية إعترافآ بحقوق " غير اليهود " أوبحقوق اليهود في أي بلد آخر الأمر الذي أصر عليه غير الصهيونيين من اليهود. ومع أن الوقت كان مبكرآ، فقد ظهرت في صيغة الوعد نوايا الامبريالية البريطانية على محاولة مجابهة اليهود " بغير اليهود " ! أي العرب واقامة حكم فرق تسد.

هوامش : (1) نسبة للدبلوماسيين الأساسيين الذين توصلا إليه جورج بيكو الدبلوماسي الفرنسي وزميله البريطاني مارك سايكس . (2) المعلومات عن الاتفاق من النصوص التي أوردها جورج أنطونيوس في كتاب يقظة العرب الطبعتين العربية والانكليزية . (3) الحقيقة حول معاهدات الصلح ، ص 1140











الفصل السادس الحركة القومية العربية حيال وعد بلفور

    يزعم الايديولوجيون الصهيونيون الآن ، أن الحركة الصهيونية باعتبارها " حركة البعث القومي اليهودية " استنفرت الحركة القومية العربية الفلسطينية . وكتب أحدهم على سبيل المثال أن عملية خلق الأمة اليهودية في اسرائيل (فلسطين) أسهمت في خلق " الأمة العربية الفلسطينية " (1).

أما غير الصهيونيين فيجدون صعوبة في تحديد مسيرة التطور التى أدت إلى ظهور حركة قومية عربية في فلسطين، ولهذا فلا بد من توضيح الأمرلادراك طبيعة مقاومة الصهيونية أولأ، وتقويم الموقف العربي من وعد بلفور ثانياً . ولسنا في حاجة إلى عناء كبير لنقررأن فلسطين ، في مطلع القرن العشرين حين ظهرت الصهيونية " لم تكن وحدة جغرافية مستقلة أوكيانآ سياسيآ منفردآ ، بل كانت جزءآ من الامبراطورية العثمانية وألفت مع أقاليم أخرى سوريه الطبيعية (2) . ولذلك لم يكن من الضروري أن تكون فيها حركة عربية قومية مستقلة فالطبيعي أن تشملها الحركة العربية الواحدة. وتعود بوادر الحركة القومية العربية في الشرق العربي إلى القرن التاسع عشر، إلا أن جذور الحركة القومية العربية المعاصرة نمت في سورية الطبيعية مع مطلع القرن العشرين وتجسمت في جمعيات ونواد وتألفت في الاستانة عاصمة الامبراطورية العثمانية آنذاك . ولعل أجمل تعبير عن الوعي القومي العربي الباكر جاء في أهداف المنتدى الأدبي الذي تأسس في عام 1911 وعمل على حد تعبير رئيسه عبد الكريم الخليلى من أجل توثيق عرى الاخاء بين العرب على اختلاف أجناسهم وأديانهم وعناصرهم وطوائفهم حتى لا يذكر الواحد منهم في السياسة والوطنية غير عربيته الشريفة (2). وتؤكد الحقائق التاريخية كلها على أن الحركة القومية العربية ، في المشرق العربي ، في عهد الامبراطورية العثمانية، تجاوزت الاقليمية التي ظهرت فيما بعد.

وهكذا - على سبيل المثال - إنتسب قادة جمعية العربية الفتاة ، التي تأسست في  باريس عام 1911، للعمل من أجل النهوض بالأمة العربية إلى مصاف الأمم الحية ، إلى مختلف الأقاليم العربية المشرقية ، التي قسمتها الدول الامبريالية فيما بعد إلى أقطار منفردة  بغية السيطرة عليها (4).

ولاتعرف هذه الفترة حركة عربية ضيقة كانت أم واسعة تقيدت بحدود اقليميه، فالمعركة في الولايات العربية العثمانية كانت من أجل حقوق العرب عامة- وكما جاء في نداء بعض القوميين العرب في " الاهرام " 8/8/1912 - كان هدف الكفاح أن تعترف السلطنة العثمانية بالعرب أمة حية ذات حقوق قومية في لغتها وإدارة أقاليمها. وانعكس كل هذا قبل الحرب العالمية الأولى في المؤتمر العربي الأول الذي عقد في باريس في حزيران (يونيو) عام1913 . من أجل بعث الحياة الوطنية ، ومناهضة الاحتلال، وحقوق العرب في المملكة العثمانية ، وضرورة الاصلاح على قاعدة اللامركزية . وأوضح جدول أعمال المؤتمر ثلاث حقائق:  إن الحركة القومية العربية قد استيقظت على أخطار الامبريالية الأوروبية التى كانت قد تقاسمت عددآ من الأقطار العربية الجزائر وتونس ومصر وطرابلس الغرب " ليبي " وبدأت تتطلع إلى الولايات العربية العثمانية (5).  ولذلك فقد كانت ترى طريقها في البقاء في إطار الامبراطورية العثمانية، لا في الخروج منها، إعتقادآ من قادتها أن ذلك يردع الامبرياليين الأوروبيين ويردهم عن الولايات العربية العثمانية.  ومن أجل تحقيق مطامحها القومية كانت ترى ضرورة الاصلاح على أساس اللامركزية لأن ذلك يجمع بين الأمرين : البقاء في الامبراطورية العثمانية ، إطار الدفاع، إزاء الهجوم الامبريالي ، وتحقيق المطامح القومية في التطور والازدهار. وفعلأ إنتهى المؤتمر إلى قرارات أعلنت ضرورة الاصلاح ، وأن من حق العرب في أن يتمتعوا بحقوقهم السياسية بالاشتراك في الادارة المركزية فعلأ. وكذلك قرر المؤتمر ضرورة إنشاء إدارة لا مركزية (حكم محلي) في كل ولاية عربية واعتبار اللغة العربية لغة رسمية في مجلس النواب العثماني وفي الولايات العربية.

التحذير من الكولونيالية الصهيونية

واستيقظت الحركة القومية العربية في الولايات العربية العثمانية في وقت مبكر على أخطار الصهيونية على الرغم من أن الحركة الصهيونية آنذاك اقتصرت نشاطها ، كما أوضحنا ، على الاتصال بالدول الأوروبية الامبريالية لتدعم مطامعها وحاولت إقناع السلطان العثماني بقبول برنامجها.

وظهرت هذه اليقظة البدائية بإثارة النائبين شكري العسلي (نائب دمشق) وروحي الخالدي (نائب القدس) قضية النشاط الصهيوني في فلسطين في مجلس النواب العثماني (أو مجلس المبعوثان كما كان يسمى في ذلك الوقت) .

وفي إحدى خطبه في المجلس قال شكري العسلي: " وهم يودون شراء الأرض المشرفة على سكة حديد الحجاز ويرمون إلى التوسع في سورية حتى العراق " .

واستشهد روحي الخالدي بتصريحات أحد زعماء الصهيونية مناحيم أوسيشكين (من أوائل الصهيونيين) ليقول أن أماني الصهيونية : نيل الميزة والأفضلية في فلسطين وإنفاق الأموال لتأليف أمة يهودية في فلسطين واستيطان أرض الميعاد. وحذر الخالدي من الهجرة اليهودية قائلاً : إن عدد اليهود في متصرفية القدس بلغ مئة ألف وأن أغنياء اليهود ابتاعوا نحومئة ألف دونم (!!) وهم أسسوا بنكآ باسم " بنك الاستعمار اليهودي " (6)  لاستيطان البلاد.

وأضاف الخالدي في معرض تأكيده على هذا الخطرأن نسبة العثمانيين من اليهود المهاجرين 10 بالمئة ، والباقي من أوروبة التى كانت القوى الوطنية تراها معقل الامبريالية والتوسع والعدوان. وجدير بأن نلاحظ أن النائب اليهودي آنذاك ( ويسجل توفيق برو في كتابه العرب والترك في عهد الدستور العثماني أن اسمه نسيم مزلياح) ، استهجن الأمر وطالب بالتحقيق دفعآ للشكوك وأكد تمسك اليهود العثمانيين بعثمانيتهم . ولعل تحذير نواب الولايات العربية ، السلطنة العثمانية من أخطار التسرب الكولونيالي الذي كانت تدعوإليه المنظمة الصهيونية ساعد على تجميد محاولات مؤسس الصهيونية السياسية تيودور هرتسل لكسب تأييد السلطان للمشروع الصهيوني. وفي هذا الوقت المبكر كان من الممكن أن نرى الموقفين من الصهيونية ، فقادتها كانوا يجدون آذانآ صاغية في محافل السلطنة العثمانية في حين كان القوميون العرب يعارضون المخطط الصهيوني بأسره. وقد استمر هذان الموقفان إلى اليوم ، فالصهيونية تحظى بتأييد الامبريالية والرجعية وتقاومها قوى الاشتراكية والتحرر. ولذلك لم يجد قادة الصهيونية لغة مشتركة مع الجماهير العربية أبدآ. وتروي الوثائق الصهيونية أن قوميين عرب اتصلوا بقائدي الصهيونية (قبل الثورة التركية 1908) ف . يعقوبسون و ن. سوكولوف بغية الاطلاع على إستعداد الصهيونيين لمساعدة الحركة القومية في ثورتها على الطغيان العثماني . ويضيف أن الزعيمين الصهيونيين قطعا علاقاتهما " بأدب وحسم " مع أولئك القوميين العرب حين عرفا بنواياهم ، فالصهيونيون كانوا يتمسكون بمبدأ الأمانة ازاء الحكم العثماني (7). مباحثات وايزمن - فيصل أو المعاهدة العربية اليهودية

ليس واضحأ تمامأ متى عرف العرب بوعد بلفور وأدركوا أبعاده الحقيقية، فالحركة القومية العربية أثناء الحرب العالمية الأولى أصيبت بضربتين قاسيتين وكانت تحتاج بعض الوقت لتستجمع قواها. وكانت الضربة الأولى إجراءت القمع الدموية التى اتخذها حاكم سوريه السفاح جمال باشا وذهب ضحيتها مئات من كبار القوميين العرب ، بعضهم علق على المشانق والبعض الآخر اعتقل أو شرد في الأناضول. وكانت الضربة الثانية- وإن لم تظهرحقيقتها مباشرة - نجاح العائلة الهاشمية في السيطرة على قيادة الحركة القومية العربية النامية. واتضحت مصيبة الحركة القومية العربية في هذه القيادة حين نشر البلاشفة، بعد ثورة اكتوبر الاشتراكية الكبرى معاهدة التقسيم الامبريالي المعروفة بمعاهدة سايكس بيكو ليستنفروا الشعب العربي إلى مكافحة الامبريالية البريطانية- الفرنسية دفاعآ عن مصالحه. فآنذاك " اقتنع" الهاشميون- الشريف حسين والأمير فيصل- وأشقاؤه - بصدق نوايا الامبرياليين البريطانيين الذين كانوا قد وعدوا الشريف بمساعدته على إقامة دولة عربية واحدة تشمل شبه الجزيرة العربية والهلال الخصيب (العراق وسوريه الطبيعية). وقبلوا فيما بعد بيان الحلفاء الذي صدرفي 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 1918 لتبديد الشكوك المتعاظمة في نوايا بريطانيه وفرنسه الامبريالية في المنطقة ، وجاء فيه " إن السبب الذي من أجله حاربت فرنسه وإنجلتره في الشرق هو رغبتهما في تحرير شعوبه من ظلم الترك واستبعادهم وخلاصهم من عسف الالمان ومطامعهم وميلهما إلى تأليف حكومات وإدارات وطنية حرة تنتخب حسب رغائب الأمة وتستمد سلطتها منها... ولتأييد هذه المقاصد وابرازها على أن تساعدا الاهلين في تأليف هذه الحكومات في سورية والعراق وفي جميع البلاد التي حررها الحلفاء000".

  لم يظهر في هذا البيان ذكرعن وعد بلفور مع أنه كان من برنامج الحلفاء في الشرق وذلك إمعانآ في التضليل وخوفآ من الجماهير العربية ، ولكن الأمير فيصل كان يعرف به وبمخطط الصهيونية وسكت عنهما.

ففي أول حزيران (يونيو) 1918 أي قبل هذا البيان بحوالي نصف سنة زار الدكتورحاييم وايزمن زعيم الصهيونية آنذاك الأمير فيصل في العقبة " وبسط له أغراض الصهيونية ورغبتها في التعاون مع العرب " (8) . وأكد وايزمن في كتابه الذكريات " التجربة والخطأ " أنه أوضح للأمير رغبته في تبديد مخاوف العرب وطلب منه تأييده . ثم أضاف أنه وجد الأمير مطلعآ على الحركة الصهيونية وقد اتفق إتفاقأ تامآ مع وايزمن حول الفوائد التي يجنيها العرب من تنفيذ البرنامج الصهيوني (ص 234). كذلك وقع الأمير فيصل والدكتور وايزمن في هذه الفترة على معاهدة تنسيق بين الدولة العربية الموعودة وفلسطين اليهودية !! وحسب المصادر العربية أن الاثنين لاحظا القرابة العنصرية القديمة الكائنة بين العرب واليهود واتفقا فيما اتفقا عليه من أمور أن يسود علاقات الدولة العربية وفلسطين التفاهم القائم على أساس الاخلاص وحسن الادارة ، وأن تحدد الحدود بين الدولتين بعد مؤتمر الصلح وأن " تؤخذ جميع التدابير وتعطى أفضل الضمانات لتطبيق تصريح الحكومة البريطانية الصادر في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) " ، وأن تتخذ التدابير لتشجيع الهجرة اليهودية والاستيطان على أن تصان حقوق الفلاحين ويتقدموا اقتصاديآ (9).

ولا ينفي المؤرخون العرب ، الموضوعيون منهم على الأقل ، حقيقة هذه المعاهدة ، إلا أنهم في معرض الدفاع عن فيصل يلاحظون أنه ذيل المعاهدة بشرط جاء فيه: " إذا توطدت دعائم الحكومة العربية "... " أما إذا أجريت تعديلات فلا أكون مسؤولأ عن عدم قيامي بماجاء فيها ".

كذلك يستشهدون بتصريحه إلى " جويش كرونيكل " (البريطانية) في 14/10/1919 وجاء فيه : " يجب أن تظل فلسطين جزءأ من سوريه بينهما حد طبيعي ولا فاصل وما يؤثر في الواحدة يؤثر في الأخرى . فالعرب يرون فلسطين ولاية عربية ولا يرونها بلادأ قائمة بذاتها. ونحن نسعى لننشيء امبراطورية (دولة) عربية - تتألف من العراق وسوريه وفلسطين. وقد قيل لي أن جميع اليهود يعتمدون على التصريح الذي قال به اللورد بلفور ويتطلعون إلى إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين أي أن تصبح فلسطين دولة يهودية. ولا ريب أن هذه الأماني تناقض أفكار العرب طالبأ معونتهم لنا في إنشاء المملكة العربية، حتى إذا كثرعدد اليهود في فلسطين تيسر أن تجعل ولاية يهودية من ولايات هذه المملكة " . وهكذا أكد في التصريح مقاومة العرب وعد بلفور ورفضهم الحازم فصل فلسطين عن سوريه. وليس من الصعب رؤ ية المؤثرات التى حركت فيصل. فقد انتمى إلى عائلة إقطاعية وتماثل ، منذ أن تسرب إلى قيادة الحركة القومية العربية ، مع أسياد الأرض (كما اتضح هذا خلال الفترة القصيرة من حكمه في سوريه) وتهادن مع الامبريالية البريطانية وتساوق معها مناوراته المتعاقبة بعد الحرب العالمية الأولى. ومن المؤكد أن فكرة " التعاون " العربي - الصهيوني ولدت في الدوائر البريطانية كما يظهر ذلك من آراء سايكس (الذي صاغ إتفاق سايكس بيكو أولأ وكان صلة الوصل بين الوزارة البريطانية وقادة الصهيونية ثانيأ) وت. أي لورانس وكيل المخابرات البريطانية الذي التحق بالأمير فيصل ورافقه مثل الظل ، وكان يوحي له بكل شىء يتوافق مع المخططات البريطانية (10) . وفي هذا الصدد يتفق وايزمن في كتابه " التجربة والخطأ " وناحوم سوكولوف في كتابه "تاريخ الصهيونية "، على أن مارك سايكس كان يتخيل " تحرير " الشعوب الثلاثة المضطهدة: العرب واليهود والأرمن ويرتئي تعاونها الوثيق من أجل مصلحتها وفي سبيل تطوير المنطقة(11). وحسب ما أورده سوكولوف كان سايكس يعتقد أن العرب الذين يقاومون الصهيونية كانوا يتطلعون من وجهة نظرضيقة قصيرة الأفق (!!) ولا يثمنون تثمينآ صحيحآ فكرة " الحلف العبري- العربي " العظيم كما أن بعض العناصركانت تسفه أهمية المصالح البريطانية في المنطقة وتقلل من قيمتها (12).

   وهكذا يظهر أن التقارب بين فيصل ووايزمن والمعاهدة بينهما انسجما مع المصالح الامبريالية البريطانية التي تصورت استخدام الحركة القومية العربية والصهيونية وحركة الارمن التحررية لتوطيد مواقعها في هذه المنطقة الواسعة من تركة الامبراطورية العثمانية .
  ولعل رسالة فيصل إلى الزعيم الصهيوني الامريكي فيلكس فرانكفورتر في آذار (مارس) 1919 أبرز دليل على هذا التساوق بين الامبريالية البريطانية وفيصل . ففي هذه الرسالة (13)- التي نفى علمه بها في 1929 (14)- يردد فيصل فكرة سايكس أن العرب واليهود تحملوا الاضطهادات المتشابهة من الدول القوية وأن على الشعبين العربي واليهودي التعاون من أجل بعث الشرق الأوسط وإصلاحه . 
وعلى هذا الضوء تؤكد هذه الاتصالات والاتفاقات بين فيصل وقادة الصهيونية - خلافا لما ادعته فيما بعد في الغرب في محافل عمالية - كانت تجد التأييد  بين الاقطاعيين العرب والعناصر المتعاونة مع الامبريالية البريطانية  ، أما جماهير الشعب العربي فقد قاومتها منذ أن عرفت بحقيقتها وأدركت أبعاد وعد بلفور.



الحركة القومية العربية ترفض الصهيونية ووعد بلفور

لقد أعادت الحركة القومية العربية تنظيمها بعد سنوات القمع التركية بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة في ظل الادارة العربية التي قامت في سوريه بعد احتلال القوات البريطانية والعربية لها. ولاحظ عدد من الكتاب العرب بحق أن هذه الحركة- التي لم تكن قد تخلصت من الاقليمية- تأثرت بالحقائق التى بدأت الدول الامبريالية تخلقها فانقسمت إلى شطرين شطر سوري وشطر عراقي.

  وفي هذا الصدد يكتب أمين سعيد:
 " فلما تم فتح سورية ظهرت نيات الحلفاء وأغراضهم اجتمع مؤسسو هذا الحزب (حزب العهد) وأعضاؤه القدماء من الضباط العرب الذين اشتركوا في الثورة (المقصود نشاط القوات المسلحة التى نظمها الأمير فيصل أثناء الحرب العالمية الأولى) عراقيين وسوريين وقرروا أن ينقسم العهد إلى حزبين سوري وعراقي فيعمل كل منهما لخدمة قضية بلده مستقلأ عن الآخر"(15).
 وفعلأ تنادت القوى الوطنية في سوريه الطبيعية وعقدت المؤتمر السوري الأول في دمشق 8 حزيران (يونيو) 1919 وأبرزت في قرارها الموقف الواضح الذي إتخذته الحركة القومية العربية من الصهيونية. وجاء في القرار:
 " نحن أعضاء هذا المؤتمر رأينا بصفتنا الممثلين للأمة السورية في جميع أنحاء القطر السوري تمثيلأ صحيحآ... واستنادآ على حقنا الطبيعي والشرعي في الحياة الحرة.. وعلى الوعود والعهود والمبادىء السامية ، وعلى ما شاهدناه ونشاهده كل يوم من عزم الأمة الثابت على المطالبة بحقها والوصول إلى ذلك بكل الوسائل... نعلن، بإجماع الرأي وحدة بلادنا السورية بحدودها الطبيعية ومنها فلسطين ورفض مزاعم الصهيونيين في جعل فلسطين وطنآ قوميآ لليهود أومحل  هجرة  لهم " (16).

وفي تلك الفترة وصلت لجنة كرين الامريكية إلى الشرق العربي للتحقيق في رغبات الأهالي فاجتمع المؤتمر السوري في 2 تموز (يوليو) 1919 وقرر تقديم مذكرة إضافية إلى اللجنة يعرب فيها عن مواقف الشعب العربي من مختلف القضايا ويجسم مطامحه القومية . وفعلأ قدم 21 عضوآ اختارهم المؤتمرهذه المذكرة التي جاء في مطلعها نحن أعضاء المؤتمر السوري " الحائزين على اعتمادات مقاطعاتنا وتفويضاتهم من مسلمين ومسيحيين وموسويين (هكذا يظهراسم اليهود في وثائق تلك الفترة- أ. ت) نطلب الاستقلال السياسي التام الناجز للبلاد السورية التي تحدها شمالأ جبال طوروس وجنوبآ رفح فالخط المار من جنوب الجوف إلى جنوب العقبة الشامية والعقبة الحجازية وشرقآ نهر الفرات والخابور والخط الممتد شرقي أبي كمال إلى شرقي الجوف ، وغربآ البحر المتوسط بدون حماية ولا وصايه ".

    كذلك رفضوا في مذكرتهم بالتحديد مطامع الصهيونية في إقامة دولة يهودية في جزء من جنوب سوريه المعروفة بفلسطين وعارضوا في الهجرة اليهودية إلى أي جزء من البلاد.

ثم رفضوا الاعتراف بحق الصهيونيين في البلاد وأعلنوا أنهم يعتبرون مزاعم الصهيونية خطرآ جسيما يهدد حياة الشعب القومية والسياسية والاقتصادية. وأنهوا هذه الفقرة بالقول أن المواطنين الموسويين سيتمتعون بكافة الحقوق ويقومون بكافة الواجبات مثلهم في ذلك مثل سائر المواطنين (17). واعترفت لجنة كرين التي نشرت تقريرها في 1924 فقط- بسبب ضغوط الدول الامبريالية بريطانيه وفرنسه على الولايات المتحدة بأن المؤتمر السوري أعرب عمليآ عن أماني الشعب العربي في المنطقة، وأوصت " بصيانة وحدة سورية تلبية لرغبة الأكثرية العظمى من الشعب السوري "، واعتبرت أن من الانصاف للعرب الاعتراف بالأمة العربية ورغباتها الوطنية كما أن من مصلحة العالم أن تتألف حكومة عربية على القواعد السياسية الحديثة، وحذرت من تنفيذ البرنامج الصهيوني الذي يعني احتلال فلسطين واقترحت تقليص هذا البرنامج بحيث تتخلى الصهيونية عن فكرة الدولة اليهودية وعندئذ لا يكون هناك سبب يمنع بقاء فلسطين في الدولة السورية الموحدة (18). والشعور بخطر الصهيونية كان من عوامل إنقسام الحركة القومية العربية، كما كانت الوقائع التى تفرضها الامبريالية وأطماع بريطانيه وفرنسه بالتحديد سببآ في إنقسام العهد إلى شطرين سوري وعراقي. وصور ساطع الحصري في كتابه " يوم ميسلون " هذه الحقيقة عند وصفه الاتجاهات الاقليمية في الحركة القومية العربية الواحدة فكتب: " فهذا فلسطيني يعتبر الصهيونية اول ما يجب أن يهتم به من المشاكل، وذاك سوري يرى في أطماع فرنسه أكبر الأخطار التى تهدد القضية العربية وذلك عراقي يقول بوجوب الثورة ضد الانجليز قبل كل شيء (ص 92). وتبلور هذا التطور حين عقد المندوبون الفلسطينيون في المؤتمر السوري العام مؤتمرأ لهم في دمشق في 27 شباط (فبراير) 1920 وقرروا: " أن أهالي سوريه الشماليه الساحلية (لبنان أ. ت.) ما خطرلهم في وقت من الأوقات أن يعتبروا سوريه الجنوبية، أي فلسطين قطعيأ، غير سوريا وكما أثبتوا ذلك في مقررات مؤتمرهم السوري فهم الآن يثبتون هذا القرار مرة ثانية " . كذلك رفضوا الوطن القومي اليهودي واعتبروا الصهيونية خطرآ على البلاد، ورفضوا قيام أي حكومة في فلسطين قبل أن تعترف تلك الحكومة بعدم فصل البلاد عن سوريه. وظهرت بداية عملية تطورالحركة القومية الفلسطينية الاقليمية في هذا الوقت حين أعلن المؤتمرون، دفعآ للالتباس ولأن الأوساط الأوروبية تستخدم كلمة فلسطين منفصلة عن سوريه، تأليف " لجنة الدفاع الوطني العربي عن سوريه وفلسطين " تهدف إلى إخراج المحتلين من الساحل ( لبنان- أ. ت.) وكانوا فرنسيين، ومن فلسطين وكانوا بريطانيين . وفي تموز (يوليو) 1920 حسم احتلال فرنسه سوريه الشمالية وتصفية إدارة فيصل العربية، وتوطيد التقسيم الامبريالي بين بريطانيه- التى احتلت العراق وفلسطين، وفرنسه التى احتلت لبنان وسوريه- حسم كل هذا في وجهة الحركة القومية العربية ودفعها إلى وجهة إقليمية. وهكذا كانت بداية الحركة القومية العربية الفلسطينية. وفي 14 كانون الأول (ديسمبر) 1920 عقد القوميون من فلسطين مؤتمرآ وطنيآ في حيفا اعتبروه المؤتمر الثالث (المؤتمر السوري العام كان الأول، ومؤتمر المندوبين الفلسطينيين كان الثاني)، وقرروا رفض وعد بلفور ووقف الهجرة اليهودية وانشاء حكومة وطنية في فلسطين تتحد مع سوريه ولبنان (19).

وبدأ الصراع التحرري واضحأ في فلسطين.

هوامش (1) أهداف إسرائيلية جديدة لاسرائيل (2) نقصد ما يعرف الآن بسورية ولبنان والاردن وفلسطين (3) العرب والترك في عهد الدستور العثماني 1908 - 1914 ، توفيق برو ، ص 316 (4) كان قادة هذه الجمعية وقت تأسيسها محمد رستم حيدر ( لبنان ) عوني عبد الهادي ( فلسطين )

        محمد المحمصاني ( لبنان ) رفيق التميمي ( فلسطين ) توفيق السويدي ( العراق ) . 
     (5) عالجنا السياسة الامبريالية في فصل سابق ...
     ( 6) المصدر ذاته ، ص 282 - 283 
     (7) نقل هذه الوثائق الدكتور م . سنيه حين كان مقرب إلى الحزب الشيوعي ، كتابه حول المسألة 
        القومية ، استنتاجات على ضوء الماركسية اللينينية ، ص 92 . 
    (8) ذكر هذه المباحثات أمين سعيد في كتابه الثورة العربية الكبرى ، الجزء الثالث ، ص 40 ، كما 
       ذكرها عيسى السفري في كتابه فلسطين بين الانتداب والصهيونية ، ص 14 . 
    (9) حسب عيسى السفري تم وضع المعاهدة في 4/6/1918 ، كتابه أعلاه ، ص 15 -16 . 
    (10) سجل ت . أي . لورانس نشاطه في هذه الفترة في كتابه المشهور أعمدة الحكمة السبعة . 
    (11) ص 181 في المجلد الأول والمجلد الثاني ص 25 المقدمة .
    (12) المصدر نفسه ( تاريخ الصهيونية ) .
    (13) نشرها كاملة وايزمن في التجربة والخطأ ، ص 245 - 246 ز
    (14) فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية ، عيسى السفري ، ص 14 . 
    (15) الثورة العربية الكبرى ، المجلد الثاني ، ص 35 
    (16) عيسى السفري ، فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية ، ص 33 
    (17) أثبت جورج أنطونيوس في كتابه نهضة العرب بالانجليزية النص الكامل لهذه المذكرة ، ص 440 
         -442 .
    (18) المصدر نفسه بين صفحات 443 و 458  والقسم عن الموقف من الصهيونية ، ص 450 . 
    (19) الثورة الكبرى ، أمين سعيد ، الجزء 3 ، ص 52- 53 .   












الفصل السابع

المجابهة الاولى

في 28 حزيران (يونيو) عام 1919 وقعت الدول الأوروبية المستقلة، باستثناء الاتحاد السوفيتى ، ميثاق عصبة الأمم الذي نص بنده الثاني والعشرون على نظام الانتداب الذي حدد بدوره حالة فلسطين. وكان الانتداب غطاء الامبريالية في أعقاب الحرب العالمية الأولى ، التي شهدت قبل نهايتها ثورة اكتوبر الاشتراكية الكبرى في روسيه القيصرية ، وانتهت تبعآ لذلك وبتأثير هذه الثورة بنقاط الرئيس الامريكي ويلسون التي عرفت بالنقاط الأربع عشرة وأوحت بحق الشعوب في تقريرمصيرها.

  واعترف الانتداب- وكان على درجات- مبدئيآ بحق الشعوب بحكم نفسها بنفسها، ولكنه اعتبر تلك الشعوب قاصرة على ذلك ، انذاك وأوكل أمرها لدولة كبرى " تأخذ بيدها في مدارج الرقي " ! حتى تقف على أقدامها وتستقل بأمورها ، وعندئذ ينتهي نظام الانتداب .

وأوكل مجلس مؤتمر السلام الأعلى أمر الانتداب على فلسطين ببريطانيه أثناء اجتماعه في سان ريمو في 25 نيسان (ابريل) عام 1920. كما وزع الانتدابات الأخرى على الدولتين الامبرياليتين بريطانيه وفرنسه . وخلال هذه الفترة اشتد الصراع بين بريطانيه وفرنسه حول حدود فلسطين. وكما يقول فورس آدم أحد الاحصائيين البر يطانيين في مؤتمر السلام استخدمت بريطانيه الحدود التي كان يزعم الصهيونيون أنها حدود فلسطين في مجابهتها فرنسه (فكرة الدولة الصهيونية بن هلبرن ص 296). وبذلك وصلت إلى ذروة الاستفادة من وعد بلفور للفوز بحصة الأسد في سوريه، وفعلأ إستطاعت بريطانية أن تقتطع لنفسها فلسطين وشرق الأردن.

   وأقر مجلس عصبة الأمم نظام الانتداب على فلسطين في 24 تموز (يوليو) عام 1922، وكان ذلك الاجراء إعتراف بواقع الاحتلال البر يطاني الذي بدأ في نهاية الحرب العالمية الأولى.
  أما المعركة في فلسطين فلم تنتظر إقرار الانتداب رسميآ، بل بدأت قبله بكثير


المعركة مع الامبريالية واصطدامات بين العرب واليهود

    ويقع بعض المؤرخين وبينهم مؤرخون عرب في " خطأ " تاريخي، مغرض في أكثر الأحيان، حين يبدأون بتدوين كفاح الشعب العربي في فلسطين بالاصطدامات بين العرب واليهود في نيسان (أبريل) عام 1920.
   الحقيقة أن بداية المعركة كانت في رفض الحركة القومية العربية الموحدة في سوريه الطبيعية الاحتلال ووعد بلفور ومطامع الصهيونية. 
  وتطورت المعركة مع الامبريالية البريطانية حتى من قبل أن ينفصل " القطاع الفلسطيني " عن الحركة القومية العربية في سوريه الطبيعية ويتلاءم مع ظروف التجزئة الامبريالية في العالم العربي المشرقي.
 ولعل بداية موجة عام 1920 كانت في تلك المظاهرة الضخمة التي اشترك فيها 40 ألف مواطن وطافت في القدس في 27 شباط (فبراير) 1920.

لقد أعقبت هذه المظاهرة ، وكانت الأولى من نوعها في القدس ، اجتماع رؤساء الطوائف وأعيان البلاد بدعوة من حاكم البلاد البريطاني الجنرال بولز. في هذا الاجتماع صرح الجنرال بأن مجلس الحلفاء قررأن يدمج وعد بلفوربإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين في معاهدة الصلح مع تركيه ، وأن بريطانيه قبلت الانتداب على البلاد، وأنها ستحافظ على الحريات الدينية وتسمح للمهاجرين بدخول البلاد قدر حاجتها إلى النمو. وأضاف: " وتسيطرحكومة بريطانيه على المهاجرة ولا يخرج أصحاب الأملاك الحاليون عن أملاكهم ولا تنزع منهم ولا تمنح امتيازات اقتصادية لأفراد أو جماعات إذا كان منحها ضررآ لغيرهم. فالحكم سيكون للحكومة البريطانية ولا يسمح بحال من الأحوال لأقلية أن تسيطر على الأكثرية من السكان ". وقبل المظاهرة تألفت جمعيات إسلامية- مسيحية في مدن فلسطين واتفقت على مذكرة أعلنت فيها: " اننا لا نتخلى عن مطالبنا المنحصرة في استقلال سوريه المتحدة من طوروس إلى رفح ونرفض الهجرة الصهيونية رفضآ باتأ ونرفض فصل فلسطين عن سوريه... لأن فصل فلسطين عن سوريه يضر بمصالح البلاد الاقتصادية والعمرانية... وبمصالح الوطنيين القومية والمحلية " . وأضافت: أن الأراضي تكفي لأهلها الذين هم في إزدياد مستمر وستسبب الهجرة الشغب والثورة الدائمين. وهكذا كانت المظاهرة احتجاجأ على التجزئة الامبريالية أولأ، والاحتلال الذي جرد الشعب من استقلاله ثانيأ ، وعلى وعد بلفورثالثآ . وقد طاف المتظاهرون على قناصل الدول الأجنبية وسلموهم احتجاجات بهذه الروح. (فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية ص 37- 38). وهنا لا بد من دحض تزييف الرجعيين من بريطانيين إمبرياليين وصهيونيين حاقدين، حقيقة الحركة القومية العربية في فلسطين وتصويرها، تصويرآ عنصريآ، (!). بتضخيم الاصطدامات بين العرب واليهود، فالحركة القومية العربية في فلسطين لا يمكن فصلها عن الحركات القومية العربية في العالم العربي التى امتازت بتشديد الكفاح ضد الامبر يالية. وممروف تمامآ أن براكين الثورات المعادية للامبريالية تفجرت في هذه الفترة بعنف شديد زعزع مواقع الامبر يالية ، وتوالت الثورات فوقعت ثورة 1919 في مصر. وثورة العراق الشاملة في عام 1920 والنضال المسلح الذي بدأ في سوريه من قبل أن تحتل القوات الفرنسية دمشق في تموز (يوليو) 1920، واستمرت بعد احتلالها فترة من الزمن.

  وهكذا فالموجه الثورية في العالم العربي كانت عامة ومنها تظاهرة القدس الكبرى . ولذلك فالاصطدام بين العرب واليهود الذي وقع في القدس كان لأسباب عديدة لا تمت إلى العنصرية بصلة ولا تشوه جوهرهذه الحركة بشيء.
وعلى هذا الضوء يمكن أن ننتقل إلى إصطدامات العرب واليهود في القدس يوم الأحد في 4 نيسان (ابريل) عام 1920.

يكتب المؤرخون الصهيونيون وقد تلقوا " العلم " على أيدي معلم الرجعية الواحد أن المحرضين العرب أعدوا مجزرة اليهود في موسم النبي موسى بوحي من السلطات البريطانية أو بعض المحافل فيها ويستشهدون على ذلك بأن الذين هاجموا اليهود في القدس القديمة كانوا يصرخون " الحكومة معنا "!! ويؤيدهم في هذا الكتاب البريطانيون الذين يدافعون عن وعد بلفور والسياسة البريطانية التي إنتهجها الانتداب البريطاني في فلسطين. ولكن المعطيات ترسم صورة أخرى . ففي ظروف الموجة القومية الثورية في العالم العربي المشرقي ، وخاصة في سوريه حيث كان الحكم العربي (الفيصلي) لا يزال قائما، وحيث كانت القوى القومية تصارع الزحف الفرنسي ، تحول موسم النبي موسى إلى مظاهرة قومية من الدرجة الأولى. فالوفود الكبيرة التى توافدت إلى المقام من مدينة القدس وقراها والخليل ونابلس وغيرها كانت " تنادي بالوحدة العربية والاستقلال وترفض الهجرة الصهيونية ، واشتد حماسها الوطني وهي تصغي إلى خطابات القوميين أمثال عارف العارف وخليل بيدس وموسى كاظم الحسيني رئيس بلدية القدس آنذاك. وكانت اللجنة الصهيونية التى وصلت إلى البلاد حتى قبل إتمام احتلال البريطانيين البلاد تعرب عن مطامعها في السيطرة على البلاد وتتجاهل حقوق الجماهير العربية تجاهلا تاما مما زاد في مخاوف هذه الجماهير من مدلولات وعد بلفور. كذلك ظهرت الممارسة الصهيونية المعادية للجماهير العربية في مظاهرعدة أبرزها الاعدادات العسكرية بذريعة إقامة فرقة دفاع عن النفس . ويعترف جوزيف شختمان في كتابه " متمرد وسياسي: قصة فلاديمير جابوتنسكي " بهذا الأمر وبالتساوق بين القيادة الصهيونية والامبريالية البريطانية مما يدحض أسطورة هتاف الجماهير العربية: " الحكومة معنا ..." .

     كتب ان أمر تدريب الجنود اليهود كان علينا تعرفه السلطات، وأضاف:

" وقبل أيام من العيد الاسلامي النبي موسى قامت فرقة الدفاع عن النفس بمناورات عسكرية منظمة على سفح جبل الزيتون وعند اقدامه أمام مركز الحكومة (البريطانية) واستعرض " الضباط البريطانيون حركتنا بمناظيرهم... ولم يكن الموقف الرسمي تجاه منظمة الدفاع الذاتي غير سلبي فحسب ، بل كان يبدو أبويا إلى حد ما ( ص325 ). وهكذا فبعض قادة الصهيونية من أمثال الزعيم المتطرف جابوتنسكي كانوا يعدون قوة عسكرية ويقومون بمناورات عسكرية منظمة عشية موسم النبي موسى مما ينفي صورة الحمل الوديع " اليهود " والذئب الكاسر " العرب ". ولا جدال في أن اساطين الامبريالية البريطانية العريقين بسياسة " فرق تسد " بذلوا كل جهد لتأجيج الأحزاب العنصري بين العرب واليهود لحرف النضال عن مساربه الصحيحة ليصبحوا قضاة بين متحاربين بدلأ من ان يكونوا هدف المحاربين من اجل الاستقلال بوصفهم أعداء الشعوب الألداء وعقبة التحرر القومي الكأداء . وحتى في هذا الوقت المبكر وجدت الامبريالية البريطانية عناصر الرجعية العربية تسير في ركابها بعد أن حظيت بتأييد الصهيونية التام. وساعد على ذلك بناء الحركة القومية العربية في فلسطين ، في هذا الوقت ، على أسس طائفية كانت تعرب عن الأوضاع الاقتصادية المتخلفة التى تميزت بعلاقات اقتصادية شبه إقطاعية وبغياب البرجوازية الصناعية والطبقة العاملة. كما أن المجتمع العثماني كان يقوم على التنظيم الطائفي (الملي) ولم يكن قد تغير بعد في عهد الاحتلال البريطاني الأول. وفي هذا الجو المتوتر كان من السهل أن يشتعل الاحتراب العنصري وأن يؤدي - كما كتب عيسى السفري - مرور بعض اليهود بين الشعب العربي الصاخب إلى اهتياج الأفكار واحتدام نار الفتنة بين الطرفين فقتل منهما عدد ليس بالقليل وظلت الحالة مضطربة حتى المساء لقد كان حصيلة هذا الاصطدام بين العرب من ناحية، والقوات البريطانية واليهود من ناحية، مقتل 5 من اليهود و 4 من العرب وجرح عشرات من الطرفين . ولكن الأخطر من وقوع الضحايا ، إتساع الهوة بين العرب والصهيونيين . ونحدد الهوة بين العرب والصهيونيين لأن نسبة واسعة من اليهود في البلاد كانت ترفض المشروع الصهيوني في ذلك الوقت المبكر.

  وعلى اثر هذا الاحتراب. وضعت لجنة تحقيق عسكرية، كانت الأولى من سلسلة لجان تحقيق مختلفة. تقريرأ عن ملابسات الاصطدام أكدت فيه مايلي:
  " خيبة أمل العرب بسبب عدم تنفيذ الوعود بالاستقلال التى يدعون أنها أعطيت لهم أيام الحرب.

 إعتقاد العرب بأن وعد بلفور ينفي حقهم في تقرير المصير وتخوفهم من أن يؤدي قيام الوطن القومي إلى زيادة الهجرة اليهودية ، مما سيقود إلى إخضاعهم لسيطرة اليهود الاقتصادية والسياسية.

  تعميق هذه المشاعر بالدعاية من خارج البلاد المرتبطة بإعلان الملك فيصل ملكآ على سوريه الموحدة ونمو أفكار الجامعة العربية والجامعة الاسلامية من ناحية ونشاط اللجنة الصهيونية تدعمها مقدرات اليهود ونفوذهم في شى أنحاء العالم من الناحية الثانية ".

(استعراض أوضاع فلسطين. تقرير أعدته الحكومة البريطانية للجنة التحقيق الأنجلو- امريكية بين 1945- 1946 ص 17). لم تكن لجنة التحقيق نزيهة في كل ما ذهبت إليه، فالامبراطورية البريطانية كانت تقصد بلجانها الموجهة تخدير الجماهير أولأ وكسب الوقت ثانيآ والدس المغرض ثالثا ومع هذا فقد اضطرت إلى الاعتراف بحقيقة كبرى : هي أن الجماهير العربية كانت تتوق إلى الاستقلال وترغب في حق تقرير المصير في سوريه الطبيعية وتتخوف، أشد الخوف، من الوطن القومي اليهودي



مؤتمر القاهرة والاصطدام الثاني

  ويعتبر الكتاب أول تموز (يوليو) 1920 نهاية الادارة العسكرية في فلسطين وبداية الحكم المدني الذى دشنه تسلم المندوب السامي الأول السير هربرت صموئيل مهام منصبه في البلاد.

وكان هربرت صموئيل على الرغم من إنتسابه إلى الطائفة اليهودية وعطفه على الصهيونية، بريطانيا، من المحافل الامبريالية، يضع مصلحة الامبراطورية في المكانة الأولى. ولهذا كانت سياسته تجمع بين الولاء لوعد بلفور وسياسة إقامة الوطن القومي من ناحية ، ومهاودة قيادة الحركة القومية الاقطاعية لكسب تأييدها من ناحية ثانية . بعد شهرمن تسلمه إدارة البلاد ، في 21 اب (أغسطس) عام 1920 أصدر تشريعآ يسمح فيه بدخول 16,500 مهاجر يهودى في السنة الأولى . وخلال الأشهر الأولى من حكمه عفا عن الحاج أمين الحسينى ، الذي اتهم بالتورط في الاصطدامات الدامية في نيسان (ابريل) 1920، وعينه مفتيآ على القدس . وجسد موقفه في تصريح كان نموذجآ من التصريحات الامبريالية المطاطة التي توافق المرحلة والممارسة الصهيونية التي إمتازت بالواقعية والمرونة ، فالأهداف البعيدة المدى كانت تتراجع وتختفي من على سطح المياه السياسية لعدم وجود ظروف لتحقيقها ، وتبرز في الوقت ذاته الأهداف العينية التى يمكن تحقيقها. وجاء في تصريح هربرت صموئيل: " وقفت اثناء وجودى في فلسطين على الاحتجاجات التى قدمها الأهلون على الصهيونيين وعندي أنها إحتجاجات لا خطرمنها لأنها مبنية على قضايا فاسدة وجهل بالمسألة الصهيونية ". وجاء أن الذين ينسبون إلى الصهيونيين أطماع السيطرة ينسبون لهم أمورآ لم تخطر لهم على بال ، وأن الهجرة ستكون تدريجية بقدر طاقة البلاد. وأن المهاجرين سيكونون الأغنياء(!) وأن المنافع ستفيض على العرب (كتاب فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية ص 54 ) . وفي هذا الوقت أثرسقوط الحكم العربي في دمشق في تموز (يوليو) عام 1920 ، وتراجع الثورة العراقية في الفترة ذاتها ، أثر على الحركة القومية العربية في فلسطين وفرض عليها ان تتراجع قليلأ لتجمع قواها من جديد .

   واتخذت السلطات البريطانية خطوات عينية في سبيل التهدئة فقررت عقد ما عرف بمؤتمر القاهرة الذي عقد في الأسبوع الثاني من آذار (مارس) 1921 بحضور وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل وكبار الجنرالات والمندوب السامي في فلسطين وشخصيات موالية لبريطانيه أمثال جعفر العسكري وساسون أفندي من العراق .
 وقرر مؤتمر القاهرة مايلي :

 تنصيب الأمير فيصل ، الذي فقد عرشه في سوريه، ملكأ على العراق وبذلك يصبح من الممكن تهدئة الثورة العراقية بإقامة حكم " قومي" يتزعمه ابن الشريف حسين فيصل .  تنصيب الأمير عبد الله شقيق فيصل أميرأ على شرق الأردن ، فبذلك يتخلص البريطانيون من وضع مشحون بالأخطار.  محاولة إقامة مجلس تشريعي في فلسطين يحل محل المجلس الاستشاري المعين الذي اقامه المندوب السامي. ولكن في حين كان تنصيب الملك فيصل ملكآ على العراق عاملأ من عوامل التضليل والتهدئة في العراق كانت محاولة إقامة المجلس التشريعي فاشلة زادت في تعميق وعى العناصر العربية الواعية على خطورة سياسة الامبريالية البريطانية والصهيونية . وهكذا انفجرت اضطرابات يافا التى عرفت باضرابات أول آيار (مايو) عام 1921 لوقوعها في يوم عيد العمال العالمي. ومثل كل احتدام عنصري أوقومي كانت هناك شرارة وكانت هناك أسباب موضوعية عميقة. اما الشرارة فكانت اصطدامأ وقع بين متظاهرين يهود في أول آيار 1921، فالعمال الهستدروتيون الصهيونيون اصطدموا بالعمال الذين ساروا تحت شعار حزب العمال الاشتراكي (موبس) الخارج على الصهيونية ودعوا العمال جميعأ إلى الاضراب في يوم عيد العمال العالمي. ويبدو أن المواطنين في يافا اعتقدوا أن المتظاهرين الذين اصطدموا في تل أبيب بالقرب من منشيه يافا يريدون لهم الشر فتصدوا لهم ووقعت الواقعة وامتدت مثل النار في الهشيم الى منطقة يافا كلها. ومرة اخرى تدخلت القوات البريطانية لتبطش بالعرب، وكالمعتاد وقعت الضحايا من الطرفين وكان حصاد المصادمات " الثلاثية الجوانب " مزيدأ من الضحايا فسقط من القتلى47 يهودياً ، و 48 عربيأ وأصيب بجراح المئات من الجانبين . وفي هذه المرة أيضا إتهمت القيادة الصهيونية سلطات الأمن الانتدابية بالاهمال ، وروجت أسطورة " الأفندية العرب " الذين يحرضون المعدمين العرب على اليهود بسبب فقدانهم امتيازاتهم !! وتظاهرات بأن القضية لا تعدو قضية " الحمل الصهيوني " الذي يريد أن يبنى البلاد و " الذئب الكاسر العربي " الذى يصرعلى بقاء البلاد " مستنقعات "!! وألفت الحكومة البريطانية في فلسطين لجنة تحقيق جديدة ترأسها قاضي القضاة توماس هيكرافت لتبحث في أسباب الانفجار الجديد. واستوحت اللجنة استنتاجاتها من ماهيتها الامبريالية ووجهة نظر رجالها الطبقية. ولهذا اعتبرت " مظاهرة البولشفيك " - وقصدت مظاهرة حزب العمال الاشتراكي (موبس ) ـ الشرارة التي أشعلت موجة الاصطدامات . ومع هذا اضطرت اللجنة إلى أن تنفي التأكيد الصهيوني القائل بأن " الأفندية " هم الذين يحرضون " الجماهير غير المتعلمة " لأنهم يأسفون كثيرآ لزوال الحكم التركي ولأن الادارة البريطانية الحالية قد قضت على منافعهم الشخصية !!! وتوصلت اللجنة إلى أن إتساع الاضطرابات وامتدادها من يافا إلى منطقتها يؤكد أن الجماهير العربية قلقة من سياسة الوطن القومي اليهودي وتعتبر المهاجرين خطرآ اقتصاديآ عليها. ولاحظت اللجنة أن الصهيونيين يقاطعون العرب، والتاجر اليهودي لا يشتري من العربي. ومضت تؤكد إن الهجرة اليهودية لاقت إعتراضات اقتصادية من العمال وأصحاب الصنائع. وأضافت: لوكان المهاجرون يوزعون حين وصولهم على المستعمرات اليهودية الزراعية لما أثر مجيئهم على طبقة العمال في يافا وسائر مدن فلسطين ، فقدوم المهاجرين بكثرة ومزاحمتهم السكان الأصليين يثيران قلق العمال. وذكرت اللجنة- ما أصبح ممارسة يومية- أن الصهيونيين ضغطوا على صاحب أراضي في ريشون لتسيون وأكرهوهم على إستبدال العمال العرب بيهود. وبدون الاعتماد على استنتاجات اللجنة كان من الممكن رؤية ممارسة الصهيونية سياسة احتلال الأرض والعمل مما جعل أمر التعاون بين العرب واليهود على الصعيد الشعبي غير ممكن، فلم يكن ممكنأ أن يتم التعاون بين العمال العرب واليهود ما دام خط المنظمة النقابية اليهودية والصهيونية احتلال العمل وطرد العمال العرب ، الذين يعملون في المزارع أو الأشغال التي يمتلكها اليهود. ومما زاد الأزمة حدة، تواتر تصريحات الصهيونيين حول أهدافهم النهائية. حتى " جويش كرونيكل " البريطانية كتبت في 20 آيار (مايو) 1931: إن الحل الوحيد لمسألة فلسطين هوإعطاء اليهود كيهود تلك الحقوق والامتيازات في فلسطين التى تمكنهم من جعلها يهودية كما أن إنجلتره انجليزيه وكنده كندية . أما فلاديمير جابونتسكي فقد كان يدعوإلى إقامة الدولة اليهودية ويعتبر الجيش اليهودي الذى كان يحاول بناءه من الفرقة اليهودية التى اشتركت في الحرب العالمية الأولى أمرآ ضروريأ لتحقيق ذلك. وكان الدكتور وايزمن حين ظهر في مؤتمر الصلح أومجلس العشرة في فرساي في عام 1919 قد قال ردآ على سؤ ال وزيرخارجية الولايات المتحدة روبرت لانسنغ عما يقصده من تعبير " الوطن القومي اليهودي ": " إقامة إدارة تنشأ من ظروف البلاد الطبيعية... بأمل أن تصبح فلسطين نهائيأ عن طريق الهجرة يهودية مثلما بريطانيه بريطانيه " . وقرر المؤتمر الصهيوني في كرلسباد في أيلول (سبتمبر) عام 1921 توصية لجنة العمل باتخاذ كافة الاجراءات مع سائر الهيئات " لتنظيم الشعب اليهودي لبناء فلسطين وطنآ قوميآ لليهود " . ومن الناحية الأخرى رافق الاضطراب الناجم عن معاداة العرب الامبريالية والصهيونية نشاط سياسي اتخذ شكل وفد قومي تألف من اسياد أرض وبرجوازيين تجاريين (موسى كاظم الحسينى وتوفيق حماد وأمين التميمي وابراهيم الشماس ومعين الماضي وشبلي الجمل) وزار بريطانيه ليعرض قضية البلاد على المسؤولين البريطانيين . وطالب هذا الوفد بتحقيق الوعود البريطانية باستقلال فلسطين والغاء وعد بلفور، وبذلك عكس مطالب الجماهير على الرغم من طابعه الطبقي.

   وفي هذا الوقت بالذات كتب الزعيم الصهيوني الدكتور وايزمن  رسالة إلى وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل جسد بحدة قاسية طبيعة الصهيونية.

[ لم أندم أبدأ على ثقتى بكلمة بريطانيه العظمى ولكن وضعي المزدوج بوصفي زعيما لحركة عالمية [ الصهيونية ] وبوصفي مواطنأ بريطانيأ يخضع آمال الصهيونية لبلاده بريطانيه هو وضع فيه حرج... هناك حلف طبيعي بل تماثل في المصالح تام تقريبا بين الصهيونية وبريطانية ] .

  ثم كتب في هذه الرسالة:

لولم تكن هناك فلسطين لكان من الضروري حسب اعتقادي خلقها في مصلحة الامبريالية فهي قلعة مصر.... وأضاف أن بريطانيه تصون مصالحها عن طريق الاستيطان الكولونيالي اليهودي بأرخص ما يمكن. [ كتاب أمة تبعث بقلم ريتشارد كروسمان- ص 125- 131 ] . وهكذا وجدت بريطانيه نفسها امام وضع لا ندري اذا كانت قد توقعته بحذافيره منذ البداية. لقد وجدت نفسها أمام:  حركة قومية عربية تنمو بازدياد(1) ، وتتضامن معها الحركات القومية في العالم العربي وتناضل من أجل الاستقلال وإلغاء وعد بلفور، والاتحاد مع الأقطار العربية.  ومنظمة صهيونية ترتبط بالامبريالية البريطانية بأوثق رباط وتخدم الاستراتيجية الامبريالية في المنطقة والقارة الآسيوية عامة أجلّ خدمة. وتحت ضغط الحركة القومية العربية وفي سبيل الموازنة بينها وبين الصهيونية وتأكيد سياسة فرق تسد أصدرت الحكومة البريطانية كتابآ أبيض في 22 حزيران يونيوعام 1922 أذاعه وزير المستعمرات ونستون تشرشل . والكتاب الأبيض مثل كلاسيكي على هذه الموازنة التي برعت فيها بريطانيه. فقد جاء فيه : يعود التوتر في فلسطين الى مخاوف جالت في خواطر اليهود والعرب . أما مخاوف العرب فتعود إلى التفاسير المبالغ فيها لمعنى وعد بلفور سنة 1917 إذ ظهرت تصاريح غير رسمية بأن الغاية من ذلك جعل فلسطين يهودية بجملتها غير أن حكومة جلالة الملك تنظر إلى هذه الآمال على أنها غير قابلة التطبيق وأنها لا تفكرفي وقت من الأوقات بإخضاع أو محو السكان العرب أوقتل لغتهم وآدابهم في فلسطين. أما فيما يتعلق بالسكان اليهود فالظاهر ان بعضهم خامره الشك في أن حكومة جلالة الملك قد تتخلى عن سياستها التي تضمنها تصريح بلفور، ومن الضروري التأكيد أن لاأساس لهذه المخاوف . ومضى الكتاب الأبيض ففسر معنى الوطن القومي اليهودي ، ونفى أنه يفرض الجنسية اليهودية على العرب أو يحرم سكان البلاد عملهم . فالقصد أن [ يصبح لليهود في فلسطين مركزاً يكون موضع اهتمامهم وفخرهم من الوجهتين الدينية والقومية ]. وأعلنت الحكومة البريطانية في هذا الكتاب الأبيض ، الأول من سلسلة، نيتها إقامة حكومة ذاتية واسعة وذلك بتأسيس مجلس تشريعي يتألف من المندوب السامي رئيساً وعشرة أعضاء منتخبين وعشرة أعضاء رسميين [ معينين ] . وفي هذا الوقت بالذات تاكد عامل قام بدور كبير فيما بعد- تأييد الولايات المتحدة الأميركية الوطن القومي .

 ففي 30 حزيران [ يونيو ] عام 1922 أقر الكونغرس قرارا ينسب فيه إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين على أن لا يصاب بالضرر السكان الأصليون . 
ومع هذا اعتبرت الحركة القومية العربية  الكتاب الأبيض  تراجعآ إلى حد ما. 
وهذا هو تقرير ريتشارد كروسمان [ من زعماء حزب العمال الآن وعضواللجنة الأنجلو - أميركية في عام 1946 ] . 
 وقد سأل في كتابه [ أمة تبعث ] ماذا حدث بين عام 1917 [ وقت الوعد ] وعام 1922موعد [ الكتاب الابيض ] وأجاب:

[ في السنوات الخمس الحاسمة بين وعد بلفور والانتداب وقع حدثان بشرا بنهاية سيادة أوروبه على العالم وبداية عهد تصبح فيه بريطانيه منطقة في السياسة الدولية بين غيرها ] . والحادثان: ثورة اكتوبر الاشتراكية الكبرى ، وشيوع فكرة حق تقرير المصير. الا ان التغيير لم يكن حاسما بحيث يلغي الامبريالية البريطانية. وهكذا فبعد شهرتقريبا على الكتاب الابيض صادق مجلس عصبة الأمم على نظام الانتداب على فلسطين.

هوامش (1) اتصل الوفد الفلسطيني المذكور أثناء زجوده في أوروبا بوفد الاتحاد السوري في جنيف وعقدا مؤتمراً قررا فيه مطالبة عصبة المم بالاعتراف بالاستقلال القومي لسورية ولبنان وفلسطين والاعتراف بحق فلسطين في الاتحاد مع باقي الدول العربية وغلغاء الانتداب ووعد بلفور وجلاء الجيوش عن سورية ولبنان وفلسطين .












الفصل الثامن نظام الانتداب والممارسة الصهيونية

    في 24 تموز( يوليو ) 1922 صادق مجلس عصبة الأمم على نظام الانتداب على فلسطين وفي 29 أيلول ( سبتمبر ) 1923 سرى مفعول هذا النظام رسميآ على البلاد.

وبذلك انتهت المماحكات بين الدول الكبرى حول تقسيمات التركة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى ، واكتسبت بريطانيه التي كانت تسيطرعلى فلسطين فعلا منذ ان أحتلتها قواتها عام 1917 [ حقآ شرعيآ دوليآ ] ! في البلاد. وأصبح في وسعها أن تمارس وعد بلفور باعتباره جزءآ لا يتجرأ من نظام الانتد اب. وفي هذا الاطار لا يمكن اعتبار نظام الانتداب مجرد وثيقة شكلية منحت بريطانيه الوجود الشرعي الدولي في فلسطين ، فقد وضع هذا النظام الأسس لاقامة ما وصفته لجنة بيل الملكية البريطانية التي حققت في فلسطين عام 1937 [ حكومة داخل حكومة ] حين استوحت نصوصه مفهوم وعد بلفور. وهكذا أكد البند [ ج ] من المقدمة مسؤولية بريطانيه ، الدولة المنتدبة ، على وضع تصريحها في 2 تشربن الثاني ( نوفمبر ) 1917 موضع العمل [ تنفيذا لانشاء وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي ] . فبذلك يتم الاعتراف بما للشعب اليهودي من الصلة التاريخية بفلسطين وبموجبات إقامتهم من جديد لوطنهم القومي في تلك البلاد . [ البند د من المقدمة]. ولم يكتف نظام الانتداب بهذه المقدمة (1) ، بل دعا في الفقرة [4] الى الاعتراف بوكالة يهودية تنصح ادارة فلسطين وتتعاون معها فيما قد يؤثر في إنشاء الوطن القومي اليهودي ومصالح السكان اليهود ، كما أكد في الفقرة [ 6 ] ان على ادارة فلسطين ان تسهل الهجرة اليهودية في أحوال مناسبة وأن تشجع بالتعاون مع الوكالة اليهودية المشار اليها في الفقرة[4] استقرار اليهود المتراص على الأرض ومنها ما لا يحتاج إليه للمقاصد العامة من أراضي الحكومة والأراضي البور.... كذلك نصت بنود الانتداب هنا وهناك على ضرورة تجنب ما من شأنه أن يجحف بالمجتمعات غير اليهودية القائمة في فلسطين وعلى صيانة حقوقها المدنية والدينية . ولكن مجرد الاصطلاح غير اليهودية عمق الوعي بتجاهل الامبريالية البريطانية والصهيونية حقوق الشعب العربي القومية بل بمجرد وجود ذلك الشعب أصلا- من ناحية، وأكد خضوع حقوق [غير اليهود ] المدنية والدينية لعملية بناء الوطن القومي اليهودي. فالفقرة [2] وضعت على بريطانيه مسؤولية وضع البلاد في ما يضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي . كما وضعت عليها مسؤولية [ تطوير منشآت الحكم الذ اتي ] . ولكن الأمر المقرر لم يكن تطويرمنشآت الحكم الذاتي بل انشاء الوطن القومي ، ولذلك فشلت المحاولة الأولى لاقامة المجلس التشريعي عام 1922، وفشلت بعدها المحاولات التي جرت لاقامة حكم وطني في البلاد، رسمية كما كانت في عام 1926، وغير رسمية كما في عام 1929. ويذكر محمد دروزة في كتابه [ حول الحركة العربية الحديثة ] في هذا الصدد ان مساعد السكرتير العام ملز اتصل في عام 1926 ببمض القوميين العرب وبينهم الكاتب رفيق التميمي، وعمر الصالح البرغوثي ، ورشيد الحاج ابراهيم ، ومعين الماضي ، وباحثهم بشأن تعديلات دستورية تخلق الظروف لاقامة حكم وطني ، واقترح عليهم إقامة هيئة تمثيلية عربية لهذا الغرض، وفعلا عقدوا الموتمر القومي العربي السابع في حزيران ( يونيو ) 1928 تحقيقا لذلك ولكن تعارض الحكم الوطنى مع مصالح الامبريالية والصهيونية جمده وانتهى أمره. هذا على الرغم من أن القوميين العرب الذين باحثهم ملز قبلوا بمبدأ تعيين نصف أعضاء مجلس النواب وأقروا تعهدات بريطانية دولية ، واكتفوا بأن ينص الدستور على تحفظ جاء فيه أن أهالي فلسطين لم يستشاروا فيما اتخذته حكومة بريطانيه من تعهدات دولية بشأن بلادهم. واقترح العرب- وهذا الذي على ما يبدو دعا المندوب السامي الى القول ان بعض المقترحات متعذر العمل بها - ان يكون أمر الهجرة اليهودية بقرار يوافق عليه البرلمان تراعى فيه مصالح الاهالي العرب والبلاد الاجتماعية والصحية والاقتصادية والاخلاقية والسياسية والدينية [ الجزء الثالث ص 54 و273- 275 ] . أما المحاولة غير الرسمية فقد اجراها الوكيل البر يطاني المعروف، الذي قام بدوركبير في العربية السعودية جون [ عبد الله حين اسلم ] فيلبي . ففي تشرين الاول ( اكتوبر ) 1929 وصل الى البلاد ، بعد ان اجتمع مع بعض قادة الحركة القومية العربية في سورية ، يحمل مشروعا لتسوية القضية الفلسطينية عرضه على القوميين العرب في فلسطين وباحثهم بشأنه وتوصل معهم الى اتفاق يمكن تلخيصه على الوجه الآتي:  تدار فلسطين على أساس جمهوري دستوري ديمقراطي.  الهجرة حرة وخصوصا للعرب واليهود مع اعتبارمصالح البلاد وطاقتها.  تكمن السلطة التشريعية بكاملها في مجلس ينتخبه المسلمون والمسيحيون واليهود.  تكون السلطة التنفيذية في مجلس وزراء فلسطينى يتألف من عرب ويهود بموجب

 نسبتهما ويجري التوظيف في المناصب العالية على الأساس النسبي. 

 يتحمل المندوب السامي البريطاني مسؤولية الامن حتى تغدو حكومة فلسطين قادرة

 على القيام بهذا العبء حسب رأي عصبة الامم .

 يحق للمندوب السامي نقض فيتو أي قانون يتعارض مع التزامات بريطانية الدولية أو

 يجحف بحقوق الأقليات أو الاجانب أويتنافى مع مصالح البلاد[!] وعندئذ يحق للحكومة 
 أن ترفع الأمر الى عصبة الامم :( المصدر ذاته ص 59- 61 ).
    وهكذا، فعلى الرغم من ان الحكم الوطنى كان حكما وطنيا كاريكاتوريا الى حد كبير من حيث خضوعه لبريطانيه ، فقد " مات " مسودة على الورق قبل ان يصل الى درجه المباحثات الرسمية، لتعارضه مع المصالح الامبراطورية ، كما فرضتها ظروف ذلك العصر ومع المشروع الصهيوني كما صاغه نظام الانتداب .

وبهذا الشكل إصطدم الانتداب البريطاني والمشروع الصهيوني اصطداما مباشرا مستمرا مع اماني الشعب العربي في فلسطين في التحرر والاستقلال . ولم يكن من الممكن حتى الخطو خطوات أولى في هذا السبيل واقامة حكومة محلية كما كان الحال في الاقطار العربية المجاورة امتدادآ من العراق حتى مصر. لقد كان مشروع تعديلات دستورية يصطدم كذلك بعالمية الصهيونية أو بأيديولوجيتها حول تعريف الشعب اليهودي بوصفه " شعبا عالميا " فالصهيونيون كانوا يعتبرون فلسطين وطنا قوميا للشعب اليهودي بأسره ولذلك اقاموا الوكالة اليهودية على هذا الاعتبار، ولم يكن من الممكن ان يقبلوا تمثيلا يقوم على اساس القائم في فلسطين بل على اساس ما سيكون. وهذا ما أكده بن غوريون حين عالج مقترحات المجلس التشريعي التى جاءت في كتاب أبيض جديد صدرعام 1930. قال: نصادق على تغييرات دستورية تهدف الى اعطاء السكان قسطا من الادارة ولكننا نرفض بلا هوادة المجلس التشريعي الذي اقترحه الكتاب الابيض . ونعد اليهودية [ العالمية أ. ت ] والعمال والأمة العربية أن لا نقبل ابدا بأن يسيطرفريق قومي واحد في فلسطين على الآخر أو الى الأبد . واذا كنا لا نقبل فكرة دولة يهودية حيث يحكم اليهود العرب ، كذلك لا نقبل ازدواجية القومية في سويسره أوكنده ، فالحقوق في فلسطين لا تعود كما هو الحال في ذينك القطرين الى المواطنين الحاليين يهودا كانوا أم عربا، فالجوهرحق عودة اليهود المشتتين، حق اعادة البناء والتطوير والحرية والسيادة بدون الاجحاف بحقوق الآخرين أو السيطرة عليهم [ولادة اسرائيل مجددا ومصيرها دافيد بن غوريون مجموعة خطابات ومقالات 1954 ص 38] وفي الوقت ذاته منح الانتداب في فقرته الخامسة والعشرين بريطانيه سلطة استثناء "الاراضي الواقعة شرقي الأردن " من سريان وعد بلفور. وبقيامها بذلك لأغراض استراتيجتها في المنطقة استنفرت احتجاج المنظمة الصهيونية التى اعتبرت تقليصا اقليميا لبرنامجها.

الصهيونية في الممارسة

ولكن لا يمكن القول ان القادة الصهيونيين الواقعيين توقفوا كثيرا عند استثناء شرقي الأردن من سريان مفعول وعد بلفور الذي اصبح جزءا لا يتجزأ من الانتداب. ولعلهم وافقوا الكاتب ج. س هورفيتس في كتابه النضال من أجل فلسطين حين كتب أن حدود الوطن القومي لم يتحدد ابدا الحدود النهائية ، بداهة كان سيقررها في الدرجة الاولى [1] الأسلوب الذى ستستخدم فيه بريطانيه صلاحياتها الواسعة [2] ومدى تجاوب الصهيونيين مع فرصهم [3] ودرجة مقاومة العرب (ص 19) . ولا جدال في أن الأسطورة الامبريالية- الصهيونية القائلة بتلاشي مقاومة العرب لنظام الانتداب والمشروع الصهيوني الكولونيالي مع الايام ، هدفت في الاساس الى تضليل الرأي العام الذي لم يكن يقبل بسهولة اقامة وطن قومي على حطام شعب آخر وحقيقة كون المشروع الصهيوني مشروعا يضم وطنا قوميا على حطام شعب آخر وحقيقة كون المشروع الصهيوني مشروعاً يقيم وطناً قومياً على حطام شعب آخر ظهرت في السنوات الاولى من الانتداب، فالفترة الاولى حسمت وجهة التطور وجسمت الممارسة الصهيونية وقررت لذلك العلاقات اليهودية العربية. ولمقاصد هذا البحث من الممكن اعتبار الفترة الأولى . امتدادا بين المصادقة على نظام الانتداب والاصطدامات الدامية في عام 1929 وما اعقبها من كتاب أبيض صدر في عام 1930. فما هي أبرز احداث هذه الفترة وملامحها ؟ أولا: نمو السكان ففي حين توزع السكان بموجب احصاء 1922 على الوجه التالي: 660 ألف عربي و83 ألف يهودي أصبح توزيعهم في عام 1929، 707 ألف عربي و 164 ألف يهودي. ثانيا: برزت حقيقة مثالية الدعوة الصهيونية حيث انها دعوة " تحرك " الجماهير اليهودية في مختلف أقطارها . فلم تكن المثالية القومية هي الدافع المقرر للهجرة اليهودية الى فلسطين بل الحاجة الى اللجوء الى مكان أمين أوالى قطر يفور بالممكنات الاقتصادية هي المحرك، ولهذا تأرجحت الهجرة حيال الصعوبات الاقتصادية ، وفي حين كان المهاجرون منها حوالي الالفين زاد في عام 1927 عدد المهاجرين من فلسطين الذين دخلوا فلسطين في عام 1925 حوالي 34 الفا، والمهاجرون على الذين دخلوا اليها بنسبة الضعف [ 2713 دخلوا البلاد و 5071 خرجوا منها ] . ثالثا: وخلال هذه السنوات تحولت الهستدروت التى قامت في عام 1920 لتكون اداة العمال اليهود في النضال الطبقي الى اداة لتنفيذ سياسة العمل العبري أو احتلال العمل من العمال العرب الذين يعملون في المزارع والمنشآت اليهودية ومن هنا أصبحت اداة ممارسة المخطط الصهيوني الأساسية. وفسرولتر بريوس في كتابه [ حركة العمال في اسرائيل ] هذا الأمربقوله: ان الجماهير الواسعة من العمال غير المنظمين [ وأكثرهم من العرب ] الفوا هيئة منافسة ومارسوا ضغوطا على شروط العمل التي فاز بها العمال المنظمون مما جعل [ الاعتراف القانوني ] بمبدأ الاحتلال محتوما وضروريا ( ص 90 ) وكان س. ليفنبرغ في كتابه [ اليهود وفلسطين ] أكثرصراحة فكتب أن على العمال اليهود أن يدافعوا عن أنفسهم ضد استبدالهم بعامل عربي رخيص وغير منظم . ويعتقد زعماء العمال اليهود أن على العمال العرب في الوقت الحاضر أن يستخدموا لا في الاقتصاد اليهودي ، بل في القطاع العربي والحكومي ( ص 66 ) . وأكمل أ. س والدشتين الصورة في كتابه [ فلسطين العصرية ] فكتب يفسر احتلال العمل باعتباره عملية المحافظة على النفس: فاليهود لا يزالون أقلية في فلسطين . ومستقبلنا أن نصبح أكثرية فيها... وحتى يحقق ذلك الهدف لا نستطيع أن نسمح للعامل العربي أن يهيمن في الزراعة والصناعة على حساب العامل اليهودي وبذلك نهدد مستقبلنا بذاته في فلسطين ( ص 140 ) . وبدون الاستشهاد بعدد آخرمن الكتاب نستطيع القول ان هدف الاحتلال العمل كان خلق ممكنات اوسع لاستيعاب المهاجرين الجدد وتعميق الانعزالية اليهودية عن الشعب العربي في البلاد. ويكتب ليفنبرغ ان العمال اليهود كانوا ينفذون سياسة قومية متكاملة لم يجدوا فيها ادنى تناقض مع البرجوازية اليهودية الصهيونية إلا بقدر استخدامها العمال العرب الأرخص! والأمر المقرر في نهاية المطاف ان قادة العمال الصهيونيين وضعوا اسس الفرقة بين العمال العرب واليهود وعمقوها مع الايام ، وكانت مزاعمهم حول التعاون العمالي في المؤتمرات الدولية [ النقابية والسياسية العمالية ] مجرد ذر رماد في العيون . رابعا: كذلك كان الاستيطان الزراعي الصهيوني انعزاليا عن الفلاحين العرب وعلى حسابهم في حالات كثيرة. ودلت احصاءات الحكومة على ان عدد المستوطنات الصهيونية بلغ في عام 1922 ، 71 مستوطنة كما بلغت مساحة الملكيات اليهودية 59,000 دونم . ونما عدد المستوطنات فأصبح في عام 1927، 96 مستوطنة واتسعت مساحة الملكيات فأصبحت في السنة ذاتها 903,000 دونم . [ تقريرحكومة فلسطين ص 373 ] . ومع هذا فاتساع الملكيات الصهيونية تم بشراء أراضي أسياد الأرض وفي حالات عينية أسياد أرض غائبين وبتشريد المزارعين العرب الذين كانوا يقتاتون من كدحهم فيها .

     ويعترف وايزمن في كتابه [ التجربة والخطأ ] بأن المنظمات الصهيونية اقتنت 80 ألف دونم من سهل مرج بن عامر من عائلة أسياد الأرض الغائبين في لبنان عائلة سرسق وقد كانت عليها بضعة قرى عربية ، ولكنه يزعم ان هذه القرى العربية كانت " نصف مهجورة "! بسبب الملاريا ( ص 253 ) .

وبتأييد جهاز الادارة البريطانية حولت الصهيونية هذه القرى " نصف المهجورة " الى قرى مهجورة تماما ومسحتها عن الوجود ، أما اهلها فكانوا المشردين الأوائل من الشعب العربي الفلسطيني وإن لم يتركوا البلاد آنذاك. لقد زعم الصهيونيون اليساريون أنهم كانوا يقيمون استيطانآ زراعيآ اشتراكيآ في فلسطين ولهذا كانوا يقيمون مجتمعآ أرقى ! فما هي حقيقة اشتراكية الاستيطان الزراعي؟ في دراسته القوى الاجتماعية في فلسطين تعرض ابراهام ريفوسكي الى هذه القضية وكتب: " مع أن المؤتمرات الصهيونية الأولى سيطرت عليها الطبقات الوسطى اليهودية والمثقفون فقد صادقت على مبدأ تأميم الأرض باعتبارها أهم أساس للدولة اليهودية في المستقبل.. وبمصادقتها على مبدأ تأميم الأرض وبموافقتها على التجربة الاجتماعية الجريئة في التعاون الزراعي لم تتأثر المؤتمرات الصهيونية بالنظريات الاشتراكية . بل بالضرورة القومية". ومضى الى القول ان هذا الشكل كان ضروريا لأن الملكية الفردية في الارض اصبحت عقبة أمام اتساع الهجرة . ولأن استخدام الأيدي العاملة العربية الرخيصة في المزارع اليهودية كان يهدد المشروع الصهيوني بأسره باعتباره مشروعا قوميا انعزاليا متعصبا- أ. ت- ص 5-7. ثم هناك الحاجة الى المثالية فالدعوة الصهيونية واجهت الدعوة الشيوعية الثورية ، وخاصة في روسيه القيصرية، وأرادت التغلب عليها من أجل جذب العمال اليهود الذين انخرطوا فيها، وهذا كان لا بد للصهيونية من ان تخضع توق العمال اليهود الى المجتمع الإشتراكي لأغراضها ووجدت ان الدعوة الى التعاون الزراعي تؤدي هذا الدور، فيتحقق الاستيطان اليهودي رغم المقاومة العربية ويمد المستوطين بالمثالية ، ولا يضر المشروع الصهيوني الرأسمالي في قاعدته وأيديولوجيته القومية المغالية في الانعزالية الرجعية.

   هذا يفسر لماذا " عطف " وايزمن ممثل البرجوازية في الصهيونية وقائدها لأكثر من ثلث قرن على التعاون الزراعي.
 ويكتب ريتشارد كروسمان في [ أمة بعثت ] ان وايزمن لم يكن يأبه بتنديد المتمولين اليهود بالكيبوتسات اعتقادا منه أنها حل موقت . (ص 35 ) .

وهذا ما لاحظه موريس أيدلمان في كتابه [ بن غوريون سيرة حياة سياسية ] حين كتب: ان بن غوريون بعد قيام الدولة أراد ان يجذب الى البلاد رؤوس أموال غربيه ، وهذا خلق تعقيدات للحركة العمالية التي قاومت الرأسمال المالي وأرادت اقامة نظام مساواة تعاوني... وأضاف: ولكن حاجات التطوير " اضطرت " بن غوريون الى أن يمنح المستثمرين فرصا لتوظيف اموالهم وهكذا انتهى الحلم الريفي " [ حلم المساواة التعاونية ] ( ص 165 ) .

   خامسا: وينتسب الى هذه الفترة التى كما قلنا حددت مسيرة التطور تأسيس قوة الصهيونية العسكرية الضاربة التى عرفت هجاناه [ الدفاع ] .

اما موريس بيرلموتر في كتابه الحديث [ العسكرية والسياسة في اسرائيل ] فيعود الى الطوائف اليهودية المشتتة ليرسم تطور القوة العسكرية الصهيونية التى اقيمت في فلسطين (ص 4 ) .. كذلك يعتقد يغئال آلون احد القادة العسكريين في القوة العسكرية الصهيونية في كتابه [بناء الجيش الاسرائيلي ] ان البداية كانت في عام 1890. ولكن بن غوريون الذي يمكن الاعتماد عليه يضع البداية في تعاونية " شجرة " في العقد الاول من القرن العشرين، ويصف بإسهاب كيف نجح في إقناع المسؤولين في التخلص من الحارس الشركسي واختيارحارس يهودي . ومع هذا فالاتفاق كامل على ان قوة " الدفاع " الهجاناه تأسست [ أو نمت من حركة الحراس في 1920 ] وكانت في البداية تحت اشراف الهستدروت. ويقول بن غوريون في محادثاته مع موشي بيرلمان في كتاب [ بن غوريون ينظر الى وراء ] ان اسم المنظمة في البداية كان " فرق الدفاع والعمل " [ جدود هجاناه فهعبودا ] . وكانت الاشارة اليها في البداية فرق العمل- بحذف الدفاع... ولكن باتساع فرق الدفاع وازدياد قوتها اصبحت تعرف بالهجاناه ولصق بها الاسم. ويضيف ان هذه القوة الدفاعية الضاربة انتقلت من اشراف الهستدروت الى اشراف المجلس القومي اليهودي في عام 1930(ص 55 - 56 ) . وفسر بن غوريون في هذا الكتاب الاسباب التي دعت إلى اقامة الهاجاناه فقال: للدفاع عن المستوطنات... وأضاف ولم يكن من الممكن الاعتماد على الانتداب للدفاع عن هذه المستوطنات التي انتشرت في البلاد... إذ أن ذلك كان يعني أن يصبح المقرر في عددها ومواقعها . ( ص 57- 58 ) وهكذا فقوة الدفاع الضاربة لم تكن قوة دفاع بالمعنى الحقيقي بل قوة هجوم ترافق الاستيطان الصهيوني الذى يجري حسب خطة مرسومة تأخذ بعين الاعتبار طاقة الصهيونية المالية والبشرية. ويتضح من هذه الملامح ان الاصطدام مع الشعب العربي لم يكن محتوما فحسب ، بل ان الصهيونية خططت له منذ البداية ، امتدادا من جلب المهاجرين الى اقامة قوة ضاربة تزرع قلاعا زراعية لا مجرد مستوطنات يعيش أفرادها على الزراعة . سادسا: ومما جعل الهجوم يشمل جميع الجبهات قيام الصهيونيين بالتصنيع، لقد كان في بدايته في هذه الفترة ، الا انه كان يوحي بالمستقبل خصوصا بعد ما منحت سلطة الانتداب امتياز الكهرباء لشركة تأسست في لندن برأسمال مشترك وعرفت بشركة روتنبرج .

هوامش (1) أخذنا نصوص الانتداب مترجمة إلى العربية من كتاب وديع البستاني الانتداب الفلسطيني باطل ومحال بعد أن دققنا في صحتها .





الفصل التاسع الحركة القومية العربية

    اعتبرت الحركة القومية العربية في فلسطين المؤتمر العربي السوري العام الذي عقد في دمشق في 8 حزيران ( يونيو ) 1919- واشترك فيها رجالات العرب من فلسطين أو سورية الجنوبية كما كانت تعرف انذاك- مؤتمرها الأول.

وحين عقد الوطنيون العرب من فلسطين مؤتمرهم الثاني في دمشق في 27 شباط (فبراير) 1920، صدروا عن الاقتناع بوحدتهم مع الحركة القومية العربية في سورية الطبيعية وترابط مصيرهم مع مصيرها. ولهذا تلخصت قراراتهم في:  ان اهالي سورية الشمالية والساحلية يعتبرون سورية الجنوبية " فلسطين " قطعة متممة

 لسورية.

 وهم يرفضون الهجرة الصهيونية لخطرها على كيانهم السيـاسي ويرفضـون جعـل

 فلسطين وطنا قوميا لليهود.

 ويعدون حركتهم الوطنية القائمة في البلاد للمطالبة باستقلال سورية بحدودها الطبيعية

 وكما أنها موجهة لاخراج المحتلين من الساحل [ لبنان ] ، كذلك هي موجهة لاخراج 
 المحتلين من فلسطين . [ فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية عيسى السفري 
 ص 34 ] . 

وهنا يظهرما لاحظناه من قبل بشأن تأثير تقسيم الامبريالية الولايات العربية العثمانية، في اعقاب الحرب العالمية الأولى ، إلى اجزاء على الحركة القومية العربية. كانت الوقائع حتى في هذا الوقت المبكرفرضت نفسها على هذه الحركة، فاجتمع رجالات فلسطين على حده وعالجوا قضية ولايتهم العينية ، وانطلاقهم من وجهة نظرعربية سورية عامة وشعورهم بالخطرعلى إقليم فلسطين عمق التناقض الواضح بين الاقليمية والعروبة، وكان بمثابة محطة انتقال فصلت بين الوطنيين ودفعتهم الى إقامة حركات قومية مستقلة في ولايتهم، التى تحولت الى اقطار تسيطر عليها الدول الامبريالية . واذا كان من الممكن اعتبار المؤتمر الثاني محطة انتقال فمن الممكن اعتبار المؤتمر الفلسطينى الثالث الذي عقد في حيفا في 14 كانون الأول ( ديسمبر ) 1920 بداية التنظيم القومي الفلسطيني . لقد عقد المؤتمر بعد نكبة ميسلون وانهيار الحكومة العربية في دمشق تحت ضغط الاحتلال الفرنسي، ولهذا كان عليه ان يأخذ بعين الاعتبار الواقع الناشيء بحذافيره ويكيف النضال القومي حسب الأوضاع الجديدة. وهكذا قرر المؤتمر العربي الفلسطيني الثالث رفض وعد بلفوروالمطالبة بمنع الهجرة اليهودية وبإنشاء حكومة قومية في فلسطين. وفي الوقت ذاته انتخب المؤتمر لجنة تنفيذية برئاسة موسى كاظم الحسينى ، كانت بمثابة قيادة الحركة القومية في تلك الفترة. ثم عقد المؤتمر العربي الفلسطيني الرابع في القدس في 25 حزيران (يونيو ) 1921 بعد المجابهة الأولى التى وصفناها وقرر ارسال الوفد العربي الفلسطيني الأول الى لندن وتألف من موسى كاظم الحسينى ، وتوفيق حماد ، وامين التميمي ، ومعين الماضي، وابراهيم شماس، وشبلي الجمل ، وعقد المؤتمر العربي الفلسطيني الخامس في 22 آب ( اغسطس ) 1922 للاستماع الى بيان الوفد ومقترحات الحكومة البريطانية حول المجلس التشريعي المقترح. 1- مقاطعة الاشتراك في انتخابات المجلس التشريعي . 2 - ورفض القرض الذي تنوي الحكومة عقده لمقاصد القيام بمنشآت وتطوير البلاد . 3- ومقاطعة اليهود مقاطعة تامة. 4- وضع ضريبة على جميع أبناء العرب في فلسطين للقيام بالدفاع عن قضية البلاد. 5- ارسال بعثة الى جزيرة العرب. 6- تأسيس مكتب دعاية في لندن . ووضع المؤتمرميثاقآ بقي دستور الحركة القومية العربية الفلسطينية في مسيرتها، وجاء فيه: " نحن ممثلي فلسطين أعضاء المؤتمرالعربي الخامس نقسم أمام الله والأمة والتاريخ بأن نواصل المساعي المشروعة لتحقيق الاستقلال والاتحاد العربي ورفض الوطن اليهودي والهجرة الصهيونية . [ المصدرذاته ص 95 ] .

    ويظهر التطور واضحا في الحركة القومية العربية الفلسطينية.

فمن الناحية الواحدة اصبحت تصدرعن تربتها الاقليمية وتعالج قضاياها العينية مثل المجلس التشريعي والقرض الحكومي . ومن الناحية الثانية بدأت تواجه مشكلة الصهيونية وتحاول مجابهتها لا بشعارعام مثل رفض وعد بلفور بل بالمقاطعة ومقاومة الهجرة . ثم جسمت، من الناحية الثالثة ، تماثلها مع فكرة الوحدة العربية بوضعها الاتحاد العربي بعد الاستقلال في ميثاقها وبارسالها وفدا الى الجزيرة العربية لاقامة العلاقة مع المسؤولين فيها وتوطيدها. لقد تألفت الحركة القومية العربية في هذه الفترة الأولى من قيادة في القمة ثابتة الى حد ما وتنبثق عن مؤتمرات دورية بلغ عددها سبعة في سنوات العشرين ، وجماهير فلاحية وشعبية تتجاوب مع هذه القيادة تجاوبا معينا ولكن لا ترتبط بها برابطة تنظيمية. وإزاء هذا تظهر بالمقارنة الفروق الجوهرية بين الحركة القومية العربية في فلسطين الفضفاضة تنظيميا وايديولوجيا والحركة الصهيونية بتنظيماتها المتطورة واجهزة الاستيطان القوية التي اقامتها وايديولوجيتها القومية المتعصبة العدوانية. وقد تضخمت هذه الفروق لتزيد من ترجيح كفة المنظمة الصهيونية على الحركة القومية العربية في فلسطين في ظروف تأييد الامبريالية البريطانية وقمعها بعنف تارة وبالتآمر تارة أخرى، نشاط الحركة القومية العربية. وزاد من هذا التفاوت لأن القيادة القومية العربية تألفت جوهريآ من أسياد الارض الكبار أو أبناء العائلات الاقطاعية أمثال عائلات الحسيني، والنشاشيبي، وعبد الهادي، في حين كانت القيادة الصهيونية برجوازية عصرية تستند الى امبريالية قوية. ومع هذا جمعت القوى الوطنية العاملة في الميدان السياسي بين أسياد الأرض فكريا (الرجعيين) والمتنورين من ناحية، ومن الناحية الاخرى التجار واصحاب المهن الحرة أمثال الاطباء والمهندسين والمحامين الذين كانوا يجتمعون في هذه المؤتمرات الدورية.

  ولكن الأوضاع الموضوعية كما تجلت في سياسة الصهيونية: احتلال الارض، واحتلال العمل والاقتصاد على البضائع العربية، دفعت هذه القيادة الى اتخاذ قرارات مضادة دفاعا عن التجار والماليين العرب (قرار مقاطعة اليهود- وعن الفلاحين والعمال العرب) (1)

وهكذا أخذ المؤتمر السابع الذي عقد في القدس في 20 حزيران ( يونيو ) سنة 1928 الظروف الاقتصادية- الاجتماعية [ الطبقية ] الناشئة عن سياسة الامبريالية البريطانية والاستيطان الصهيوني بعين الاعتبار، فقرر المطالبة بحكومة قومية برلمانية ، والاحتجاج على كثرة الموظفين الانجليز في الحكومة الفلسطينية الانتدابية كما قرر الاحتجاج على اعطاء امتياز البحر الميت لشركة اجنبية وعلى تفضيل العمال اليهود على العمال العرب في الاشغال الحكومية والمطالبة بوقف سن القوانين ريثما تؤلف الحكومة البرلمانية. ولا بد من رؤية التناقض هنا بين هذه المطالب الاقتصادية- الاجتماعية التى تعرب عن مصالح طبقات وفئات معينة. الاحتجاج على الامتيازات صدرعن الماليين، وعلى الموظفين الانجليز صدرعن الفئات المتعلمة، وعلى سياسة التشغيل عن العمال المهاجرين من الريف والمتذمرين من البطالة..، وقيادة الحركة القومية العربية في فلسطين، فقد ظلت هذه القيادة جوهريا من أسياد الارض رجال العائلات الاقطاعية- الحسينى والنشاشيبي والهادي والتميمي والماضي- ولم تعكس القوى الاجتماعية المتضررة من سياسة الامبريالية البريطانية والصهيونية. وهذا يعود الى ضعف هذه الطبقات والفئات الاجتماعية على الصعيد السياسي ولا يغير من هذا الواقع ان العمال العرب كانوا قد أقاموا منظمتهم النقابية الاولى في عام 1925... فجمعية العمال العربية الفلسطينية كانت ضيقة الاطار واقتصر نشاطها بين العمال في حيفا في البداية.

   ولعبت سلطات الانتداب الامبريالية دورا هاما في توطيد مواقع أسياد الارض الكبار [رجال العائلات الاقطاعية ] في قيادة الحركة القومية العربية .
  فهذه السلطات هي التي عينت الحاج امين الحسيني مفتيا للقدس على الرغم من انه لم يأت في المرتبة الاولى عند التصويت بل لقد عينه المندوب السامي هربرت صموئيل في هذا المنصب بعد أن عفا عنه وألغى حكما غيابيا بالسجن.. سنة صدر بحقه باعتباره احد قادة الحوادث الدامية عام 1920 بين العرب من ناحية واليهود وسلطات الانتداب من ناحية ثانية.
   وهو الذي عينه ايضا رئيسا للمجلس الاسلامي عام 1922 وبذلك وضعه في موقع قيادة الحركة القومية العربية.
  ويعتبر محمد عزة دروزة في كتابه حول الحركة العربية الحديثة (2) ، السلطات البريطانية مهندس الصراع بين الكتلتين العائليتين السياسيتين اللتين نشأتا بعد تعيين راغب النشاشيبي رئيسا لبلدية القدس .

واتخذ هذا الصراع في هذا الوقت المبكر شكل صراع ، بين المجلسيين عائلة الحسيني الاقطاعية وأنصارها والمعارضين الذين تكتلوا حول عائلة النشاشيبي وأنصارها مما اضر بالحركة القومية العربية في فلسطين ضررا بالغا بتجزئة قواها وإرباك الرؤيا بين الجماهير. ومن السذاجة رؤية هذا الصراع اختلافا اقطاعيا على مواقع النفوذ فحسب ، لقد كان الخلاف والتنافس على هذه المواقع عاملا فعلا ولكنه نجم عن خلاف في التوجه نحوسلطات الانتداب والصهيونية ، وكان بين عناصرأقل مهادنة [ الحسينيين ] واكثر مهادنة [ النشاشيبيين] ثم ان الموقعين اللذين انطلق منهما الصراع قررا التقاطب الاجتماعي الذي تم فيما بعد حول كل منهما. فالمجلس الاسلامي الاعلى الذي اشرف على الاوقاف والمساجد والمعاهد وبعض المدارس اتصل مع الفلاحين على نطاق واسع مما عكس ذلك على توجهه.

   في حين كانت رئاسة بلدية القدس- مركز التفاف لاعضاء بلديات اخرى- متصلة بأهالي المدن ووثيقة الاتصال بالتجار وأصحاب المهن الحرة.

واذا تذكرنا ان الفلاحين في فلسطين مثلهم في ذلك مثل الفلاحين في كافة المستعمرات، هم قوى الثورة الجوهرية ، وان التجار في المستعمرات يميلون الى مهادنة الامبريالية امكننا فهم الظروف التي جعلت المجلسيين ، لاتصالهم بالفلاحين، يظهرون اكثر عداء للامبريالية البريطانية. ودفعت المعارضين الى مهادنة الامبريالية البريطانية حتى حين كانت الموجة الثورية توحدهم مع كافة القوى وراء المطالب القومية الحقة. ولم يؤد الصراع كما قلنا الى تجزئة القوى القومية وإرباك رؤيا الجماهير واشاعة العصر في العائلة التي هي من تقاليد الاقطاعية فحسب ، بل أدى الى إقحام الدين في المعركة. فالمجلسيون ! كما يقول محمد عزة دروزة ، [ في المصدر ذاته ص 48 ] اقاموا حكومة اسلامية واستخدموا الدين لاضعاف مواقع اعدائهم ، وهذا ادخل الدين الاسلامي عنصرا في الحركة القومية العربية امتاز بالسلبية في اكثر الاحيان خصوصا ازاء المد الثوري في الحركة القومية العربية العامة. ومما قوى هذا الاتجاه الديني اعتماد الصهيونية على الدين اليهودي لبناء ايديولوجيتها وممارستها اليومية حتى ان الاصطدام الخطير العربي من ناحية ، واليهودي - البريطاني من ناحية ثانية ، الذي وقع في عام 1929 اندلع بشرارة تطايرت من خلاف بشأن حائط المبكى الذي كان يعتبره المسلمون جزءا من باحة مسجد الصخرة ويعتبره اليهود الاثر الباقي من هيكل الملك سليمان وتبعا لذلك يقدسونه. وكان بديهيا، وقد تسلمت قيادة المجلس الاسلامي الاعلى، بأيديولوجيتها الاقطاعية- الدينية الضيقة، مركز القيادة في الحركة القومية العربية ان يسهل على الامبريالية البريطانية تشديد التناحر اليهودي العربي لحرف النضال القومي المعادي للامبريالية عن طريقه الصحيح. وهكذا ظهرت الحركة القومية العربية وكأنها ضد اليهود لا الامبريالية البريطانية ، على الرغم من ان كل تصادم كان يؤدي الى تصادم مع قوات الانتداب البريطاني.

     وفي هذا الصدد لاحظ محمد عزة دروزة الظاهرة الغريبة في فلسطين فكتب: في

كل البلاد تقاس الوطنية بموقف القومي من الامبريالية ، أما في فلسطين فأصبح يستساغ ان يكون لمن يعقد اواصر الصداقة مع الانجليز ويخدم اغراضهم ويروج مطالبهم ان يكون له شأن في الحركة القومية العربية إذا كان مناوئاً لليهود والحركة الصهيونية.... وأضاف ان ذلك يعود الى نجاح الانجليز في التظاهر نفاقا بالحدب على المطالب القومية العربية مع ان هدفهم كان " إستغلال كل من اليهود والعرب وتخويفهم كل منهم الآخر " [ المصدر ذاته ص 102] .

     لم تبق المعركة القومية العربية في فلسطين في مكان واحد فقد تطورت بالتغيرات التي طرأت على البلاد وعلى المجتمع العربي .

ولعل من المفيد ان نلاحظ هنا ان البرجوازية العربية في فلسطين - ونقصد هنا البرجوازية الصناعية- التى كانت جنينية عند بداية الانتداب تطورت ببطء هائل ولذلك لم تصل الى مركز القيادة في الحركة القومية العربية أوعلى الاصح لم تصل الى مركز الحسم في القيادة القومية . وهذا يعود اولا الى السبب التقليدي الساري المفعول في كافة المستعمرات، الى اغراق الدولة الامبريالية الاسواق بالبضائع الجاهزة الرخيصة التي لا تستطيع الصناعة القومية منافستها، وثانيا الى ممكنات الصهيونية الاوسع لاقامة صناعات محلية حيث أمكن ذلك بالتعاون مع الاحتكارات الاجنبية البريطانية مثلا مما زاد من صعوبات البرجوازية العربية ازاء المنافسة المزدوجة. وفي الوقت ذاته لم يغير نشاط الصهيونية في شراء الاراضي العربية من التركيب الاجتماعي في الريف العربي الفلسطيني، فأغلب الاراضي الشاسعة التي اشترتها الصهيونية باعها الاقطاعيون الغائبون. وأما الاراضي التى باعها الاقطاعيون القائمون في البلاد فلم تكن من الاتساع بحيث تفيد البناء الاجتماعي. ومع هذا فقد تشردت جمهرة من الفلاحين العرب، الذين كانوا يزرعون هذه الاراضي ، وبذلك شددوا أزمة الريف وعقدوا مشكلة البطالة بانضمامهم الى سوق العمل في المدن. وفي هذا الميدان حصلت تغييرات جذرية، فالطبقة العاملة العربية التي كانت ضئيلة العدد ضعيفة التنظيم في هذه الفترة، ازدادت مع الايام عددا باتساع النشاط الاقتصادي وفي ايام الحرب العالمية الثانية نتيجة المشاغل الحربية، ووطدت تنظيمها وأصبحت تمارس نفوذها على الحركة القومية العربية.

   ثم كان هناك اشتراك المرأة العربية في الحركة القومية، لقد قذف بها زخم الحركة الثورية المعادية للامبريالية والصهيونية الى ميدان المعركة ، وسجل المؤرخون اقتحامها الميدان في 1929، حين عقدت النساء أول مؤتمر لهن في 26 تشرين الاول ( اكتوبر ) في القدس وأيدن مقررات المؤتمرات العربية الفلسطينية ودعون الى تنشيط الصناعة والتجارة الوطنية وتعزيز الروابط الاقتصادية مع سورية وغيرها من الأقطار العربية.

سياسة الحركة القومية ومواقفها

    في هذه الفترة التى امتدت حتى عام 1929 وهي فترة تميزعالميا بتراجع الموجة الثورية التى اجتاحت العالم عامة بعد ثورة اكتوبر الاشتراكية الكبرى- واصلت الحركة القومية العربية نشاطها السياسي على شكل مؤتمرات ووفود تحج الى لندن وتحاول " اقناع " المسؤولين فيها بعدالة القضية العربية.

وقد ذكرنا عن نشاط الوفد الأول في بريطانيه واخفاقه ، ونستطيع أن نضيف أن الوفدين الثاني والثالث في 1922 و 1923 لم يحققا نجاحات ما وتركا آثارا دعائية طفيفة جدا في المحافل البريطانية أو الغربية، فالوفود الفلسطينية هذه والتي تلتها هدفت في الدرجة الاولى الى الاتصال بممثلي الامبريالية البريطانية في السلطة او مع محافل حاكمة تظاهرت بتأييد العرب ضد الصهيونية ولم تقم بأي اتصال- وما كان تركيبها الطبقي يسمح لها بأي اتصال- مع القوى الثورية المعادية للامبريالية في بريطانيه. ولكن جدير بالملاحظة ان الوفد العربي الفلسطيني الاول اتصل اثناء وجوده في أوروبه بوفد الاتحاد السوري وعقدا سوية في جنيف في 20 اب ( اغسطس ) 1922 مؤتمراً فلسطينيا- سوريا صاغ مطالب الحركتين وقدمها الى رئيس جامعة الأمم وتتلخص في:  الاعتراف باستقلال سورية ولبنان وفلسطين وبسلطانها القومي.  الاعتراف بحق هذه البلاد في أن تتحد معا في حكومة مدنية مسؤولة أمام مجلس

  نيابي ينتخبه الشعب وأن تتحد مع سائر الاقطار المستقلة في شكل ولايات اتحادية.

 الغاء الانتداب حالا.  جلاء الجنود الفرنسيين والانجليزعن سورية ولبنان وفلسطين.

       الغاء تصريح بلفور.

وتكمن اهمية هذه الظاهرة من التضامن العربي في أن تحرك الجماهير في الفترة الممتدة بين 1922 و 1929 ارتبط بهذا التفاعل العربي في المنطقة التى عرفت قبل تجزئتها الى سورية ولبنان وفلسطين وشرق الاردن بسورية. وهكذا اشتركت جماهير فلسطين في عام 1925 باضرابين عامين رافقتهما المظاهرات الشعبية تأييدا لكفاح الشعب العربي في سورية ضد الانتداب الفرنسي. وكان الاضراب الأول تضامنا مع الثورة التي كان يخوضها الشعب العربي في سورية في عام 1925، وكان الاضراب الثاني احتجاجا على زيارة المندوب السامي الفرنسي في سورية ولبنان م. دي جوفنيل للقدس زيارة رسمية ، وتضامنا ايضا مع تلك الثورة السورية . [ تقريرلجنة فلسطين الملكية 1937 الوثيقة 5479 ص 59 ] . وفي الوقت ذاته استقبلت المظاهرات الصاخبة اللورد بلفور صاحب الوعد الصهيوني حين وصل الى دمشق قادما من القدس حيث وضع الحجر الاساس في بناء الجامعة العبرية فيها . [ المصدر ذاته ] . وظهرت سياسة الحركة القومية العربية في فلسطين ازاء الانتداب البريطاني والوضع الدستوري من موقفها من الاقتراح البريطاني الداعي الى اقامة مجلس تشريعي. لقد اقترح ونستون تشرشل وزير المستعمرات المشروع على الوفد العربي الفلسطيني الأول عام 1922 ولكن الوفد ، وأيدته المؤتمرات العربية الفلسطينية التى عقدت بعد ذلك، رفض الاقتراح. وكان الاقتراح قد نص على تأليف مجلس تشريعي من 11 عضوا من موظفي الحكومة و 12 عضوا منتخبا منهم 10 عرب ويهوديان برئاسة المندوب السامي الذي يتمتع بصوتين. اما صلاحيات المجلس فكانت صفرا تقريبا. اذ لم يكن من حقه النظرفي أية نقطة تخالف سياسة حكومة الانتداب الأساسية أونص الانتداب الذي قام ليمهد السبيل لانشاء وطن يهودي في فلسطين كذلك كان يتوقف تنفيذ قرارات المجلس على ادارة المندوب السامي الذي عهد اليه بتطبيق تصريح بلفور. وأوضح الاقتراح بأن المجلس التشريعي لا يتمتع بأية سلطة تنفيذية. وأما المظاهرة بالتنازل أمام المطالب العربية فكانت باقتراح تشكيل لجنة من اعضاء المجلس المنتخبين لكي تنظرمع الحكومة في أمرمراقبة الهجرة اليهودية. ولكن تلاشى هذا التنازل حين اشترطت الحكومة أن تكون اللجنة مقيدة بأنظمة لا تتخطاها وأن يعود تنفيذ قراراتها الى رأي المندوب السامي . وحين أصرت حكومة الانتداب على المضي في المشروع أصدرت اللجنة التنفيذية التى انبثقت عن المؤتمر الخامس بيانأ في 2 ايلول ( سبتمبر ) جاء فيه : أجمعت الأمة العربية الفلسطينية على رفض الانتداب ومشروع انشاء وطن قومي لليهود في فلسطين وذلك بعد ان تجلت لها نتائج هذه السياسة الرهيبة على حياتها القومية والاقتصادية. وان من مقتضيات رفض الاصل ان نرفض الفرع لذلك الاصل . ولهذا قرر المؤتمر العربي الفلسطيني الخامس المنعقد في 22 آب ( اغسطس ) سنة 1922 رفض الدستور الجديد لفلسطين بمقاطعة الانتخابات المقبلة للمجلس التشريعي، لأنه وجد بعد البحث الدقيق أن الاشتراك في تلك الانتخابات انما هو قبول محسوس بالانتداب وبتصريح بلفور . [كتاب عيسى السفري فلسطين بين الانتداب والصهيونية ص 86 ] . ولبى اصحاب حق الاقتراع العرب دعوة اللجنة التنفيذية فقاطعوا الانتخابات التى جرت في مطلع عام 1923 مما اضطر حكومة الانتداب الى تجميد فكرة المجلس التشريعي وتعديل الدستور بحيث يتمكن المندوب السامي من إنشاء مجلس استشارى من العرب واليهود. وقام المندوب السامي بذلك وعين مجلسا استثاريا اختار له عشرة من العرب واثنين من اليهود ولكن العرب بضغط الحركة القومية العربية انسحبوا اثناء الجلسة الأولى التى عقدت في 13 حزيران ( يونيو ) 1923 [ المصدرذاته ] . وقد صدرت الحركة القومية في موقفها عن اعتبارات مبدئية صحيحة تقوم على حق الشعب في الاستقلال والحكم القومي. وهذا ما أكدته اللجنة التنفيذية في مذكرة قدمتها الى وزير المستعمرات البريطاني ج . ايمري في نيسان ( ابريل ) عام 1925 وجاء فيها: ان العرب وهم في فلسطين يطلبون حقهم في الحكم التشريعي لم يريدوا قط ان يغمطوا حقوق اليهود الذين يساكنونهم ولكنهم يريدون أن يتمتعوا بحقهم باعتبار انهم أكثرية ساحقة في العدد والمصلحة وباعتبار أنهم وعدوا بوعود صريحة وباعتبار ان عهد جامعة الأمم يخولهم ذلك مع حفظ حق اليهود الوطنيين في الاشتراك في الادارة والتشريع بحسب نسبتهم . [المصدر ذاته 115 ] . وقد كان الموقف فيما بعد موضع نقاش في محافل الحركة القومية العربية ، فقد حاولت بعض العناصر التشكيك في صدق هذه السياسة السلبية على اعتبار ان السياسة المثلى هي خذ وطالب ، ولكن الواقع اكد ان طبيعة المعركة لم تكن تسمح بمثل هذه السياسة ، ثم لم يكن هناك ما يأخذه الشعب العربي، فالمناورة كانت مفضوحة والاقتراح كان تضليلا لا تنازلا. صحيح ان الفترة كانت تراجعا ثوريا في المستعمرات وفي العالم العربي. صحيح كذلك ان الحركة القومية العربية في مصرقبلت بتصريح فبرايرفي عام 1923 واعتبرته تراجعا امبرياليا لاعلانه انهاء الحماية البريطانية واعترافه باستقلال مصر.

   ولكن المعركة في فلسطين كانت من أجل فرض التراجع على الامبريالية البريطانية وصد تقدم الصهيونية، والاشتراك في مجلس تشريعي لا يختلف عن الدمية بشىء كان سيوطد مواقع الامبريالية وسيغطي على هذا التقدم اويعطيه شيئا من الشرعية أو الموافقة العربية.

وفي هذه الفترة حاولت السلطات البريطانية اشتراك الحركة القومية العربية في الانتداب البر يطاني عن طريق إقامة وكالة عربية تكون على غرار الوكالة اليهودية التي ارتأى قيامها نظام انتداب فلسطين في المادة 4، والتي قامت فعلا في عام 1929.

وقد أعلن الاقتر اح وزير المستعمرات الدوق ديفونشاير في تشرين الأول ( اكتوبر ) 1923 وشرحه المندوب السامي في اجتماع ضم 40 " وجيها عربيا ". 

ورفض العرب الاقتراح. فالمندوب السامي هو الذي كان عليه أن يعين الوكالة العربية بالتشاور مع الزعماء العرب المحليين ، الأمر الذي اعتبره القوميون انه لا يتوافق مع أماني العرب القومية. لقد زعمت المحافل البريطانية ان الاقتراح ، الذى كان سيجمع مندوبين عن الاقطار العربية المجاورة في تلك الوكالة العربية ، تجاوب مع المشاعر العربية العامة واعتراف بالقربى بين الشعوب العربية ، ولكنها تجاهلت ان وكالة يعينها المندوب السامي من المتعاونين مع الامبريالية البريطانية كان هدفها كما اعلن ذلك الدوق ديفونشاير، مثل هدف المجلس التشريعي والمجلس الاستشاري توثيق مشاركة العرب بحكومة فلسطين(3) ، التى اعلنت ان سياستها قائمة على تنفيذ المشروع الصهيوني. ومن نتائج هذه المواقف أن الامبريالية البريطانية اعترفت- وهذا يعنى ان انطباع الرأي العام أوبعضه كان هكذا- " ان اعتراض الحرب لم يكن حيال اسلوب عمل الانتداب ، بل ضد مجموع سياسة الانتداب ولم يكن اى تنازل يستطيع- مهما كان ليبراليا - ان يجعل العرب يتوافقون مع نظام يعترف بمدلولات وعد بلفور " . [ تقرير عن فلسطين اعدته الادارة البريطانية للجنة التحقيق الانجلو- اميركية بين كانون الاول ( ديسمبر ) 1945 وكانون الثاني ( يناير ) 1946 المجلد الاول ص 22 ] .

هوامش (1) في السنوات الأولى من الانتداب لم تبرز قضية الفلاحين العرب بحدتها ، ولذلك غابت المطالبة بالدفاع عن مصالحهم في هذه المؤتمرات ، ولكن هذه القضية أحتدمت بعد اجلاء الفلاحين عن اراضيهم فانعكست في الحركة القومية العربية كما سنرى . (2) الجزء الثالث ص 46 . (3) تقرير لجنة فلسطين الملكية وثيقة 5479 ص 57









الفصل العاشر حوادث 1929 الدامية يلاحظ اكثر الكتاب ان الفترة التى امتدت بين 1925 و 1928 امتازت بالهدوء في فلسطين. ويماثل هذا الوضع الأوضاع في الأقطار العربية المجاورة باستثناء سورية حيث اشتعلت الثورة المسلحة في عام 1925 واستطاعت ان تحقق انتصارات كبرى قبل ان يغرقها الامبرياليون الفرنسيون في بحرمن الدماء. ومن اسباب هذا الهدوء هبوط حدة الخوف العربي من الوطن القومي اليهودي بسبب الازمة التي انتابته ، ففي هذه الفترة بالذات كما كتب هاري ساخر اجتاحت اوروبه الشرقية ازمة اقتصادية وانعكست في نموالوطن القومي اليهودي فالهجرة الى البلاد تضاءلت والبطالة تضخمت وفي عام 1927 كانت الهجرة من البلاد ضعف الهجرة اليها . [ كتابه اسرائيل: اقامة دولة ص 10] . ومع هذا فالحركة القومية لم تتوقف عن النضال السياسي وعقدت مؤتمرها السابع في حزيران ( يونيو ) 1928 في القدس بحضور 250 مندوبا يمثلون جميع المناطق والاحزاب وقررت : المطالبة بحكومة برلمانية والاحتجاج على كثرة الموظفين الانجليز في الحكومة الفلسطينية والاحتجاج على تفضيل العمال اليهود على العمال العرب في الاشغال الحكومية والمطالبة بوقف سن القوانين ريثما تؤلف الحكومة البرلمانية.

بداية التغيير

وطرأ تغيير في منتصف عام 1928 حين وقفت حركة الانحدار في الهجرة اليهودية الى فلسطين وتجاوز عدد المهاجرين الى البلاد عدد المهاجرين منها وأصبح عدد اليهود ثلاثة اضعاف عددهم في نهاية الحرب العالمية الأولى أي 150 ألفا.

     ولم يكن التغيير في الكمية والنوعية مقتصرا على عدد السكان اليهود ، ففي هذه الفترة تضاعفت مساحة الملكيات اليهودية في الاراضي وارتفعت من 420 الف دونم في عام 1914-1918 الى حوالي المليون دونم في  [ ورد في تقريرحكومة فلسطين المقدم الى لجنة التحقيق الانجلو- اميركية في 28 كانون الاول ( ديسمبر )1945 ان ملكيات اليهود في 1927 بلغت 903 آلاف دونم ] . 

ثم ان القيادة الصهيونية في سبيل توطيد مواقعها في فلسطين تشددت في ممارسة سياستها القومية الانعزالية من ناحية والعدوانية من الناحية الاخرى: سياسة احتلال العمل واحتلال الارض. وكتب ولز بريوس كما ذكرنا في كتابه حركة العمال في فلسطين يصف نهج قيادة الهستدروت في هذه الفترة: " ومارس وجود جماهير واسعة من العمال غير المنظمين (وجلهم من العرب) الذين ألفوا هيئة منافسة ، ضغطا مستمرا على شروط العمل التى فاز بها العمال المنظمون مما جعل الاعتراف القانوني بأساس الاحتلال أمرا ضروريآ محتماً " . ( ص 90 ). وأضاف في فصله الفرعي العلاقات بين طاثفتي العمال اليهود والعرب، اضطرابات 1929 وأثرها على الحركة العمالية: " لقد وجد العامل اليهودي كيانه مهددا من منافسة العمل الرخيص. وبما أن الاكثرية الساحقة من طائفة العمال اليهود التزمت طبيعيا الفكرة القائلة ان اساس تحقيق الصهيونية خلق جمهور واسع من العمال اليهود في البلاد فقد تعهدوا تعهدا لا رجوع عنه بمبدأ العمل اليهودي في الاقتصاد اليهودي " (وهو اصطلاح آخرلاحتلال العمل) ( ص 92-93 ) . والتزام احتلال العمل أصبح مبدأ من مبادىء الكيبوتسات كما أقرها مجلس توحيدها الذي عقد في بيتح تكفا في 5 اب ( اغسطس ) 1927 وجاء فيه السعي لاحتلال الاعمال للعمال اليهود وتحسين أوضاعهم الاقتصادية اى احتلال العمل في المنشآت اليهودية والحكومية وتطويرفروع عمل جديدة ( المصدرذاته ص 104 ) . وأكد هذا الاتجاه بيرتس مرحاب في كتابه " تاريخ الحركة العمالية في فلسطين " . ففي تعريفه برنامج هبوعيل هتسعير (أو العامل الشاب- منظمة العمالي القيادية في هذه الفترة- أ.ت) كتب: في تحقيق الصهيونية ، يقوم بدورحاسم احتلال المواقع الاقتصادية والثقافية في أرض اسرائيل. ان الشرط الضروري للاحتلال الاقتصادي هو تركيز الممتلكات والعمل في أيدي يهود، وأضاف ان دورهبوعيل هتسعير في أرض - اسرائيل هو العمل على تحقيق الصهيونية عامة والاهتمام باحتلال العمل . ( ص 37 ) .

    وكان ابرزحدث في الحركة الصهيونية في عام 1929 قيام الوكالة اليهودية.
    لقد نصت الفقرة الرابعة من نظام الانتداب الذي اعتمدته حكومة الانتداب على أن الحكومة البريطانية في فلسطين ستعترف بالوكالة اليهودية هيئة عامة تقوم بدور النصح وتتعاون مع الادارة الفلسطينية في الميادين الاقتصادية والاجتماعية وغيرها مما يوثر على بناء الوطن القومي اليهودي ومصالح السكان اليهود في فلسطين.
  وفي المرحلة الأولى اعترفت الادارة الفلسطينية بالمنظمة الصهيونية وكالة يهودية.
    ولكن المؤتمر الصهيوني العالمي الثالث عشرعقد في كارلسباد بين 6 و 18 آب (اغسطس ) 1923 دعا لجنته التنفيذية الى العمل على اقامة موتمر يهودي عالمي يقوم مقام الوكالة اليهودية. وأيد هذه الدعوة المؤتمر الصهيوني العالمي التالي الذي عقد في فيينا في آب 1925 اعترافا منه- كما جاء في القرار برغبة اليهود في العالم في المساهمة في بناء الوطن القومي بروح تصريح (وعد) بلفور.

وكان أساس التعاون اليهودي العالمي أو هدف هذا التعاون: زيادة الهجرة الى فلسطين... واستخلاص الاراضي وجعلها ملكية الشعب اليهودي... والاستيطان الزراعي الكولونيالي القائم على العمل العبري... وبعث اللغة والثقافة اليهودية [ فكرة الدولة اليهودية بن هلبرن ص 179 ] . وكان القصد من وراء اقامة الوكالة اليهودية استنفار يهود العالم- وخاصة الاغنياء الذين لا يتماثلون مع ايديولوجية الصهيونية الجوهرية القائمة على جمع الشتات واستحالة العيش في المهجر واقامة الدولة اليهودية استنفارهم لمد يد المعونة لاقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين واستقرار اليهود فيها . واستفز تأليف الوكالة اليهودية على قاعدة عالمية اوسع مخاوف محافل مقررة في الشعب العربي الفلسطيني خصوصا ازاء ازدياد عدوانية القيادة الصهيونية التى استمدت مزيدا من الثقة من هذه الخطوة . وليس من قبيل الصدفة ان تعتبر المصادر البريطانية والصهيونية حوادث عام 1929 ردا على قيام الوكالة اليهودية . [ كتب هذا بالضبط حاييم وايزمن في كتابه التجربة والخطأ ص 331 ] . وقد جرت هذه التغييرات في ظروف عينية اسهمت الممارسة الصهيونية في خلقها، ومن أبرزها ازدياد عدد الفلاحين المعدمين الذين ألفوا في هذه الفترة حسب بيان الحكومة البريطانية في عام 1930- 29,4 بالمئة من الفلاحين أو 86,980 عائلة ريفية [ تقرير اللجنة الفلسطينية الملكية لعام 1937 ، ص 329 ] . والقول ان الصهيونية اسهمت في زيادة عدد الفلاحين المعدمين يعود الى ان امتلاك المنظمات الصهيونية الاراضي الزراعية ادى الى اجلاء المزارعين العرب منها، فمعروف ان الاقطاعيين العرب وفي بعض الحالات الاقطاعيين الغائبين في لبنان هم الذين باعوا مساحات واسعة من الاراض الزراعية التى كان يفلحها المزارعون العرب خلال اجيال وبذلك جردوا اولئك المزارعين من حقوقهم وساعدوا الصهيونية ، والسلطات البريطانية التي أيدتها، على اقتلاع المزارعين من تربتهم وتشريدهم.

وهكذا فاذا تذكرنا مساوىء حملات احتلال العمل، التي كان العمال العرب ضحيتها، وسياسة الادارة البريطانية في تفضيل العمال اليهود على العمال العرب كما اشار ذلك المؤتمر السابع عام 1928. فعندنذ نستطيع ان نتصورشعور النقمة على الادارة البريطانية والصهيونية في هذه الفترة بين الجماهير الشعبية.

وزاد في هذه النقمة ان البرجوازية العربية الضعيفة جدا كانت تشعربالخطرعلى مصالحها من جراء النشاط المتزايد الذي تقوم به البرجوازية اليهودية بالتعاون مع مؤسسات احتكارية اجنبية . [ في هذه الفترة بريطانيه وجنوب افريقيه في الأساس ] .

ولعل قرار المؤتمر السابع الاحتجاج على اعطاء امتياز البحر الميت لشركة اجنبية، والاحتجاج السابق على منح روتنبرغ امتياز توليد الطاقة الكهربائية كان تعبيرا عن هذه النقمة الناجمة عن تلك المخاوف.
    كل هذا في وقت كانت الحركة القومية تواصل فيه المطالبة بحكم وطنى وبدستور يمنح البلاد استقلالها.

حوادث عام 1929

   يتفق المؤرخون جميعا على ان حوادث عام 1929 ادت الى سقوط قتلى وجرحى من العرب واليهود.
  ولكنهم يختلفون على كل شيء آخر حتى على عدد الضحايا من الجانبين التي  بلغت حسب الاحصاءات الرسمية  آنذاك 133 قتيلا و339 جريحا من اليهود و 116 قتيلا و 232 جريحا من العرب.
 ومن الممكن إيجاد قطاع أوسع من المؤرخين يتفقون على ان الامبرياليين البريطانيين قاموا بدورهم الخبيث بتأجيج الاحتراب العنصري بين اليهود والعرب استرشادأ بمبدأ فرق تسد .
   ولكن هنا ينشب الخلاف بعد الاتفاق العام، فالصهيونيون يتهمون الادارة البريطانية في فلسطين في تحريض العرب وتشجيعهم على الاضرار باليهود وبوطنهم القومي. في حين تقوم اطروحة المؤرخين العرب على ان الامبريالية البريطانية ساندت الصهيونية مساندة كاملة وتعاونت مع قيادتها في فلسطين باستمرار، ولا يغير من هذه الحقيقة وجود خلافات بين الجانبين.
  والآن ماذا جرى في عام 1929؟
  تبدأ الرواية العربية بالتأكيد على ان حائط المبكى، ويسمونه البراق ايضا، ليس جزءا من الحائط الخارجي للهيكل القديم فحسب بل هو جزء من الحرم الشريف ايضا، ولهذا فاليهود يقدسونه والمسلمون يحترمونه احتراما عظيما.
   كذلك تؤكد الرواية العربية ان البراق ملك للمسلمين منذ الفتح الاسلامي وهم يحتفظون بصكوك بهذا المعنى تخولهم حق ادارة المكان. وخلال السنين والاتفاق غير المكتوب قائم بين ادارة الوقف الاسلامي واليهود المتدينين من حيث الزيارة والصلاة بالقرب منه . وينص الاتفاق على ان لا يقيم اليهود اي بناء بالقرب من الحائط أو يضعوا أى شيء في باحته.

وتلاحظ الرواية العربية ان الادارة البريطانية حظرت بطلب من الوقف الاسلامي على المسؤولين اليهود وضع مقاعد في باحة البراق لان ذلك يغير الوضع القائم ويعتبره المسلمون تجاوزا على حقوقهم ، كما انها أمرت البوليس في ايلول ( سبتمبر ) 1928 رفع الستار الذي وضعه اليهود في عشية عيد الغفران على الرصيف المحاذي للبراق بعد أن شكا ذلك المسلمون.

   وبعد ذلك تعرض الرواية العربية الحقائق على الوجه التالي:

 في يوم 14 آب ( أغسطس ) 1929 عشية 9 آب يوم الصوم استذكارأ بخراب الهيكل تظاهر اليهود في تل ابيب وهتفوا: الحائط حائطنا... العار من نصيب كيث روش (حاكم القدس الذي امر برفع الستار في العام الماضي).  وفي اليوم التالي جاء وفد من شباب تل ابيب الى القدس وسويا مع يهودها تظاهرة صاخبة اخترقت الشوارع في اتجاه حائط المبكى البراق وترددت فيها الهتافات نفسها الحائط حائطنا.  وفي اليوم التالي قام المسلمون بدورهم في مظاهرة صاخبة وصلت الى باحة البراق حائط المبكى وخلال ذلك قلبوا طاولة الشماس واخرجوا الاسترحامات التى يضعها عادة المصلون اليهود في شقوق الحائط ، ومزقوا ثياب الشماس وتفرقوا إلى بيوتهم.

   لقد مرت المظاهرات الثلاث في سلام ولكنها شحنت الجو بالتوتر واشاعت مزيدا من الشكوك والريبة بين العرب واليهود ولذلك ما ان وقعت حادثة محلة البخارلية في القدس طعن فيها احد العرب احد الشباب اليهود الذي دخل بستانه لإسترجاع كرته في اعقاب مشاجة بينهما توفي بعدها، حتى اشتعل الجو وبدأت سلسلة المصادمات بين العرب واليهود في مختلف انحاء البلاد. وفعلا في يوم حادثة البخارلية، 17 آب ( اغسطس ) 1929، وقعت مشاجرة عامة بين العرب واليهود جرح فيها احد عشر يهوديا وخمسة عشرعربيا.

 وفي 23 آب سرت إشاعة مفادها أن اليهود قتلوا عربيين فهاجت خواطرالعرب وما لبث ان سرى الهياج الى القرى المجاورة ثم اتسع وشمل القرى والمدن وفي مقدمتها يافا وحيفا وصفد والخليل، وامت مظاهرة هائجة في نابلس للاعراب عن سخطها واستيائها وتحولت الاضطرابات في الخليل الى مذبحة يهودية عمومية قتل فيها 60 يهوديا وجرح اكثرمن خمسين.  استمرت الاضطرابات وخلال هذا هجم اليهود على العرب في أكثرمن موقع وقتلوا بدورهم بعض العرب ومن بينهم امام مسجد سكنة أبي كبير وستة من افراد عائلته.  وانتهت الاضطرابات في 29 آب 1929 بحوادث صفد حيث قتل وجرح فيها 40 يهوديا وعدد غير محدد من العرب.  وفي حالات عديدة كانت الضحايا بين العرب نتيجة الاصطدام بالبوليس والجيش الذي استنفر امدادات وصلت اليه من مصر خلال ايام الاضطرابات الاولى . (اعتمدت في هذه الرواية على كتاب عيسى السفري " فلسطين بين الانتداب والصهيونية " باعتبارها نموذجا لما كتبه العرب حول هذه الحوادث ص 124- 127).

  وقوم القوميون العرب هذه الحوادث انتفاضة قومية ضد الصهيونية والانتداب البريطاني.
  اما الرواية الصهيونية فتعرض الحقائق على الوجه التالي:

 تؤكد أن الحاكم البريطاني كيث روش بضعفه وتراجعه امام العرب شجعهم على التمادي في تجاوزهم حقوق اليهود في حائط المبكى.  المظاهرة التى جرت في القدس كانت احتجاجأ على أعمال العرب الاستفزازية بقذفهم المصلين اليهود بالحجارة في اليوم السابق .  وتتفق الروايتان حول حادثة البخارلية وانتشار الشائعات إلا أن الرواية الصهيونية تقول ان العرب روجوا، متعمدين إهاجة الخواطر، ان اليهود يعدون هجوما على مسجد الصخرة وقد حرضوا ألاف الفلاحين العرب ، الذين تقاطروا على المسجد في القدس من الخليل والقرى المجاورة للصلاة كعادتهم يوم الجممة من كل اسبوع، فاقترف هؤلاء المذبحة.  وهناك نسختان للرواية الصهيونية، فرواية تكتفي بالقول ان العرب قتلوا اليهود العزل ولا تذكرعدد القتلى من العرب في هذه الحوادث التي استمرت اسبوعين . ورواية اخرى تلاحظ ان قتل اليهود جرى في المواقع التى لم يكن فيها تنظيم دفاعي في حين صد العرب في المواقع اليهودية المحصنة.  ويلقي المسؤولون الصهيونيون مسؤولية خاصة على السلطة البريطانية في الخليل التي لم تتخذ إحتياطات دفاعا عن المواطنين اليهود هناك، على الرغم من تحذيرهم مندوبي السلطة هناك.

   وهناك ايضا تتباين ماهية التهم ، فمن الكتاب الصهيونيين من يضع اللوم على  الادارة البريطانية المحلية في فلسطين وهناك من يضعها على الحكومة البريطانية في لندن (اعتمدنا في عرض الرواية الصهيونية في الاساس على كتاب وليم ل. هل "سقوط اسرائيل ونهوضها "، ص 108- 109).
   أما تقويم الصهيونية لهذه الحوادث فيجمل بوصفهم إياها " المذبحة " [ البوجروم ] التى لا تختلف عن المذابح التى تعرضت لها الطوائف اليهودية في أوروبه واتسمت باللاسامية. وفي أغلب المصادر الصهيونية يصف الكتاب الصهيونيون حوادث 1929 [ بالاجرام ] والعرب الذين اشتركوا فيها " بالقتلة والمجرمين ".
والآن ماذا كان الموقف البريطاني الذي تماثل في نظرته الى الامور مع الرواية الصهيونية؟
لقد جسمه المندوب السامي البر يطاني جون تشانسلور الذي كان وقت الحوادث في بريطانية- فعاد على أثرها وأصدر بيانا جاء فيه:

- عدت من المملكة المتحدة فوجدت بمزيد الآسى أن البلاد في حالة اضطراب فأصبحت فريسة لأعمال العنف غير المشروعة... وقد راعنى ما علمته من الاعمال الفظيعة التى اقترفتها جماعات من الاشرار سفاكي الدماء عديمي الرأفة وأعمال القتل الوحشية التى ارتكبت في أفراد من الشعب اليهودي خلوا من وسائل الدفاع بقطع النظر عن عمرهم وعما إذا كانوا ذكورا اوإناثا والتى صحبتها- كما وقع في الخليل- أعمال همجية لا توصف وحرق المزارع والمنازل في المدن والقرى ونهب وتدمير الاملاك... فواجبي ان اعيد النظام الى نصابه في البلاد وأن أوقع القصاص الصارم باؤلئك الذين يثبت أنهم ارتكبوا أعمال عنف (1) وهكذا أدانت الادارة البريطانية العرب بالجريمة ولكنها كشفت في الوقت ذاته عن إستخدامها هذه الجريمة لضرب مطالب الشعب العربي في فلسطين.

  " ففي بيانه المذكور أعلن المندوب السامي كذلك أنه سيؤجل المباحثات التي كان ينوي اجراءها مع وزير المستعمرات لاحداث تغيرات دستورية وفقا لتعهد أعطاه للجنة التنفيذية العربية  التى طالبت في مؤتمرها السابع بحكومة وطنية وعادت وطالبت المندوب السامي بذلك في حزيران ( يونيو )  من ذلك العام كما يظهر ذلك من بيانه. [ نص البيان في كتاب عيسى السفرى المذكور ص 129 ] .
 وعند هذا الحد يصح السؤال: كيف يمكن تقويم هذه الحوادث التي وقعت في عام 1929؟
 وهنا لابد من رؤية وجهيها. فهي لم تكن مجرد اصطدامات بين عرب ويهود ، بل كانت جوهريا هبة جماهيرية في وجه الادارة البريطانية الامبريالية، وهذا ما جسمته التظاهرات الشعبية لا في المدن المختلطة فحسب ، بل في المدن العربية الخالصة مثل نابلس. وهكذا لم تكن هذه التظاهرات عنصرية بالمعنى المعاصر بل كانت معادية للامبريالية البريطانية.

وهذا ما لاحظته اللجنة التنفيذية في ردها على بيان المندوب السامي فأعلنت (أن اضطرابات فلسطين السابقة والحالية إنما هي ناشئة مباشرة عن السياسة البريطانية الصهيونية التى ترمي إلى إخفاء القومية العربية في وطنها الطبيعي لكي تحل محلها قومية يهودية لا وجود لها). وهذا ما جعل الشيوعيين اليهود والعرب يقيمون الحوادث بغض النظرعن سلبية بعض مظاهرها والمآسي التى سببتها إنتفاضة قومية معادية للامبريالية والصهيونية في جوهرها. وهذا التقويم انزل عليهم غضب القيادة الصهيونية وحقدها فاتهمتهم [ بالعمالة ] للأممية الثالثة وموسكو. ولا ينفي تقويم هذه الحوادث بوصفها انتفاضة قومية رؤية وجهها السلبي الناجم عن الانحراف في التوجه النضالي بسبب قيادة الحركة القومية العربية آنذاك. ولكن هذا الوجه السلبي الذي شجعه الامبرياليون البريطانيون ساعده القادة الصهيونيون في توجههم الانعزالي القومي وسياستهم المعادية للجماهير العربية كما تجلت في احتلال العمل والأرض. ولا يستطيع الباحث الموضوعي إخفاء مساعي القيادة الصهيونية في حوادث 1929 واللجنة التنفيذية العربية اعتمدت على الوقائع حين أعلنت في بيانها ردأ على المندوب السامي أن أكثر اليهود كانوا مسلحين وأن الحكومة سلحتهم ، وقد قتلوا مع الجنود النظاميين النساء والأطفال والرجال العرب وكانوا البادئين في بعض الحالات. (كتاب عيسى السفري ص130)

  ولا بد من القول أن القيادة الصهيونية اعتبرت الاصطدام بين العرب واليهود  محتومأ وكانت تعد له على كافة المستويات وفي جميع الميادين.
 وقد أورد ميخائيل بار زوهر في كتابه " النبي المسلح " تاريخ حياة بن غوريون قول بن غوريون بعد مقتل أحد الحراس اليهود في عام 1909:

" ذلك اليوم (يوم مقتل الحارس) فتحت عيني وأدركت أن عاجلأ وأن آجلا أنه ستجري تجربة قوة بيننا وبين العرب... ومنذ ذلك اليوم في شجرة (حيث قتل الحارس) شعرت أن الصراع محتم " .

 وأضاف الكاتب أن الصراع اليهودي العربي لم يبدأ في شجرة ولكن في ذلك اليوم من أيام نيسان ( أبريل ) عام 1909 حين أدرك اؤلئك الذين أصبحوا زعماء اليهود فيما بعد أنه إن عاجلا وإن آجلا سيصطدم الجنسان وستسود القوة... وحتى قبل حادثة الشجرة كان شعار منظمة (الحارس) التى أقامها بن زفي (رئيس الجمهورية الثاني) وأصحابه " لقد سقطت [مملكة] يهودا بالنار والدماء وستنهض من جديد بالنار والدماء " ( ص 24 ) .

لقد اتهم عدد من الكتاب الصهيونيين القيادة العربية بأنها أقحمت الدين في عام 1929 بالصراع السياسي. وبغض النظرعن صحة هذه الحقيقة التى كما قلنا اتخذت شكلا تنظيميا بوصول المفتى الحاج أمين الحسينى الى القيادة . فالحقيقة التى لا بد من تأكيدها هي أن الصهيونية اعتمدت في بنائها عناصر الدين اليهودي وبذلك سهلت أن تتحول. مشكلة دينية، مثل صلاة اليهود في باحة البراق (أوحائط المبكى)، الى، قضية سياسية تحرك جماهير تل أبيب والقدس. ومع هذا فمهما يكن من أهمية لهذا العامل فهو عامل ثانوي لم يبدد العامل القومي. وهذا ما اعترفت به لجنة التحقيق التى أرسلتها بريطانيه الى البلاد لتحقق في أسباب الحوادث برئاسة سير ولتر شو، فقد أعلنت أن الصراع ناجم عن التناقض بين الوطن القومي اليهودي ومطالب الحركة العربية القومية بالاستقلال . فتحقيق المطالب القومية العربية يلغي الوطن القومي اليهودي. وعزت اللجنة أسباب التوتر في علاقات الشعبين والحوادث الدامية الناشئة عنه إلى مخاوف العرب من المهاجرين وإعتقادهم أنهم لن يكتفوا بمشاركتهم في البلاد. وأضافت: " وأشتدت هذه المخاوف بالتصريحات الصهيونية السياسية الأكثرغلواء مما جعل العرب يرون في المهاجر اليهودي ليس خطرا على مصدرمعيشتهم بل سيدا قد يسيطرعليهم في المستقبل " . (تقرير اللجنة الملكية الفلسطينية لعام 1937 ص 68- 69).

هوامش (1) وفعلاً حكم على 22 عربياً بالاعدام ونفذ الحكم بثلاثة اعتبرتهم الحركة القومية شهداء أبرار .










الفصل الحادي عشر الكتاب الابيض والحركة القومية العربية

   وفسرت لجنة شو ماقصدته بقولها " مخاوف العرب عن مصدرمعيشتهم " ، فكتبت في تقريرها:
  " إن بيع أراضي سرسق (1) وشراء اليهود الأراضي في مناطق كانت تربتها على غاية من الانتاجية اعتبر تأكيدا على أن المهاجرين لن يرتضوا باحتلال المناطق المتخلفة ، وأن الضغط الاقتصادي على السكان العرب سيزداد " . (المصدر ذاته ص 69).
 وذكرت اللجنة كذلك أن بيوعأ كبيرة وقعت بين 1920 و 1929 كان من جرائها أن اخرج عدد كبير من العرب من أراضيهم دون أن تعد لهم أراضي اخرى يزرعونها . وأضافت: أن الحالة الآن معقدة ، فلا توجد أراض اخرى يمكن أن ينتقل اليها الأشخاص الذين يخرجون من الأراضي التى يزرعونها ولذلك تنشأ في البلاد الآن طبقة من الأهالي بلا الأرض ومستاءة... وهذه الطبقة خطرعلى البلاد (!) وستبقى قضية الأراضي مصدرا دائما للاستياء الحالي. (فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية عيسى السفري ص 144).
    وأوصت لجنة شو بما يأتي:

 أن توضح حكومة بريطانيه سياستها في فلسطين بأقل ما يمكن من التأجيل وتحدد معنى الفقرات التي وردت في نصوص الانتداب بشأن حماية " الطوائف غير اليهودية " .  أن تعيد النظر في أمرتنظيم الهجرة بحيث لا يتكرر تدفق الهجرة الزائدة على البلاد كما حدث في عامي 925 ا و1926 وأن تتشاور في هذا الشأن مع ممثلي " غير يهود " .  التحقيق العلمي الفنى تمهيدا لادخال أساليب زراعية حديثة وإنتهاج سياسة زراعية وفقا لذلك تؤدي الى زيادة الأراضي المنزرعة.  تأكيد بيان 1922 من أن مكانة المنظمة الصهيونية الخاصة لا تمنحها حق المشاركة أبدأ في حكومة فلسطين (تقريرلجنة فلسطين الملكية لعام 1937ص 71).

    ولكن إذا كان هذا التقرير قد اعترف بمخاوف الجماهير العربية الحقيقية وكشف عن أضرار الاستيطان الصهيوني بإنعزاليته القومية ، فقد عكس طبيعة السياسة الامبريالية القائمة على أساس فرق تسد.

حتى حاييم وايزمن لاحظ ذلك فكتب أن تقرير لجنة شو لم يقل شيئا لأن بيانات الحكومة البريطانية في فلسطين التى وصفت الاضطرابات وكأنها إصطدامات بين العرب واليهود. فهذه البيانات أظهرت أن الشعبين يتحاربان في فلسطين وأن الادارة البريطانية ليست حارسا محايدا على النظام والقانون. (التجربة والخطأ ص 332). طبعا كان غضب وايزمن على هذه الادارة البريطانية في فلسطين ناجما عن الرغبة في أن تكف هذه الادارة عن التظاهر بالحياد وأن تنفذ وعد بلفور كما تجسم في نصوص الانتداب. وجدير بالملاحظة هنا أن حاييم وايزمن الذي ربط مصير الوطن القومي اليهودي بمصير الامبريالية البريطانية كان ينتقد في هذه الفترة الادارة البريطانية في فلسطين وكأنها هيئة قائمة بذاتها في عزلة عن مخططات الامبريالية البريطانية الموضوعة في لندن ، وذلك ليقنن الغضب على الارتباط مع بريطانيه بين بعض العناصر الصهيونية التي إنطلاقا من ممكنات الارتباط بقوى رجعية دولية اخرى تأففت من هذه السياسة لوتيرتها البطيئة ولمنعها الصهيونية عن " اجتياح فلسطين " . ثم إن هذا التقريركشف أيضا عن اسلوب الامبريالية البريطانية التقليدي : أسلوب التهدئة باللجان . وهكذا ما أن انتهت لجنة شو من عملها حتى ألفت الحكومة البريطانية في لندن لجنة جون هوب سمبسون تنفيذا لتوصية لجنة شو بشأن التحقيق العلمي الفنى تمهيدا لادخال أساليب زراعية حديثة الى الريف.

   وأصدر جون هوب سمبسون تقريره في تشرين الأول (اكتوبر) 1930 فجاء تأكيدا على وجود أزمة زراعية في البلاد .
   فقد أعلن أولأ أن الأراضي الزراعية تتألف من 6,544,000 دونم لا 16,000,000 دونم كما كان يزعم الصهيونيون أو 10,092,000 دونم كما كان يقدر مفوض الأراضي البريطاني .
  واستنتج ثانيا أن الأراضي الزراعية ؟ حتى لو وزعت بين الأهلين العرب توزيعا تاما، فلا يمكن أن تؤمن للعائلات الريفية حياة مقبولة.

ولذلك فما لم يجر تطوير الأراضي اليهودية ، ويتم تنظيم الري ، ويستخدم العرب أساليب زراعية أفضل فلن يكون هناك مكان لمستوطن أخر ، هذا إذا كانت هناك رغبة في الاحتفاظ بمستوى معيشة الفلاحين على المستوى القائم ولا مكان للاستيطان على الأراضي الأميرية ما لم يجر تطويرها. وهكذا ربط سمبسون الهجرة والاستيطان الصهيوني بتطوير الأراضي وأعتقد أن هذا التطوير سيمكن البلاد من استيعاب 20 ألف عائلة (المصدرذاته ص 71-72).

ولاحظ سمبسون أمرآ طالما أبرزته طليعة الحركة الوطنية في فلسطين آنذاك ، وهو أن استملاك الهيئات الصهيونية الأراضي العربية لا يعني- خسارة في الملكية فحسب- بل خسارة في ميدان العمل أيضا. فمنظمات استملاك الأراضي الصهيونية نصت في دساتيرها ما جاء في دستور الوكالة اليهودية في المادة الثالثة: تستملك الأراضي كملك لليهود وتسجل باسم صندوق رأس المال القومي اليهودي وتبقى مسجلة باسمه الى الأبد كما تظل هذه الأملاك ملكا للأمة اليهودية غير قابل للانتقال. وتنشط الوكالة الاستعمار الزراعي عن طريق العامل اليهودي ، والمبدأ العام الذي يتبع في جميع الأشغال والمشاريع التي تقوم بها الوكالة وتنشطها هو استخدام اليهود. والدعوة الى قصر العمل على العمال اليهود نصت عليه عقود إيجار- الكيرن كاييمت- والكيرن هايسود- منظمتا شراء الأراضي العربية وتطويرها- بالاستيطان الصهيوني- وهكذا في حالة الكيرن كاييمت نص العقد على أن المستأجر يتعهد بإجراء جميع اشغال الفلاحة بإستخدام عمال يهود . وفي حالة الكيرن هايسود كان على المستأجر أن يتعهد بأن يستأجرعمالا من اليهود فقط إذا إضطر لذلك .

   طبعا لم ير المبعوث البريطاني سمبسون حقيقة الأزمة الزراعية بتمامها بل رأى جانبا منها فالأزمة الزراعية في فلسطين نجمت عن الملكية الكبيرة من ناحية وتخلف وسائل الانتاج من ناحية ثانية وعلاقات أسياد الأرض والمستأجرين من ناحية ثالثة .
   أما الجانب الذي كشفه فلم يكن سوى عامل تعميق الأزمة الزراعية ، فبيوع الأراضي شرد مزيدا من الفلاحين العرب عن الأرض وخلق ضغوطا جديدة في الريف.
  وهنا تبدو ضخامة مزاعم الصهيونية حول دورها في " ضرب الاقطاعية " !! و" القيام بإصلاح زراعي " .

فالواقع أن الاقطاعية كانت حليفة الصهيونية لأنها وافقت مصالحها مع مصالح الصهيونيين . فالاقطاعيون أرادوا بيع أراضيهم والتخلص من المزارعين وحقوقهم المعروفة، والصهيونيون اشتروا هذه الأراضي وشردوا الفلاحين . الاصلاح الزراعي الذي يأخذ شكل مصادرة أراضي الاقطاعيين وتوزيعها على الفلاحين أصبح في ظروف ممارسة الصهيونية تعويضا على الأقطاعيين الذين نهبوا أراضي الفلاحين اصلا . وتجريد الفلاحين من أراضيهم. وقد لاحظ سمبسون وجود البطالة في الميدان العربي ووصفها بأنها خطيرة وكتب في تقرير أن من الخطأ أن يأتي يهودي من بولونيه أو ليتوانيه أو اليمن ليملأ مكانا شاغرا في فلسطين في حين أن هناك عاملا محليا يستطيع أن يملأه (المصدرذاته ص 72).


ولكنه في الوقت ذاته تفهم الموقف الصهيوني حين استطرد أن رأس المال اليهودي لن يأتي الى فلسطين من أجل تشغيل العمال العرب ولكنه يأتي بالتحديد لتشغيل العمال اليهود. وباختصار أكد سمبسون مبدئي الصهيونية أو القومية المتعصبة الانعزالية: إحتلال الأرض وإحتلال العمل ، هذين المبدئين اللذين حفرا خنادق التباعد والفرقة بين العرب واليهود منذ البداية. وقد أدرك خطر السياسة الصهيونية الشيوعيون اليهود ، حتى في عام 1919 قال أحدهم مخاطبا العمال: " أبحثوا عن طريق جديدة مأمونة ، جدوا طريق السلام مع جماهير العاملين من الشعب المقيم هنا... تذكروا أنه مع كل مواطن أوصديق صهيوني يأتي الى هنا لكي يخلص المزيد من الأرض ويستغل سكانها ، إنما يضيف مزيدا من المواد المتفجرة تحت أسس بناتنا " .

الكتاب الأبيض لعام 1930

وفي الفترة الواقعة بين تقرير لجنة شو وتقرير جون هوب سمبسون سافر وفد عربي فلسطيني رابع الى لندن ليباحث الحكومة البريطانية بشأن مطالب الشعب العربي التي بدأت تتبلور بشعارات ثلاثة: منع البيوع ووقف الهجرة ومنح الدستور. ولكن هذا الوفد الذي ضم العناصر التقليدية في الحركة القومية العربية في فلسطين وجمع بين الجناحين (الحسيني والنشاشيبي كما درجت الناس على أن تصفهما)، أخفق في مهمته. وفي 13 نيسان ( ابريل ) 1930 أصدرت الحكومة البريطانية بيانا أعلنت فيه أنها أخذت علما بمطالب الوفد و " أن التغييرات الدستورية الشاملة التي يطلبها لا يمكن قبولها كلها لأنها تعرقل عمل الحكومة في القيام بالتزاماتها بمقتضى الانتداب " وأضاف البيان أن الحكومة البر يطانية أفهمت الوفد بأن لا سبيل للنظر في أي إقتراح لا ينطبق على مقتضيات الانتداب. (فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية ص 149). وفي أعقاب هذا البيان أصدرت الحكومة البريطانية بيانا آخر في 20 آيار ( مايو ) 1930 عادت فيه على ما جاء في بيانها السابق لأن الالتزامات والعهود المترتبة عليها بموجب صك الانتداب ، وذكرت مهمة سمبسون ، وتعهدت بإتخاذ إجراءات سريعة لحماية مصالح الطبقة الزراعية وأكدت أن لا مسوغ لمخاوف أولئك الذين يقلقون على كيان الشعب العربي في فلسطين... وستنزل الحكومة (وهذه كانت لازمة عامة في تصريحات ممثلي الامبريالية البريطانية) أشد العقاب بالذين يخلون بالنظام !!! وعلى هذا الضوء يمكن رؤية السياسة البريطانية في أشكالها التقليدية: تهدئة باللجان، تأكيد على حماية مصالح الجميع، التمسك بالتعهدات حتى لو كانت متضاربة ، تنمية التناحر المحلي وفقا لسياسة فرق تسد .

   وتجسمت هذه السياسة في كتاب أبيض جديد صدر في 24 تشرين الأول

( اكتوبر ) عام 1930 قيل إن واضعيه أسترشدوا بتقرير لجنة شو وإستنتاجات جون هوب سمبسون.

   وفي هذا الكتاب أكدت الحكومة البريطانية على بعض الملامح السياسية التي بدأت تستخدمها لتوطيد مواقعها، فهي لم تعد تكتفي بالقول أنها حكم يفصل بين الشعبين. بل أصبحت تضع على الشعبين ضرورة الوصول الى تفاهم بينهما في وقت كانت تخلق الظروف لتباعدهما وتناحرهما.
     وهكذا جاء في الكتاب الأبيض لعام 1930: أن توطيد السلام والرفاهية في البلاد في المستقبل يتوقف على تحسين العلاقات بين العرب واليهود وأن الحكومة البريطانية تشعرأن في الأمكان الوصول الى ذلك ان تعاون كلا الفريقين معها مع إدارتها في فلسطين.

لقد كان الكتاب الابيض رفضا للمطالب العربية الاستقلالية ، وجاء فيه أن المطالب العربية بشأن إيجاد شكل دستوري نيابي تتنافى مع إلتزامات الحكومة البريطانية، ولكنه كان أيضا محاولة لاقناع الجماهير العربية برغبة الحكومة البريطانية في " تسوية " القضية الدستورية... ولهذا أضاف الكتاب الأبيض الى هذا الرفض وعدا جاء فيه: إن الوقت قد حان للسير في مسألة منح فلسطين درجة من الحكم الذاتي لمصلحة جميع السكان الى أمام بدون تأخير. وكثفت الحكومة البريطانية محاولتها كسب عطف الجماهير العربية فأعلنت في الكتاب الأبيض : أنه لا يوجد ، نظرا لطرق الزراعة القائمة ، أية أراضي ميسورة لاستيطان المزارعين من المهاجرين (اليهود) الجدد ، وأن البيانات تحمل على الاعتقاد بأن درجة البطالة بين الأهلين العرب وصلت حدا خطيرا ولذلك يجب تخفيض الهجرة أو وقفها ما دامت هذه الهجرة تسبب حرمان السكان العرب من الحصول على الأشغال الضرورية لمعيشتهم. (المصدر ذاته ص 65 ا-164). كان يكفي أن يبدو الكتاب الأبيض أقرب الى المواقف العربية الرسمية حتى تهب المنظمة الصهيونية والوكالة اليهودية الى مقاومته لأنه كما لخص ذلك حاييم وايزمن " يهدف الى جعل عملنا (عمل الصهيونيين- أ. ت) مستحيلا ". وجدير بالذكر أن الحكومة البريطانية التي أصدرت هذا الكتاب الأبيض كانت حكومة حزب العمال البريطاني الذي كان يؤيد دون تحفظ المشروع الصهيوني ويضم بين جوانبه منظمة عمالية صهيونية. وإن كان هذا " التناقض " يدل على شىء من الأشياء فعلى إنتماء قادة حزب العمال البريطاني الى محافل الامبريالية البريطانية التي رأت في ذلك الوقت أن عليها أن تناور وتبدي شيئا من التحفظ المؤقت على إعتبار أن دفع المشروع الصهيوني في فلسطين الى أمام قد يولد انفجارأ بين الجماهير العربية. وتأكدت هذه الحقيقة عند صدور الكتاب الأبيض اللاحق لعام 1939 للمقاصد ذاتها في ظروف دولية اخرى، عن حكومة حزب المحافظين، حزب الاحتكارات الكبرى. وأما البرهان على ماهية السياسة البريطانية القائمة على سياسة فرق تسد ،ووضع الوطن القومي اليهودي ، أمام الحركة القومية العربية التحررية وتأييد الوطن القومي اليهودي بحيث يصبح موازيا في توازن القوى في فلسطين لحركة الشعب العربي التحررية في فلسطين، إن البرهان على كل هذا جاء حين " فسرت " الحكومة البريطانية الكتاب الأبيض في رسالة بعثت بها الى حاييم وايزمن بتاريخ 13 شباط (فبر اير) 1931 ووصفها العرب " بالرسالة السوداء" لقد صدرت هذه الرسالة تجاوبا مع عاصفة من نقد الكتاب الأبيض أطلقتها المحافل الامبريالية البريطانية التي كانت ترى في توطيد الوطن القومي اليهودي توطيدا لمواقفها في العالم العربي وكانت ترى في الكتاب الأبيض مناورة انتهى مفعولها ودورها ، وروجت مواقفها في الصحافة البريطانية ونجحت في خلق جو موافق لصدور تلك الرسالة. وفي هذه المماحكة الداخلية لعب حاييم وايزمن دوره فاستقال من رئاسة الوكالة اليهودية ليستنفر قوى الصهيونية مع أنه لم يتوقف عن العمل لحظة واحدة وكان يتنقل في محافل لندن السياسية متساوقا مع كبار الامبرياليين البريطانيين الذين مارسوا ضغوطهم عن طريق نوابهم في البرلمان البريطاني. إن الكتاب البريطانيين ينفون أن تكون " الرسالة السوداء " قد ألغت الكتاب الأبيض ويصرون، في أكثر الحالات على أنها غيرت لهجة الكتاب الأبيض لا غير (تقرير بشأن فلسطين أعدته الحكومة البريطانية 1945 للجنة التحقيق الأنجلو- اميركيه ص 29). ولكن الواقع يختلف تماما عن هذا الزعم ، فالرسالة فعلا ألغت مفعول الكتاب الأبيض وخاصة في أهم قضية فيه قضية تطوير الحكم الدستوري وتقليص الحكم الامبريالي المباشر. ثم إن " الرسالة السوداء " أعلنت عن وجود أراضي للاستيطان الصهيوني، ووافقت على استمرار سيل هجرة العمال اليهود للعمل في منشآت رأس المال اليهودي (المصدر ذاته ص 29). واستنفرت هذه التطورات تشديد عداء الشعب العربي الفلسطيني لمبادىء الانتداب والحكم البريطاني الذي وقف سدا عنيفا أمام طموح الأهالي نحو الاستقلال.

التحول في الحركة القومية العربية

ولم تستنفرهذه التطورات مجرد عداء الشعب العربي الفلسطيني بل استنفرت تمايزآ واضحآ في القوى السياسية العاملة على المسرح السياسي العربي. وكان من الممكن رؤية تيارين بعد 1931: تيار يغلب الطابع الاسلامي على الحركة القومية العربية ويضفي على الصراع لونآ دينيآ بحيث يصبح الصراع القومي صراعآ دينيآ. وتيار يتخلص من النظرة الدينية أولأ، ويتجاوز النظرة الجانبية التى رأت الصراع صراعآ بين اليهود والعرب ثانيأ. وتتضح رؤ ياه ثالثأ فيرى المعركة الجوهرية بين الحركة القومية العربية والامبريالية البريطانية التى تسخر الصهيونية لمقاصدها. وإذا كان المؤتمر الاسلامي العام الذي عقد في القدس في 7 كانون الأول (ديسمبر) 1931 قد مثل التيار الأول. فمؤتمر الشباب العربي الفلسطيني الأول الذي عقد في 4 كانون الثاني (يناير) 1932 مثل التيار الثاني. وظهر الفرق في التيارين في بناء كل من المؤتمرين ، فالمؤتمرالاسلامي العام جمع ممثلين من أكثرمن 30 قطرأ كانوا في كثير من الحالات رجال دين اودنيا لا ينتسبون إلى حركات عامة أويمثلون حركات مغرقة في الرجعية مثل أولئك الذين زعموا أنهم يمثلون روسيه الآسيوية!! في حين تألف مؤتمر الشباب العربي من أبناء فلسطين وصدرعن مفاهيم قومية عربية. كذلك ظهر طابع المؤتمرمن قراراته التي تركزت على " تنمية التعاون بين المسلمين "!! و " حماية المصالح الاسلامية وصيانة المقدسات" ! و" إنشاء جامعات تعمل على توحيد الثقافة الاسلامية " وبذلك تجاهل اليقظة القومية العربية في فلسطين أو حاول إخضاعها لفكرة الجامعة الاسلامية الرجعية. وكان من المفارقات فعلأ أن يعقد المؤتمر في وقت نموالحركة القومية العربية في فلسطين والعالم العربي فلا يتعرض بالتحديد لقضايا النضال الاستقلالي ويكتفي بإعلان المؤتمر استنكاره لأي نوع من أنواع الاستعمار بما فيه الاستعمار الروسي!!! في بلاد تركستان . لقد اهتم المؤتمر " بمقاومة الالحاد " ودعا إلى صد الغارة على الدين ولم يرفع نداء الجماهير العربية في فلسطين من أجل الاستقلال. ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن تذهب قراراته العمليه من مثل : إقامة الجامعة الاسلامية في القدس وإقامة شركة لانقاذ الأراضي العربية في فلسطين وتأسيس شركة زراعية كبرى يشترك فيها العالم الاسلامي ، أدراج الرياح ولا يبقى أثر للمؤتمر ذاته (1). ولعل العناصر العربية الواعية نسبيآ أدركت ضيق أفق هذا المؤتمرأو لعلها إندفعت بدافع اليقظة القومية حين تنادت بعد اشتراكها في المؤتمر الاسلامي لتعقد مؤتمرآ لها في القدس قررت فيه الدعوة إلى مؤتمرعربي حقيقي وقررت سيادة العامل العربي في قرار إتخذته وأعلنت فيه " أن البلاد العربية وحدة تامة الأجزاء وكل ماطرأ عليها من أنواع التجزئة فالأمة العربية لا تقره ولا تعترف به ويجب توجيه الجهود في كل قطر من الأقطار العربية إلى وجهة واحدة هي استقلالها التام ومقاومة الاستعمار" . ولم يكن مؤتمر الشباب العربي الفلسطينى هومظهر التحول الوحيد في وجهة الحركة القومية العربية. فالمناخ السياسي في فلسطين بدأ يتغير في أعقاب 1931 نتيجة عوامل موضوعية وذاتية

   أما العوامل الموضوعية لذلك فكانت قي ثلاثة ميادين:

 في نمو البرجوازية العربية الفلسطينية البطىء جدآ واكتشافها أن الطريق مسدود أمامها بفضل الامبريالية والصهيونية الأقدر على الحركة. وقد حاولت البرجوازية العربية التحرك فأقامت البنك العربي في عام 1930 وبدأت تعد لاقامة بنك زراعي صناعي.  في استمرار عملية إجلاء الفلاحين العرب عن الأراضي التي باعها الاقطاعيون لهيئات الصهيونية ، ففي هذه الفترة تم إجلاء عرب وادي الحوارث وقدرت مساحة الأراضي التي كانوا يعملون فيها بـ 40 ألف دونم مما عكس الأزمة الزراعية وأكد مخاوف الفلاحين من الاستيطان الصهيوني، وظهرت خطورة ذلك من تقرير سمبسون الذي جاء فيه أيضآ أن عدد الفلاحين الذين بلا أرض يبلغ 86,980 عائلة ريفية تمثل 29,4% من العائلات العربية التي تعتمد على الزراعة. (حول الحركة العربية الحديثة الجزء الثالث محمد عزة دروزة ص 94 والملحق ص 292).  في نمو الطبقة العاملة العربية تنظيميآ. ففي عام 1930 عقد مؤتمر العمال العرب الأول وقد بادرت إليه جمعية العمال العربية الفلسطينية التي قامت في حيفا عام 1925. لقد تماثل هذا المؤتمر مع حركة التحرر القومي العربية وساعدها على تأكيد الطابع المعادي للامبريالية ومن البديهي أن هذه العوامل الموضوعية حركت قوى وطنية أولأ، وساعدتها على الرؤيا الصحيحة ثانيآ ، فبدأت تتنظم ثالثآ ، وبذلك غيرت وجهة الحركة القومية العربية وأضعفت الطابع الديني الذي حاولت بعض القوى إضفاءه على مجموعة الحركة القومية العربية. وهكذا كان في وسع أمين سعيد صاحب " الثورة العربية الكبرى " أن يكتب في مطلع وصفه هبة 1933 ما يأتي: " ورأى مفكرو العرب أن يكون النضال في المرحلة الجديدة موجهآ ضد الانجليز باعتبارهم المسؤوليين عن السياسة التي ترمي إلى محوهم وإبادتهم وباعتبارهم حماتها ومنفذيها" .

 ***

هوامش (1) العائلة الاقطاعية اللبنانية الغائبة التي باعت مرج ابن عامر للكيرن كاييمت ( مؤسسة شراء الأراضي الصهيونية ) .












الفصل الثاني عشر هبة سنة 1933

لقد لا حظنا أن نمو البرجوازية العربية الفلسطينية إلى حد ما، واستمرار عملية إجلاء الفلاحين العرب عن الأراضي التى باعها الاقطاعيون للهيئات الصهيونية، ونمو الطبقة العاملة العربية تنظيميأ- كانت من العوامل التى غيرت المناخ السياسي وساعدت على تحول وجهة الحركة القومية العربية إلى طريق مكافحة الامبريالية البريطانية بدلأ من الانحراف عن هذا النضال إلى الاحتراب العنصري.

وساعد تراكم إجراءات الادارة البر يطانية تأييدآ لمشروع الوطن القومي اليهودي ونموه كميأ على إيقاظ أعداد كبيرة من القوميين على حقيقة السياسة البريطانية في فلسطين .

فهذه الادارة هي التى كانت تحول دون قيام حكومة فلسطينية مستقلة ، وهي التي كانت تفتح أبواب البلاد أمام الهجرة اليهودية المتدفقة ، وجنودها وأفراد شرطتها هم الذين كانوا يجلون الفلاحين عن أراضيهم ويهاجمون المتظاهرين المنادين بالاستقلال .

واسهم التمايز في الحركة القومية في هذا التطور.

وتعمق هذا التمايز في هذه الفترة بالذات حين مالت العناصر الاقطاعية إلى التعاون تعاونأ أوثق مع الامبريالية البريطانية نتيجة طبيعتها الطبقية وازدياد الصراعات الاجتماعية في البلاد، مما دفعها إلى التفتيش عن طريق لصيانة مواقعها فوجدته بالامبريالية. وقد اتسمت هذه الصراعات وامتدت إلى المدن والريف. وفي حين اتخذت في الريف شكل نضال فلاحي ضد الاجلاء اتخذت في المدن شكل اضرابات نقابية . ففي هذه الفترة - في 1933 - أجلت السلطات فلاحي عرب الحوارث بالقوة عن الواحد والأربعين ألف دونم من مرج ابن عامر، التى باعها الاقطاعيون من آل التيان اللبنانيين في عام 1929 للمنظمات الصهيونية، وبذلك شردت 1500 مزارع بعد أن أدت المعركة التى دارت بين الشرطة البريطانية والفلاحين إلى سقوط عدد من القتلى . (القضية الفلسطينية، يوسف هيكل، ص 146) . وهكذا إشتد النزاع على الأراضي نتيجة بيع الاقطاعيين العرب أراضيهم، وظهرت قضية المزارعين المشردين بإلحاح حمل وزير الدولة البريطاني يعلن في مجلس العموم. في 14 تموز (يوليو) 1933، عزم حكومته على تمويل توطين المزارعين المشردين بقرض ينفق منه على تطوير الأراض أيضآ. (تقرير الادارة البريطانية ص 31). واستمرت حوادث العنف في الريف وكان من أبرزها حادثة إجلاء عرب الزبيدات عن أراضيهم في الحارثية (بالقرب من حيفا، بعد أن باعها أصحابها إلى المنظمات الصهيونية. وفي هذه الحادثة استخدم البوليس العنف ، وقتل مزارع أثناء إطلاق البوليس النار على المزارعين (فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية - عيسى السفري- ص 238). وأما في المدن فقد وقع 46 إضرابآ اشترك فيها 4000 عامل عربي بين سنوات 1930 - 1935 . قد لا تبدو هذه المرحلة العمالية النضالية كبيرة الأهمية بالقياس إلى اليوم ، ولكنه في ظروف فلسطين آنذاك كانت حركات الاضرابات هذه أمرآ كبيرآ. واتساع حركة الاضراب في القطاع العربي نسفت مزاعم الصهيونية حول خنوع العمال العرب وعدم قدرتهم النضالية بالمقارنة مع العمال اليهود. فقد بلغ عدد الاضرابات في القطاع اليهودي بين سنوات 1923 و 1935 55 إضرابأ اشترك فيها 1323 عاملأ. (حركة العمال في اسرائيل- ولتر بريوس - ص 118). وفي الوقت ذاته شهدت هذه الفترة تعاونأ عربيأ- يهوديأ في ميدان النضال الاجتماعي. ففي عام 1931 أضرب 3000 سائق عربي ويهودي لمدة أسبوع احتجاجأ على رفض الحكومة تخفيض ضريبة الوقود والرسوم. (المصدرذاته). وفي هذه الظروف انعكس التمايز في الحركة القومية في تعاون الاقطاعيين العرب مع السلطة وفي التنظيم الحربي. ولاحظ محمد عزت دروزة في كتابه حول الحركة العربية الحديثة هذا الأمر بطريقته الذاتية فكتب عند تحديده سياسة المندوب السامي البريطاني ارثرواكهوب (بدأ عهده في تشرين الأول (اكتوبر) عام 1931): " وقد توسع ، (واكهوب- أ. ت) في خطة تعيين أبناء الأسرالمعروفة من مجلسيه ومعارضه... وكان محسوسأ أن هذه التعيينات جاءت نتيجة لالتماس زعماء هذه الأسر... على إعتبارأن الموظفين بمثابة رهائن تجعل الأباء والأسرمضطرين إلى الرضا والحمد " . (الجزء الثالث ص 87). وأضاف في شرح ظهور الأحزاب (بعد أن ذكر سقوط مزارعي وادي الحوارث برصاص الجند الانجليز) : " فصارمن الواجب اللازم توجيه الكفاح نحوهم (الانجليز) ، إنهم بيدهم وحدهم التعديل والنقض والابرام وقد كانوا أصل البلاء وظلوا كذلك " . (ص 97). والواقع أن الحركة القومية العربية لم تعد تستطيع الاكتفاء بتنظيمها الفضفاض حول اللجنة التنفيذية (خصوصأ بعد وفاة رئيسها موسى كاظم الحسينى) وذلك بسبب الصراعات الاجتماعية وانعكاسها على القوى القيادية في الحركة القومية اولأ، وبسبب إحتدام الأزمة السياسية في البلاد نتيجة ضنوط الهجرة اليهودية المتزايدة في أعقاب إنتصار النازية في المانيه ثانيأ. وتدل الاحصاءات على أن عدد المهاجرين بين 1930 و 1935 بلغ حوالي 180 الف مهاجر (1). وهكذا تألف أول ما تألف حزب الاستقلال في شهر آب (أغسطس) 1932 من العناصر التي انتمت إلى الحركة القومية العربية العامة- جمعية العربية الفتاة - واعتقدت أن الحركة القومية ضعفت ووهنت ، " فبعد أن كانت " القضية- كما جاء في بيان تلك العناصر الصادر في تموز (يوليو) 1932- " قضية استقلال تحمل خواص القضية العربية الكبرى وتكافح الاستعماروجهأ لوجه أصبحت قضية محلية تتأثر بالنزاعات الشخصية والأهواء العائلية وهاجم البيان موقف بعض القياديين في الحركة القومية الذين اتخذوا موقف العجز والمسكنة وحصروا نشاطهم " بمقاومة القضية المصطنعة التى نكبنا بها (الاستعمار) ليلهينا عن اغراضنا المقدسة العليا وأعلن أن المبادرين إلى إقامة الحزب اعتقدوا أنه آن الآوان للقيام "بحركة وطنية خالصة على يد حزب سياسي استقلالي يكافح الاستعماروما جره من نكبات" ويبتعد عن السياسات المحلية والشخصية والعائلية. ومع أنه من الصعب توزيع القوى الاجتماعية الموجودة في فلسطين آنذاك على الأحزاب العربية التى قامت في سنوات الثلاثين ، إلا أنه من الممكن القول أن حزب الاستقلال الذى تألف من مثقفين وأبناء اقطاعيين متنورين ، وبرجوازيين، كان أقرب الأحزاب إلى الاعراب عن مطامح الحركة القومية العربية التي تقودها البرجوازية وتعكس إلى حد ما أماني فئات واسعة من الجماهير. وفي اجتماعاته الشعبية وبياناته كان حزب الاستقلال يندد بالنير البريطاني ويتوقف عند نتائج الحكم البريطاني ويعالج القضايا المختلفة التى تواجه الشعب. وفي بيانه في ذكرى وعد بلفور (2/11/1923) عالج ، بعد مقدمة استعرض فيها الحركة العربية والثورة واحتلال بريطانيه فلسطين لمدة 14 سنة . الموازنة التى لا تتحملها البلاد " فالموظفون الانجليز والغرباء اليهود يبتلعون الجزء الأكبر منها وثلثها ينفق على الحراب التى تحمي المشروع الصهيوني " ، وشجب الحكومة التى لا تحمي المزارعين العرب رغم تواصي لجان التحقيق ولا تضع تشريعآ يمنع إنتقال أراضيهم إلى الصهيونيين. ولاحظ أن البطالة ضاربة أطنابها في البلاد التي ترهق بالضرائب- وهي ضعف مثيلاتها في البلاد العربية المجاورة . وذكرأن الضرائب على المواد الغذائية ادت إلى إرتفاع الأسعار وأن أزمة التعليم شديدة تظهر في أن أكثرمن 70 بالمئة من الأولاد خارج المدارس وأن قانون المطبوعات يكم الأفواه.

وفي النهاية أبرز البيان أن بعض الناس يتطوعون في خدمة الاستعمار ودعا الشعب إلى تشديد معركته ضد الاستعمار وأساليبه والصهيونية وغزوتها وضد الخونة. ورفع الحزب المطالب الثلاثة التي تحولت إلى شعارات شعبية: وقف بيع الأراضي، وقف الهجرة وتسليم أبناء البلاد الحكم ، وتحقيق استقلال فلسطين " متحدة مع البلاد العربية الأخرى" وظهر أن حزب الاستقلال ، الذي نشط حوالي السنة ونصف السنة ، فعقد الاجتماعات الشعبية وأصدر البيانات ، نجح فكريأ بدون أن يحقق إنجازات تنظيمية. أما نجاحه الفكري فكان في تبني سائر الأحزاب التي أعقبته خطه السياسي- علنأ على الأقل. أما فشله التنظيمي فقد اتضح حين اضطر إلى تصفية نشاطه بعد سنة ونصف السنة تقريبأ (من تموز (يوليو) 1932 إلى كانون الأول (ديسمبر) 1933 بسبب مقاومة الانتداب له وقلة المال وصفات العضوية الشديدة (حول الحركة العربية الحديثة الجزء الثالث ، محمد عزة دروزة ص 103- 104). وقد بقي الحزب في الميدان شكليأ وكان يتمثل دائما فى الهيئات القومية المحلية والقطرية. ولكن تقلص نشاط حزب الاستقلال لم يقلص نشاط الحركة القومية الشعبية فالعوامل السياسية والاقتصادية التى أشار إليها حزب الاستقلال في بياناته كانت تستنفر نشاطآ ثوريأ. وفعلأ انفجر هذا النشاط بهبة عام 1933 المعادية للامبريالية البريطانية. وتقرر المصادر البريطانية أن بداية الوثبة كانت في آذار (مارس ) 1933 حين أصدرت اللجنة التنفيذية بيانأ حذرت فيه من خطر الهجرة الصهيونية المتدفقة وانتقال الأراضي إلى المؤسسات الصهيونية. ثم جاء مؤتمر 26 آذار 1933 الذي اشترك فيه ممثلون عن مختلف فئات الشعب من المدن والقرى وقرر عدم التعاون مع السلطات البريطانية ومقاطعة الهيئات الحكومية المشتركة والبضائع البريطانية والصهيونية ، ومما استنفر الرأي العام العربي في فلسطين ودفع الجماهير إلى تشديد الكفاح مجريات المؤتمر الصهيوني العالمي الذكي عقد في براغ في آب (أغسطس) 1933، ودعا إلى بناء الوطن القومي اليهودي في فلسطين بأسرع مايمكن. وهكذا كانت تتراكم عوامل الهبة التى إنفجرت بعنف بعد شهرين. ومرة أخرى قادت اللجنة التنفيذية المعركة ووجهتها ببيان أصدرته بعد اجتماعها في تشرين الأول (اكتوبر) سنة 1933 وأعلنت فيه دعوتها الجماهير إلى: " إعلان سخط الأمة العربية في فلسطين التى بليت بالاستعمار البريطاني على عبث الحكومة البريطانية بحقوق أصحاب البلاد وتحديها عواطفهم الوطنية... واستهتارها بكيانهم الوطني ومصالحهم الاقتصادية والاجتماعية بفتحها أبواب البلاد للهجرة الصهيونية وتسهيلها إنتقال أراضي العرب الى أيدي اليهود واستبدادها بالحكم المباشر. ودعت اللجنة التنفيذية الشعب إلى إعلان سخطه بالمظاهرات.

    واجتاحت البلاد موجة من المظاهرات الشعبية التي امتازت بالثورية وتحدي قوى القمع الاستعمارية، فقد جرت هذه المظاهرات على الرغم من الخطر الحكومي واصطدمت في كل مرة بقوات الأمن الانتدابية ودفعت ثمن ذلك ضحايا عزيزة .
  وكانت التظاهرات التى جرت في 13 تشرين الأول (اكتوبر) في القدس ويافا، والتظاهرات التى جرت بعد ذلك في حيفا ونابلس وسائر المدن تعبيرآ مجسدآ عن نضالية الجماهير ورعيها. وذكر الكتاب الذين ارخوا هذه الهبة أن النساء اشتركت في النضال في نطاق واسع وأن وفودأ من سوريه وشرق الأردن اشتركت في مظاهرة يافا بتاريخ 13 تشرين الأول (اكتوبر) 1933.
    وفي هذه المظاهرة استخدم البوليس النار مما أدى إلى سقوط عدد من القتلى في ساحة البوابة التى أطلقت عليها الجماهير فيما بعد اسم " ساحة الشهداء " . (فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية- عيسى السفري ص 211).
   وحسب تقرير الحكومة البريطانية امتدت هذه الهبة ستة أسابيع ووصلت موجتها إلى المدن الرئيسية كلها.

وخلال المصادمات مع قوات الأمن البريطانية سقط 14 شهيدآ وجرح 204 مواطنين عرب. وكالعادة أقامت الحكومة لجنة تحقيق لدراسة أسباب " الاضطرابات " برئاسة وليم ميورسون فقدم تقريره في شباط (فبراير) 1934.

    وأبرز ميورسون في تقريره أن الفرق الكبير بين هذه الهبة " واضطرابات "  1920 و 1929 أن العرب لأول مرة  يهاجمون الحكومة ويتهمونها بالتحيز للصهيونيين .

وإذا كان اشتراك النساء في الهبة الثورية قد دل على عمق التحسس الشعبي بقضية الحرية وتحريكها مختلف فئات الجماهير فقد دل اشتراك وفود من القطرين العربيين المجاورين على فعالية فكرة الوحد ة العربية والتضامن العربي على الرغم من التمزق الاقليمي الذي فرضتة الامبريالية على العالم العربي . وانعكست هذه الفعالية حين تأسست الأحزاب بعد هذه الهبة فالحزب العربي الفلسطيني الذى تأسس في 24 نيسان (ابريل) 1935 وضع بندأ سجل فيه الدعوة ، بعد استقلال فلسطين، إلى " ارتباط فلسطين بالأقطار العربية في وحدة قومية سياسية مستقلة إستقلالأ تامأ " . وحزب الاصلاح الذى تأسس في 18 حزيران (يونيو) 1935 جعل من غاياته " استقلال فلسطين ضمن الوحدة العربية واعتبار قضية فلسطين جزأ من القضية العربية الكبرى " . وحزب الكتلة الوطنية سجل في برنامجه " السعي إلى استقلال فلسطين التام والمحافظة على عروبتها ضمن الوحدة العربية " . ووجود ما يشبه الاجماع على قضية الوحدة العربية يوحي بأن القيادة القومية على الرغم من إعترافها عمليآ بضرورة العمل على الصعيد الاقليمي في فلسطين، بدليل دعوتها إلى استقلال فلسطين، كانت لا تزال تنطلق من الوعي بوحدة سورية الطبيعية وترى فلسطين جزءأ من سوريه: سوريه الجنوبية كما كان يطلق عليها قبل الاحتلال البريطاني. وعمقت هبة 1933 التمايزفي الحركة القومية العربية وتبلور تنظيميأ اكثرمن أي وقت مضى . فبعد هذه الهبة تأسس حزب الدفاع الوطنى برئاسة راغب النشاشيبي، زعيم إحدى العائلتين الاقطاعيتين الكبيرتين في البلاد (الثانية هي عائلة الحسينى) وانتهج سياسة المهادنة مع الامبريالية البريطانية . ولا يغير من هذا أنه وضع في بداية غاياته " السعي لاستقلال فلسطين استقلالأ يكفل السيادة العربية " و " عدم الاعتراف بأية تعهدات دولية تؤدي إلى أية سيطرة أجنبية أو نفوذ سياسي أووضع سياسي أو إداري يمس ذلك الاستقلال " . ولم تختلف قيادة الحزب العربي الفلسطيني برئاسة جمال الحسينى من حيث إنتسابها الطبقي عن حزب الدفاع الوطنى. فعائلة الحسينى عائلة إقطاعية عريقة لم يستنكف بعض أفرادها عن التعاون مع الانتداب البر يطاني... إنما الفرق بين الحزبين يكمن في أن جماهير الفلاحين سارت وراء قيادة الحزب العربي فكان هذا الحزب يمثل إرادتهم الوطنية إلى حد ما. ويعود هذا إلى أن هذا الحزب قادته عائلة الحسيني ومفتى القدس (فلسطين) الحاج أمين الحسيني الذي استخدم، بوصفه رئيس المجلس الاسلامي الأعلى، جهاز المجلس لنشر نفوذه بين الفلاحين تحت شعارات تمزج بين الدين والقومية. وقد رأينا كيف بادر المفتى في عام 1931 إلى عقد المؤتمر الاسلامي " العالمي " . ونستطيع أن نذكرهنا أنه عقد في 20 كانون الثاني (يناير) 1935 في القدس مؤتمر اسلامي محلي حضره " أربعمائة من القضاة ورجال الافتاء وأئمة المساجد والوعظ والمدرسين والخطباء من سائر أنحاء فلسطين " . وقرر المؤتمر إصدار فتاوي دينية بتحريم بيع أي شبر من أراضي فلسطين لليهود واعتبار الباعة مارقين من الدين . كما قرر المطالبة بوقف الهجرة ومنع بيوع الأراضي وتمكين الراغبين في وقف أراضيهم الآميرية ، وقفا ذريا أوخيريا ، من ذلك . ثم طالب بتسهيل هجرة العرب الراغبين في دخول فلسطين ، وناشد المؤتمر ملوك المسلمين والعرب مساعدة أهل فلسطين!! كذلك قرر المؤتمر مساعدة المشاريع الاقتصادية وتأسيس الشركات الوطنية وحض الأهالي على شراء المنتجات الوطنية. وانعكست الصلة بين هذا المؤتمر والفلاحين بدعوة المؤتمر الحكومة لسن قانون يشبه قانون الأفندية الخمسة في مصر (مع أنه مجرد قانون- أ. ت) لحماية صغار المزارعين من جشع كبار الملاكين والأغنياء . (عيسى السفري صر 228- 229). وانتهى المؤ تمر تنظيميآ بقرار يدعو إلى تأليف جمعية باسم " جمعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " وهي جمعية أرادت أن تأخذ اللجنة التنفيذية وتسيطر على الحركة القومية. ومرجع هذه الفكرة إلى جمعية كهذه نشأت في المملكة السعودية في عهد الدعوة الوهابية واشتهرت بالصرامة الدينية والرجعية الفكرية. ومع أن هذه الجمعية نشطت وأقامت 15 فرعأ في مختلف أنحاء البلاد ، إلا أنها لم تنجح في احتلال مكان التنظيمات السياسية ، فقد أحبطها بناؤها الديني في قطر كان يؤكد كفاحه الطابع القومي العربي ويجمع تحت لواء الحركة القومية أبناء الشعب العربي من مسلمين ومسيحيين. وكانت هذه الدعوة إلى الملوك المسلمين والعرب أحد مظاهر الانحرافات الرجعية التي تميزت بها قيادة الحركة القومية العربية التقليدية في فلسطين ، فهؤلاء كانوا في ذلك الوقت يوالون الامبريالية ويتعاونون معها ولا يخرجون كثيرأ عن إرادتها. وجسم تصريح الشيخ حافظ وهبة سفير السعودية في لندن لرويتر في 2 أيلول (سبتمبر) 1929 هذه الحقيقة إذ قال: " إن ابن سعود وشعبه يعترفان بأن فلسطين ارض مقدسة عند ثلاث ديانات كبيرة... ويرغب الملك من صميم فؤ اده أن يعيش المسلمون واليهود والمسيحيون فيها بالاتفاق والوئام... إن ابن سعود صديق لبريطانيه العظمى ومن المؤكد أنه لا يحاول أن يوجد لها مشكلات جديدة في فلسطين اوغيرها أوأن يوسع شقة المشكلات الحالية... ويعتقد الملك أن بريطانيه تقبض بيدها على قسطاس العدل بين اليهود والعرب " . (أمين سعيد - الثورة الكبرى الجزء الثالث ص 107). وظهر في هذه الفترة كذلك حزبان (أشرنا إليهما في إطار الحديث عن فعالية التضامن العربي): حزب الاصلاح الذي تأسس في 18 حزيران (يونيو) 1935 بقيادة الدكتورحسين فخري الخالدي الوطنية الذي تولى رئاسة بلدية القدس... وحزب الكتلة الوطنية بقيادة عبد اللطيف صلاح وقد اتخذ نابلس مركزأ له وتأسس في 4 تشرين الأول سنة 1935. ولم يختلف برنامجا هذين الحزبين عن برامج سائر الأحزاب . أما من حيث البناء الطبقي والتأييد الاجتماعي ففي الحالتين اتجه هذان الحزبان نحوالمثقفين أبناء الفئات الوسطى. على الرغم من أن عائلة الخالدي كانت تعتبر من العائلات الاقطاعية ذات النفوذ التقليدي . وتجدر الملاحظة إلى أن تأليف الأحزاب العربية التقليدية- عدا حزب الاستقلال- أعقب الانتخابات البلدية التى جرت في منتصف عام 1934 وكانت باعثأ لمهاترات ومماحكات عرفتها قيادات الحركات القومية التقليدية (التى كانت في بلاد أخرى أيضأ بقيادة أبناء الفئات العليا من متنوري الاقطاعية وأسياد الأرض والتجار وأبناء الفئات الوسطى). بل إن حزب الاصلاح اعتمد جوهريأ على البلديات بعد أن نجح الدكتورحسين فخري الخالدي في الفوزبرئاسة بلدية القدس في منافسة مريرة مع الرئيس الأسبق راغب النشاشيبي. وحيال كل هذه الأحزاب الطبقية القومية كان هناك الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي وحد بين صفوفه الشيوعيين اليهود والعرب وحارب الامبريالية البريطانية والصهيونية بلا هوادة. ولم يكن غريبأ أن تكون قوة الحزب في القطاع اليهودي . فالوعي الطبقي كان أشد بين العمال اليهود، ثم أن عددآ من اليساريين اليهود الذين جاءوا إلى البلاد في ظروف مختلفة ولدوافع مشابهة اكتشفوا بسرعة حقيقة الصهيونية ووجدوا طريقهم إلى صفوف الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي دعا، إنطلاقأ من مبادئه الثورية الأممية، إلى النضال ضد الامبريالية والصهيونية وأيد النضال القومي العربي بقدر انصبابه ضد الامبريالية البريطانية ودعا الجماهير اليهودية إلى تأييد هذا الكفاح باعتباره يعرب عن مصالحها الحقيقية. وسرعان ما احتدمت الأزمة بتشديد الكفاح القومي وشهد الحزب ظرفآ أصعب جدآ. ولقد قرر الحزب منذ مؤتمره الخامس الذي عقد في تموز (يوليو) 1923 أنه يرى في الحركة القومية العربية أحد العوامل الأساسية التى تقاوم الاستعمار البريطاني ولذا فهو يرى أن " من الواجب القيام بكل شيء من أجل مساندة هذه الحركة بمدى مقاومتها للاستعمار " . كذلك قرر أن " الصهيونية تتجسد فيها تطلعات البرجوازية اليهودية. وأن من الناحية السياسية وقفت الصهيونية في جبهة واحدة مع الاستعمار البر يطاني حيث ربطت مصيرها مع المحتلين الامبرياليين " (50 سنة للحزب الشيوعي في البلاد ص 39).

ومما جعل وضع الحزب الشيوعي أصعب تعاون القيادة الصهيونية مع السلطات البريطانية على مكافحة الحزب من ناحية. ومطاردة أعضاءه اليهود من ناحية ثانية - وبشكل خاص كانت قيادة الهستدروت الصهيونية تلاحق أولئك الأعضاء الذين تصدوا لسياستها القومية الانعزالية. ومن ألوان الملاحقة محاكمة الشيوعيين اليهود الذين عارضوا في احتلال العمل وطرد العمال العرب من المشاغل اليهودية. واحدى المحاكمات التي جرت في هذه الفترة محاكمة نس تسيونا خلال آذار (مارس)- نيسان (ابريل) 1932. آنذاك كان " النائب العام " في المحاكمة بن غوريون ، ووقف الرفيق الشيوعي الذي دافع عن المتهمين موقفأ أمميأ ووصف طرد العمال لأنهم عرب : " معركة سافلة وعمل إجرامي... وهونوع من الفاشية " (50 سنة للحزب الشيوعي في البلاد ص 41) . 

وقد تعرض الحزب لهجوم أجهزة القمع الانتدابية ولم يتمتع بشىء من العلنية ، وكل ما نجح فيه في هذه الفترة إصدار صحيفة " أور " العبرية " و" النور " العربية لفترة قصيرة.

الوطن القومي اليهودي

قلنا ان هذه الفترة شهدت نمو الوطن القومي اليهودى بازدياد وتيرة دخول المهاجرين اليهود فلسطين بضغط صعود هتلر إلى الحكم في المانيه وانتهاجه سياسته النازية العنصرية الشريرة . في ذلك الوقت ازداد ضغط الحركة الصهيونية على الادارة البريطانية لالغاء كافة القيود على الهجرة . ولخص المؤتمرالصهيوني الذى عقد في لوزان في نهاية تموز (يوليو) وأوائل آب (اغسطس) 1935 موقف المنظمة الصهيونية إذ جاء في قراره " أن المؤتمر الصهيوني وهو يثمن جيدأ الدور الذي تقوم به الدولة المنتدبة (بريطانيه) ويؤكد مجددآ إستعداد المنظمة الصهيونية للتعاون معها يناشد الحكومة القيام بمسؤولياتها بتفيذ سياسة فعالة ومنتظمة لتنمية الوطن القومي اليهودي على نطاق ووتيرة يفرضهما وضع اليهود في العالم، الأمر الممكن بمساعدة الحكومة الفعالة " (تقريرلجنة التحقيق الملكية لعام 1937. ص 80) . وفعلأ دخل البلاد بين 1932 و 1935 حوالى 100 ألف مهاجر يهودي مما جعل عدد اليهود في البلاد يتضاعف حوالي أربع مرات مما كان عليه في نهاية الحرب العالمية الأولى ويصل في عام 1935 إلى حوالي 350 الفأ . وفي عام 1936 أصبح 470 ألفأ اسميآ، أو 400 ألف إذا أخذنا بعين الاعتبار الهجرة غير المشروعة (التقرير ذاته ص 113) . وبارتفاع عدد اليهود في البلاد ارتفع عدد الدونمات التى أصبحت في حوزتهم وحوزة المنظمات الصهيونية من 544 ألف دونم في عام 1925 إلى1,332,000 دونم في عام 1936 ... واصبح عدد المستوطنات الزراعية 203 يعمل ويعيش فيها 000, 97 إنسان. (المصدر ذاته ص 114) . وذكر ولتر بريوس في كتابه " حركة العمال في اسرائيل " أن عدد سكان الريف اليهود ارتفع بين 1932 و 1935 من 50 ألفأ إلى 90 ألفأ وأن مساحات بيارات البرتقال ازدادت من 100 ألف دونم إلى 150 ألف دونم بين 1931 و1935 . واتسعت المدن والمستوطنات اليهودية نتيجة حركة البناء الواسعة النطاق التى رافقت الهجرة الجماهيرية التى تدفقت باشتداد بربرية العنصرية النازية . آنذاك أسست الوكالة اليهودية مكاتب في برلين لتسهيل هجرة اليهود وتعاونت تعاونآ وثيقأ مع النازية لهذا الغرض. وتضاعفت الأموال المستثمرة في النشاط الاقتصادي المرافق لحماية بناء الوطن القومي اليهودي. وبين 1918 و 1936 استثمرت الصناديق القومية في فلسطين 14 مليون جنيه (حوالي 40 مليون دولارحسب التسعيرة في ذلك الوقت) في حين استثمرت الشركات الخاصة الأجنبية والمحلية 63 مليون جنيه (حوالي 180 مليون دولار) دخل نصفها النشاط الصناعي والزراعي خلال السنوات الأربع الأخيرة . وحسب تقرير لجنة التحقيق الملكية تأسست بين 1920 و 1935 - 4,157 منشأة منها 1,246 منشأة صناعية و 2,911 منشأة صناعية يدوية. وكذلك ارتفع عدد العمال اليهود ليصبح 32 ألف عامل يعيلون 80 ألف إنسان . (المصدر ذاته ص 210). وفي هذه الفترة كانت القوات اليهودية المسلحة، في المنظمة التى عرفت " بالهاجناه" قد وصلت حسب المعلومات التى أوردتها لجنة التحقيق الملكية 10 آلاف محارب صف أول مع احتياطي (خط ثاني) يتألف من 40 ألف محارب (المصدر ذاته ص 200). وكان من الطبيعي في مثل هذا الوضع أن ينعكس الصراع الطبقي في التنظيم الحزبي أولأ في النشاط السياسي. وقد ظهر الصراع الطبقي في عدد الاضرابات التي بلغت بين 1932 و 1935 - 55 إضراباً اشترك فيها 1,327 . وفي محاولات الاصلاحيين ( حزب البرجوازية اليميني بقيادة فلاديمير جابوتنسكي ) تحطيم بعض هذه الاضرابات كما حصل في إضراب عمال البناء في بيتح تكفا وشركة فرومين للبسكويت في القدس في فترة 1932 - 1933 (حركة العمال في اسرائيل، ولتر بريرس، ص 118). ولم يقتصر الصراع الطبقي على الميدان النقابي بل تعداه إلى الميدان السياسي. لقد كانت أكثرية العمال العددية في المجتمع اليهودي في فلسطين تنعكس في تنظيمات السكان اليهود المحلية وفي المؤتمرات الصهيونية. وفي 1933 و 1935 استطاعت هيئات العمال أن تفوز بـ 70 بالمئة من الأصوات في انتخابات تلك التنظيمات (المصدر ذاته ص 121). ولذلك لم يكن غريبآ أن تحاول قوى اليمين (الاصلاحيين) ضرب التنظيم العمالي بأي شكل من الأشكال. وقد كان أحد الأشكال اغتيال حاييم ارلوزروف، أبرز قائد عمال في ذلك الوقت ورئيس الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية، في 16/2/1933. وعلى الرغم من أن الاصلاحيين نفوا أن يكون لهم علاقة بالحادث فالتهمة ثبتت على منتسبين إليهم ، وحكم على اثنين منهم بالسجن. ولا جدال في أن اغتيال أرلوزروف كان اغتيالأ سياسيآ. فقد كان في ذلك الوقت - حسب ما كتبه ولتر بريوس- ينتهج سياسة توافق مع سلطات الانتداب الأمر الذي كان يغضب الاصلاحيين. (كتابه، حركة العمال في اسرائيل ، ص 121). ولا بد من الملاحظة هنا أن الصراع بين الاصلاحيين ومنظمات العمال ، وأهمها حزب مباي ، كان صراعآ بين خطين سياسيين بالاضافة إلى كونه صراعآ طبقيآ. ففي حين صارت منظمات العمال المختلفة والصهيونيين العموميين (حزب البرجوازية الأصيل) في طريق التعاون مع الامبريالية البريطانية واكتفت بالدعوة إلى الهجرة والاستيطان وتثبيت الوطن القومي اليهودي ، كان الاصلاحيون يتجهون نحو التعاون مع دول أخرى وينادون بإقامة الدولة اليهودية حالأ الأمر الذي اعتبره الجناح الآخر غير واقعي في الظروف آنذاك. وهناك ما يوحي بأن الاصلاحيين كانوا على اتصال مع إيطاليه الفاشستية التي كانت تعطف عليهم وتعتقد أن نجاحهم قد يفتح ثغرة أمام تسربها في المنطقة . وفي هذا الصدد كتب ميخائيل بار روهر في كتابه " النبي المسلح: حياة بن غوريون ": " حتى تنجح الصهيونية قال موسوليني (زعم إيطاليه الفاشستية- أ. ت) للراب براتو في عام 1935: لا بد لكم من دولة يهودية بعلم يهودي ولغة يهودية والشخص الذي يفهم ذلك فاشيكم جابوتنسكي " (ص 49). وعلى الرغم من أن الصراع الحاد بين مباي ، بشكل خاص ، والاصلاحيين ، فقد حاول بن غوريون في عام 1934، بوحي " مصلحة الصهيونية العليا " أن يتفاهم مع جابوتنسكي فاجتمع الاثنان في تشرين الأول (اكتوبر) في لندن واتفقا على توحيد حزبيهما، مباي والحزب الاصلاحي، ولكن أعضاء الحزب رفضوا هذا الاتفاق . (المصدر ذاته ص 51- 52). وعلى الأثر تعمق الصراع إلى حد دفع جابوتنسكي والاصلاحيين إلى الانسحاب من المؤتمر الصهيوني في عام 1935. وفي هذا المؤتمر انتخب بن غوريون رئيسآ للجنة التنفيذية الصهيونية وللوكالة اليهودية ودخلت الحركة الصهيونية في فلسطين طريقآ أعنف ازاء الشعب العربي الفلسطيني . فبن غوريون " لا يحب العرب... وكان يشير إليهم بالاعداء حين كان يذكرهم في يومياته" (المصدر ذاته ص 53). ونقول " طريق أعنف " لأن هذه الفترة كما لاحظنا تميزت بإجلاء الفلاحين عن أراضيهم. وتثديد سياسة العمل العبري أو طرد العمال العرب من المنشآت والمزارع اليهودية. وقد تعرض الشيوعيون اليهود كما لاحظنا إلى ملاحقة المنظمات الصهيونية في هذه الفترة لدفاعهم عن حقوق العمال والفلاحين العرب. ويستطيع المراقب أن يرى عنف كراهية قادة الصهيونية للشيوعيين بما كتبه بعض "المؤرخين " الصهيونيين . وهكذا زيف أحدهم ، ولتر بريوس ، مواقف الشيوعيين فزعم أنهم حرضوا الفلاحين العرب ضد العمال اليهود (كذا) باعتبارهم الأعداء لا " الأفندي " الذي يجبي فوائد ربويه عاليه وأيدوا الاقطاعين العرب!! (كتابه حركة العمال في اسرائيل ص 122). وفي هذه الأوضاع أصبحت قضية العمل العبري او احتلال العمل إحدى القضايا التي يثيرها العمال العرب ويحتجون عليها في مذكراتهم كما احتجت عليها جمعية العمال العرب في يافا (عيسى السفري- ص242 ). في كتاب " النبي المسلح: حياة بن غوريون " ، كتب ميخائيل بار زوهر: " من وجهة النظر البريطانية كان أقل من 200 ألف يهودي يساعدهم أبناء عنصرهم المنتشرون في العالم كله أحق بالاعتبار من ملايين العرب المنتشرين في الشرق الأوسط ". وهذا صحيح ، فالامبريالية البريطانية حين منحت وعد بلفور أرادت أن تقيم وطنآ قوميآ يوطد مواقعها في الشرق العربي ويحمي قناة السويس شريان مواصلاتها إلى امبراطوريتها في الهند ، واكتشفت أن تشديد الاحتراب اليهودي العربي أفضل سبيل يؤدي إلى توطيد مواقعها، ولذلك كان عليها أن تساعد على إقامة هذا الوطن القومي بحيث يكون التوازن ممكنآ بين الطرفين. وهذا الوضع أيقظ الحركة القومية العربية على خطورة السياسة الامبريالية البريطانية فكانت هبة 1933 موجهة ضد الامبريالية البريطانية. وجاءت التطورات التي أعقبت 1933 تؤكد مسؤولية الانتداب البريطاني عن حرمان الشعب العربي من حقوقه القومية. ولذلك كان لا بد من الانتقال إلى أساليب نضال أعنف. وهكذا نشأت الظروف لثورة 1936. هوامش (1) تجدر الملاحظة أن إحصاءات الحكومة والإحصاءات الصهيونية على الوجه التالي السنوات إحصاءات الحكومة الاحصاءات الصهيونية وأغلب الظن انها تشمل المهاجرين غير الشرعيين 1930 1914 4944 1931 4075 4075 1932 9553 15,553 1933 30,327 38,656 1934 42,359 49,359 1935 61,854 65,638


الفصل الثالث عشر

ثورة 1936

   تراكمت الأحداث في سنوات الثلاثين حتى خلقت وضعآ خطيرأ على الصعيد الدولي أصبح يؤثر على مجريات الأمور في كل مكان في العالم.

فصعود النازية إلى الحكم في المانيه وما واكبه من لا سامية عنيفة وعسكرة عدوانية، أعقبه عدوان إيطاليه الفاشية النادر على اثيوبيه واحتلالها في عام 1935، وكان مقدمة الحرب الأهلية التي أشعلها النازيون والفاشيون في اسبانيه الجمهورية في عام 1936 وشجع على محاولة اليابان العسكرية التوسع على حساب الصين العاجزة بسبب قيادتها ونظامها الاقطاعي. كل هذه كانت عوامل أسرعت باندلاع الحرب العالمية الثانية لغياب اتفاق أمن جماعي كان يسعى إليه الاتحاد السوفيتى ليصد إنتشار النازية على المستوى الأوروبي ولتحول دون نشوب الحرب فعلأ. ولكن من قبل أن تسرع في وتيرة الانزلاق نحو الهاوية استنفرت أخطار النازية من ناحية. والعدوان الامبريالي الايطالي والياباني من ناحية ثانية. القوى الشعبية فتنادت في دول الرأسمالية المتطورة إلى وقف اجتياح النازية لأجهزة الحكم، كما تنادت في المستعمرات إلى الكفاح من أجل التحرر القومي. وهكذا مثلأ توافق انتصار الجبهة الشعبية، بقيادة الطبقة العاملة ، في فرنسه مع النهوض الشعبي في مستعمرات فرنسه امتدادأ من المغرب الأقصى حتى سوريه. والواقع أن موجة ثورية معادية للامبريالية اجتاحت العالم العربي بين 1935 و 1937 وتميزت بالعنف على الرغم من تباين الأقطار العربية واختلاف درجات تطورها. وهذا الاختلاف فرض على الحركات القومية أهدافآ تتلاءم مع أوضاعها العينية. ولذلك لم يكن غريبآ مثلأ أن تطالب الحركة القومية في سوريه بالاستقلال السياسي وبمعاهدة مع فرنسه على غرار المعاهدة العراقية- البريطانية في حين كانت الحركة القومية في العراق ترى في تلك المعاهدة عبئآ ثقيلآ يقيد حريتها. والمهم هنا ملاحظة التفاعل بين الأحداث عامة وبين أحداث العالم العربي خاصة، فمما لا شك فيه أن الانتفاضات الثورية في هذا القطر العربي أوذاك أثرت على مسيرة الحركات القومية في الأقطار العربية الأخرى . ويعترف بهذا تقرير اللجنة الملكية لعام 1937 حين يقرر: " وبالضبط كما كان ضغط اليهودية الأوروبية على فلسطين الآن (1936- أ. ت) أشد ما يكون، كان كذلك تأثير الأحداث في الأقطار المجاورة. ففي شتاء 1935- 1936 شهدت المنطقة إنبعاثآ في النشاط القومي في مصر وسوريه وكان على درجة من الحيوية في القطرين بحيث حقق أهدافه خلال بضعة شهور وفاز القطران بالاستقلال القومي " (التقرير ص 92). والمقصود هنا الانتفاضة التي إندلعت في مصر في شهر تشرين الثاني ( نوفمبر) 1935 على شكل مظاهرات عنيفة اجتاحت القاهرة وغيرها من المدن وأدت إلى مصادمات مع قوات الأمن وسقوط قتلى وجرحى، واضراب عام في القاهرة جرى في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 1935، وتحرك شعبي دينامي أجبر الأحزاب على تأليف جبهة وطنية في 10 كانون الأول (ديسمبر) 1935 طالبت بإعادة دستور 1923 والاعتراف عمليآ باستقلال مصر. وتحت ضغط النشاط الجماهيري والوحدة القومية اضطرت بريطانيه إلى مفاوضة زعماء الجبهة في آذار (مارس) 1936. وانتهت المفاوضات باتفاق جاء في مواده الأولى إعلان بريطانيه إنهاء إحتلالها العسكري رسميآ والموافقة على إنضمام مصر إلى عضوية عصبة الأمم . وتعهدت مصر بوضع مقدراتها تحت تصرف بريطانيه أثناء الحرب كما وعدت بأن لا تتخذ علاقاتها الأجنبية موقفآ يتعارض مع الحلف مع بريطانيه . ومع هذا لم تغير هذه الشروط من أهمية تلك المعاهدة ولذلك اعتبرت المحافل القومية آنذاك نصرآ حققته الحركة القومية في مصر (1). أما الانتفاضة في سوريه فقد بدأت في مظاهرة جرت في دمشق في 19 كانون الثاني (يناير) 1936 وتجددت في الأيام التالية على وجه أعنف مما أدى إلى وقوع إصطدامات دامية بين المتظاهرين والجيش الفرنسي... ثم تبلورت في إضراب عام بدأ في دمشق في 20 كانون الثاني (يناير) 1936 وأعلنته الحركة القومية " حتى تنال البلاد حقوقها التي تلخصت بإعادة دستور الجمعية التأسيسية طليقآ من كل قيد وإلغاء نظام الانتداب بعد ثبوت فشله بالتجارب المكررة واعلان استقلال سوريه " . وقد امتد الاضراب إلى سائر مدن سوريه التي شهدت ثورة قومية ، مختلفة العنف، خاصة في حمص وحماه وحلب. وانتهى هذا الاضراب بعد حوالي خمسين يومآ في مطلع آذار (مارس) 1936 بعد أن تعهدت الحكومة الفرنسية بإعادة الحياة النيابية إلى سوريه وعقد إتفاق مع حكومة قومية، ينص على الاعتراف باستقلال البلاد. وفعلأ جرت هذه المفاوضات الفرنسية- السورية، بعد إنتصار الجبهة الشعبية في إنتخابات فرنسه في حزيران (يونيو) 1936، وانتهت إلى نجاح في 9 أيلول (سبتمبر) 1936. وفي الاتفاق اعترفت فرنسه باستقلال سوريه ، ولكنها قيدت ذلك الاستقلال بمعاهدة "حلف وصداقة " يخولها عسكرة قواتها في الأراضي السورية . وهنا أيضآ اعتبرت الحركة القومية الاتفاق إنتصارآ ملموسآ في ظروف المنطقة والعالم الموضوعية . وكان هذا النشاط القومي في القطرين العربيين المتجاورين عاملأ في ثورة 1936 في فلسطين ولكنه لم يكن حافزآ لها . أما الحافز فكانت عوامله- كما أوردنا عند سرد ظروف "هبة 1936 "- تكمن في السياسة الامبريالية البريطانية والممارسة الصهيونية المعادية للشعب العربي الفلسطيني . وعمقت التطورات أخطار تلك العوامل وأدى عدوان ايطاليه على الحبشة إلى تحويل التجارة العالمية عن المنطقة إلى حد ما، الأمر الذي شدد أزمة العمل في فلسطين. ويذكر ولتر بريوس في كتابه " حركة العمال في اسرائيل ": " أن نتائج التوتر الدولي في البحر الأبيض المتوسط بدأت تظهر، في آب (أغسطس) 1935 على شكل تقليص في الاعتمادات في فلسطين مما أدى إلى اضعاف وتيرة البناء وابطاء في صناعة مواد البناء الممتد إلى ميادين أخرى . ولأول مرة منذ 1931 عادت البطالة إلى الظهور " . وبديهي أن البطالة لم تقتصرعلى القطاع اليهودي بل انتشرت إلى القطاع العربي على نطاق أوسع إذ كان النشاط الاقتصادي في القطاع اليهودي ينمو بسبب الهجرة والتطوير الصناعي والزراعي، في حين أسهمت السياسة الامبريالية والممارسة الصهيونية في التضييق على النشاط الاقتصادي العربي بحيث أدى إلى تفاقم أزمة البطالة خصوصآ في هذه الفترة بالذات حين اتسعت صفوف العمال العاطلين نتيجة تشريد الفلاحين العرب عن أراضيهم التى باعها الاقطاعيون الغائبون في أكثر الحالات- إلى اليهود. ولعل تعميق شعور الجماهير العربية باليأس من ممكنات تغيير الأوضاع بالنشاط السياسي، والخوف من اتساع الوطن القومي اليهودي على حساب كيانهم ، نجم عن عاملين: ارتفاع الهجرة اليهودية إلى رقم قياسي هو 61,854 في عام 1935 ، وتجميد الادارة البريطانية مشروع المجلس التشريعي .



مشروع المجلس التشريعي

في 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 1935 قدم زعماء الحركة القومية التقليديون مذكرة إلى المندوب السامي البريطاني طالبوا فيها من جديد:  بإنشاء حكومة نيابية في فلسطين .  وبوقف الهجرة اليهودية .  وبمنع بيوع الأراضي . وردت الحكومة البريطانية على هذه المذكرة فرددت موقفها القديم من الهجرة مؤكدة أن سياستها قائمة على قدرة الاستيعاب الاقتصادي في البلاد وأعلنت استعدادها لوضع تشريع لا يسمح بموجبه، باستثناء قضاء بئرالسبع ومناطق المدن وباستثناء الأراضي المغروسة بالأشجار الحمضية، ببيع الفلاح أي قسم من أرضه إلا إذا بقي له حد أدنى يسمح لة بإعالة عائلته من دخله. أما بشأن الحكومة النيابية فكان الجواب: " إن الجواب على طلب انشاء حكومة ديمقراطية في فلسطين قد أبلغه المندوب السامي للزعماء العرب حين قدم لهم اقتراحات بشأن تشكيل مجلس تشريعي يضم أكثرية كبيرة من الأعضاء غير الموظفين عن طريق الانتخاب ". وفعلأ عرضت الحكومة البريطانية في 21 و 22 كانون الأول (ديسمبر) 1935 اقتراحاتها بشأن مجلس تشريعي على الزعماء العرب واليهود . وحسب الاقتراح كان المجلس التشريعي سيتألف من 28 عضوآ على الوجه الآتي: 5 موظفين (بريطانيين طبعآ) واثنان يمثلان التجار و 11 مسلما (ثمانية ينتخبون وثلاثة يعينهم المندوب السامي) وسبعة يهود (ثلاثة ينتخبون وأربعة يعينهم المندوب السامي) وثلاثة مسيحيين (1 ينتخب واثنان يعينهم المندوب السامي) ويكون الرئيس محايدآ لا علاقة له بفلسطين . ومع أن أكثرية المجلس التشريعي كانت مفروضة أن تكون منتخبة إلا أن قدرة المجلس حددتها ثلاثة قيود- فلا يحق للمجلس أن يناقش شرعية الانتداب البريطاني ، ومن حق المندوب السامي أن يشرع في ظروف معينة بما في ذلك ما يتعلق بالأمور الجوهرية كالهجرة والأراضي ، كما أن من حقه أن يقرر لائحة هجرة العمال اليهود. وكان طبيعيآ أن تهاجم صحافة البلاد المشروع، ولكن إنطلاق صحافة كل من الطرفين العربي واليهودي كان مختلفآ ، قرره الموقف من القضايا المصيرية الموضوعة على بساط البحث . فقيادة الحركة القومية العربية أنتقدت المشروع لأنه يجرد المجلس التشريعي من الصلاحيات ويجعل من الحكم النيابي مهزلة ، وفي حين هاجمت القيادة الصهيونية مجرد فكرة مجلس تشريعي ما دام اليهود أقلية في البلاد. وكالعادة غلفت القيادة الصهيونية موقفها بذرائع الدفاع عن الديمقراطية!! وهذا في وقت كانت تعلن فيه حقيقة خوفها من تطور الأجهزة المنتخبة . وهكذا كتب حاييم. وايزمن في " التجربة والخطأ " يفسر أسباب مقاومة القيادة الصهيونية المشروع: " ان الحديث عن منتخبين عرب يمثلون شعبهم يتناقض مع المبدأ الديمقراطي الذي يفرض أن يكون تعبيرآ عنه . ان مجلسآ تشريعيآ في فلسطين سيكون مجرد معطف معاصر لنطام الاقطاعية القديم أي استمرارسلطة الدم العائلية التي قبضت على البلاد منذ قرون ومرغت وجوه الفقراء في التراب "! (ص 380). وبعد ذلك أضاف: " لنا من الخبرة ما يكفي لأن نعرف أن الموظفين البريطانيين في فلسطين لا يمكن الاعتماد عليهم في الدفاع عن مبادىء الانتداب ، هذا أولأ، وثانيآ نرى في الأفق أن الخطوة الثانية بعد إقامة المجلس ستكون إعطاء العرب (بوصفهم الأكثرية- أ. ت) مزيدآ من السلطات على الأمور الخارجة عن صلاحيات المجلس الأمر الذي سيواجهنا بخطرتجميد الوطن القومي اليهودي " (المصدر ذاته). إن الاختفاء وراء الاقطاعية والتظاهر بمعاداتها كان سلاحآ من أمضى أسلحة القيادة الصهيونية في حملة التضليل بين الاشتراكية الديمقراطية اليمينية في أوروبه . وبتضخيم مكانة القيادة الاقطاعية العربية وبالتلويح بطبيعتها الطبقية الطاغية زيفت الصهيونية الحقائق التى تبلورت جوهريآ في أمرين: في تعاون القيادة الصهيونية مع الاقطاعيين العرب سياسيآ واقتصاديآ من وراء الستار، وفي هجوم عنيف على الفئات الشعبية العربية، فضحايا الاجلاء عن الأراضي العربية لم يكونوا اقطاعيين بل فلاحين فقراء وضحايا سياسة احتلال العمل لم يكونوا اقطاعيين بل عمالأ معدمين حاولوا كسب الاود عن طريق بيع قوتهم البدنية. ولهذا لم يكن إمرآ غريبآ في هذه الفترة بالذات ، التي امتازت نتيجة البطالة، بنشاط الفرق الضاربة الصهيونية المتعاظم لطرد العمال العرب من المنشآت والمزارع اليهودية ، أن ترسل جمعية العمال العرب في يافا مذكرة إلى المندوب السامي تعالج فيها سياسة الادارة البريطانية في إعطاء شهادات الهجرة وتحدد عدد العمال اليهود العاطلين بتسعة آلاف وعدد العمال العرب العاطلين بـ 23 ألفآ ثم تنتقد احتكار العمال اليهود المشروعات الاقتصادية الكبرى (كهرباء البحر الميت والحولة) وتخصيص العمال العرب بالأعمال الشاقة. ثم تذكر طرد الحاميات اليهودية العمال العرب من أعمالهم وإحلال اليهود مكانهم وتطالب في النهاية بوقف الهجرة. لذلك فالتلويح " بالديمقراطية " كان بمثابة السخرية من الديمقراطية التي لا تتجسم بالشكل بل في المضمون السياسي والاقتصادي. إن القيادة العربية ، على الرغم من إنتقادها المشروع، لم ترفضه في حين قاومته القيادة الصهيونية بالظفر والناب تؤيدها المحافل المغرقة في الرجعية في الطبقة الحاكمة البريطانية التي كانت تكره شعوب المستعمرات وتحقد عليها وترفض التنازل عن أي إمتيازات لها. ويصح القول هنا أن المحافل البريطانية الحاكمة التي أرادت أن تمنح فلسطين بعض الامتيازات الشكلية، هي المحافل التى كانت تأخذ في عين الاعتبار ضرورة مواجهة المنافسة الامبريالية النشيطة التي مثلتها إيطاليه الفاشية والمانيه النازية عن طريق التنازلات للحركات القومية العربية التي كانت تحاول إيطاليه والمانيه جذبها إلى جانبها بالتظاهر بتأييدها. كذلك لا بد من القول أن المحافل الامبريالية البريطانية التي اتخذت مبدأ " فرق تسد " أساسآ لنهجها في فلسطين كانت ترى في بعض التنازلات للحركة القومية العربية من ناحية ومواصلة تأييد المشروع الصهيوني من ناحية ثانية. أفضل موازنة تمكنها من التظاهركفصيل في النزاع العربي اليهودي لا كالطرف الجوهري فيه على إعتبار أن الصراع كان فعلآ يدور بين الشعب فلسطيني والامبريالية البريطانية من أجل تحرير فلسطين، وفي هذا الصراع وقفت الصهيونية إلى جانب الامبريالية البريطانية، في حين وقفت القوى الديمقراطية اليهودية إلى جانب معركة التحرر المعادية للامبريالية. والمقررآنذاك أن مشروع المجلس التشريعي البريطاني أثناء المناقشات التي جرت في 28 شباط (فبر اير) و 20 آذار (مارس) تعرض إلى إنتقاد لاذع من مختلف الأحزاب في مجلس العموم البريطاني أثناء المناقشات التى جرت في 28 شباط و 20 آذار 1936 مما أوحي للجماهير العربية- كما قلنا- بعدم جدوى النضال السياسي. وقد حاولت بريطانيه أن تزيل أثر هذه المناقشة فدعت وفدآ عربيآ لمباحثتها في المشروع في بريطانيه، ولكن إنفجار الثورة ألغى هذه المفاوضات.

حركة القسام والاضراب العام

في 11 تشرين الأول (اكتوبر) 1935 اصطدمت قوة بريطانيه بفرقة عربية مسلحة في جبال جنين وخلال المعركة الحامية قتل أربعة من الفرقة بينهم زعيمهم عزالدين القسام مما أدى إلى تسمية أتباعه فيما بعد " القساميين " . لقد كشف هذا الاصطدام وجود تنظيم سري يؤمن بالثورة المسلحة ويعد لها. وفي هذا الصدد هناك ما يوحي أن القوة البريطانية فاجأت الفرقة العربية بصحبة القسام وهي تتمرن من قبل أن يستكمل التنظيم استعداده. ولكن الأهم أن هذا التنظيم السري جرى في عزلة عن القيادة القومية التقليدية وكفر بأساليبها، وكان يعتمد على الفئات الشعبية ويعمل بين العمال والفلاحين. ثم أن دعوة الحركة امتازت بالوضوح إذ رأت العدو الجوهري في الانتداب البريطاني وبذلك خلت من الملامح الرجعية التي كانت تخلط بين الصهيونية واليهود. ولم يقلل من أهمية هذه الحركة ، في فترتها الأولى، الطابع الدينى الذي تلونت به . ودلت موجة المظاهرات التي جرت خلال تشييع جثمان القسام إلى مقره الأخير والاستذكارات اللاحقة على توثب الجماهير الشعبية واستعدادها الثوري. ولذلك كان من السهل أن تشتعل المعركة حتى في أعقاب حادثة قطع طرق عادية جرت في 15 نيسان (أبريل) 1936 على طريق طولكرم- نابلس وأودت بحياة يهوديين ، بالأزمة وصلت إلى درجة الانفجار. في كتابه " القضية فلسطينية " كتب يوسف هيكل (الذي شغل منصب رئيس بلدية يافا قبل حرب فلسطين): " إن هذه الحادثة إعتيادية ولا علاقة لها بالسياسة ومثيلاتها عديدة في جميع البلدان ، وليس العرب براضين عن مثل هذه العصابات ، وأضرارها تلحق جميع سكان فلسطين دون تفريق بين عربي ويهودي. وحادث 15 نيسان (أبريل) لم يكن الأول من نوعه، فلووقفت حوادث ذلك اليوم عند هذا الحد لما إنفجرت قنبلة الاضطرابات حينئذ ولما اجتاحت الثورة فلسطين ، غير أن اليهود مزجوا بين الاعتداءات الاعتيادية والسياسية فانتقموا بقتل رجل أو رجلين من العرب الأبرياء " (ص 198). بهذا أعرب يوسف هيكل ، مثل غيره من الكتاب ! عن الرؤيا لما كان يجري في البلاد. فبعد حادث السطو العادي قتلت عناصر صهيونية عاملين في كوخ يقع على طريق- بيتح تكفه- كفار سابا (16/4/1936) إنتقامآ لمقتل اليهوديين . وفي الوقت ذاته هاجمت مثل هذه العناصر المواطنين العرب في المنطقة المتاخمة لتل أبيب. وتوحي كافة الدلائل (وهذا يساعد على تحديد مسؤوليات الأزمة) بأن القيادة الصهيونية كانت تخطط الصراع بين اليهود والعرب، تساوقآ مع الامبريالية البريطانية بدون أن يكون ذلك محددآ حتى آخر التفاصيل. وهكذا فما أن أذيع نبأ مقتل اليهوديين حتى اجتاحت المظاهرة تل أبيب والمنطقة المتاخمة لها ووقعت حوادث إعتداءات على المواطنين العرب في يافا استنفرت بدورها اعتداءات مماثلة على المواطنين اليهود. وما أن حل يوم الأحد في 19/4/1936 حتى كانت يافا مضربة إحتجاجآ على الاعتداءات الصهيونية على أبنائها، وكان الاضراب عفويآ نجم عن التوتر في المنطقة المشتركة بين يافا وتل أبيب. ولكن هذا الاضراب العفوي تحول إلى إضراب واع شمل في اليوم التالي عمال الميناء. وعندئذ تحركت فئات قومية وأذاعت بيانآ أعلنت فيه أن سياسة الوطن القومي اليهودي هي سياسة غاشمة... " وأن تجربة حكم شعب بخلاف رغبته وإرادته هي تجربة فاشلة ". وجاء في بيان اللجنة القومية التي تألفت حالأ في اجتماع وطني أن المجتمعين يعلنون، مبدئيآ، الاضراب العام في يافا إعلانآ لسخط العرب على سياسة السلطات الفاسدة التى يقصد منها " إبادة العربي في بلده العربي ". (فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية- عيسى السفري ص 16- 17 الجزء2). وامتد الاضراب شيئآ فشيئآ حتى شمل ميناء يافا . مما أثرعلى اقتصاد البلاد، لأهمية هذا الميناء ، ثم إمتد إلى النقليات. وبعد ذلك انفجر في كافة المدن. وكان تآليف اللجنة القومية في نابلس . المدينة العربية البارزة في 20/4/1936 إيذانآ بنمو كيفي في هذه الحركة العضوية التى دلت على أن التنظيمات السياسية في البلاد متخلفة عن الأحداث. وسارت قيادة الأحزاب القومية العربية في مجرى التيار فأعلنت بعد يوم ، في 21/4/1936 الاضراب العام في البلاد. وفي غمرة هذا التوثب السياسي اجتمعت قيادات الأحزاب القومية العربية وألفت في 25/4/1936 اللجنة العربية العليا برياسة المفتى الحاج أمين الحسيني وأمانة سر عوني عبد الهادي وعضوية سائر قادة الأحزاب. ولم تختلف شعارات اللجنة العربية العليا عن شعارات الحركة القومية : وقف الهجرة، وقف بيوع الأراضي وإنشاء حكومة وطنية مسؤولة أمام مجلس نيابي... إنما اختلف عنف اللهجة وتحرك الجماهير الشعبية وخاصة الطلاب والنساء الذين قاموا في البداية بدور كبير في تحريك النشاط الوطني. وامتاز الاضراب بالشمول ، فقد اجتمع المحامون وقرروا مشاركة الأمة في نضالها، كما إقتفى أثرهم الأطباء والتجار. ومن أبرر مظاهر العمق الشعبي نشاط القرويين فقد عقدوا سلسلة من المؤتمرات في أقضيتهم قرروا فيها تأييد المعركة الوطنية الدائرة. وخلال أيار (مايو) 1936 وبينما البلاد (القطاع العربي) مضربة عقدت فئات الشعب المؤتمرات والاجتماعات لتقرير تأييد المطالب القومية المعروفة . كذلك عقد ا منتخبو المجالس البلدية في وجه مقاومة السلطات ، اجتماعآ قرروا فيه الاضراب . وكان إنعقاد مؤتمر اللجان القومية التى تألفت في كل مكان، بغض النظرعن قيام اللجنة العربية العليا في القدس في 7 آيار (مايو) 1936، تعبيرآ عن الاندفاع القومي في البلاد وتجسيدآ لانخراط فئات قومية جديدة في المعركة. وطبعآ لم تتغير طبيعة القيادة الطبقية إنما تغير إلى حد التوازن بين العناصر الاقطاعية الريفية والعناصر البرجوازية- التجارية المتوطدة في المدن . ثم برزت في هذا المؤتمرعناصر المهنيين مثل المحامين والأطباء باعتبارهم قوة فكرية.. وقام الشعراء بدور بارز في الدعوة الثورية الواعية وبرزمن بينهم عبد الكريم الكرمي (أبوسلمى) وابراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود . ولاحظ المؤرخون المعاصرون أن قصائدهم كانت ترد على ألسنة المقاتلين وجماهير الشعب، وأعرب " أبو سلمى " عن المناخ الثوري حين هتف: سيروا على الدرب المخضب والثموا اثر الجدود

                                                     حرية الانسان بالدم تشترى لا بالوعود
    كذلك قام الشعر الشعبي بدوره الفعال وصاغ الثوريون تجربتهم الوطنية في بعض الأحيان في قصائد بسيطة ولكنها غنية بالعواطف.
    وكان السلبي أن مؤتمر اللجان القومية إستسلم إلى اللجنة العربية العليا، التي تألفت فوقيآ من قادة الأحزاب، وكانت تنظيما رجعيأ على الصعيد الاجتماعي وفيما بعد . على الصعيد السياسي.
    وكان أخطر قرار اتخذه مؤ تمر اللجان القومية: الاعلان بالاجماع عن الامتناع عن دفع الضرائب إعتبارآ من 15 آيار (مايو) الحالي إذا لم تغير الحكومة البريطانية سياستها تغييرآ أساسيآ تظهر بوادره بوقف الهجرة اليهودية. (المصدر ذاته ص 47).

إن أهمية هذا القرار ، الذي سرى مفعوله في ظل الاضراب المستمر، تكمن في طبيعته المضادة للامبريالية. واقترن تنفيذ الامتناع عن دفع الضرائب وإعلان العصيان المدني بسلسلة من المظاهرات الجماهيرية الضخمة في مختلف المدن رفعت المعركة القومية إلى مستوى أعلى. وفي 18 أيار (مايو) ألغت الحكومة البريطانية رسميآ دعوتها الوفد العربي إلى المفاوضات في لندن وأصدرت بيانآ جاء فيه: " ان الوفد العربي المقترح لم يعد ملائما للأحوال التي نتجت وأنه بدلأ من ذلك يجب إجراء تحقيق في فلسطين ولذا قررت (الحكومة- أ. ت) بعد أن يعاد النظام أن تشير على صاحب الجلالة بأن يعين لجنة ملكية لتبحث في أسباب القلق وشكاوي العرب واليهود المزعومة دون التعرض لنصوص الانتداب " . ومرة أخرى لوحت بريطانيه بلجنة تحقيق لاجهاض الحركة القومية العربية ولكنها أخفقت في وقف المد الثوري. وبدأت سياسة القمع على نطاق واسع وتزايد عدد المعتقلين ونفي الوطنيين في داخل البلاد، وأقامت الحكومة البريطانية معتقلات بلغ عدد نزلائها حوالي 4500. (حول الحركة العربية الحديثة- محمد عزة دروزة- الجزء الثالث- ص 127- 128). ونمت الحركة القومية على طريق التصعيد الثوري من مظاهرات ثورية تصطدم مع القوات البريطانية المسلحة في المدن إلى حركة أنصار مسلحة تنازل الجيش البريطاني في الريف. ومن الصعب هنا وصف الثورة المسلحة ، التي اشتعلت في مختلف أنحاء البلاد، ونازلت القوات البريطانية لا الصهيونيين على الرغم من وقوع مصاد مات مع المستوطنات الصهيونية. ولكن من الممكن الايحاء بقوتها حين نذكر أن القوات العربية المسلحة خلال قتالها القوات البريطانية نسفت 48 جسرآ وقطعت أسلاكآ كهربائية وهاتفية 300 مرة وعطلت قاطرات 22 مرة ونسفت خطوط السكة الحديدية 13 مرة .

هوامش (1) انتهت المفاوضات التي ترأسها مصطفى النحاس في 11 أيار ( مايو ) 1936 وأدت إلى انتخابات جديدة فاز فيها حزب الوفد الذي كان يرأسه مصطفى النحاس ( الدولة العربية المتحدة ، الجزء الثالث - " أمين سعيد " ص 189 - 264 ) .





الفصل الرابع عشر تطورات الثورة واللجنة الملكية

     حين تحدث بن غوريون عن ثورة 1936 التي امتدت ثلاث سنوات قال:

" لم تكن هناك انتفاضة قومية... ولم يشارك الشعب العربي أوجله في الحوادث فهويفتقرإلى الارادة والطاقة والقوة لأن يثور ، أقلية ضئيلة تحارب حتى الموت وتستخدم في قتالها أي وكل وسيلة وترتكب أبشع الجرائم " (خطابه في 3 آب (أغسطس) كما أورده روبرت سانت جون في كتابه " بن غوريون " ص 65-66 ) . وبهذا الكلام جسم بن غوريون موقف القيادة الصهيونية من حركة التحرر القومي العربية ونضالها من أجل الاستقلال وتصفية نظام الانتداب الامبريالي . لقد رفضت القيادة الصهيونية مجرد الاعتراف بحركة الشعب العربي الفلسطيني القومية، وأصرت على وصفها بالاجرام والوحشية كل نشاط من نشاطاتها ولم يكن في وسعها أن تتصور طاقتها على ، الثورة والبطولة. ولكن ثورة 1936 برهنت على طاقة الشعب العربي الفلسطيني وارادته الجارفة وبأسه في الصمود أمام الامبريالية البريطانية والصهيونية الدولية. ولا يغير من هذه الحقيقة تصور المحافل الصهيونية الثورة وكأنها شغب نظمته فئة " الأفندية " الاقطاعيين. ولعل جورخ أنطونيوس- وهوبعيد عن الوعي الطبقي ومن أنصار التعاون مع بريطانيه- اقترب من الحقيقة حين كتب: " ليست الثورة (في عام 1936- أ. ت) بعيدة عن أن تكون من صنع الزعماء فحسب بل هي بشكل واضح جدآ تحد لسلطتهم وتجريم لأساليبهم. فإن قواد الثورة ينسبون مصيبة المزارعين العرب في الوقت الحاضر إلى أولئك المالكين الذين باعوا أراضيهم، ويتهمون الزعماء بالاهمال الجاني. لاخفاقهم في منع البيوع، إذ لم يكن للفلاحين رأي في معظم تلك البيوع التي أدت إلى اخراجهم من أراضيهم " (كتابه يقظة العرب الترجمة العربية، تعريب علي حيدر الركابي ص 449). والواقع أن الزعامة التقليدية أخذت على غرة حين اجتاحت البلاد موجة الاضراب وتألفت اللجان القومية كما أخذت على غرة حين رافق الاضراب كفاح مسلح. ويجمع الكتاب الذين عاصروا تلك الحقبة على أن الثورة كانت من صنع الفئات الشعبية فهكذا صور الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه " القضية الفلسطينية- تحليل ونقد " البداية فكتب: " وأخذت قساوة البوليس واعتداءاتهم على أفراد الشعب في الازدياد. وأمعنت الحكومة في سياسة الاعتقال والحبس ... فبلغ أهل طولكرم صباح السبت 23 آيار (مايو) 1936 ، أن الحكومة اعتقلت أعضاء اللجنة القومية فثاروا وتقلدوا سلاحهم سائرين نحو المدينة فتقابلوا مع قوة عسكرية ذاهبة إلى نابلس فاشتبكوا معها بالقرب من بلعا وتبادلوا واياها النيران من الساعة التاسعة صباحأ حتى المساء.. فتحولت الاضطرابات إلى ثورة حقيقية كانت هذه الموقعة أولى معاركها " (ص 207) . وهذا ما أكده أمين سعيد في كتابه " الدولة العربية المتحدة " (الجزء الثالث ص 540) وعيسى السافري في كتابه " فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية " (ص 7) . وأضاف الأخير أن الجنود البريطانيين أطلقوا النار على مظاهرة قومية في نابلس في اليوم ذاته فقتلوا أربعة مواطنين وجرحوا سبعة ، وذاعت أخبار هذه الفاجعة في القرى فتسارع أهلوها للنجدة وانتشرت جموعهم فوق الجبال وفي الوديان وعلى مفترق الطرق مسلحة بالبنادق وغيرها من أنواع السلاح (ص 7) . وأكد أن " لسكان القرى كان النصيب الأكبر في تأييد الثورة وتغذيتها فقد اشتركوا في معظم الأعمال الثورية وناصروها بكل ما وصلت إليه أيديهم " (المصدر ذاته). ولكن كل هذا لا ينفي نجاح القيادة التقليدية التي توحدت في اللجنة العربية العليا في تسلم زمام القيادة السياسية ، وإلى حد ما القيادة العسكرية . لقد وصف عدد من الكتاب العرب الذين عاصروا تلك الفترة أبرز المعارك الحربية التي وقعت خلال الاضراب التاريخي الكبير الذي امتد ستة أشهر، ولكن وصفهم كان من قبيل السرد الصحفي العام أولأ، والمتناثرثانيآ ، جاء عافويآ ولم يعتمد على جمع الوقائع أويحدد ارتباطها العضوي المتكامل . ومع هذا فحتى هذا الوصف السطحي أوحى بنموالتنظيم العسكري- المحدود طبعآ- بين الجماهير العربية من ناحية وباتساع القتال بين تنظيمات الأنصار والقوات البريطانية من ناحية ثانية . ودلت على اتساع رقعة القتال اقليميآ هذه المعارك التي عرفت بمواقعها: نور شمس (طولكرم) ، وادي عزون ، باب الواد ، وعصيرة الشمالية ووادي عادة وعين دور (الناصرة) وغيرها. وأوحى بكثافة القتال وشدته اشتراك آلاف الجنود البريطانيين في المعارك بمعداتهم التقنية العسكرية الحديثة لضرب فرق أنصار تسلحت تسلحا بدائيا نسبيا. ولاحظ أمين سعيد مثلأ أن 5000 جندي بريطاني تشد أزرهم الدبابات والمدفعية الثقيلة و 15 طائرة اشتركت في معركة بلعا الثانية في 3 أيلول (سبتمبر) 1936 ولم تحسم شيئآ (الدولة العربية المتحدة الجزء الثالث ص541 ) . لقد بلغت القوة البريطانية في فلسطين انذاك 20 ألف جندي (حسب احصاءات الحكومة و 25 ألف حسب تقديرات الكتاب العرب والأجانب) وتعاونت معها قوات البوليس العادي والبوليس الاضافي، الذي جندته السلطات من صفوف الهاجاناه (منظمة الدفاع الصهيونية)، وبلغ عدده 5000 بوليس . ومع ذلك لم تستطع هذه القوات القضاء على الثورة عسكريآ على الرغم من نجاحها في اقتناص حوالي 3000 شهيد من بين صفوفها، المحاربين تحت أعلامها. إن بسالة الثورة وصمود الشعب العربي الذي أشعلها يظهران على حقيقتهما ازاء عنف القمع الامبريالي . فالادارة البريطانية لم تدفع إلى ميدان القتال هذه القوات العسكرية والبوليسية المجهزة أحسن تجهيز فحسب بل استخدمت أيضآ أوحش أساليب القمع لتدمير معنويات الجماهير وافقارها ومن ثم عزلها عن الكفاح . وهكذا فرضت- كما لمحنا- الأحكام العرفية على البلاد في 30 أيلول (سبتمبر) 1936 وتولت سلطات ديكتاتورية فظة خولتها حق مراقبة المطبوعات. والتوقيف والاعتقال الاداري والنفي والابعاد. وحق استملاك الأموال ومصادرتها والتصرف بها كما تشاء، وفرض الغرامات على الجماعات والهيئات ، واتلافها الأملاك كتدابير تأديبية سواء كان في الامكان معرفة " المجرمين " الحقيقيين أم لم يكن ، وأقامت محاكم عسكرية تفرض عقوبات بربرية تصل الاعدام على المتهمين بالمشاركة في الكفاح . وقد ترك لنا عيسى السفري وصفآ لما كان يجري في البلاد في تلك الأيام فكتب : " كانت السلطة حين يشتبه بقرية ما، تأمرحالأ بذهاب قوة كبيرة من الجند والبوليس بدباباتها ومدافعها الرشاشة وكامل أسلحتها إلى تلك القرية فيطوقها من جميع جهاتها ويدخل فريق من الجند إلى القرية، يطرقون أبواب بيوتها بأعقاب بنادقهم بشدة ويأمرون مختارها بعزل النساء عن الرجال ومن ثم يأخذ الجنود بتفتيش بيوت القرية ، بين فزع النساء وعويل الأطفال فيبعثرون محتوياتها ويحطمون آنيتها المملوءة بالسمن والزيت والحبوب ومختلف أنواع الأغذية وبانتهاء التفتيش يطلق الجند المدافع في الفضاء ارهابآ (فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية ص 85). ومن الاجراءات التي شاعت آنذاك الغرامات الجماعية ونسف البيوت لصدور طلقات منها أومن مكان قريب إليها، ومهاجمة القرى وضربها بالرصاص بدون تمييز، وقد كانت قرية " قولة " المجاورة للرملة واللد ضحية هجوم عنيف بسبب إطلاق مجهول النار على دورية بريطانية. (المصدر ذاته ص 86).

وقد هز الرأي العام في فلسطين والعالم الخارجي نسف حي بأكمله في يافا في حزيران (يونيو) 1936 بحجة " تجميل المدينة " كما هزته حوادث النسف في نابلس واللد وحيفا وبلد الشيخ وعدد آخر من المدن والقرى .

وقد أدانت محكمة العدل العليا برياسة قاضي القضاة ميخائيل مكدونلد هذه الاجراءات وأعلنت في قضية نسف الحي في يافا: " كان يشرف الحكومة أكثر لو أنها، بدلأ من أن تذر الرماد في عيون الشعب بادعائها أن الموحي لعملية الهدم هو التحسين والتجميل والعمل لتنظيم المدينة أورعاية الصحة العامة، لو أنها قالت بصدق وبساطة أن الهدم المنوي اجراؤه كان المقصود الأساسي منه الدفاع عن فلسطين الذي يعنى- كما يجوزأن يعتقد كل شخص- التسهيل لدخول القوى العسكرية إلى الأحياء التي تغص بالسكان في المدينة المذكورة " (المصدر ذاته ص 102) .

التضامن العربي

       وقد ميز هذه الثورة نمو التضامن العربي وامتداده إلى أقطار عربية جديدة.

وبرز هذا التضامن في انضمام عدد من المحاربين العرب في سورية والعراق والأردن إلى الثورة وفي النشاط السياسي النامي تأييدآ لكفاح الشعب العربي الفلسطينى القومي. لم تكن أمرأ غريبآ أن تتضامن الحركات القومية في سورية ولبنان وشرقي الأردن مع الحركة القومية في فلسطين.. ولكنه كان تطورأ جديدآ أن تتجند الحركات القومية في مصر والمغرب في ميدان التضامن العربي. وأعرب قائد حركة التحرر القومي في مصر مصطفى النحاس عن هذا التطور حين صرح أن مصر لا تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي تجاه ما يجري في فلسطين وهي تؤيد مطالب الشعب العربي الفلسطيني . ومع استئناف الثورة بعد قرار اللجنة الملكية نما هذا التضامن العربي نموآ كميأ وكيفيا. وقد لا حظت اللجنة الملكية في تقريرها هذه الظاهرة الدينامية فكتبت: " أثارت الانفجارات الماضية في فلسطين اهتمام وعطف الشعوب العربية المجاورة ولكن هذه المرة لم تظهر المشاعر الشعبية الواسعة النطاق ضد البريطانيين واليهود فحسب بل أن عددأ كبيرأ من المتطوعين وبينهم قائد الثورة ، جاءوا من سورية والعراق . وأهم من هذا اهتمت الحكومات العربية لأول مرة بالخلاف (الناشب في فلسطين أ. ت) ". (تقرير اللجنة الملكية ص 104- 105).

وظهر اهتمام الحكومات العربية- أو بدقة أكثر ملوك بعض الأقطار العربية - بالخلاف في دورها في حل الاضراب. وكانت الخطوة الأولى في هذا السبيل زيارة وزيرخارجية العراق نوري السعيد فلسطين ومباحثاته مع قادة الحركة القومية العربية التقليديين من ناحية ، والمندوب السامي والأمير عبد الله حاكم شرق الأردن من ناحية ثانية. وحسب بيان اللجنة العربية العليا بتاريخ 26 آب (أكسطس) 1936 حقق نوري السعيد اتفاقأ مؤقتأ بين الادارة البر يطانية وقيادة الحركة القومية التقليدية يقوم على أربعة بنود: تدعو اللجنة العربية العليا إلى وقف الاضراب أولأ، ومقابل ذلك توقف الحكومة الهجرة اليهودية مؤقتأ حتى تضع اللجنة الملكية تقريرها ثانيآ، وتقوم الحكومات العربية الثلاث وإمارة شرق الأردن بالسعى لدى بريطانية لانجازمطالب فلسطين ثالثأ، وتضفي الثورة على أساس إلغاء الغرامات ووقف عمليات التفتيش واطلاق سراح المعتقلين والعفو العام رابعآ. ومن الممكن القول أن الملوك العرب الثلاثة عبد العزيزآل سعود (السعودية) والامام يحيى حميد الدين (اليمن) وغازي بن فيصل (العراق) والأمير عبد الله (حاكم شرق الأردن) اندفعوا إلى الميدان بعدد من العوامل من أبرزها: استنجاد أصحاب البيارات بهم لانقاذ موسم البرتقال الذي يمثل " ثروة البلاد الكبرى ". لقد تخوف أصحاب البيارات من أن تؤدي استمرار الثورة إلى بوار الموسم ولهذا طالبوا الملوك بوقف الاضراب ، وأيدتهم في هذا البرجوازية التجارية التي أصيبت بالأضرار، وكافة العناصر التي تقلق عادة من تحرك الجماهير الثوري. كذلك نشط الملوك بوحي من بريطانيه لانهاء الثورة لأن هذه الثورة أصبحت تحرج الادارة البريطانية عسكريأ وسياسيآ في ظروف تميزت باحتدام الوضع الدولي نتيجة عدوانية الدول الفاشية (النازية). ومن المؤكد أن مصلحة الامبراطورية البريطانية تلاقت مع مصالح الرجعية العربية عند الرغبة في اجهاض الثورة باعتبارها حركة دينامية لا يمكن أن تقف عند حد أوتقتصرتفاعلها على أقليم واحد. وعلى الرغم من أن مقترحات نوري السعيد لم تلب مطلب الحركة القومية الجوهري: مطلب الاستقلال ، وعلى الرغم من أنها كانت اجراءات تسكين ، فقد هبت قيادة المنظمة الصهيونية لتحول دون أي تنازل قد تعتقد الامبريالية البريطانية أنه ضروري هذا من ناحية أما من الناحية الثانية فالقيادة الصهيونية كانت ترتبط ارتباطآ وثيقآ بأشد الامبرياليين غلوا في الرجعية ، من الذين يقاومون المهادنات مع الحركات القومية العربية وغيرها من الحركات القومية غير العربية ، وهؤلاء مارسوا ضغوطهم حتى لا تكون هناك مهادنة. ثم لا بد من القول أن توازن القوى في المحافل الامبريالية البريطانية كان في هذه الفترة قد بدأ يتغير إلى حد ما . فمنذ وعد بلفوركانت هناك محافل امبريالية بريطانية لم تر في بناء الوطن القومي اليهودي في فلسطين مصلحة امبريالية لاعتقادها أن ذلك قد يعرقل السيادة البريطانية في المنطقة . وهذه المحافل اشتدت قوة نتيجة تحديات النازية والفاشية وشعورها بخطر المنافسة الامبريالية الالمانية- الايطالية في ظروف نمو الحركات القومية العربية. وهذا ما قصدنا إليه حين لاحظا أن توازن القوى في المحافل الامبريالية تغير إلى حد ما، فظهر استعداد أشد لمهادنة الحركة القومية العربية في فلسطين بحيث تؤمن المصالح الامبريالية البريطانية على أحسن وجه . ولكن من هذه المصالح البريطانية الجوهرية تعزيز الصهيونية بحيث تقوم بدورها الاستراتيجي بدون أن تعرقل الخطط البريطانية التي كانت قائمة على سياسة " فرق تسد " والتظاهر بدور الفيصل في " النزاع العربي- اليهودي "!!. ولم يؤد التغيير في توازن القوى في هذه الفترة إلى أي تحول في السياسة البريطانية. ولهذا ما أن ضجت القيادة الصهيونية بالاحتجاج على مقترحات نوري السعيد العميل البريطاني الموثوق، حتى أعلنت بريطانيه، في رسالة بعث بها وزير المستعمرات البريطاني أورمنسي غور إلى الزعيم الصهيوني حاييم وايزمن ، أن المندوب السامي لم يفوض نوري السعيد " لأن يعد بالخطوات التي ستلي وقف الاضطرابات وعلى الأخص فيما يتعلق بتوقيف الهجرة ". وأدى " انفجار " هذه الرسالة على المسرح السياسي في فلسطين إلى اخفاق محاولات التسوية واستمرت الثورة والاضراب العام . بل إن عنف الثورة تصاعد بعد اخفاق محاولة، التهدئة ، واشتدت اجراءات القمع أضعافآ بعدها. ولكن العوامل التي استنفرت تدخل الملوك في اب (أغسطس) 1936 لم تتلاش بل تعمقت أهميتها وبدأت مظاهر الارهاق بين فئات واسعة من الشعب الذي تحمل طوال ستة أشهر أعباء ثورة مسلحة واضراب شامل بدون مساعدات اقتصادية جديرة بمثل هذا الوصف . ولذلك حين ناشد ملكا السعودية والعراق وأمير شرق الأردن ، في تشرين الأول (اكتوبر) عام 1936 ، الشعب العربي في فلسطين " الاخلاد إلى السكينة حقنا للدماء معتمدين على حسن نوايا صديقنا الحكومة ورغبتها المعلنة لتحقيق العدل " . سارعت اللجنة العربية العليا إلى إعلان قرارها- " بالاجماع وبعد استثارة مندوبي اللجان القومية والحصول على موافقتهم باتفاق الآراء " - بدعوة الأمة العربية الكريمة في فلسطين للاخلاد إلى السكينة وانهاء الاضراب والاضطرابات ابتداء من 12 تشرين الأول (اكتوبر) سنة 1936 ". وهكذا انتهى أكبر اضراب شهدته المنطقة في تاريخها المعاصر، وأعنف ثورة عرفتها فلسطين ، وبدأت البلاد تستعد لاستقبال لجنة التحقيق الملكية .

الوطن القومي

   على الرغم من أن الثورة ، باعتراف الجميع، اختلفت عن هبات 1920 و1921 و 1929 في أنها حاربت إدارة الانتداب البريطاني جوهريآ فلم يكن من الممكن أن تتفادى الاصطدام هنا وهناك بعناصرمن الوطن القومي اليهودي الذي ارتبط في أذهان الجماهير بالامبريالية البريطانية عن طريق سياسة قيادته الصهيونية وممارستها الموالية للامبر يالية والمعادية للجماهير العربية.
   وتراكمت صعوبات أمام تفادي الاصطدامات بين قوى الثورة وعناصر من الوطن القومي اليهودي حين قذفت القيادة الصهيونية بقواها في المعركة ضد كفاح الشعب العربي الفلسطيني.
    ويفتخر الصهيونيون بأنهم قاموا بدور فعال في محاربة الثورة ، ويذكرون بالتحديد وبكبرياء- بالاضافة إلى تجنيدهم رجال الهجاناه في البوليس الاضافي - الفرق اليهودية الضاربة، التى نظمها ودربها رجل الاستخبارات البر يطاني الضابط أورد تشارلروينجيت، وأطلق عليها اسم " الفرق الطائرة " وكانت هذه الفرق قد أخذت على عاتقها حماية المنشآت البريطانية. وخاصة خطوط أنابيب النفط التابعة لشركة الاحتكار (آي. بي. سي) البريطانية، والتصدي لقوى الأنصارالعربية حين يكون ذلك ممكنا.

ويعتقد أكثر من كاتب صهيوني أن " الفرق الطائرة " أو" فرق الليل الخاصة " ، بمحاربتها الفرق العربية المسلحة غيرت الوضع في البلاد جذريآ في مصلحة بريطانيه. (تاريخ حركة العمال في اسرائيل ولتر بريوس ص 126). هذا على الصعيد العسكري أما على الصعيد الاقتصادي فقد تميزت هذه الفترة لا بتوطيد الوطن القومي اقتصاديآ واجتماعيآ بشكل عام فحسب بل بتخطيط إقامة المواقع الاستراتيجية على شكل مستوطنات زراعية عسكرية انتشرت في الجليل في الشمال حتى النقب في الجنوب. لقد كانت الصهيونية دائمآ تختار مواقع المستوطنات اليهودية في الريف لمزاياها الحربية. لكنها في عام 1936 بدأت تنفذ مخططأ مدروسأ فأقامت ابتداء من عام 1936حتى عام 1939 ، 55 مستوطنة اشتركت جميعها بمعلمين: الحائط الذي يطوقها وبرج المراقبة القائم في وسطها. وكان الهدف من ذلك تحويل المستوطنات إلى معسكر حربي (بوريس شتيرن في كتابه " الكيبوتس الذي كان " ص 3). وعلى الرغم من أن التمايز داخل الحركة الصهيونية قد أدى قبل اندلاع الثورة إلى انسلاخ غلاة الصهيونيين من جماعة حزب الاصلاح ، بقيادة جابوتنسكي، عن المنظمة الصهيونية العالمية فالقيادة الصهيونية عامة انتهجت سياسة معادية لأماني الشعب العربي الفلسطينى- لا عسكريآ واقتصاديآ فحسب بل سياسيآ أيضآ بحيث سدت سبل التقارب بين الجانبين العربي واليهودي.

ولعل مقترحات التسوية التى عرضها بن غوريون على أحد رجال حركة القومية العربية موسى العلمي أبلغ دليل على هذا التوجه الصهيوني القائم على التطلع إلى التوسع الأكبر.

فبن غوريون- حسب ما أورده ميخاثيل بارزوهر في كتابه " النبي المسلح: سيرة حياة بن غوريون " اقترح على موسى العلمي في نهاية عام 1939 مساعدات اقتصادية كبيرة لتحسين الاقتصاد العربي بشرط قبول العرب بقيام دولة يهودية في فلسطين . وحين اعترض موسى العلمي على شمول الدولة اليهودية شرق الأردن على اعتبار أن شرق الأردن عربية قال بن غوريون: " إذا وافقتم على توطين عدد غير محدود من اليهود في شرق الأردن فعندئذ من الممكن أن نتفق على ترتيب خاص حول شرق الأردن اما مؤقت أودائم ". وهكذا فحتى حين كان اليهود يؤلفون أقلية في فلسطين لا تتجاوز 400 ألف انسان كانت الصهيونية " تدعو العرب إلى التفاهم "!! على قيام دولة يهودية . في فلسطين وشرق الأردن وحرمان الشعب العربي الفلسطيني عمليا من حقوقه القومية في وطنه.

مواقف متناقضة

في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 1936 وصلت لجنة التحقيق الملكية برئاسة أيرل بيل إلى فلسطين " لتثبيت "- كماجاء في براءة تعيينها- " من الأسباب الأساسية للاضطرابات التى ثبت في فلسطين في أواسط شهرنيسان (ابريل) ولتحقق في كيفية تنفيذ صك الانتداب في فلسطين ازاء التزامات المنتدبة نحو العرب ونحو اليهود " . وعليها كذلك أن تبحث في ظلامات الجانبين حتى إذا اقتنعت بوجودها رفعت التواصي لازالتها. ومع أن اللجنة العربية العليا أعلنت مقاطعتها اللجنة في البداية بسبب إصدار الادارة البريطانية تصاريح هجرة ، إلا أنها عادت وشهدت أمام اللجنة تلبية لدعوة الملوك العرب! وفي عرضها القضية انطلقت اللجنة العربية العليا- التى قرأ رئيسها الحاج أمين الحسينى بيانها أمام لجنة التحقيق- من " أن القضية العربية في فلسطين هي قضية قومية استقلالية لا تختلف في جوهرها عن قضايا العرب في سائر البلاد العربية " . ولذلك استخلصت اللجنة العربية، بعد أن استعرضت الكفاح العربي خلال الحرب العالمية الأولى، وخيبة أمل الجماهير العربية من جراء وعد بلفور، وأخطار الوطن القومي اليهودي على مستقبل الشعب العربي في فلسطين استخلصت ضرورة " العدول عن تجربة الوطن القومي اليهودي الفاشلة التى نشأت عن وعد بلفور واعادة النظر في جميع الأمور التي نتجت عنها والتي ألحقت الأضرار والأخطار بكيان العرب وحقوقهم ". وطالبت اللجنة بوقف الهجرة ومنع انتقال الأراضي العربية إلى اليهود، وبحل القضية الفلسطينية " على الأسس التى حلت عليها قضايا العراق وسوريه ولبنان بانهاء عهد الانتداب وعقد معاهدة بين بريطانيه وفلسطين تقوم بموجبها حكومة مستقلة وطنية ذات حكم دستوري تتمثل فيها جميع العناصر الوطنية ويضمن للجميع فيها العدل والتقدم والرفاهية " . (فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية- عيسى السفري ص 182- 190). أما الموقف الصهيوني فقد عرضه أكثرمن شاهد أمام اللجنة الملكية ولكن الشاهدين الرئيسيين كانا حاييم وايزمن ، زعيم المنظمة الصهيونية وممثل القوى الجوهرية في الوطن القومي اليهودي في فلسطين، وزئيف جابوتنسكي، زعيم الاصلاحيين ، الأقلية الصهيونية الأشد غلواء وعدوانية .

   وفي شهادته أمام اللجنة الملكية كان جابوتنسكي صريحآ على غاية الصراحة. 
   لقد طالب بدولة يهودية بأكثرية يهودية في فلسطين وحدود فلسطين بالأقاليم القائمة على ضفتى نهر الأردن.

ولم يخف جابوتنسكي تصوره مشروع الوطن القومي اليهودي استيطانآ كولونياليآ لا يمكن أن يأخذ بعين الاعتبار رغبات المواطنين أوحقوقهم ولذلك خاطب لجنة التحقيق بهذه الكلمات: " وأخيرآ يجب اتخاذ اجراءات لتأمين الأمن. إن أمة مثل أمتكم تمتلك خبرة استيطان كولونيالي هائلة تدرك بالتأكيد أن الاستيطان الكولونيالي لا يتم بدون نزاعات مع السكان المحليين ولذلك فلا بد من حماية البلاد " . واقترح طبعآ أن تمكن الادارة البر يطانية في فلسطين اليهود من اقامة قوات مسلحة تستطيع حماية الأمن. ونفى أن يؤدي مشروعه إلى اصطدامات مع الأقطار العربية المجاورة وأكد أن العرب سيغيرون رأيهم (في مقاومة الصهيونية) إذا بلغتهم بريطانيه الحقيقة (أي قرارها إقامة دولة يهودية) فعندئذ سيعم السلام. طبعآ رفض أن يقوم مجلس تشريعي قبل أن يصبح اليهود أكثرية وأعلن أن لا حاجة لاستشارة العرب إذا قررت بريطانيه التخلي عن الانتداب ، تمامأ كما أعطت عصبة الأمم بريطانيه مسؤولية الانتداب وأصدرت هي وعد بلفور بدون الاهتمام بموقف العرب. (جواب إلى ايرنيست بيفن- الشهادة التى قدمها فلاديمير (زئيف) جابوتنسكي أمام لجنة التحقيق الملكية في شباط (فبراير) 1937) . أما وايزمن فقد قسم شهادته الشاملة إلى قسمين عالج في أحدهما " مبادىء الحركة الصهيونية الأساسية " وفي القسم الثاني ، مطالب القضية اليهودية الملحة .

ولخص وايزمن نفسه تفسيره وعد بلفور أمام اللجنة فأعلن أن القصد منه كان الوحي بأن: بلاد العرب للعرب ويهودا (أي فلسطين) لليهود وأرمينيا للأرمن .

ومضى وايزمن فوصف نشاطه في تلك الفترة وذكرأن اللجنة فاتحته سرأ بفكرة التقسيم وبذلك فتحت أمامه ممكنات كبرى. واضاف أنه استشار عددا من المتدينين قائلأ لهم " أعرف أن الله وعد بفلسطين أبناء اسرائيل ولكني لا أعرف الحدود التى رسمها. إني أومن أنها أوسع من الحدود المقترحة ومن المحتمل أنها تشمل شرق الأردن- ومع هذا فقد غضضنا النظرعن القسم الشرقي (شرقي الأردن. أ. ت) ويطلب منا الآن أن نتنازل عن بعض القسم الغربي (فلسطين المعروفة أيام الانتداب- أ. ت) ، وإذا كان الله سيفي بوعده لشعبه في الوقت الذي يقرره فواجبنا نحن بنى البشر الفقراء (إليه تعالى) الذين يعيشون في عصر صعب أن ننقذ وبقدر الامكان ما يمكن انقاذه من اسرائيل " .

وبذا حدد وايزمن الفرق بينه وبين جابوتنسكي فالفرق لم يتناول الجوهر بل الأسلوب. ووايزمن الواقعي كان يعتقد أن الأفضل قيام دولة يهودية في قسم من فلسطين في البداية حتى تتوفر الظروف لاقامتها على رقعة أوسع " فالله سيفي بوعده في الوقت الذي يقرره ".

وأدخل وايزمن في شهادته ذلك الملمح الذي استغلته الصهيونية أشد الاستغلال، ملمح الدعوة لانقاذ ملايين اليهود الذين يتهددهم خطر النازية.

وبذلك أكد وايزمن أن الصهيونية حتى في هذا الوقت المبكرمن أواخر  1936 لم تخطط مقاومة النازية ولم تستنفر اليهود دفاعآ عن أنفسهم حيالها، بل استخدمت الخطرعليهم لتهجيرهم إلى فلسطين .

وأعرب عن موقف الامبريالية البريطانية أحد دعاتها المعروفين هربرت سايدبوثام الذي قدم مذكرة إلى اللجنة الملكية أكد فيها بدون مواربة أهمية فلسطين في الاستراتيجية البريطانية. وكتب في مذكرته: " مهما كانت الاعتبارات الاستراتيجية هامة ابان الحرب (العالمية الأولى) فقد تضاعفت أهميتها كثيرآ منذ ذلك الحين ". وبعد أن لاحظ أخطار احتلال ايطاليه الحبشة على شريان المواصلات الامبريالي (قناة السويس - أ. ت) قال إن هذا يستدعي تحويل فلسطين إلى معسكر وأضاف أن تطوير الطيران بجعل فلسطين صلة الوصل الطبيعية في شبكة المواصلات الجوية المدنية بين الشرق والغرب يستدعي قيام قاعدة بحرية جوية تتحكم في البوابة المائية (السويس) التى تربط بين القارتين. وأكد: " لولم تأخذنا الحرب (العالمية الأولى) إلى فلسطين لكان وضع السلام المضطرب يجبرنا على الذهاب إليها ". ونفى سايدبوثام في مذكرته أن تكون مصالح بريطانيه مرتبطة مع المسلمين (!) وفي هذا رد على الامبرياليين الذين رأوا مصلحة الامبريالية البريطانية في تعاون مع الرجعية العربية أو الاسلامية وأكد أن مصلحة الامبريالية البريطانية في توطيد الوطن القومي اليهودي الذي لم يكن أمرآ عابرآ بل " حلفآ وثيقآ بين اليهود الصهيونيين والمصالح الامبريالية البريطانية ". ودعا سايدبوثام، بدون تحفظ إلى مساعدة الأصدقاء الصهيونيين وعدم تعويض أولئك الذين قاوموا سلطة الانتداب . (مصالح بريطانيه الامبريالية في فلسطين بقلم هربرت سايدبوثام صدر عام 1937).

قرار اللجنة الملكية

وقسمت اللجنة الملكية تقريرها إلى قسمين: قسم ضمنته اقتراحاتها العينية في حالة بقاء الانتداب البريطاني بشأن الهجرة والحكم المحلي وسائر القضايا اليومية ، وقسم دعت فيه إلى حل جذري اعتقادأ منها أنه لا سبيل آخر للخروج من الأزمة . أما الحل الجذري فكان التقسيم على اعتبار أن من غير الممكن لأي من العنصرين حكم فلسطين بأسرها ، وليس هناك ما يمنع أى (عنصر) منهما من تولي الحكم في قسم منها ان كان ذلك ممكنأ، " فالتقسيم يفسح المجال لتوطيد السلام في النهاية، الأمر الذي لا يتيحه أي مشروع آخر ". وتلخص مشروع اللجنة: بانهاء الانتداب البريطاني، وباقامة دولتين في فلسطين: عربية ويهودية، وباقتطاع أجزاء من البلاد ووضعها تحت سلطة الانتداب لحمايتها بوصفها أماكن مقدسة. وكانت أبرز ملامح "مشروع التقسيم:  إقامة الدولة اليهودية في مناطق ساحل فلسطين حيث احتشدت المستوطنات اليهودية.  إقامة الدولة العربية من القسم الفلسطيني المخصص للعرب وشرق الأردن المتاخم له.  وضع الأماكن المقدسة: القدس ومنطقتها والناصرة ومنطقتها وطبريه وما جاورها تحت اشراف الدولة المنتدبة للمحافظة على قداستها وحرية الوصول إليها... واتضحت من هذا المشروع ملامح السياسة البر يطانية لا في فلسطين وحدها بل في المنطقة كلها.  فقد استهدفت إقامة دولة يهودية ترتبط عضويا مع الامبر يالية البريطانية وتتلاحم مع استراتيجيتها المنطقية والعالمية..  وفي الوقت ذاته استهدفت إقامة " قاعدة عربية "، تضم القسم العربي من فلسطين إلى إمارة شرق الأردن وتوطيد دولة يحكمها الأمير عبد الله الهاشمي داعية سورية الكبرى (1).

  كما أنها أبقت لها، بحجة حماية الأماكن المقدسة، " جيوب " سيطرة ، تستطيع الانطلاق منها لفرض ارادتها على دول المنطقة.
   وتأكدت هذه الحقائق في بيان الحكومة البريطانية الرسمي، الذي أعقب التقرير، وأكد "انصياع " الادارة البريطانية لمقترحاته.

وجاء في البيان الحكومي أن المشروع سيمكن العرب " من الحصول على استقلالهم الوطنى والتعاون على قدم المساواة مع العرب في البلاد المجاورة " وذلك في كل ما يؤول إلى وحدة العرب ونجاحهم ، كما أنه سيخلص العرب نهائيآ من خوف تسلط اليهود عليهم " كما أنه سيؤدي إلى قيام وطن قومي يهودي لا يحتمل وقوعه تحت حكم عربي. وأثار التقريرموجة احتجاج عارمة ودفع الحركة القومية العربية إلى مرحلة جديدة. وكانت القضية الجوهرية: " ماذا سيكون بعد التقرير ".

هوامش (1) عملت بريطانية على تنفيذ مشروع سورية الكبرى تحت إشراف الأمير عبد الله لأنها رأت فيه طريقة لمد نفوذها إلى سورية ولبنان ولإقامة دولة تتحكم بها عن طريق أميرها العميل في منطقة الشرق الأوسط .



الفصل الخامس عشر

أصداء التقرير والكتاب الابيض

لاحظنا أن نشوب ثورة 1936 في فلسطير كان امتدادآ لنهوض حركات التحرر القومي في أنحاء العالم العربي ، ولذلك فجدير هنا أن نذكر أن صدور قرار التقسيم كان في وقت حققت فيه بعض هده الحركات انجازات قومية هامة نسبيا. ففي العراق كانت في الحكم حكومة حكمت سليمان التي تميزت ببعض الملامح الايجابية المعادية للامبريالية. كما قامت حكومات قومية في كل من سوريه ولبنان في أعقاب اتفاقات عام 1936 مع حكومة الجبهة الشعبية في فرنسه . أما في مصر فحكومة الوفد. وقد وقعت اتفاق عام 1936، تمتعت بتأييد شعبي وكانت أقدر من غيرها على التجاوب مع الحركات القومية العربية. ثم ان مصر في هذه الفترة كما كتب داعية العروبة ساطع الحصري ، كانت قد اكتشفت عروبتها ونشطت في حركة النضال العربي. وانعكست حركة التضامن العربي في اصداء التقسيم في العالم العربي. زعماء الحكومات العربية في مصر وسوريه والعراق نددوا بالمشروع ودعوا كما دعا حكمت سليمان رئيس وزراء العراق إلى تأليف حكومة عربية في فلسطين على أسس ديمقراطية يكون دستورها كدستور العراق يؤلف بين العناصر ويحفظ حقوقهم . وأبرزت الحكومة السورية في مذكرتها إلى قناصل الدول في 21/7/1937 أن التقسيم سيؤدي إلى جلاء العرب عن بلادهم ، وستستمر: الخصومات ويضطرب حبل الأمن في الشرق العربي. وأضافت أن ذلك يقلق سوريه وبلاد العرب ولهذا فهي تدعو إلى حل عادل يضمن وحدة البلاد . (الدولة العربية المتحدة- الجزء الثالث- أمين سعيد ص 585- 586). أما رئيس وزراء مصر مصطفى النحاس فقد أكد أن حكومته تحرص على توطيد صلات الود والاخاء وتبادل المنافع التي تربط بين مصر وبين الشعوب العربية ، ولذلك هي تتابع باهتمام ما يجري في فلسطين . (المصدر ذاته) ص 587. أما في الأقطار العربية الواقعة مباشرة في قبضة الامبريالية الفرنسية مثل تونس والمغرب الأقصى والجزائر ، فقد قامت الحركات القومية باستنكار التقسيم وجمع التبرعات لدعم النضال العربي في فلسطين (المصدر ذاته) ص593.

كما دعت اللجنة الوطنية لمناصرة فلسطين والبلاد المقدسة في المغرب الأقصى إلى التماثل مع الشعب العربي الفلسطيني، فتجاوبت معها الجماهير وتظاهرت في شتى المدن احتجاجآ على التقسيم " وتمسكآ بمبدأ الوحدة العربية " (المصدر ذاته) ص 594. 

وتجسمت حركة التضامن على الصعيد العربي العام تنظيميآ في مؤتمر بلودان (بجوار دمشق) الذي عقد في 8 أيلول (سبتمبر) 1937 بحضور 400 ممثل من مختلف الأقطار العربية وقرر: " أن فلسطين بلاد عربية وأن واجب العرب انقاذ هذا القطرمن الخطر المحيق به... وهويستنكرفكرة التقسيم ويؤكد أن القضية يمكن أن تحل على أساس إلغاء الانتداب ووعد بلفور وعقد معاهدة بين بريطانيه وممثلي العرب (!) في فلسطين على غرار المعاهدة العراقية ". كذلك أعلن: " يتعهد العرب في فلسطين بأن يعامل اليهود كما تعامل الأقليات في جميع البلاد التى تطبق فيها مبادىء عصبة الأمم " (المصدرذاته) ص 611- 614. وكان مؤتمر بلودان مؤتمرأ على الصعيد الشعبي، أما على الصعيد الرسمي فقد عقد في صيف 1938، بمبادرة من لجنة برلمانية مصرية، مؤتمر برلماني عربي في القاهرة اشترك فيه نواب وشيوخ من برلمانات مصر والعراق وسوريه ولبنان ينتسبون إلى مختلف الأحزاب ، كما اشترك فيه ممثلو الحركة القومية في المغرب الأقصى وآخرمن فلسطين . وقرر المؤتمر تأييد مطالب الحركة القومية العربية في فلسطين وميثاقها القومي : تأليف حكومة قومية مستقلة ووقف الهجرة ومنع بيوع الأراضي . (حول الحركة العربية الحديثة- الجزء الثالث - محمد عزة دروزة) ص 214. وسجلت حركة النساء في العالم العربي في هذه الفترة من نهوض حركة التضامن العربي نجاحأ جديأ بعقدها مؤتمرآ نسائيا حضرته ممثلات من المنظمات النسائية في مصر وسوريه ولبنان وفلسطين وشرق الأردن والعراق ، استنكر المظالم البريطانية في فلسطين وأيد الميثاق القومي. وهنا لا بد من وقفة عند سياسة الأمير عبد الله أمير شرق الأردن ( بنعمة بريطانية كما كانت تكتب بعض الصحف الوطنية). كتب أمين سعيد في كتابه الدولة العربية المتحدة: " لزمت حكومة شرق الأردن الصمت ازاء مشروع التقسيم فلم تبد رأيها فيه ولم تسمح لأنصارها بابداء رأيهم ، فكان سكوتها سببآ في رواج اشاعات مفادها أن هنالك اتفاقآ بين حكومة الأردن وحكومة فلسطين على تنصيب سمو الأمير عبد الله ملكآ على الدولة العربية الجديدة التى تنشأ في حالة تنفيذ مشروع التقسيم وضم الجزء الذي يبقى للعرب إلى شرق الأردن ". (الجزء الثالث ص 591) . وفعلأ كان هناك اتجاه واضح لتنفيذ هذا المخطط باعتباره الحل الأفضل لتوطيد مواقع الامبريالية البريطانية في المنطقة ، فالأمير عبد الله كان مغاليأ في ولائه لبريطانيه وكان المتوقع منه أن يصفي الحركة القومية العربية المعادية للامبريالية في فلسطين . وازاء هذا المخطط ظهر أن من عوامل مقاومة التقسيم في بعض المحافل العربية تخوف السعوديين من ازدياد قوة الهاشميين الذين كانوا يحكمون العراق وشرقي الأردن . لقد نشب الصراع السعودي- الهاشمي في أعقاب الحرب العالمية الأولى وانتهى بانتصار السعوديين على الهاشميين في الحجاز وطردهم اياهم من شبه الجزيرة العربية. ومع هذا ففي هذه الفترة كان هذا الصراع قد بدأ يتخذ طابعآ آخرأضفاه عليه نمو التناقض الامبريالي وتعدد جوانبه. ففي سنوات الثلاثين المتأخرة لم يعد الصراع يقتصر في منطقة الشرق الأوسط على الدولتين بريطانيه وفرنسه بل بدأ يشمل الولايات المتحدة. فالاحتكارات الامريكية كانت قد تسربت إلى شبه الجزيرة العربية ونتيجة لاكتشافها النفط في المملكة السعودية بدأت تمارس نفوذآ سياسياً فيها مما عمق " الصراع السعودي الهاشمي إذ تجاوبت فيه أصداء الصراع الأنجلو الامريكي الذي كان يشتد مع الأيام خصوصآ وأن الأمير عبد الله لم يكن يتحفظ في ولائه للامبريالية البريطانية. ولكن الجماهير في شرق الأردن تحركت في اتجاه معاكس وأعربت عن تأييدها الشعب العربي في فلسطين بمظاهرات جرت في أكثرمن مدينة وفي مناسبات عدة... كما أن عددآ من الثوريين فجروا أنابيب بترول شركة نفط العراق التي كانت تمر في أراضيهم (حول الوحدة العربية- محمد عزة دروزة - الجزء الثالث ص 215-216). ورسمت حركة التضامن في العالم العربي مع الشعب العربي في فلسطين خطآ فاصلآ بين الصهيونية وجماهير الطوائف اليهودية التي تعيش في الأقطار العربية ولذلك لم تشهد هذه الأقطار تجاوزات على حقوق المواطنين فيها أو اعتداء عنصريآ عليهم. الحركة القومية العربية في فلسطين في عشية اصدارتوصيات التقسيم انسحب ممثلو حزب الدفاع من الهيئة العربية العليا وفي البيان الذي أصدره في 3/7/1937 احتج الحزب على الاغتيالات السياسية التي كانت قد بدأت تتفشى في البلاد وأعلن أنها تقسم الجماهير. وكان واضحآ أن حزب الدفاع يتهم قيادة الهيئة العربية العليا وخاصة المفتي الحاج أمين الحسيني رئيسها، بتنظيم تلك الاغتيالات التي قضت على بعض رجال الحزب. ولكن دلائل عديدة منها توقيت الانسحاب ونشاط رجال الحزب ابان الثورة أوحت آنذاك أن قادة حزب الدفاع ، الذين جرفهم تيار الحركة القومية الثوري في عام 1936، فانتسبوا إلى الجبهة القومية التقليدية ، كانوا على علم بتوصيات التقسيم ، وبوصفهم مهادنين للامبريالية البريطانية استعدوا للسير معها في مخطط إقامة دولة عربية جديدة من شرق الأردن والقسم العربي في فلسطين بزعامة الملك عبد الله. وجسم انسحاب حزب الدفاع من الهيئة العربية العليا تنظيميآ من جديد تجزئة الحركة القومية العربية التي توحدت ، بفضل ضغوط الجماهير، في جبهة موحدة اتخذت الهيئة العربية العليا شكلأ لها . ومع هذا لم يستطع قادة حزب الدفاع في اللحظة الحاسمة الخروج علنا بتأييد مقترحات التقسيم، بل أصدروا بيانآ أعلنوا فيه أنهم قرروا بالاجماع رفض مشروع تقسيم فلسطين لأنه يعارض آمال الأمة ويضر بمصالحها ويمزق وحدتها ويهدم كيانها. وهم سيواصلون السعي لاستقلال فلسطين استقلالأ يكفل السيادة العربية... " (الدولة العربية المتحدة- الجزء الثالث- أمين سعيد ص-580). وعلى أساس الوثائق يمكن القول أن الحركة القومية بكافة اتجاهاتها رفضت علنأ مشروع التقسيم. أما الهيئة العربية العليا فرفضته في بيان أذاعته في 9/7/1937 وأكدت فيه أن " هذه البلاد لا تخص عرب فلسطين بل العالمين العربي و الاسلامي قاطبة " (ص 579 المصدرذاته) ولهذا فعليهم تقع المسؤولية ومعهم يجب أن تجري المشاورات. وتجددت الثورة المسلحة بعنف أشد ، واتسعت اتساعأ كبيرأ في عام 1938 بحيث اضطرت الحكومة البريطانية إلى استخدام الطائرات والدبابات ومختلف أنواع المدفعية لقمعها. وقد نجحت الثورة في تحريربعض المدن والمناطق لفترة قصيرة وأقامت فيها ادارات محلية، حتى القضاء انتقل إلى أيدي محاكم أقامتها قيادة الثورة. ومن المدن التي تحررت لفترة قصيرة نابلس وجنين وطولكرم والقدس وبعض ضواحيها. وكتب في هذا الصدد محمد عزة دروزة في كتابه " حول الحركة العربية الحديثة ": " وقد جاء يوم اضطرت السلطات فيه إلى نفض يدها من الحكم داخل المدينتين نابلس والخليل بل والفاء المحاكم في نابلس ونقل ملفاتها إلى الثكنة العسكرية خارج المدينة " (الجزء الثالث ص 201) . وامتازت الثورة بعمق جذورها بين الفلاحين والفئات الشعبية، فهؤلاء مدوها بالقوى المحاربة. وهذا ما ذكره دروزة أيضأ حين كتب: أن القرويين كانوا عماد الحركة الثورية وان كان بعض المدنيين (سكان المدن)، والمثقفين اشتركوا فيها.

وحتى بن غوريون لاحظ أن طابع الثورة تغير فكتب في 3/8/1938 مقالأ بعنوان " على ثلاث جبهات " انه في حين كانت " حركة الارهاب " !! (هكذا يصف الصهيونيون الثورة القومية ) في البداية من صنع عناصر جاءوا من العراق وسوريه إلى فلسطين ، امتازت الفترة الثانية بمشاركة المواطنين العرب الفلسطينيين في المعركة بشكل حاسم. ( " إعادة ولادة اسرائيل ومصيرها "، بن غوريون ص90 ) .

وجاء في تقرير الحكومة البريطانية إلى لجنة التحقيق الأنجلوامريكية في نهاية 1945 أن حوادث العنف على أنواعها من معارك في الجبال إلى اغتيالات في المدن بلغت 5708 حوادث في عام 1938 منها 986 هجومآ على البوليس والجيش و 720 هجومأ على المواصلات البر ية و 341 حادثة تخريب في السكك الحديدية و 10 حوادث تفجير في أنابيب شركة نفط العراق التي نقلت النفط من العراق إلى مصنع التكريرفي حيفا وشاطىء البحر الأبيض المتوسط ، و 430 اغتيالأ ومحاولة اغتيال. ويذكر التقرير 651 حادثة هجوم على المستوطنات والأحياء اليهودية ولكن هذه الحوادث في كثير من الأحيان كانت اصطدامات يهودية عربية نجمت عن نشاط منظمة الدفاع الصهيونية التى عرفت " بالهجاناه " . وكما ذكرنا فقد أقامت السلطات " الفرق الطائرة " أو فرق الليل الخاصة من " الهجاناه " بقيادة رجل الاستخبارات البر يطاني وهذه أخذت على عاتقها واجب حماية المنشآت البريطانية ولذلك سببت بنشاطها حوادث اصطدامات يهودية- عربية دخلت في التقرير بوصفها هجومات على مستوطنات وأحياء يهودية. كما دخلت كرات الجيش والبوليس على القرى العربية والاصطدامات الناجمة عن ذلك في باب هجومات على الجيش والبوليس... (ص 46). هذا لا يعني أن قوات الأنصار العربية المسلحة لم تهاجم المستوطنات إنما يعنى أن الثورة ركزت نارها جوهريآ على مواقع الامبريالية البريطانية ولم تكن احترابأ يهوديأ- عربيأ بغض النظر عن وجود انحراف في الحركة القومية العربية حاول أن يجعلها كذلك انزلاقآ وراء سياسة الامبريالية " فرق تسد " . ولا بد من القول أن قيادة الحركة الصهيونية التي أعلنت في بداية الثورة سياسة " ضبط النفس " لم " تضبط نفسها " بل حركت قواها " وقامت باجراءات فعالة من التدخل والرد " (حركة العمال الاسرائيلية " ولتر بريوس ص 128) . وهذا ينفي مزاعم القيادة الصهيونية أن حوادث تفجير القنابل في أسواق حيفا والقدس ويافا في تموز (يوليو) 1938 التي أودت بحياة عشرات المواطنين العرب كانت من أعمال المتطرفين  !! وفي هذا الصدد تجدر الاشارة إلى نشاط الصهيونبة المحمومة في تشويه سمعة الحركة القومية العربية في فلسطين على الصعيد الدولي لاخفاء حقيقة المعركة القومية التحررية. ومن وايزمن زعيم الحركة الصهيونية آنذاك حتى أصغر داعية انطلقت التصريحات تؤكد أن الثورة عبارة عن أعمال مرتزقة تمولهم الأموال الايطالية (التجربة والخطأ- وايزمن ص 391). ورد القوميون العرب على هذا التزييف، ومنهم من انتقد بصراحة الاجراءات المؤسفة (الاجرامية في بعض الأحيان) التى وقعت خلال الثورة- وهي تقع في بداهة في أغلب الثورات. وبذلك وضعوا الثورة في إطارها الحقيقي بوصفها حركة هزت الجماهير إلى الأعماق وكانت فورة شعبية واعية. ولكن ذلك لا ينفي أن جناحآ في قيادة الثورة وقف على رأسه المفتي الحاج أمين الحسيني كان قد انحاز في تلك الفترة إلى المحور الالماني- الايطالي. وهذا الجناح في القيادة قام بذلك إما بدافع العمالة وإما إعتقادا منه أن " المصلحة القومية " ! تتطلب التحالف مع أعداء الامبريالية البريطانية. ولكن وصف الثورة " بالعمالة كان تجنيآ على الواقع وتشويهآ للشعب العربي الفلسطيني الذي كان يحارب لا من أجل إيطاليه أو المانيه بل من أجل استقلاله ، بل لقد كانت عواطف الشعب العربي في عام 1935 مع الحبشة المظلومة التي حاربت للغزو الفاشي الايطالي. وقد استمرت الثورة خلال مرحلتها الثانية رغم هجوم السلطات البريطانية العنيف على الحركة القومية وتشديد إجراءات القمع التي انتهجتها وهكذا في هذه الفترة أعلنت السلطات (في 1 تشرين الأول (اكتوبر) 1937) الهيئة العربية العليا واللجان القومية هيئات غير مشروعة واعتقلت المئات ونفت إلى سيشل عددا من أعضاء الهيئة العليا والزعماء البارزين ، وهم أحمد حلمي باشا والدكتور حسين الخالدي وفؤاد سابا ورشيد الحاج إبراهيم ويعقوب الغصين ! أما المفتي وجمال الحسيني فقد فرا من البلاد. (التقرير- ص 42). كذلك أقامت السلطات محاكم عسكرية في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 1937 أصدرت أحكامآ مجرمة بحق النشيطين في الثورة ونفذت حكم الاعدام خلال سنتي 1937 و 1938 بأكثرمن 100عربي (التقرير- ص 46 و 49).



موقف القيادة الصهيونية

لقد انطلقت القيادة الصهيونية عند تحديد موقفها من التقسيم من منطلقين هامين أولهما شعورها بضرورة تحقيق السيادة اليهودية. فالسيادة أو إقامة دولة يهودية في فلسطين هي العنصر الجوهري في البناء الايديولوجي الصهيوني. ولذلك كان بديهيا أن ترحب القيادة الصهيونية بالفرصة المواتية لتحقيقها حتى في جزء من " أرض الميعاد "! خصوصا وأن هذه القيادة كانت ترى أن إقامة الدولة اليهودية في جزء من " أرض الميعاد " سيكون بمثابة خطوة أولى نحو تحويل فلسطين إلى دولة يهودية . ولهذا في حين- صرح بن غوريون آنذاك "أرض اسرائيل لا تتجزأ " صرح وايزمن " إن النقب لن يفر ". (اسرائيل على مفتر ق الطرق- كريستوفر سايكس - ص 212- 213) .

ثانيهما : أن التعاون مع بريطانيه يؤلف ، بإصطلاح وايزمن ، حجر الأساس في السياسة الصهيونية. (كتابه التجربة والخطأ- ص 393).

وهذا كان يحمل في ثناياه استعداد القيادة الصهيونية على ربط مصيرها بالامبريالية البريطانية وتقديم القوات الصهيونية المسلحة للمساهمة في معركتها .

وأوحى بذلك وايزمن في رسالته في نيسان (أبريل) 1938 إلى وزير المستعمرات آنذاك أورمبسي جور معلناً عن وجود 40 ألف مقاتل (في الهاجاناه) ( المصدر ذاته ص 396 )

ولكن إرتباط القيادة الصهيونية المقررة آنذاك بالامبريالية البريطانية لم يلغ وجود تيار يرغب في جذب المنظمة الصهيونية ومشروعها في فلسطين إلى جانب الامبريالية الامريكية التي كانت قد بدأت تتسرب إلى الشرق الأوسط وهذا ما ظهر في المؤتمر الصهيوني العشرين الذي عقد بين 3 و 17 آب (أغسطس) 1937 في بال ، سويسره . آنذاك كان بين مقاومي دعوة وايزمن لقبول قرار التقسيم الوفد الامريكي (التجربة والخطأ- ص 396) الذي كان يهاجم البريطانيين على أنهم خانوا الأمانة ولم يفوا بما وعدوا به في تحويل فلسطين كلها إلى وطن قومي يهودي . ومع هذا لم يرفض المؤتمرفكرة التقسيم بل أعلن أن تقرير اللجنة الملكية اعترف ضمنآ بأن غاية الانتداب الأساسية هي تأييد إنشاء الوطن القومي اليهودي في بقعة كان مفهومآ عند إعطاء تصريح بلفور أنها تشمل فلسطين التاريخية كلها بما فيها شرق الأردن.

وأكد المؤتمر من جديد " الرابطة التاريخية " التي تربط الشعب اليهودي بفلسطين ، ثم لام حكومة الانتداب بسبب ترددها في تنفيذ نصوص الانتداب ، وخلص إلى القول :

" يعلن المؤتمر أن مشروع التقسيم كما قدمته اللجنة الملكية غير مقبول ، ويخول المؤتمر اللجنة التنفيذية لتدخل في مفاوضات بهدف معرفة الشروط الدقيقة التي تقترحها حكومة جلالته من أجل إقامة دولة يهودية " . " وعلى اللجنة التنفيذية في مثل هذه المفاوضات أن لا ترتبط بشىء لا باسمها ولا باسم المنظمة الصهيونية... وفي حالة وضع مشروع محدد لاقامة دولة يهودية فعندئذ يعرض هذا المشروع على مؤتمر منتخب جديد للبت فيه " (التجربة والخطأ - ص 387). ومن الواضح إذن أن القوى المقررة في المنظمة الصهيونية نجحت في أخذ موافقة منظمتها على مشروع تقسيم فلسطين املت في أن يكون أفضل من المشروع الذي اقترحته اللجنة الملكية. وهذا لا يخفف من أهمية معارضة الاصلاحيين ، سلف حيروت ، (بقيادة جابوتنسكي) التقسيم إنطلاقآ من أيديولوجيتهم المغالية في التطرف والقائمة على دولة يهودية في " أرض الميعاد " على ضفتي نهر الأردن . وأثرت دعوة الاصلاحيين حتى في بعض العناصرمن القيادة الصهيونية الموالية لبريطانيه فدعت إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين كلها (مناحيم أوسيشكين معلا) وكان الخلاف بينها وبين القيادة المقررة بزعامة وايزمن ، لا في الأهداف بل حول الطرق ، فوايزمن كان يعتقد بالمراحل على إعتبار أن " النقب لن يفر " ومن الممكن أن تمتد الدولة فيما بعد إلى خارج الحدود المقررة لها.

المحافل الامبريالية البريطانية

ويصح القول أن الامبريالية البريطانية ، وقد كانت في وضع حرج على الصعيد الدولي كما أوضحنا، رأت أن الانتداب لم يعد يصلح لمواصلة تحكمها في فلسطين ، ولذلك لم تخف أن هذا النظام لم يعد قابلآ للتنفيذ- أوغير عملي حسب تقرير لجنة بيل- (التجربة والخطأ- ص 389) ولهذا قدرت أن التقسيم قد يكون الشكل الأفضل لكسب " ولاء " الطرفين : اليهودي والعربي وضمان وجودها حماية لمصالحها الامبراطورية. وهذا ما شرحه اللورد ستركاند عند مناقشته المشروع في مجلس اللوردات، قال: من المهم أن تحتفظ بريطانيه بأجزاء من فلسطين لتكون هنالك وقاية للبواخر المارة في البحر الأبيض إلى البحر الأحمر.

وأضاف: ان امتياز قناة السويس ينتهي في هذا الجيل والخطط والمشروعات موجودة فعلأ لفتح قناة جديدة على موازاتها (اقترحت ذلك بعض العناصر الاسرائيلية عام 1967). وفي مشروع التقسيم يجب أن تبقى الصحراء بأيدي بريطانيه (النقب - أ. ت) فهي، وإن لم تكن هناك فائدة منها الآن لبريطانيه ، فان قيمتها في المستقبل قد لا تقدر بثمن (1)

ولكن من الصعب القول أن المحافل الامبريالية البريطانية كانت متفقة حول الخطة التى يجب إتباعها لضمان المصالح الامبريالية. فونستون تشرشل دعا إلى تساهل الطرفين والتريث في الأمر واللجوء إلى عصبة الأمم على إعتبار أن حفظ السلام بين الدولتين المقترحتين لن يكون سهلأ. أما اللورد بيل فقد حدد ملابسات القضية وتعقيدها الناجم عن ارتباط العرب في فلسطين بالعالم العربي وتأثيرهم به ، وانعزالية اليهود واستحالة خلق جنسية ( قومية ) فلسطينية توحد الشعبين ومزاحمة اليهود العرب بأساليبهم الحديثة مما يجعل التقسيم حلاً أفضل لأنه يحقق للشعبين حكماً مستقلاً . وأعرب اللورد هربرت صموئيل أول مندوب سام في فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى وقيام الانتداب البريطاني فيها عن تفكير محافل إمبريالية وصهيونية واسعة حين رفض مشروع التقسيم وقال : إن الواجب على انكلترة بموافقة فرنسة أن تشجع على إنشاء مجموعة عربية كبرى متحالفة تبذل لها فلسطين المعاونة الاقتصادية كما أن على العرب أن يرضوا بأن يشترك العرب واليهود معاً في تعمير شرق الأردن (2) . ( هذه المواقف لخصناها عن كتاب أمين سعيد - الدولة العربية المتحدة - الجزء الثالث - ص 595 - 608 بعد أن قارناها مع غيرها من المصادر الأجنبية ) .

التراجع عن التقسيم وإصدار الكتاب الأبيض

وتجاوبت لجنة جون ودهيد التي ألفتها الحكومة البريطانية لتحديد وسائل تحقيق التقسيم وشكله مع النقاش الذي دارفي البرلمان البريطاني ، فأعلنت بعد أن زارت فلسطين بين نيسان (أبريل) وتموز (يوليو) 1938 أن التقسيم غير عملي ولا يمكن تنفيذه وبذلك فتحت الطريق أمام الحكومة البريطانية لتقرر سياستها حسب المصالح الامبريالية المعروفة. واجتمع الأمير عبد الله ، وقد أدرك أن مشروع التقسيم سابق لأوانه ، بلجنة - ودهيند- وفند أمامها فكرة التقسيم وقدم لها " مشروعاً مفصلاً لدولة موحدة تضم شرق الأردن وفلسطين على ان يكون لليهود فيها استقلالهم الذاتي في مناطقهم مع مشاركتهم بنسبة عددهم في مؤسسات الدولة المركزية وأن يكون لهم الحق بهجرة محدودة بنسبة معقولة إلى هذه المناطق " ( الحركة العربية الحديثة - محمد عزة دروزة - الجزء الثالث - ص 223 ) . وتخلت الحكومة البريطانية عن التقسيم حال إعلان لجنة ( ودهيد ) تقريرها في تشرين الثاني ( نوفمبر ) 1938 ، إعتقاداً منها أن التقسيم في ظروف اشتداد عدوانية المحور النازي - الفاشي يؤلف خطراً على مصالحها في العالم العربي الذي هب يعارض التقسيم . ولهذا ليس تجنياً على الحقيقة القول أن تجدد الثورة العربية في فلسطين احتجاجاً على التقسيم وعلى مجموع سياسة الانتداب البريطاني أسهم إسهاماً جوهرياً في تجميد مشروع التقسيم ولو مؤقتاً . ومرة أخرى اقترحت بريطانيا إجراء مفاوضات ثلاثية - ثنائية - ، ثلاثية بمعنى أن أطرافها ثلاثة : بريطانيا والقيادة العربية والقيادة الصهيونية ، وثنائية بمعنى أن الأطراف الثلاثة لايجلسون حول مائدة واحدة ، بل تجري المفاوضات بين ممثلي بريطانية وقيادة الحركة القومية العربية من ناحية وبين ممثلي بريطانية والقيادة الصهيونية من ناحية ثانية . ويعتقد الكاتب كريستوفر سايكس في كتابه " اسرائيل على مفترق الطريق " أن بريطانيا دعت إلى هذا المؤتمر ( الذي عقد في شباط ( فبراير ) آذار ( مارس ) 1939 ) وهي عارفة أنه سيخفق لتتذرع بإخفاقه لفرض حلولها . ( ص 233 ) . وتجسمت في هذا المؤتمر حصيلة التطور في المنطقة ، فقد دعت بريطانية لحضور المؤتمر حكومات الدول العربية في المنطقة واشتركت في المؤتمر فعلاً حكومات العراق ومصر والعربية السعودية واليمن ... أما سورية ولبنان فأهملت بريطانية دعوتهما تجنباً للاحتكاك بفرنسة . طبعاً من الناحية الثانية كانت الوكالة اليهودية التي بعثت بوفدها إلى المؤتمر ، تمثل لا يهود فلسطين فحسب بل منظمات صهيونية دولية تزعم أن وعد بلفور كان للشعب اليهودي بأسره وأن هذا الشعب يطالب بحقوقه في فلسطين وأن حكومة الانتداب البريطانية مسؤولة أمام الطوائف اليهودية عامة عن ذلك .

      وأخفق المؤتمر فعلآ.

واعتقد القادة العرب أن بريطانيه " قبلت بوجهة نظرهم " ! الداعية إلى إنهاء الانتداب وتأسيس حكومة فلسطينية مستقلة ترتبط بمعاهدة مع بريطانيه. (حول الحركة العربية الحديثة- الجزء الثالث- محمد عزة دروزة- ص 235- 236) . وأجرت بريطانيه إتصالات مع ممثلي الطرفين وأصدرت الكتاب الأبيض في آيار (مايو) عام 1939. لقد كان الكتاب الأبيض لعام 1939 عودة إلى الكتاب الأبيض لعام 1922 الذي أعلنت فيه بريطانيه أنها لا تفهم من عبارة إنشاء وطن قومي يهودي التي جاءت في وعد بلفور ونظام الانتداب تحويل فلسطين إلى دولة يهودية. وأعلنت بريطانيه أنها ترى واجبها في قيام دولة فلسطينية في النهاية ولذلك جاء الكتاب الأبيض : " إن تشكيل دولة مستقلة في فلسطين والتخلي التام عن رقابة الانتداب فيها يتطلبان نشوء علاقات ما بين العرب واليهود من شأنها ان تجعل حكم البلاد صالحآ وفي حيز الامكان " أما نمومؤسسات الحكم الذاتي فيجب أن تسير على قاعدة النشوء والارتقاء . وعينيآ اقترحت بريطانيه في كتابها الأبيض:  أن تحتفظ بريطانيه بسلطتها التامة في فلسطين في فترة الانتقال بين الانتداب والاستقلال.  خلال عشر سنوات تقوم حكومة مستقلة ترتبط مع المملكة المتحدة (بريطانيه) بمعاهدة تضمن للقطرين تطلباتهما التجارية والحربية في المستقبل ضمانآ مرضيا .

 ستنفذ بريطانيه المشروع " رضي اليهود والعرب أم لم يرضوا ".

أما بشأن الهجرة فقد أعلن الكتاب الأبيض أن القدرة الاقتصادية على الاستيعاب لن تكون العامل المقرر في تقرير الهجرة، فهناك أيضآ مخاوف العرب ، ولذلك اقترح إدخال 50 ألف مهاجر بمعدل 10 آلاف مهاجرسنويآ خلال خمس سنوات يضاف إلى ذلك إدخال 25 ألف لاجىء يهودي يفرون من الاضطهاد ، وبعد ذلك تكون الهجرة بموافقة الغرب. أما بشأن الأراضي فقد قرر الكتاب الأبيض تحويل المندوب السامي صلاحيات تنطيم إنتقال الأراضي أو منعه إلى المنظمات الصهيونية على ضوء حالة المزارعين العرب.

أصداء الكتاب الأبيض

لقد سارع محمد محمود رئيس وزراء مصرآنذاك ، ومن العناصر المعروفة بمهادنتها الامبريالية البريطانية ، إلى التصريح غداة صدور الكتاب الأبيض بأنه لايستطيع أن ينصح عرب فلسطين بالرضاء به ". كما وقفت الحكومة العراقية والملك سعود موقفآ مماثلأ. (حول الحركة العربية الحديثة- ج 3- دروزة- ص 339). وبدا يتضح أن هؤلاء الحكام العرب المشبوهين إنما يتاجرون بالقضية الفلسطينية لكسب تأييد جماهيرهم ولاستخدام ذلك في الصراع الدائر بين تكتلاتهم. أما الهيئة العربية العليا فأصدرت بيانأ سجلت فيه على الحكومة الانجليزية تسليمها نظريآ لمطالب العرب وانتقدتها على الغموض في النصوص وعلى تعليقها إنهاء الانتداب وتأسيس الدولة الفلسطينية على رضاء اليهود ورغبتهم في الاندماج في الخطة الاستقلالية مؤكدة أن اليهود سيعملون كل ما يستطيعون على عكس ذلك لاحباط هذه الخطط (المصدر ذاته- ص 239). أما القوى الديمقراطية فقد رأت في الكتاب الأبيض لعام 1939 نجاحآ حققته تضحيات الجماهير ودعت إلى القبول به بوصفه خطوة على الطريق التحرري .

ولاحظت هذه القوى أن الجماهير العربية أرهقها النضال الثوري منذ عام 1936 وكان لا بد لها من أن تتراجع بانتظام في ظروف نجاحات جزئية حتى تكون أقدر على الكر من جديد.

ومن الممكن القول أن مجرد التخلي عن التقسيم ودعوة قادة الحركة القومية العربية إلى المفاوضات كان لحظة مناسبة لوقف الكفاح المسلح بانتظام. وعلى هذا الضوء لم يكن من قبيل المصادفة أن النشاط الثوري هبط بعد الكتاب الأبيض على الرغم من أن القيادة القومية دعت إلى مواصلته. ويسود الاعتقاد أن الثورة في الربع الأخير من عام 1938 تدهورت تنظيميآ وسياسيآ وفقدت قاعدتها الجماهيرية والحماس الذي رافقها في بدايتها . لقد كانت القيادة المقررة تحاول المد بحياة الثورة إصطناعيأ واستخدمت في سبيل ذلك أسلوب الاغتيالات التعسفية التي مزقت الوحدة القومية التي تجلت في عامي 1936و 1937 - المرحلة الأولى من الثورة والقسم الأكبر من عام 1938- المرحلة الثانية في الثورة. إن محاولة مد الثورة بالاغتيالات لم يمثل مصلحة قومية إنما عبر عن مصلحة الدول المحورية (المانيه وإيطاليه) التي كانت ترغب في خلق المصاعب وتكديسها أمام الامبريالية البريطانية المنافسة. ولكن هذه " الثورة الاصطناعية " تبددت شيئآ فشيئآ لعدم وجود جذور لها وتوقفت عند نشوب الحرب العالمية الثانية. ويسند موقف الديمقراطيين المؤرخ محمد عزة دروزة- الذي كان أيضآ قائدأ قوميآ- فكتب أن الكتاب الأبيض ماشى الميثاق العربي شوطآ غير يسير، وأن قبول الانجليزبمبدأ قيام دولة فلسطينية بأكثرية عربية كان نجاحأ عظيما وأن الكفاح العربي تكلل بالنجاح (المصدر ذاته- ص 240). واحتجت القيادة الصهيونية إحتجاجأ شديد اللهجة على الكتاب الأبيض ورفضته وأعلنت ما يشبه العصيان المدني إحتجاجأ عليه ودعت التجمعات في الكنس إلى حلف اليمين التالي: " يعلن السكان اليهود أمام العالم أن هذه السياسة الخائنة لا يمكن التسامح معها، سيحارب السكان اليهود هذه السياسة إلى الحد الأقصى ولن يضنوا بالتضحيات لعرقلتها والقضاء عليها. ولن يشترك أي فرد من السكان اليهود في خلق أي أجهزة إدارية على أساس هذه السياسة ولن يتعاون معها أحد ". " إن السكان اليهود لن يعترفوا ولن يقبلوا بأية قيود عديمة الرحمة على الهجرة اليهودية إلى بلادهم، ولا توجد قوة في العالم تستطيع القضاء على حق إخواننا الطبيعي في دخول بلاد الآباء من أجل إعادة بنائها والعيش فيها. سيجد الذين بلا مأوى طريقهم هنا وكل يهودي في هذه البلاد سيستقبلهم ا. (سقوط وصعود اسرائيل- وليم هل- ص 205). وجرت مظاهرات في أنحاء مختلفة من البلاد وعقد المؤتمر الصهيوني الحادي والعشرون في شهر آب (أغسطس) عام 1939 وأعلن مقاومته الكتاب الأبيض وأنكر شرعيته، ولكنه ازاء الأخطار التى كانت تلوح في الأفق وخطر إندلاع الحرب أعلن المؤتمر تأييده لبريطانيه دفاعآ عن الديمقراطية. ولا يمكن تحديد لحظة تحول القيادة الصهيونية من تركيز الاعتماد على الامبريالية البريطانية إلى تركيز الاعتماد على الامبريالية الامريكية . ولكن من الممكن القول أن صدور الكتاب الأبيض ، الذي كما قلنا أخذ بعين الاعتبار الأوضاع الدولية- كما أرتبطت بمصالح بريطانيه- وأراد إحباط مساعي الامبريالية الالمانية والايطالية ، اسرع في عملية التحول خصوصأ وأن الولايات المتحدة كانت قد دخلت الميدان في الشرق الأوسط وبدأت تأخذ في الحساب الصهيونية في تخطيط سيطرتها وتقليص سيطرة منافسيها البريطانيين في الدرجة الأولى. ومن بوادر هذا الأمر أن يقوم السفير الامريكي في لندن ، بأمر من الرئيس الامريكي (روزفلت آنذاك) ، بتحذير الحكومة البريطانية من نتائج الكتاب الأبيض السيئة على الرأي العام الامريكي! (المصدر ذاته- ص 206). ووجدت الصهيونية أن من أشد أسلحتها أثرا: التلويح بمصائب أبناء الطائفة اليهودية من جراء لاسامية النازية البربرية. وعلى هذا الوتر ضرب أنصار الصهيونيه في الدول الامبريالية ، ودعوا إلى حماية اليهود من الآلام وفتح أبواب فلسطين أمامهم. (المصدر ذاته- خطاب هربرت مور يسون- ص 206). وفي هذه اللحظة تكشفت مرة أخرى لا مبالاة القيادة الصهيونية بمصير اليهود عامة وتركيزها نشاطها على شيء واحد: تهجيرهم إلى فلسطين. وجسم مؤتمر " إيفيان " هذه اللامبالاة المستهترة بحياة اليهود ، وكان قد عقد في 6 تموز ( يوليو) 1938 وحضرته وفود من 31 دولة وسمحت حتى المانيه النازية لوفد يهودي بحضور المؤتمر وذلك لبحث قضية اللاجئين اليهود الذين كانوا يفرون من أمام ا لنازية. صحيح لم يتحمس ممثلو الدول لفتح أبواب بلادهم أمام اللاجئين من البربرية النازية ، ولكن الولايات المتحدة أعلنت موافقتها على دخول 30 ألفآ سنويا إلى بلادها وجمهورية الدومنيكان وافقت على دخول 100 ألف من أولئك اللاجئين. وكان من الممكن توليد ضغوط على الدول الأوروبية لتوسيع الأبواب أمام أولئك اللاجئين. ولكن الصهيونيين قاطعوا المؤتمر ولم يقلقهم عدم نجاحه ، فمنذ البداية اعتبروا هذه المبادرة لا مبالاة وعداء ، فالاتجاه كله لا يتوافق مع روح الصهيونية ، كما كتب كريستوفر سايكس : (كتابه: اسرائيل على مفترق الطرق- ص 223- 228). وأضاف: " فلو قامت أمم الدول الاحدى والثلاثين بواجبها واستضافت أولئك الذين كانوا في أمس الحاجة لضيافتها لخف الضغط على الوطن القومي وهبط الحماس الصهيوني في فلسطين وهذا آخر شىء كان يرغب فيه القادة الصهيونيين... وحتى في الأيام القادمة الأكثرهولآ لم يخف (هؤلاء القادة) عند محادثتهم الأغراب أنهم لا يريدون نجاح الاستيطان خارج فلسطين " (ص 228) . وفعلا عرقل الصهيونيون كل شىء سوى الهجرة إلى فلسطين . وبسبب ذلك فوتوا خلال الحرب العالمية الثانيه فرصآ عديدة لانقاذ آلاف اليهود من الجحيم النازي. ودافع جيمس ب . واربورغ عن هذه السياسة فكتب أن الصهيونيين لم يحضروا (المقصود رسمياً ) مؤتمر إيفيان ولم يظهروا أي اهتمام بإخفاقه لأنهم " لم يرغبوا في أن، يذهب اليهود الأوروبيون الذين يستطيعون الهرب إلى أقطار مختلفة، كانوا يريدونهم أن يأتوا إلى فلسطين . إن موقفهم القاسي لم يغير شيئآ لأن العالم الغربي كان يغلق أبوابه أمام ضحايا الاضطهاد النازي " (تيارات متضاربة في الشرق الأوسط- ص 95 -96) . إن دعاة الصهيونية يتجاهلون ما كان يمكن أن يتحقق نتيجة النضال الشعبي على الصعيد العالمي ولهذا يختفون وراء مئل هذه الأقوال . والحقيقة أن الصهيونية في ممارستها لم تكن تتورع عن شىء في سبيل تحقيق أهدافها، ولهذا لم يكن غريبا أن يبعث بى غوريون في أيام مؤتمر إيفيان مبعوثه " يهودا تاينبوم " إلى بولونيه اللاسامية لشراء السلاح وتهريبه إلى فلسطين (سيرة حياة سياسية). وهكذا وصلت قضية فلسطين إلى مرحلة خطيرة في عشية الحرب العالمية الثانية . وأمر واحد لم يعد خافيآ، لقد أدت ثورة 1936 إلى مزيد من العزلة الاقتصادية بين الشعبين وبذلك عمقت الغربة السياسية القائمة بينهما منذ البداية.


هوامش (1) ولهذا بعد صدور قرار التقسيم عن المم المتحدة في 1947 بذلت بريطانية كل جهد للإبقاء على النقب في القسم العربي الذي خططت ضمه إلى شرق الأردن .. (2) لقد كان هذا المشروع أساس مقترحات سورية الكبرى التي روجت لها بريطانية ودعت لها بعد الحرب العالمية الثانية واتخذت شكل الكتاب الأزرق الذي طرحه على بساط البحث نوري السعيد سعياً وراء المصالح الهاشمية - الامبريالية البريطانية .













الفصل السادس عشر قرار تقسيم فلسطين وقيام دولة اسرائيل بنشوب الحرب العالمية الثانية في صيف 1939 واجهت الانسانية وضعأ خطيرأ ، فألمانيه النازية التى جسمت أعنف امبريالية عرفها التاريخ آنذاك دشنت بهجومها الغادر على بولونيه محاولة السيطرة على أوروبا اولأ والعالم ثانيا. وبعد فترة من المناورات سميت " بالحرب الصورية "، وحاولت خلالها ألمانيه النازية جر فرنسه وبريطانيه وراءها وإخضاعها لمخططاتها بدون حرب شنت ألمانيه النازية حربها الصاعقة في أوروبه الغربية واحتلت هولنده وبلجيكه والنرويج وفرنسه وبدأت تدق بغاراتها على أبواب بريطانيه التى إحتمت وراء البحور التى تحيط بها لتصد الغزوة. وتسارعت الأحداث، وقرر التناقض الامبريالى من ناحية ، ونضال الشعوب والقوى التقدمية ضد النازية من ناحية أخرى ، توزيع الدول والشعوب على جبهتى المعركة. وهكذا وقف محور مكافحة الشيوعية الذى تألف من ألمانيه النازية وإيطاليه الفاشية واليابان العسكرية والعناصر المغرقة في الرجعية في ناحية والاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة وبريطانية والشعوب عامة في ناحية مقابلة . لقد وضعت الحرب، الانسانية، أمام خيار مصيري، فإما أن تستسلم أمام بطش أعنف إمبريالية وحشية عرفها التاريخ حتى ذلك الوقت، وإما أن تقضي على هذه الكتلة الامبريالية الشريرة فتخط صفحة جديدة من التاريخ بحيث تفيض بممكنات التطور الايجابي. لقد أصبحت تلك الحرب الآن جزءآ من التاريخ الانساني ونتائجها الدينامية - بعد هزيمة النازية- تتفاعل مع الأحداث حتى اليوم. والأمر الهام هنا أن اندلاع الحرب العالمية الثانية أسهم في وقف الطلقات الأخيرة التي حاولت بها الرجعية العربية ، المتساوقة مع النازية ، الابقاء على وضع ثوري معاد لبريطانيه في فلسطين. وهذه الحقيقة على غاية من الأهمية فدعاة الصهيونية والمحافل الامبريالية في دول غربية عديدة قد نسجت أسطورة وضيعة زعمت فيها أن الشعب العربي الفلسطينى ساند النازية في الحرب العالمية الثانية. وقد اعتمدت في هذا على أسلوب التزييف الرجعي التقليدي القائم على دفع شعب بأسره بصنيع يقوم به نفرمن الزعماء. صحيح أن مفتى القدس ، الحاج أمين الحسينى انتسب إلى محور النازية وخدم مقاصدها، ولكن الصحيح أيضآ أن الشعب العربي الفلسطينى- باعتراف إدارة الانتداب البريطاني- رفض دعوة المفتى للقيام بتمرد واستنكرت صحافته العربية- حتى التقليدية منها- الغارة على تل أبيب التى وقعت آنذاك. (تقريرفلسطين للجنة الأنجلو- أمريكية 1945- 1946 ص 60). واقتربت الحرب في يوم من الأيام إلى فلسطين ، حين وصلت القوات الألمانية بقيادة روميل إلى " العلمين " كما أحست بعض المدن مثل حيفا بالحرب أيام الغارات الجوية التي تعرضت لها وخاصة حين بدأت القوات البريطانية والفرنسية الحرة احتلال سور يه ولبنان لانتزاعهما من سيطرة حكومة فيشي الفرنسية المتهاودة مع ألمانيه النازية .

ولكن لم يكتو شعبا فلسطين العربي واليهودي بنار الحرب، وكانت سنوات الحرب سنوات إنتعاش إقتصادي كبير بسبب نفقات القوات المسلحة البريطانية الوفيرة التي عسكرت في البلاد وبسبب حاجات المجهود الحربي المتعاظمة التي فرضت على بريطانيه تعديل سياستها القديمة، التي هدفت إلى الابقاء على البلاد سوقآ لسلعها الصناعية ، فمكنت الصناعات المحلية من التطور لسد حاجات البلاد.

وكان من الطبيعي أن تستفيد من هذا الوضع على نطاق واسع الصناعة في القطاع اليهودي إذ كانت أكثر تطورآ لأنها لم تتعرض إلى القدر ذاته من الضغوط الامبريالية ومثلت في بعض القطاعات (الاسمنت والزيوت والصابون) تعاونآ رأسماليآ بين احتكارات بريطانيه ورأسماليين يهود محليين. ولذلك كانت حصيلة التطور الاقتصادي في نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945 إزدياد التفاوت بين القطاعين العربي واليهودي بحيث أصبح القطاع اليهودي يحتل مكان الصدارة في حياة البلاد الاقتصادية وبالتحديد في ميداني المال والصناعة. وحسب تقريرحكومة فلسطين بلغت احتياطات البنوك التي يمتلكها العرب في 1945 (9,3مليون جنيه)، في حين بلغت تلك الاحتياطات التي يملكها اليهود (50.3مليون جنيه). (ص 565). أما الأموال المودعة فكانت النسبة 39.3 مليون للعرب و 16.7 مليون لليهود (ص 566). وكان التباين عميقآ في ميدان الصناعة ففي حين بلغت منشآت العرب 1,558 منشأة (وجلها صغير) برأسمال مليونين من الجنيهات بلغت منشآت اليهود 1907 برأسمال 12 مليون جنيه... هذا الأمر ظهر في حجم الانتاج فكانت النسبة في ميدانه حوالي 5.6 مليون (يعود للعرب) وحوالي 29 مليون (يعود لليهود). (ص 567).

ومع أن العرب تفوقوا على اليهود في الميدان الزراعي من حيث الانتاج الاجمالي، لا من حيث معدل الدونم الواحد، فقد تساوى الفريقان تقريبآ في إنتاج الحمضيا ت التي كانت تمثل صادرات البلاد الجوهرية وكانت النسبة 18.2 مليون جنيه (قيمة ما ينتجه العرب من الحمضيات) مقابل 17.6 مليون جنيه (قيمة ما ينتجه اليهود).

ووطد هذا التطور الاقتصادي الوطن القومي اليهودي في فلسطين وساعد على عملية التحول الكيفي في ماهية الجماهير اليهودية الناجم عن التغييرات الكمية . ففي نهاية الحرب العالمية، في عام 1945 كان قد بلغ عدد اليهود في فلسطين حوالي 660,000 وتعمقت ، إلى حد ما، نتيجة التطورات الاقتصاد ية والثقافية ، عملية تلاحم أبناء الطوائف اليهودية المختلفة الذين وفدوا إلى البلاد، وزاد هذه العملية سرعة ضغوط الحرب العالمية الثانية وسياسة النازية اللاسامية التي خلقت بين اليهود شعورآ بالمصير الواحد. في هذه الفترة كان من الممكن رؤية التغيير الني طرأ على الجماهير اليهودية في فلسطين واتضح أنهم يسيرون في طريق التبلور القومي بحيث جعل في الامكان القول أن فلسطين تتغير من قطر ذي قومية واحدة، هي القومية العربية وجماهير يهودية حكمها حكم الأقلية، إلى قطر ثنائي القومية يعيثر فيه شعبان: العربي واليهودي.

سياسة القيادة الصهيونية

عند نشوب الحرب كتب حاييم وايزمن إلى نيفل تشمبرلين رئيس وزراء بريطانيه: " نشأت مؤخرا خلافات بين الوكالة اليهودية والدولة المنتدبة في الميدان السياسي ولكننا نرغب في أن تخلي هذه الخلافات مكانها لضرورات الزمن الأكثر إلحاحآ "- (روبرت سانت جون : بن غوريون- ص 72) وصرح دافيد بن غوريون الذي كان يقتر ب من القيادة بوصفه زعيم ( ماباي) القوة السياسية الكبرى في القطاع اليهودي : " سنحارب الكتاب الأبيض كأن لا حرب هناك، وسنقاتل في الحرب كأن لاوجود للكتاب الأبيض " (المصدر ذاته). وهكذا يمكن تلخيص سياسة القيادة الصهيونية خلال الحرب العالمية الثانية بملمحين جوهريين: مقاومة الكتاب الأبيض عن طريق تجاوز قيوده على الهجرة وانتقال الأراضي من ناحية. وتأييد الجبهة المعادية للنازية بشتى الطرق على اعتبار أن دحر النازية سيخلق ظروفأ أفضل لتمارس الصهيونية سياستها من ناحية أخرى. وقد توقع بن غوريون أن تؤدي الحرب إلى قيام الدولة اليهودية فكان يقول: إذا كانت الحرب العالمية الأولى قد جاءت بوعد بلفور فالحرب الثانية ستأتي بالدولة اليهودية (المصدر ذاته- ص 73). وانطلقت القيادة الصهيونية في سياستها من مواقعها الجوهرية القائمة على التعاون مع الدول الامبريالية التى تتناقض مصالحها مع مصالح المانية النازية وايطاليا الفاشية واليابان العسكرية. وتعمق التمايزداخل القيادة الصهيونية ازاء الدول الامبريالية في الجبهة المعادية للنازية خلال سنوات الحرب ورجحت شيئآ فشيئأ كفة القوى الموالية للامبريالية الامريكية. وقد انتبه إلى هذه الحقيقة روبرت سانت جون حين كتب يصف تفكير بن غوريون: "لقد رأى حتى في حالة كسب الحلفاء الحرب أن بريطانيه ستهبط بوصفها دولة كبرى وستندفع الولايات المتحدة إلى موقع قيادة العالم " (كتابه بن غوريون ص 82 ) . ومن العوامل التى اسرعت في عملية التحول إلى الامبريالية الأمريكية إزدياد نفوذ الطاثفة اليهودية الامريكية بوصفها أضخم وأغنى طائفة في الحركة الصهيونية، خصوصآ وأن الطوائف اليهودية في أوروبه تدهورت وكانت الكارثة النازية تعمل على تصفيتها ببربرية لا مثيل لها في التاريخ. وجسم هذا الانتقال من الاعتماد على الامبريالية البريطانية إلى الاعتماد على الامبر يالية الامريكية المؤ تمر الطارىء الذي عقدته " لجنة الطوارىء الأ مريكية للشؤون الصهيونية " في فندق بيلتمور في نيويورك في آيار (مايو) 1942 وصادقت فيه على برنامج بيلتمور في نيويورك في آيار (مايو) 1942 " برسالة امل وتشجيع إلى اليهود في الغيتوات ومعسكرات الاعتقال الهتلرية " ، ويحيي الوكالة اليهودية واللجنة القومية في فلسطين على إنجازات الوطن القومي اليهودي... ويسجل تحويل الصحارى إلى جنات يانعات!! ويدعو- وهذا كان بيت القصيد- إلى تنفيذ هدف وعد بلفور الأصلي وهو" اعترافآ بالعلاقات التاريخية بين الشعب اليهودي وفلسطين تقررتمكين اليهود كما أعلن ذلك الرئيس ويلسون من إقامة دولة يهودية فيها". وطالب القرار- بعد أن رفض الكتاب ودعا إلى إلغائه- بفتح أبواب فلسطين أمام الهجرة، وتخويل الوكالة اليهودية صلاحية ترتيب الهجرة والاستيطان، كما طالب بتأليف قوة يهودية عسكرية تحارب تحت علمها. (مجموعة الوثاثق التي جمعها ولتر لاكير - 78). وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 1942 أقر المجلس الصهيوني الضيق، برنامج بيلتمور كما أقرته الوكالة اليهودية وأكثرية الأحزاب في فلسطين بما فيها الحزب الاصلاحي. لقد دخلت المنظمة الصهيونية- بعد فترة من الحذر- المعركة الجوهرية تحت شعارها الأصيل- شعار الدولة اليهودية. وحظيت المنظمة الصهيونية بتأييد متعاظم في الولايات المتحدة. ونشط الشيوخ والنواب في الكونغرس الامريكي من أجل إقرار برنامج بيلتمور الداعي إلى إقامة الدولة اليهودية في فلسطين. وما أن جاء عام 1944 حتى قدم عدد كبير من الشيوخ والنواب إلى الكونغرس الامريكي مشروع قرار يدعو إلى هجرة غير محدودة إلى فلسطين وإلى إقامة الدولة اليهودية. وفي معركة إنتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة في خريف 1944 نشر الشيخ واغنر نص رسالة. كتبها الرئيس الامريكي روزفلت وأعلن فيها تأييد. (فتح أبواب فلسطين لهجرة يهودية غير محدودة واستيطان كولونيالي يؤدي إلى إقامة دولة يهودية ديمقراطية وحر في فلسطين ". (تقريرفلسطين المجلد 1- ص 70 ). وأدى هذا الانتقال من التعاون مع الامبريالية البريطانية إلى الاعتماد على الامبريالية الامريكية إلى إنتقال القيادة من أيدي حاييم وايزمن إلى أيدي بن غوريون. وفي هذا الصدد كتب جيمس واربورغ أن المصادقة على برنامج بيلتموروضع بن غوريون في مكان القيادة بدل وايزمن (كتابه تيارات متصلبة في الشرق الأوسط - ص 110) وشدد الشقة بين الوكالة اليهودية وبريطانيه (المصدر ذاته- ص 111). وتوافق هذا كله مع تغيير في سياسة الولايات المتحدة، التي كانت من قبل هذه الفترة تعتبر الشرق الأوسط وشرق البحر الأبيض المتوسط من مسؤولية بريطانيه ولكنها في الحرب العالمية الثانية بدأت تهتم بالشرق الأوسط وتنتهج سياسة مزدوجة. فالرئيس روزفلت صرح أمام الصهيونيين أنه يشاركهم في هدفهم إقامة الدولة اليهودية وفي الوقت ذاته وعد ابن سعود ملك السعودية بأن لا يقوم بأي إجراء يضر بالقضية العربية (المصدر ذاته- ص 121). ولكن حين تقرر أن سياسة القيادة الصهيونية اتسمت بملمحين تجاوز ا لكتاب الأبيض وخاصة قيوده على الهجرة اليهودية إلى فلسطين أولأ، وتأييد الحلفاء في محار بة النازية ثانيآ. فلا بد لنا من أن نؤكد أن العنصر المقرر كان تجاوز الكتاب الأبيض أو على الأصح تنفيذ المخطط الصهيوني كما فهمته القيادة آنذاك . ولهذا حين ذاعت أنباء جرائم النازية المروعة في تصفية اليهود في معسكرات الاعتقال لم تعمل القيادة الصهيونية على مجرد إنقاذ اليهود من الكارثة التى كانت تنتظرهم بل ركزت جهودها جوهريآ على تهجير اليهود إلى فلسطين بغض النظرعن العواقب المخيفة في بعض الأحيان. ولو كانت القيادة الصهيونية تهتم بإنقاذ اليهود عامة لاستطاعت إنقاذ مئات الألوف. وفي هذا الصدد أعلن أ. ليفنه في ندوة طاولة مستديرة عقدتها " معريف " (ونشرت وقائعها بين 5 1- 24 نيسان (أبريل) 1966). لوكان الهدف انقاذ اليهود لمجرد الانقاذ لا تهجيرهم إلى فلسطين، ولوكرست المنظمات الصهيونية المسلحة جهودها لهذه الغاية لأنقذت مليونا من اليهود. وكان غرق 240 مهاجرآغير شرعي في ميناء حيفا نتيجة نسف السفينة " بتريا " في 25 تشرين الثاني (نوفمبر ) 1940 أحد الأدلة على مدى استهتار القيادة الصهيونية بأرواح اليهود في سعيها نحوأغراضها . فالوكالة اليهودية- كما يجمع الكتاب الآن هي التي نظمت الانفجار في الباخرة لمنح سفرها مع المهاجرين غير الشرعيين إلى مارتيوس وبذلك سببت هده المأساة (1) ويحمل جيمس واربورغ الوكالة اليهودية قسطآ من المسؤ ولية عن غرق السفينة (ستروما) في البحر الأسود وهي تحمل 769 مهاجرآ يهوديآ، لم ينج منهم غير واحد ، وكتب أن السفية ستروما غرقت بعد شهرين من الجدال بين الحكومة البريطانية والوكالة اليهودية. وأضاف: "ولوكانت الاعتبارات الانسانية هي التي حركت الوكالة اليهودية لاقترحت السماح للسفينة بالابحار إلى حيفا بينما ناقشت (السلطات البر يطانية) حول حق اللاجئين في النزول في فلسطين ". أما بريطانيه فكانت تريد أن ترسل " ستر وما " إلى حيفا ومن هناك إلى ماريتوس. (كتابه تيارات متصلبة في الشرق الأوسط ص 108) .

    وتكشفت هذه الحقائق أثناء المحاكمة التى دارت حول الزعيم الصهيوني ر .  كاستنر في القدس عام 1952. فحسب قرار المحكمة تعاون كاستنر- وكان يرأس لجنة إنقاذ اليهود في هنغاريه زمن الحرب العالمية الثانية مع السفاح النازي ايخمان من أجل إنقاذ حوالي ألف من الصهيونيين وأنصارهم من أغنياء اليهود وبذلك سكت عن عملية تصفية ربع مليون يهودي هنغارى أرسلوا ليلقوا حتفهم في معسكرات الابادة. 
   إن التأكيد على الهجرة وتنظيم هجرة غير مشروعة الى فلسطين كان جزءأ لا يتجزأ من التخطيط الصهيوني الهادف إلى تجميع اكبر عدد ممكن من اليهود- والمحاربين خاصة- في فلسطين حتى تحين ساعة الحسم العسكري.
   ولهذا ايضآ رفعت القيادة الصهيونية في وقت مبكرمن الحرب العالمية الثانية، في عام 1940، شعار تنظيم الفرقة اليهودية في الجيش البر يطاني ورفضت أن تتألف وحدات عسكرية من اليهود والعرب في إطار جيوش الحلفاء. (تقريرفلسطين - مجلد 1- ص 57).
   لقد كانت تريد تدريب أكبر عدد ممكن من المحاربين اليهود بشكل منظم وموحد ليعملوا في الهجاناه- القوات الصهيونية المسلحة.

وكتب في هذا الصدد ولتر بريوس في شىء من الصراحة " كون عدد كبير من الجنود اليهود خدموا في الجيش البر يطاني وشاركوا في معاركه وبذلك تدربوا عسكريأ لم يكن بدون أثر على التطورات في السنوات التى سبقت قيام الدولة " (حركة العمال في ا سرا ئيل- ص 132). وتراوح عدد الجنود اليهود الذين تدربوا في الجيش البر يطاني بين 30- 40 ألف جندي يضاف إليهم أولئك الذين كانوا يتدربون في البلاد بعلم السلطات البريطانية ، أويعملون في أجهزة الأمن في البلاد وهذا يعني ان الصهونية عندما دقت ساعة الحسم استطاعت أن تعتمد على عشرات الألاف من الجنود المدربين.

     وفي الوقت ذاته كان يجرى تهريب السلاح على قدم وساق كما بدأت الهجاناه في بناء منشآت سرية لصنع السلاح الممكن صنعه في تلك الظروف . 

وفي هذه الفترة بالذات استخدم البريطانيون رجال الهجاناه لأغراض خاصه في أوروبة والشرق الأوسط. ومن هذه الأغراض محاولة اغتيال مفتي القدس في بغداد ( جيمس واربورغ في كتابه تيارات متصلبة في الشرق الأوسط ص105) ونسف مصفاة البتر ول في طرابلس في لبنان والاستكشاف عند احتلال سوريه ولبنان (2).

ويحتل مكانآ خاصآ في الجهاز الحربي السياسي دور  المنظمات الصهيونية في إقامة شبكات تجسس في الأقطار العربية في خدمة الدول الامبر ياليه. وفي هذا الصدد كتب مؤ رخ الهجاناه ، في يوم من الأيام، الدكتور اسرائيل بير: " من 1941 وبعده استخد مت دائرة المخابرات البر يطانية، ودائرة المخابرات الامريكية ودائرة الحلفاء الاستراتيجية أعدادأ متزايدة من اليهود الفلسطينين " (مجلة فلسطين والشرق الأوسط 7/8/1946المجلد 18).

وأضاف ليؤكد اهمية هذه الخدمة: " إن الكولونيل الامريكي هيملرمن دانرة الاستخبارات الامريكية قال: حتى لولم يقم اليهود بغير ذلك (أي الخدمة في دوائر الاستخبارات) حتى لولم يكن لهم أدعاء آخر، فخدمتهم الأمنية كسبت لهم حق أن يكونوا أمة حرة في بلادهم " (المصدر ذاته- ص 160). لقد أسهمت القيادة الصهيونية بالحرب العالمية الثانية ولكنها كانت إلى جانب خدمتها للدول الامبر يالية تنظر إلى مصالحها العينية وتعد للمعركة القادمة. ولم تمنع المشاركة في الحرب ضد النازية من قيام المنظمات المسلحة اليمينية في الحركة الصهيونية بأعمال تخريب وارهاب بغية الضغط على الحكومة البر يطانية لتفتح ابواب فلسطين أمام الهجرة وتلغي الكتاب الأبيض.


سياسة الحركة القومية العربية

لقد خلقت ثورة 1936 والأحداث التى تلتها، الحركة القومية العربية بدون قيادتها التقليدية التى شردتها الحكومة البر يطانية أوهي غادرت البلاد هربآ من الاعتقال والقمع. وانقسمت هذه القيادة، فذهب نفر منها، وعلى راسهم المفتى، إلى برلين النازية، واعتقلت السلطات آخرين، مثل جمال الحسينى وأمين التميمي، وأبعدتهم إلى روديسيه ، وتهاون نفر آخر مع الامبر يالية البر يطانية وعادوا إلى البلاد. وكان الملمح البارز في هذه الفترة أن الحركة القومية العربية كانت هامدة خلال سنوات الحرب العالمية الثانية. ومع هذا جرت محاولات بريطانيه للاتصال بالقيادة العربية التقليدية والاتفاق معها على حل القضية الفلسطينية. وذكرفي هذا الصدد محمد عزة دروزة في كتابه حول الحركة العربية الحديثة أن الكولونيل نيموكمب البر يطاني اتصل في عام 1940 بوزير الخارجية-العراقي وعن طريقه بجمال الحسيني وموس العلمي " وتم الاتفاق خطيآ على التعاون في خطة إيجابية على أساس الكتاب الأبيض " على أساس البدء في المرحلة الأولى بإيجاد " مجلس مديرين ثم يسار في المراحل الأخرى على ما جاء ذلك في محاضر مشاورات الوحدة " (المجلد الثالث ص 249). ولكن إذا كانت القيادة العربية التقليدية قد اتخذت موقفآ سلبيآ من الحرب المعادية للنازية فقد ظهرت علنآ على المسرح السيا سي لأول مرة في القطاع العربي حركة شيوعية تحت اسم: عصبة التحرر الوطنى، وبدأت تعمل تحت شعارات: تأييد الحرب ضد النازية من ناحية والمطالبة بالحريات الديمقراطية وبالحقوق القومية من ناحية ثانية. وكان برنامجها الجوهري: الاستقلال وإنشاء دولة فلسطينية ديمقراطية. حرك نشاط عصبة التحرر الوطنى قيادة الحركة القومية التقليدية، وهكذا فما أن جاء عام 1943 حتى كانت بعض الأحزاب القديمة قد نطشت من جديد. كذلك ظهرت فكرة إقامة لجان قومية في المدن الرئيسية ولكنها في هذه الفترة المبكرة لم تتعد حيفا . وتحاول المصادر الصهيونية والمحافل الغربية التى تؤيدها عند كتابتها التاريخ تصوير العرب الفلسطينيين وكأنهم أنصار المفتي والنازية، ولكن الوقائع تختلف تمامأ، وتقرير فلسطين (الذي وضعته بريطانيه) يقرر أن مكانة أنصار المفتي هبطت بين الشعب العربي الفلسطينى بعد فشل ما عرف بثورة رشيد علي الكيلاني في العراق في آيار (مايو) 1941 وأصيبت هذه المكانة بنكسة أشد حين فر المفتى، الحاج أمين الحسيني ، إلى أقطار محور النازية. (المجلد الأول- ص 62). وانعكس النشاط الاقتصادي الواسع النطاق في المجتمع العربي الفلسطينى في ميدانين: ميدان العمال وميدان البرجوازية العربية، فقد اتسمت صفوف الطبقة العاملة العربية إتساعآ لا مثيل له بدخول عشرات ألوف العمال العرب إلى معسكرات الجيش البريطاني للعمل في منشآتها، كما دخلت بضعة ألوف أخرى المنشآت العربية التي نمت في ظروف الحرب العالمية الثانية. وأثرهذا التطورفي نهوض الحركة النقابية العربية فقام أتحاد نقابات وجمعيات العمال العرب في حيفا من نقابات عمال النفط وغيرها واستأنفت جمعية العمال العربية الفلسطينية عملها بعد الركود الذي أصابها بفعل القمع البريطاني عام 1936. كذلك انتعشت الصناعة العربية بعد أزمة الاضراب العام وثورة 1936 وبدأت توطد مواقعها القديمة وتنشىء مواقع جديدة . وكان لا بد من أن يؤثرهذا الوضع في الحركة القومية العربية ويغير شيئآ من طابعها خصوصآ وأن العمال بدوا يمارسون نفوذهم في هذه الحركة من مواقع اليسار وا لوسط. ونضجت نتيجة هذا كله فكرة تنظيم حزب برجوازي عصري يتبنى برنامجآ ديمقراطيآ ويستطيع أن يواجه تحديات عالم ما بعد الحرب وفعلا تنظم هذا الحزب سرآ وعرف باسم حزب الشعب وضم في صفوفه البرجوازية وأبناء البرجوازية الصغيرة من أصحاب المهن الحرة وقادة الحركة العمالية الاصلاحية (في جمعية العمال العربية الفلسطينية). ولكن هذا الحزب لم يمارس نفوذه عمليآ لأن صراعآ داخليأ بين يمينه ويساره عرقل ظهوره خصوصآ وأن بعض قادته ترددوا في مواجهة زمرة المفتي التي كانت تحاول اللجوء إلى الاغتيال لوقف تنظيم القوى السياسية خارج إطارها. ولم يكن من الممكن أن تبقى فلسطين في عزلة عن أحداث الشرق العربي ومن أبرزها إعلان استقلال سوريه ولبنان بعد دخول القوات الحليفة هذين القطرين وتقدم فكرة الوحدة العربية وحركتها لتحتل مكان الصدارة. وحاولت بريطانيه ركوب الموجة خوفآ من أن يسبقها إليها النازيون ولذلك صرح وزير الخارجية البر يطاني عند نهاية ثورة رشيد علي الكيلاني أن حكومته تعطف على أماني سوريه في الاستقلال وستؤيد مساعي الدول العربية في سبيل تقوية روابطها الثقافية والاقتصادية والسياسية. وفى هذه الظروف خطط الموالون للامبر يالية البر يطانية مشروعآ لحل القضية الفلسطينية في إطار خططهم لاقامة شكل من أشكال الوحدة العربية وعرف المشروع بالكتاب الأزرق وارتبط باسم نوري السعيد وكان موضع بحث في لندن والقاهرة في اوائل عام 1943 ونص المشروع الذي كان شكلأ من أشكال مشروعات الهلال الخصيب على أن تتوحد سوريه وفلسطين ولبنان وشرقي الأردن من جديد في دولة واحدة ويقرر الاهالي فيها شكل الحكم أجمهوريآ أم ملكيآ، وتشأ على الأثر جامعة عربية تنضم إليها العراق وسوريه الموحدة مباشرة وتستطيع أن تنضم إليها الدو ل العربية الأخرى متى شاءت.

ونص المشروع ايضآ على ان يكون مجلس الجامعة العربية مسؤولا عن الدفاع والشؤون الخارجية والنقل والمواصلات والجمارك وحماية الأقليات، وعلى أن يتمتع اليهود في فلسطين بحكم ذاتي ويكون لهم الحق في إدارة أقاليمهم في المدن والريف بما فيها المدارس والمؤسسات الصحية والبوليس مع الخضوع لاشراف الدولة السورية الموحدة .

وأكد المشروع على أن تكون القدس مفتوحة أمام المنتسبين إلى كافة الأديان . كذلك قرر أن موارنة لبنان يستطيعون إذا أرادوا أن يتمتعوا بنظام حكم ذاتي مثل الذي ساد في أواخر الحكم العثماني. (الوحدة العربية- أحمد طربين- ص 263- 264). ورفضت القوى الوطنية المعادية للامبريالية المشروع ورأت فيه محاولة بريطانية للسيطرة على سوريه ولبنان القطرين اللذين أعلنت فرنسه وبريطانيه إستقلالهما في عام 1941 إبان احتلالهما بعد إجلاء قوات فيشي، ومخططآ لابقاء فلسطين في قبضة الامبريالية والرجعية العربية المتمثلة في العائلة الهاشمية التي افترض المشروع أن تحتل دفة الحكم. كذلك رأت القوى الوطنية في عزل اليهود في منطقة حكم ذاتي تجاوزآ على يرنامجها الديمقراطي الداعي إلى دولة ديمقراطية فلسطينية يتعاون جميع أبنائها على تطويرها وتقدمها. ولم يضع رفض المشروع حدآ لفكرة التعاون العربي أو الوحدة العربية. وإذا كان الكتاب الأزرق قد ارتأى من ضمان السيطرة الهاشمية استبعاد مصر فالنشاط الذي أعقب إخفاق المشروع اتخذ مصر محورآ له. وفي شباط (فبراير) 1944، بعد أن أجرى رئيس وزراء مصر مصطفى النحاس مشاورات مع رؤساء وزراء أوممثلي العراق وسوريه ولبنان وشرقي الأردن والعربية السعودية واليمن وقع ممثلوا تلك الدول العربية بروتوكول الاسكندرية الذي نص على إقامة الجامعة العربية التي نعرفها اليوم (3) تكون وعاء التعاون والتنسيق العربي. والمهم هنا أن هذه المباحثات شملت فلسطين التي مثل حركتها القومية أحد القادة التقليديين موسى العلمي وانتهت بتأكيد مكانة فلسطين في إطار الوحدة العربية، فهي القطر العربي الوحيد الذي نص ميثاق الجامعة العربية في ملحق خاص على أنها " أصبحت مستقلة بنفسها غير تابعة لأي دولة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى "، وإن لم تكن قد تولت أمرها " فوجودها واستقلالها الدولي من الناحية الشرعية أمر لا شك فيه ، كما أنه لا شك في استقلال البلاد العربية الأخرى ، وإذا كانت المظاهر الخارجية لهذا الاستقلال ظلت محجوبة لأسباب قاهرة فلا يسوغ أن يكون ذلك حائلأ دون إشتراكها في أعمال مجلس الجامعة " ولهذا قررت الجامعة أن تختار هي مندوبآ عربيأ من فلسطين للاشتراك في أعمال المجلس الى أن يتمتع القطربممارسة إستقلاله. وأكد هذا التطور نموالتضامن العربى ولكنه في تجسيده التنظيمي " اغتصب " الى حد ما دور الحركة القومية العربية في فلسطين. فبعد قيام الجامعة العربية لم يعد من الممكن استبعادها من تطورات القضية الفلسطينية بل هي بدأت تتدخل عمليأ في بناء القيادة القومية وتؤثر في نهجها. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن عناصر الامبريالية كانت نافذة في هذه المنظمة إستطعنا أن ندرك الآثار السلبية على تلك التطورات. ومع هذا فلا بد من رؤية الناحيتين: ناحية التضامن العربي وآثاره الايجابية على مجموع الحركات القومية العربية ومنها الحركة القومية العربية في فلسطين وناحية ممارسة الدول العربية تأثيرأ سلبيأ في بعض الأحيان. وحين انتهت الحرب العالمية الثانية كانت الحركة القومية العربية قد تخلصت من جمودها. لقد كانت الأحزاب التقليدية قد عادت إلى الميدان وبدأت تستعد لأيام ما بعد الحرب التي لاحت نهايتها في الأفق. لقد ترك وجود بعض قادة الحركة القومية العربية التقليديين في أقطار المحورأثره السىء في مسيرة الكفاح القومي، خصوصأ وأن هؤلاء القادة كانوا من غلاة الرجعيين ولم يدركوا التطورات التي حصلت في العالم وضرورة تخطيط برنامج ديمقراطي لحل قضية فلسطين بحيث يأخذ بعين الاعتبارحقوق الشعب اليهودي في فلسطين.

أزمة الامبريالية العامة بعد الحرب العالمية الثانية

إنتهت الحرب العالمية الثانية في آيار (مايو) عام 1945 باندحار ألمانيه النازية وإيطاليه الفاشية واليابان العسكرية فكان ذلك ضربة ضخمة نزلت بالنظام الامبريالي العالمي ودفعآ جديدآ وضع الاتحاد السوفيتي- الذي قام بدور حاسم في دحر المحور النازي- في مكان الصدارة على الصعيد الدولي. وعمقت هذه الضربة الضخمة أزمة الامبريالية خصوصأ وقد إنطلقت بعد الحرب موجة جارفة من النضال القومي التحرري. ولم يعد من الممكن بقاء النظام الامبريالى على حاله فقد أخذ يتداعى. وفي فلسطين تسارعت وتيرة التطور باحتدام النضال لانهاء النظام الامبريالي البريطاني فيها، واشتدت الضغوط من أجل حل القضية التى إزدادت تعقيدأ لوجود آلاف اللاجئين اليهود من بقايا معسكرات الاعتقال والابادة الهتلرية في أوروبا ، ولاحتدام التناقضات الأنجلو- أمريكية بعد فترة من " التفاهم " . وجدير بالذكر في هذا الصدد أن وايزمن يروي في كتابه " التجربة والخطأ " أن تشرشل إستدعاه في 11 آذار (مارس) 1942 وقال له: " أريد أن تعرف أن لدى خطة يمكن أن توضع موضع التنفيذ بعد الحرب . أود أن أرى إبن سعود سيد الشرق الأوسط أي سيد الأسياد على شرط أن يتفق معكم، ويعتمد عليكم أن تحصلوا على أفضل الشروط (بالاتفاق معه)... سنساعدكم طبعأ. إحتفظ بهذا سرأ ولكنك تستطيع أن تتحدث مع روزفلت حين تذهب إلى أمريكا. لا شىء لا نستطيع تحقيقه إذا صممنا أنا وهو سويأ عليه " (ص 426). ويضيف وايزمن أن موضع سر ابن سعود، وكان آنذاك جون فيلبي، أكد له المخطط ذاته (ص 428). ولكن هذا الشعور بالتوافق الذي أحس به تشرشل في مطلع 1942 تبدد في فترة مابعد الحرب العالمية الثانية وظهر التناقض على أشده بين الامبرياليين الامريكيين والبريطانيين حين طالب الرئيس الامريكي هاري ترومان، الذي ورث روزفلت اللاجئين بإدخال مئة الف مهاجر يهودي من اللاجئين إلى فلسطين. وهنا مرة أخرى إستغلت الصهيونية حالة هؤلاء اللاجئين من يهود أقطار أوروبه الوسطى وضحايا النازية لتضغط على بريطانيه لتقبل بإدخال مئة الألف. ولاحظ جيمس واربورغ هنا أيضأ أن الصهيونية لم تكن تهتم بحالة هؤلاء اللاجئين بقدر إهتمامها بتهجيرهم إلى فلسطين (باعتبارهم قوة إحتياطية لقواها العسكرية). وكتب أن ترومان فكر في فتح أبواب الولايات المتحدة للهجرة اليهودية ولكن المدة لذلك كانت ستكون طويلة نسبيآ، وأضاف أن هذه المدة كان يمكن تقليصها لوأن المنظمات، التي كانت تضج بالمطالبة في تهجير هؤلاء اللاجئين إلى فلسطين، حولت ولوجزءآ من جهودها لفتح أبواب الولايات المتحدة أمامهم. (تيارات متصلبة في الشرق الأوسط- ص 128). وبديهي أن ترفض بريطانيه طلب الولايات المتحدة وهي التي قررت، ازاء المنافسة الامريكية وضغوط حركات التحرر القومي العربية، أن تهاود الحركة الوطنية في فلسطين ولا تتحداها بفظاظة. وعلى هذا الضوء كان تأليف اللجنة الأنجلو- أمريكية في تشرين الثاني (نوفمبر) 1945 من 12 عضوآ، مناصفة بين الدولتين محاولة لتسوية الصراع الامبريالي بينهما. وبحثت اللجنة، كما طلب منها، الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في فلسطين، بقدرتأثيرها على الهجرة اليهودية ، كما فحصت وضع اليهود في أقطار أوروبه حيث كانوا ضحايا التعذيب النازي وخرجت بتوصية تدعوإلى إدخال مئة ألف مهاجر يهودي حالأ وتسهل الهجرة فيما بعد بخلق ظروف ملائمة لذلك. كما أوصت بإلغاء القيود تقريبآ على بيع الأراضي العربية وبفرض وصاية على فلسطين على أن يكون الحل السياسي فيما بعد دولة ثنائية القومية. وبهذا التقرير الذي صدر في 30/ 4/ 1946 فشلت محاولة التسوية الأنجلو- أمريكية وبدأت فترة المشاريع البريطانية. ومع هذه المشاريع التى عرفت بأسماء أصحابها مثل مشروع موريسون وبأسماء طابعها: الكانتونات ، قامت بريطانيه بمحاولة أخرى لصياغة حل يصون مصالحها. ولهذه الغاية عقدت مؤتمرآ جديدآ في لندن بين آب (أغسطس) 1946 وكانون الثاني (يناير) 1947 اشترك فيه ممثلوالدول العربية المستقلة في المشرق العربي ووفدا الحركة القومية العربية في فلسطين والوكالة اليهودية. وأخفق المؤ تمر لأن الحلول المقترحة أخذت مصالح بريطانيه بعين الاعتبار ولم تأخذ مصالح الشعبين عاملأ مقررآ للاسراع في التسوية. ولذلك لم يشمل أي من هذه المقترحات تصفية الانتداب عامة في فلسطين وجلاء القوات الأجنبية عنها- وهما شرطا التسوية العادلة المتوافقة مع مصالح الشعبين العربي واليهودي. وأدرك الشيوعيون اليهود والعرب أن الحل الديمقراطي يقوم على هذين الشرطين ودعوا إلى إقامة جمهورية فلسطينية ديمقراطية مستقلة ونادوا بإحالة قضية فلسطين- إلى الأمم المتحدة لاخراجها من الطوق الامبريالي الذي مثلته اللجنة الأنجلو- أمريكية .

وتميزت السياسة الصهيونية في هذه الفترة بأمرين: التمسك بالانتداب ومقاومة إحالة قضية فلسطين إلى الأمم المتحدة من ناحية ، ومحاولة التحالف مع الامبريالية من ناحية ثانية .

وصرح ناحوم غولدمان رئيس المؤتمر الصهيوني في 24/10/1946 : " الصهيونيون على إستعداد لمنح بريطانيه حقوقآ كاملة لاقامة قواعد عسكرية وبحرية وجويه في فلسطين مقابل موافقتها على إقامة دولة يهودية و65% من مجموع أراضي فلسطين. وستقترح إقامة قواعد للولايات المتحدة... ان وضع القضية الفلسطينية على جدول أعمال الأمم المتحدة سيؤخر الحل فقط ". وصرح زعيم صهيوني آخرفي اجتماع صحفي في تل أبيب في21/8/1946: " من واجبنا أن نقنع البريطانيين والامريكيين أن الاعتبارات الاستراتيجية هي التي تجعل السكان اليهود الأحرار في فلسطين ربحآ لا خسارة في النضال بين العالم الأنجلو - ساكسوني والعالم الروسي... علينا أن نقنع الانجليز أن مصلحة الجيش البريطاني تطابق مطالب الصهيونية يجب أن تكون وصلة في الحلقة الأنجلو- أمريكية " . وصرح بن غوريون لريتشارد كروسمان: " إذا وافق البريطانيون على إقامة دولة يهودية في جزء من فلسطين فنحن على استعداد لاعطائهم قاعدة ضد روسيه ". وفي الوقت ذاته كشفت القيادة الصهيونية عن توجهها الكولونيالي في رفضها محاولات بريطانيه- في سبيل توطيد مواقعها في البلاد- التهاون مع ممثلي الحركة القومية العربية التقليديين فكتب " هامشكيف " صحيفة الاصلاحيين أسلاف " حير وت " في 19/ 5/ 1945: ان جميع مشاريع الاستعمار (الاستيطان الكولونيالي) التي قام بها الانجليز والامريكيون والفرنسيون والهولنديون في العالم. كان يقابلها سكان البلاد الأصليون بالمقاطعة الشديدة إذ أن ذلك هو الطبيعي... ولكن هل يراجع المستعمرون أمام هذه المقاومة؟ وكتبت " دافار " صحيفة النقابات والاشتراكية الديمقراطية الصهيونية في اليوم ذاته: "إذا كان العالم في كل محاولة قام بها لتحويل الصحارى الى أرض خصبة انتظر قبل ذلك موافقة قاطني الصحراء القلائل فإن المدنية ما كانت لتنتصرعلى التأخرفي أي موقع (من العالم). واضطرت بريطانيا إلى اللجوء إلى الأمم المتحدة، وأكدت تصريحات المسؤولين أنها اعتقدت بعجز المنظمة الدولية عن تسوية القضية خصوصأ وأنها رفعت شعار " تفاهم " العرب واليهود شرطأ لهذه التسوية... وفي اجتماع طارىء عقد في آيار (مايو) 1947 قررت هيئة الأمم المتحدة تأليف لجنة تحقيق دولية تألفت من السويد وكنده واستراليه والهند وبيرو وهولنده وايران وتشيكوسلوفاكيا ويوجوسلافيه وجواتيماله وأورجواي وضعت عليها واجب البحث والحل. وزارت اللجنة فلسطين واستمعت إلى شهادات قادة الصهيونية وغيرهم. أما قادة الحركة القومية العربية التقليديون فقاطعوا اللجنة وبذلك عمقوا طابعهم الرجعي أمام لجنة التحقيق الأنجلو- أمريكية التى كانت محاولة ابقاء القضية الفلسطينية في إطار الامبريالية ورفضوا الشهادة أمام لجنة دولية تمثل أيضأ قوى خرجت عن ذلك الاطار.

والأخطر من هذا أن تصريحات هؤلاء القادة تركزت على شعارالدولة الفلسطينية العربية ولم تأخذ بعين الاعتبارحقيقة التحول الديموغرافي الذي طرأ على البلاد أو تؤكد طابع الدولة الديمقراطي المقترحة.

لقد أخفقت هذه القيادة بسبب مهاودتها الامبريالية وماهيتها الرجعية في الارتفاع إلى مستوى الأحداث ومواجهة الصهيونية التى استغلت إلى أقصى حد الكارثة التى حلت بيهود أوروبه لتكثف عطف الرأي العام على برامجها وخططها. بل إن هذه القيادة رفضت الموافقة حتى على دعوة الجامعة العربية إلى إقامة دولة فلسطينية غير مجزأة مستقلة إستقلالأ تامآ تشكل فيها حكومة ديمقراطية حسب دستور يضعه مجلس تأسيسي منتخب يحفظ حقوق اليهود المدنية والدينية والثقافية. وأصرت على الدولة العربية وأعلنت أنها تعترف بمواطنة اليهود الذين كانوا في فلسطين قبل وعد بلفور. وقررت اللجنة الدولية بأكثريتها تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية. أما أقليتها فدعت إلى إقامة دولة ثنائية القومية إتحادية الشكل. ولعل اللجنة في هذا أقتنعت بموقف ممثل الاتحاد السوفيتى أندريه غروميكو في اجتماع الأمم المتحدة الطارىء آنذاك أعلن أن الحل الأمثل هوقيام دولة مستقلة في فلسطين. أما إذا ظهرأن العلاقات السيئة بين العرب واليهود تجعله مستحيلأ فلا مناص من التقسيم . وفي 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 في اجتماع الجمعية العامة العادي قررت هيئة الأمم المتحدة إنهاء الانتداب وتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، حسب خرائط قررت سلفا كما قررت تدويل القدس، وتعاون الدولتين- اقتصاديآ. وبذلك فتحت صفحة جديدة في قضية فلسطين.

هوامش (1) لاحظ عدد من الكتاب أمثال جيمس واربورغ وكريستوفر سايكس أن الوكالة اليهودية في سبيل تغطية الجريمة أذاعت أن المهاجرين غير الشرعيين حاولوا القيام بانتحار جماعي !! ولكن الحقيقة ظهرت فيما بعد ( كتاب كريستوفر سايكس " اسرائيل على مفترق الطرق " ص 269 - 270 ) . ( 2) المعروف أن الجنرال موشيه ديان فقد عينه خلال إحدى العمليات التي أمره بها البريطانيون أثناء الحرب العالمية الثانية في الشرق الأوسط . (3) طبعاً انضمت إليها فيما بعد الدول العربية الأخرى عند استقلالها .








محتويات الكتاب تمهيد الصفحة الفصل الأول : نشوء العقدة الفلسطينية الفصل الثاني : ملاحظة على مرحلة ما قبل الصهيونية الفصل الثالث : نشوء الصهيونية وإيديولوجيتها الفصل الرابع : الصهيونية حتى وعد بلفور الفصل الخامس : وعد بلفور الفصل السادس : الحركة القومية العربية حيال وعد بلفور الفصل السابع : المجابهة الأولى الفصل الثامن : نظام الانتداب والممارسة الصهيونية الفصل التاسع : الحركة القومية العربية الفصل العاشر : حوادث 1929 الدامية الفصل الحادي عشر : الكتاب الأبيض والحركة القومية العربية الفصل الثاني عشر : هبة سنة 1933 الفصل الثالث عشر : ثورة 1936 الفصل الرابع عشر : تطورات الثورة واللجنة الملكية الفصل الخامس عشر : أصداء التقرير والكتاب الأبيض الفصل السادس عشر : قرار تقسيم فلسطين وقيام دولة اسرائيل