أطول رسالة في العالم

أطول رسالة في العالم

تأليف: نيكول سشيني غاوس

ترجمت: وفاء شوكت؛ عن الفرنسية.

لمحة خاطفة قرر نيقولا -وهو في الحادية عشرة من عمره- أن يكتب أطول رسالة في العالم؛ ليقصّ علينا، يوماً بيوم، أفراحه وأحزانه، آماله وأمنياته، وليهدي هذه الرسالة في ليلة الزفاف إلى الفتاة التي ستصبح زوجته, والتي لم يكن قد عرفها بعد.

شوكس.. Chouk’s 
( " يا حبيبتي "،  إنه لمضحك،  إذ أدعوكِ شوكس بفاصلة في نهاية الاسم لتحديد الملكية - كما في اللغة الانكليزية  - إضافة إلى أن اسم " شوكس " أنيق،  أليس كذلك ؟ ! ). 

يجب ألاّ نبدأ إطلاقاً رسالة ما بهلالين، أعرف، لكنني فعلت ذلك. من يمنعني سأكتب في هذا الدفتر كل ما أريد، مثلما أريد، ومتى أريد. وسوف أقدمه لكِ يوم زفافنا. ستكون أكبر رسالة في العالم ! إنني لا أعرفك، لكنني، على الأقل، أعلم أنك ستكونين يوماً مازوجتي. لقد قررت أن أكتب لك ابتداءً من اليوم، لكي تعرفي من أنا، الآن، وكل الذي يحدث لي، وأنا لا أزال في الحادية عشرة من عمري. إذا كانت توقعاتي صحيحة، فأنت قد ولدت، وعمرك يتراوح بين ثماني وعشر سنوات. تذهبين إلى المدرسة، تأكلين، وتنامين في مكان قريب من هنا، أو ربما في أمريكا، سأعرف ذلك في المستقبل. مازلت أتساءل، في بعض الأحيان عن وجود " إله " يطوف في الفضاء، وينظر إلى الأشياء والكائنات، أو يتأملها فقط. إذا كان الجواب " نعم "، فإنه ربما يراقب كلاً منا في مكانه، وهو يعلم تماماً أننا سنلتقي معاً في يوم من الأيام. إنني أود كثيراً أن يوجد هذا الـ " إله "، ولكن يصعب جداً علي أن أؤمن به في الوقت الحاضر. عندما تحدثت مع جدتي عن هذا الموضوع، رمتني بنظرة باردة، وجملة غريبة : " إن الذين لايؤمنون بالله لايملكون خيالاً واسعاً، إن الخيال هو دليل أكيد على وجود الله ! " لوفهمتِ شيئاً من هذا الكلام ياشوكس، اعلميني بذلك عندما نكبر. إنني، في هذه اللحظة، في غرفتي، حقيبة كتبي جاهزة للغد، وجدي يعتقد أنني نائم. يعمل جدي في مكتبه، بعد العشاء. في الصباح، نتناول فطورنا معاً، على عجل فور وصول "جوليا"، ثم استقل الباص، مع " نيللي " و " لولو " إبنا الجيران، للذهاب إلى مدرسة " كليرمون ". أنا في الصف السادس. أتناول طعامي في مقصف المدرسة، وفي الساعة الخامسة وعشر دقائق، نأخذ الباص من جديد، لنعود إلى بيوتنا. إذا كان جدي موجوداً، عند وصولي إلى البيت، يستقبلني، ويطبع قبلة على خدي، ويسألني عن سير دروسي. في المساء، نتناول طعام العشاء منفردين، ونتفرج على التلفزيون الملوّن. إنني إذ أكتب لك، فلأنني، في الحقيقة، أعاني مشكلة، منذ ثمانية أيام، إنني لا أقدر أن أحكي. لقد بدأ جدي يقلق كثيراً علي، ولكن بلا جدوى. أشعر أنني مغلوب على أمري، وقد قال الطبيب : " إنها الصدمة ! لا تعذب نفسك، سينصلح كل شيء خلال وقت قصير " وخلال هذه الوقت أناساكت. هذا أمر محيّر جداً، لأنني كنت ثرثاراً جداً، قبل ذلك، ولأن هذا يجعلني حزيناً، فقد كانت جدتي - عندما كانت لا تزال على قيد الحياة - قد أوصتني، وطلبت مني الاهتمام بجدّي، والترويح عنه - بعد ذهابها - أعرف أنها طلبت الشيء نفسه من "جوليا "، لكن " جوليا " لاتبقى معنا طوال الوقت. لقد توفيت جدتي منذ ثمانية أيام. إنها لن... تعرفك!! بالتأكيد، قبل أن نتزوج، نكون قد تعارّفنا منذ زمن طويل، وأكون قد شرحت لك لماذا جدي وجدتي هما اللذان قاما بتربيتي. لكنني حين أكتب لكِ تختلط أفكاري. أكلمك، أحياناً، كما أنت الآن، وأحياناً أخرى مثلما ستكونين فيما بعد. وإذا متّ قبل أن أعرفك، فكيف لي أن أعطيك، وأسلمك هذا الدفتر ؟ لن يعرف أحد أنك أنت التي ستصبحين زوجتي في المستقبل. هنا، أفقد صوابي. ببساطة، كنت أريد أن أقص عليك حكايتي. إن قصتي تؤثر في ّ مثل حكايات الجدات تماماً، أؤكد لك ذلك، لأني أعرفها، وعندي شعور أني قد قرأتها في كتاب، وأتمنى أن تنتهي بعبارة : " وعاشوا سعداء "، ورزقوا بعدد كبير من الأولاد "، وأن تتضح الأشياء، وتنجلي الأمور لي. أما فيما يخصّني، فلا تتوقعي سماع اعترافات خارقة، ولكنك سترين أني قد دخلت هذا العالم بقدمي اليسرى ! لقد كنت أعتقد أن والديّ متوّفيان، لأن جدتي كانت تجعلني، دائماً، أتلو صلاة صغيرة لهما. كما كنت أعتقد أن حادثاً وقع لهما في قطار، على السكة الحديد. وكنت أقول لنفسي، دائماً : كان من سوء حظ والديّ أنهما ركبا هذا القطار بالذات " وهذا فقط. ( عندما تكون صغيراً، فإنك لا تسأل نفسك أسئلة كثيرة ). وحلّ اليوم الذي جاء فيه " آرتوربون " الأبله، ليسألني: لماذا أدعى " نيقولا دولوز " أي : " دولوز "، مثل جدي وجدتي، ومثل أمي، وليس مثل أبي. لقد تطلب ذلك مني بعض الوقت لأتحقق من أن ذلك ليس شيئاً طبيعياً. أنتِ تعرفين، هنا، في " برامفان "، كل الناس يعرفون منزل " دولوز " وعائلة " دولوز " وتجرأت يوماً، وواجهت جدتي بهذا الموضوع، فاحمّر وجهها. أكثر من العادة، قليلاً، ثم أمسكت بيدي، وقالت : - تعال، سنتحدث عن هذا مع جدّك. لحسن الحظ، لم يكن عند جدي زبائن، فأمكن أن يستقبلنا فوراً، كما لو كنا على موعد مسبق، وجلسنا في مكتبه. بدأت جدتي : " نيقولا، يريد أن يعرف لماذا يدعى " دولوز " ؟ وفهمت أنهم سيعلمونني شيئاً مهماً، فللدخول إلى هذا المكتب، يجب دفع بابين مدروزين بالمسامير، الواحد بعد الآخر. إنه مكان لم يسمح لي إطلاقاً بالدخول إليه بحرّية، بسبب الزبائن. عطس جدي، ثم أوضح الأمور لي كما يلي : - " إن هذا بسيط جداً يا نيقولا : إن الطفل عموماً يحمل اسم والده، ولكنه يستطيع أن يحمل اسم أمّه، إذا لم تكن متزوجة. بفضل هذا، كما ترى، عندي حفيد يدعى باسمي، أنت تدعى " دولوز "، لأن أمك كانت تحمل هذا الإسم، وعندما ولدت أنت، لم تكن قد تزوجتْ أباك بعد. وقد حصل حادث القطار بعد ولادتك. وعندما أصير في عداد الأموات، سوف يبقى نيقولا دولوز آخر على الأرض ( إن جدي يدعى أيضاً نيقولا ). هل تريد معرفة المزيد حول هذا الأمر، مادمنا نتحدث فيه ؟ ".

 - معرفة المزيد  ؟ كلاّ،  شكراً ! كنت أستطيع أن أسأل : لماذا والديّ لم يكونا متزوجين ؟ لكن هذا القدر من الشرح كان يكفيني ذاك اليوم. حتى إنني فكرت أنه لم يكن ضرورياً لهذا الحد،  الذهاب إلى المكتب،  لأسمع أقوالاً بسيطة كهذه،  ولم أُعِدْ إلى فتح هذا الموضوع بتاتاً. 

قد تعتقدين أن أهلي عاشوا فترة قصيرة من الزمن فقط، أو أنهم بالكاد وجدوا. لكنني، في الحقيقة، لم أكن أفكر بهم كثيراً، حين كنت صغيراً. وبعد ما بدأت أكبر، أمكن أن تتضّح لي بعض التفاصيل الغامضة، وبمحض الصدفة مثلاً، في المقبرة - حيث كنت أذهب، مع جدتي أغلب الأحيان، كان فقط اسم أمي وليس اسم أبي. في البداية ظننت أنه قد دفن في قريته، ثم شيئاً فشيئاً، فهمت ( لا أعرف كيف، صدقيني ) أن أمي أنجبت طفلاً، أي أنا، وأنها توفيت في قطار نعم هكذا، لكن أبي لم يكن عندئذ معها، لأنه لم يكن هناك أب، بكل بساطة ؟ والآن، حتى لو أنني أعرف أنه يوجد بالضرورة أبٌ في مكان ما، كيف تريدين أن أهتم به، بعد كل الذي يجري في البيت. إن جدتي قد توفيت، ياشوكس ! أبي موجود، ولكنني لا أعرف من يكون ! أنا موجود، وأبي لا يعرفني. آمل ألا يكون شخصاً سيئاً أو أحمق ! وأن يكون بصحة جيدة. هذا كل ما أستطيع أن أفعله لأجله. إنني أفضل أن أفكر بك على أن لا أفكر به. إن هذا يدخل السرور في نفسي. أستطيع أن أحلم كيف ستصبحين بعد أن تكبري !

 شوكس،  
انتهيت الآن،  من إعادة قراءة مقدمة رسالتي،  وأنا خائف من أن تشفقي علي،  أو تظني أنني عشت طفولة تعيسة مثلاً،  لهذا أود أن أثبت لكِ العكس ! 

أن ترزق امرأة غير متزوجة طفلاً أصبح أمراً مألوفاً، بالرغم من كل شيء في وقتنا الحاضر. وإن يقع حادث قطار، هذا ممكن أيضاً.

أن يفقد المرء جدته،  هذا أمر عادي. 

إنني لم أتألم من شيء أبداً، في حياتي . عدا هذه الأيام بالتأكيد  !.

حسناً،  ياشوكس،  إنني إذ  أكتب هذه التوضيحات،  فلكي تعلمي أنني عشت دائماً مع جدي وجدتي،  وهما لم يكونا أبداً عجوزين،  بالرغم من كونهما جدّين،  عدا هذه السنة،  ربما. هذه السنة السيئة ! 

لقد حدث ذلك بكل هدوء، الصيف الماضي، بهدوء شديد لدرجة أني لم ألحظه، كانت جدتي تسعل، وكانت تعبة، تعبة كثيراً، وصارت تبقى في سريرها أو مقعدها فترات أطول و أطول. وبدأ الشعر الرمادي يغزو رأس جدي، ولكن، كيف أعبر عن ذلك ؟ إن جدتي كانت دائماً هي جدتي، حتى إني أشعر بالسعادة لأنني كنت أعلم أنني سأجدها في البيت، فور نزولي من الباص، لأنها قبل أن يقعدها المرض، كانت دائماً ذاهبة في اتجاه أو آخر، معها كانت الحياة عنيفة ! لقد كَرِهَت بشدة الخمول والكسل، وحتى الليونة، والميوعة. وأنامثلها، أيضاً على ما أعتقد. لا أستطيع أن أقول إني كنت متفاهماً معها، أو إني كنت أخشاها، حتى ان هذا السؤال لم يتبادر إلى ذهني. مع جدتي، كان إجبارياً - إذ صح القول أن يسلك المرء سلوكاً حسناً. إذا، كان سلوكي جيداً. حتى إذا كنت لا ترغبين في تذوق طبق من أطباقها، السبانخ مثلاً، فقد كانت تستطيع أن تقنعك بأنه رائع، بسبب الكريما التي تغطيه، أو فتات الخبز المحمصة والبيض المسلوق. بكلام آخر، كانت متحمسة طوال الوقت، وكنت أنا أفعل مثلها، إنها العدوى ! عندما مرضت جدتي، تغيرت حياتنا. كنت أجلس قرب مقعدها، وكنا نثرثر. " جوليا " كانت تحضر لنا " التوست " مع شاي، فأنا أحب الرفاهية، وأحب مشاهدة التلفزيون. كان يسرني أن تكون جدتي لطيفة معي إلى هذه الدرجة، ولم تعد تجبرني على الخروج للعب. على كل حال، ليس لدي أصدقاء هنا، تقريباً. " نيللي " و " لولو " في الصف الرابع، إنهم يصفونني " بالبليد "، والأطفال الآخرون ما زالوا يذهبون إلى المدرسة الابتدائية. أمّا أنا فإنني لا أصفهم بالبلادة، لأنني لا أجرؤ على ذلك. اليوم، لم تعد لي رغبة في الحديث عن جدتي، بالرغم من أني أفقتدها كثيراً، وسوف أشعر بأنني طبيعي جداً، لو استعدت فقط مقدرتي على الكلام. في الحقيقة، أستطيع الكلام، ولكن بصوت منخفض. إنني أتكلم بدون صوت مع أنني، يوم الدفن، كنت بحالة طبيعية جداً. لقد كنا - جدي وأنا - شجاعين جداً، الكل قال ذلك. ولكن، في اليوم التالي، تك! لا صوت لي. وعندما أردت أن أتحدث، أن أصرخ: غير ممكن. كان صوتي " لا يخرج"!

ومنذ ذلك الحين،  ألاحظ أن  جدي يتألم،  يباغتني بين حين وآخر،  ويقترب مني بهدوء،  دون صوت،  ويسألني إن كنت رأيت نظاراته،  أو أي شيء آخر أو أنه يغضب أكثر من العادة،  إذا تركت دراجتي مرمية في الساحة. أو أيضاً يحدثني بصوت منخفض جداً،  وبكل لطف،  وأنا لا أستطيع أن أرد عليه إلا هامساً. 
أمس،  ذهبنا إلى عيادة طبيب مختص،  قال إن الحبال الصوتية لم تعد تلتقي. ياللاكتشاف ! إنني أتناول شراباً،  وحبوباً،  وأشياء أخرى،  دون فائدة. لقد أعطاني جدي رسالة للمعلمين: 

" أرجو التكرم بقبول عذر " نيقولا "، لعدم قدرته على التعبير شفوياً، بسبب اختفاء صوته ". إنني أحاول التأقلم مع هذا الوضع. إن الأصدقاء لايهتمون كثيراً بذلك، ولي ميزة إعفائي من التسميع عن ظهر قلب. منذ مدة قريبة بدأوا يعطونني امتحانات كتابية مخصصة لي وحدي، وإذا حدث وفشلت في واحد منها، أشعر أن شخصاً آخر هو الذي حصل على علامة سيئة، وليس أنا. وذلك منذ أن فقدت القدرة على الكلام.

يجب أن تتعرفي على الأشخاص الذين يعيشون حولي. يمكننا أن نرتبهم في ثلاث فئات : 1. أفراد العائلة الذين يعيشون في " سان فلور " أوحولها. إنها على بعد مئة كيلومتر. نراهم، فقط، في العطل. 2. جيران البلدة " برامفان - بوب دودوم ". 3. زملائي في الصف، وأساتذتي. من الجيران، توجد السيدة " بويار "، هي التي تعطي الأبر في المنزل. ويقول جدي إنها تعرف كل أرداف القرية. وهي أيضاً لها حفيد في باريس ليس له أب. وربما لهذا السبب تحبني كثيراً. . وأنا كذلك. من العائلة، يوجد العم " جان "، أخو جدتي. إنه يضرط، ويتجشّأ، ويدخن كثيراً، ويقول " عاهرة " و " قواد" ثلاث مرات في جملتين. عنده أحفاد - إنني أعيد أشجار نسب العائلات - " جوجو " و " ليلي " : إنني لا أتفاهم معهما تماماً، لأنهما يخافان من فقدان أغراضهما. وما إن يفقد أحدهما شيئاً، حتى يتشاجرا - ودائماً، يجدان سبباً لإيقاف اللعب، أنت تعرفين هذا النوع من الأولاد. في الصف، الشخص الذي أكن له إعجاباً كبيراً، هو " أنجلوبورتوليتو ". " أنجلو " لديه حس العدالة. إنه يضرب فقط من الأمام. هناك أشخاص يستغلون انخناءك للأمام - لعقد شريط حذائك مثلاً - فيركلونك بكعبهم من الخلف، أو تجدين من يسرقون حلوياتك في المقصف، بحجة أنهم يمازحونك ولكن ليس " أنجلو " مثلهم. لقد تم انتخابه ممثلاً عن الصف بالإجماع. وأنا رشحت نفسي أيضاً، لكنني لم أحصل إلا على صوت واحد : صوتي أنا. لقد آلمني ذلك كثيراً، ولم أقص ذلك على جدتي لأني جئت مع " التجميع المدرسي ". _ في المدرسة الابتدائية في " برامفان" كنت دائماً قائد الصف في " كليرمون " لا أحد يعرفني، وتم اختيار " ماريون دوك " مساعدة له. إنها في الحقيقة، تنفع، فقط، لتأخذك إلى غرفة العيادة، وهي تتكبر وكأنها ملكة بريطانيا، بينما " أنجلو " لديه، على الأقل، شيء يقوله في اجتماعات الصف. إنني أود كثيراً أن أكون صديقه. ومن المعلمين، السيد " دولا هي " هو الأكثر شهرة. إنه عصري جداً، فهو يريدنا أن نتحمل مسؤولية أنفسنا، وأن نصبح مستقلين في كل شيء. إننا نطبق ذلك في حدود ما هو إجباري، وإذا تراخى قليلاً، نعود إلى لا مبالاتنا المعهودة. وبشكل عام، فإن المرء يفضل الثرثرة مع جيرانه في الصف، أو قراءة مجلة القصص المصورة، على أن يرتمي بين الملفات. إنه يرسلنا غالباً للقيام " بأبحاث" في كل مكان تقريباً. حتى الآن، كنت أعتقد أنني أقدّر السيد " دولاهي "، أما الآن فلا أظن ذلك، بعد أن فكرت كثيراً. واعتقد أنني لست من نمطه، إنني أكره العمل مع مجموعة، والخطابة أمام الجميع، والقيام بالتحقيقات. إنني أفضل الكتابة منفرداً بنفسي. لقد كان يقول إنني لا أتكلم بما فيه الكفاية. أما الآن، بعد أن اختفى صوتي، فإنني لا أتكلم إطلاقاً، لقد انتهى الأمر. لا حظي أنه في هذه الفترة قد تغير معي، فهو يتركني وشأني، وكذلك أصبح لطيفاً جداً في معاملته لي. عندما اكتشفته جالساً خلف مكتبه، بداية السنة الدراسية، قلت لنفسي على الفور : " أعتقد أنني قد رأيت من قبل هذا الشخص، في مكان ما ".. لقد طمأنني هذا، لأنك عندما تدخلين الصف السادس لاتعرفين أي شخص إطلاقاً. ولكنني لم أكن مخطئاً، وفهمت لماذا تألمت عندما قال " أنجلو " : " خذ، هذا مضحك إنك تشبه مدرس اللغة الفرنسية ". لقد تألمت لأن السيد " دولاهي " لم يكن جميلاً جداً، لدينا نوع النظارات نفسه، وهذا كل شيء. والأساتذة الآخرون مضجرون بدرجة أو بأخرى، حسب الظرف.كل واحد له ميوله المفرطة الصغيرة. فمدّرس التاريخ والجغرافيا يشخر. ومدرس البيولوجيا يداعب ربطة عنقه أو يلوح بها، ومدرس الانكليزية يقص سيرة حياته بالفرنسية، ومدرس الرسم يحك عنقه بقلم ماركة HB، ومدرس الرياضيات يحك رأسه بأصابعه، وأغلبهم يقول : " أليس كذلك " أو " هل هذا مفهوم " مئة مرة في الساعة.

إنني لا أسجل تاريخ اليوم عندما أكتب لك. ودعينا لا ننسى أنها الرسالة الأطول في العالم. على كل حال، أنا أكره التواريخ، والساعات. نستطيع أن نعيش بدونها بشكل جيد جداً، إنني أكتب لك عندما أشعر بالرغبة في ذلك. بخصوص جدتي، لم تجر الأمور بشكل سييء إلى الدرجة التي قد تظنين، مع العلم أن الموت شيء رهيب بحد ذاته. لقد انتهى بها الأمر إلى أنها لم تعد تخرج أبداً، وفي كل صباح، وكل مساء، كانت السيدة " بويّار " تأتي لتعطيها الحقنة. لديها قبعة مدورة، وثوب بنفسجي، تدق الجرس، وتدخل وهي تقول : " هذا أنا ". إنها هي دائماً، عندما تسمع " هذا أنا " على الباب. الأربعاء والأحد صباحاً، كنت أبقى في سرير جدتي، للحقنة. وكانت جدتي تقول : " إن جلدي بدأ يتجلط يا سيدة " بويّار "، لقد أصبح يشبه صلصة " البشاميل " المتخثرة. بعد ذلك كنت آخذ " المحقن " لأقذف به في الماء.

في النهار،  كانت جدتي ترتدي ثيابها،  ولكنها،  شيئاً فشيئاً،  صارت ترتدي البنطال بدلاً من الفساتين الجميلة. لقد كانت تتلقى العديد من الزيارات،  وكان الناس يتوافدون للبقاء بصحبتها أو لتسليتها. لقد كان ذلك قاسياً على جدتي،  لأنها،  من جهة،  لا تستطيع أن تنكر وجودها في المنزل،  ومن جهة أخرى،  كانت ترفض رفضاً قاطعاً أن تكون متعبة. أما أنا فكنت أكره الزيارات. 

إنني اعتقد أن بعض الاشخاص كانوا يأتون بسبب الفضول. وصارت فترة بقائها في السرير تزداد شيئاً فشيئاً. ثم وجب أن تذهب إلى المستشفى بانتظام، أسبوعاً كلّ أربعة أسابيع. وبسبب ذلك، قرر جدي أن يتقاعد تقاعداً نصفياً، وانخفض، بالتالي، عدد زبائننا كثيراً. الشيء الجيد الذي كانت تتمتع به جدتي، هو أننا بقينا نأكل داخل المنزل كالسابق. وعدا أنها كانت تتنفس بصعوبة، فإنها لم تكن تشتكي مطلقاً. كانت دائماً تقول إننا سنذهب إلى " سان فلور " الشهر القادم. ومنذ ذلك الحين، وهي تكره الذهاب إلى المستشفى. والذي نكّد عليها عيشها أكثر، كان تفكيرها بذلك الأسبوع الذي يسبق ذهابها إليه، والأسبوع الذي يليه، مما كان يسيء كثيراً لصحتها، ويزيد من مرضها. سوف تسألين نفسك عمّا إذا كان الذهاب إلى المستشفى يستدعي كل هذا التعب. خلال أيام المستشفى، كان جدي يأتي، ليأخذني من المدرسة، ونذهب لرؤيتها معاً. وفي إحدى الليالي، عندما وصلنا، كانت تنتقي شعراً مستعاراً، فقالت لي : يا نيقولا، هذا الدواء اللعين سوف يفقدني شعري، لهذا سأضع شعراً مستعاراً منذ الآن، وهكذا ستتعودون عليه. لقد كانت جميلة بشعرها المستعار، ولكن. ليس كثيراً. في المستشفى، كنت أتكلم كثيراً، وكنت أتعمد المرح، لأنني لاحظت أن جدي كان يرغب في قراءة الجريدة. إذا جلست اليوم بأكمله، في غرفة واحدة، وحتى مع شخص تحبينه كثيراً، فسوف تجدين نفسك في النهاية لا تعرفين ما الذي ستتحدثين عنه. وفي المنزل، كان الوضع مشابهاً، كان جدي يسعد عند وصولي إلى المنزل، إذ يتاح له الذهاب إلى مكتبه، لأنه لم يكن يترك جدتي وحدها أبداً.

لقد نقص وزنه كثيراً،  هو أيضاً. 

حالتي سيئة كثيراً، في هذه الفترة. لم " أنطق " حتى الآن، ليس لي أية رغبة، إن هذا مريع حقاً. إن الحياة تسئمني. أجد كل شيء صعباً وقاسياً : النهوض، الأكل، الذهاب إلى المدرسة...

جدي أصبح عصبياً. أمس،   صفعني  على خدي،  لأنه فاجأني. وأنا أتظاهر بأنني " أنازع " على الكنبة. وبعدها قال لي إن حالتي مربكة،  ولكن دواء فعالاً تم اكتشافه،  وهو علاج ناجح لإعادة الصوت : 

أنبوب واحد، وينتهي الأمر : سوف أشفى، أنبوب واحد خلال أسبوع واحد. لكن هذا لم يأت بنتيجة تذكر. بعد ذلك قرر جدي شيئين : فمن جهة علي أن أبدأ إعادة تأهيل، وعلاجاً من جهة أخرى. الثلاثاء، أذهب إلى المستوصف، بدلاً من الذهاب إلى صالة الألعاب الرياضية. وهناك، السيدة التي تجعلني أقرأ مقطعاً من الكتاب ذاته، في كل مرة بنبرة مستوية تماماً. أو أيضاً مع نهايات الجمل التي تعلو صوتياً. إنني أنفذ ذلك بصوت منخفض، أما بصوتٍ عال، فمستحيل. الجمعة، أذهب إلى الدكتور " بالان " أجلس على كرسي، وأقص عليه أحلامي أو أرسم. وهو يقول فقط " آه.. نعم " من وقت لآخر. إنه يريد أن يعرف ما هو رأيي بوالدي . كيف يريد ذلك ؟ ليس لي والدان، إن جدي وجدتي هما والداي. لقد كنت دائماً مسروراً منهما. صحيح أن جدتي لم تكن من النوع الذي يعانقك في السرير، ولكنني أنا أكره أن يقبلني أحد، وخاصة النساء: خدودهن لينة. جدي يوجه لي لكمات، ويشعث شعري عندما يكون سعيداً، وأنا أقابله بذلك. مع جدي، توجه لنا دعوات كثيرة، وهي بالنسبة لي أصعب من امتحان بسبب مشكلة صوتي. أفضل أن نبقى وحدنا نحن الاثنين. إنني سعيد هنا في المنزل. نشاهد التلفزيون معاً، وهذا يشغلنا. إن الحياة هنا تتكرر، وتعيد نفسها باستمرار. المنزل هو فقط الذي تغير، لقد أصبح خاوياً، لقد صغر. وضعت " جوليا " أغراض جدتي، على السقيفة، في خزانة ثم قفلتها بمفتاح. والآن، أتجول في البيت حسبما أريد. أفتح الدروج، توجد قطع قماش. وأصواف، وخيوط، ودانتيلات، في كل مكان. إننا نترك هذه الأشياء في مكانها هنا، لم يتغير شيء، سوى أنها لم تعد تتحرك أبداً. جدي بخير. لنقل : بوضع جيد، أو أنه ببساطة ليس مريضاً. إنني أتجول داخل نفسي، كما لو كنت شخصاً آخر. لقد فقدت قوتي وحيويتي. عندما أفكر في هذا " الصوت " الذي لا يعود، أشعر بالخجل... إنني لا أعرف ماذا أفعل، يا شوكس. على الأقل، لا زلت أستطيع أن أكتب لك. ومع ذلك، عند المساء، وفي سريري، أحلم بنفسي، وكيف سأصبح بعد عشر سنوات. أي أنني أحلم بك أنت يا شوكس، وعندها أشعر بأنني أقوى قليلاً، وأكثر صلابة. عندما نتزوج، سآخذك بين ذراعي، وأمرر يدي في شعرك، على خديك على فمك، وعلى كل جسمك. إنني أرغب في ضمّك بين ذراعي أكثر من أي شيء آخر. سوف تكونين جميلة جداً، ناعمة جداً ياشوكس سوف تكونين مضحكة، سنأكل أطناناً من البطاطا المقلية، وحدنا. وسنذهب إلى البحر بمفردنا، سوف نركب الدراجات، وحدنا . سوف أصحبك للرقص. وسيكون لنا ستة أطفال، مع منزل كبير، في حديقة واسعة، بالقرب من مدينة مليئة بصالات السينما. سوف يكون في الحديقة جدول ماء، وصخرة أتمنى أن نصبح أغنياء، ولكنني لا أعرف، حتى الآن، المهنة التي سأود ممارستها. ملاحظة : لقد قبلّت فتاة في المدرسة الابتدائية. اسمها ( كاترين )، كانت تعيرني أقلامها، وكنت أقدم لها السكاكر التي آخذها، خلسة، من خزانة جدتي. وفي أحد الأيام، كتبت لها ( كلمة صغيرة )، رسالة حب صغيرة، ووقعتها بالحرف الأول من اسمي، وأعطيتها أياها عند ما خرجنا من الفصل، لجمع أوراق الشجر، لدرس العلوم. لم تقل شيئاً، ولكنها، في اليوم التالي، قدّمت لي ملصقاً رائعاً . وبعد ثلاثة أيام، خرجنا من جديد، لجمع أنواع أخرى، من الأوراق التي تنقصنا، وفي لحظة معينة، كنا متفرقين في الغابة، تعمدت أن أكون معها خلف كومة من الأغصان، وفجأة هجمت عليها، وقبلتها صفعتني وراحت راكضه، وبعدها، لم يكلم أحدنا الآخر أبداً. ليس من الضروري أن تغاري منها، لم أعد أحبها على الإطلاق. الآن، أحب أن أقابلك، وأقبلك، ولكن ليس بمثل تلك السرعة. وبدلاً من أن تصفعيني، سوف تمسكين بيدي، ونمضي معاً. المشكلة هي أنني لا أعلم إذا كنت جميلاً بلا نظارات. لقد حاولت مراراً أن أنظر لنفسي، على حين غرة، في المرآة، ولكنني لا أستطيع أن أرى نفسي، كما لو كنت شخصاً غريباً. إن كل شيء فيّ عادي : الأنف، العينان، الفم، الشعر، إنني أتساءل كيف يستطيع الناس التعرف إلي، وأنا عادي إلى هذه الدرجة. إن شعري ليس مجعداً، ولا يوجد نمش في وجهي، وليس عندي شيء كبير جداً، أو صغير جداً. إنني لست سميناً ولا نحيفاً، شعري كستنائي وعيناي عسليتان. كم أود أن يكون عندي ندبة، أو أي شيء آخر يميزني عن الآخرين، خاصة، في مدرسة " كليرمون ". هنا، في " برامفان "، أنا " دولوز الصغير " وهذا معناه : حفيد جدي. وجدي شخصية معروفة، وإذن، أنا مثله. جدتي كانت تقول له دائماً : أنت أنيق جداً. إن جدي يرتدي، دائماً، بزة مع صديري من اللون نفسه، وربطة عنق مناسبة، إنه رائع. وأنا أحب كثيراً أن أتنزه معه، إن هذا يعطيني بعض الأهمية. جدتي أيضاً، كانت مميزة جداً، أما أنا، فلا أعتقد إنني غير ملفت للنظر. وسوف أحاول أن أعدّل ذلك، عندما أصبح كبيراً. أود أن أصبح لائقاً وجذاباً. لقد فات الأوان لأتمنى أن أصبح نجماً : لست جيداً في الشفهي، وأغني بشكل وسط، لا أعزف على أية آلة موسيقية، غير الهارمونيكا. إن عمي " جان " هوالذي علمني العزف عليها. وعندما أخبرت أستاذ الموسيقا بذلك، لم يبد عليه أنه وجد ذلك مميزاً البتة. وبالإضافة إلى الهارمونيكا، أصّفر، إنني أعشق التصفير، خاصة الآن، وأنا لا أستطيع الكلام. عندما أصل إلى " برامفان " مع باص المدرسة، أركض إلى المنزل، وأصفر " دو - فا - مي "، فإذا كان جدي موجوداً، يجيبني بالطريقة ذاتها هو الآخر. وإذا كان غائباً، فهذا لايهم، أصعد إلى غرفتي. وعندما يعود أسمع صوت أقدامه على الدرج، مما يثير في نفسي شعوراً غريباً، لأنه في زمن جدتي، لم يكن يصعد إلى فوق أبداً. إن سماع وقع أقدامه يجعلني اضطرب. إنني أشعر بالرغبة في البكاء إذا كانت حالتي سيئة كما في مثل هذه الأيام. في الواقع، أشعر بالخجل أمام جدي، ومع ذلك، فهو مرح، ولطيف جداً، بعض الأحيان، وليس غالباً، نلعب معاً بورق اللعب. يكون مستحيلاً ألا تحبي جدي، الجميع يحبونه.

هذه المرة،  سأقص عليك شيئاً طريفاً : 

مدرّسة الرياضيات تدعى الآنسة " بوز". إنها متوحشة، والجميع يكرهونها، ويحتقرونها. إذا رأيتها تحك رأسها، فهذا فأل سييء ! إنها تحك رأسها، دائماً، عندما تريد أن تقذف جملة لاذعة أو جارحة لواحد منا نسي كتابة واجبه، أو " يلعب دور الأحمق " على كرسيه. حتى الأولاد الكثيرو الحركة، مثل " لودفيك " يخافون منها. إنها قادرة على جعلك أضحوكة. أو أن تجعلك تشعرين بالخجل بمجرد النظر إليك فقط. والحالة هذه، تخيلي أنه توجد في الصف - نحن دائماً نبقى في الصف ذاته لأن مدرستنا قديمة وكبيرة جداً - توجد فتاة داخلية : إنها سمكة حمراء موضوعة في حوض بلوري. لقد قدّمناها لمدرس اللغة الفرنسية بمناسبة أعياد الميلاد، ولكنه شرح لنا أن ابنته لديها قطة قد تأكل السمكة " نيمو " إذا أخذها إلى منزله. فقررنا أن نبقيها في الصف إن السيد " دولاهي " هو الذي يشتري لها طعامها، ونحن نغير لها الماء من وقت لآخر. وفي أيام العطل، نختار بالقرعة الشخص الذي سيأخذها للإقامة عنده. هاهي " بوز " تأخذ مكانها على المنصة، وتجلس، بينما نحن نجمد على مقاعدنا، لأن هذه هي اللحظة التي ستختار فيها من سيكتب على السبورة. وتمر إصبعها على دفترها، وتعرف، وتقول لنفسك : هنا تجاوزت حرف النون، بعد ذلك تْراك تعود للصعود. أنت تعرف : إنها سادية. - هذا الصباح، تقول، " دوبو " ! أوف، تصوري الصف خمساً وعشرين مرة، دون " دوبو " الذي يقف وكأنه شهيد. يأخذ الطبشورة، وتتراجع " بوز " قليلاً على المنصة، دون أن تنهض، لتفسح له المجال للمرور. استمعي جيداً : إنها تتراجع تتراجع كثيراً جداً، وتهوي رجل من أرجل الكرسي في الفراغ : فتتأرجح " بوز " وتتمسك بالمكتب، ويتبعها المكتب، وحوض السمكة أيضاً... وخلال ثانية واحدة أصبح كل شيء على الأرض، و" نيمو " معهم ! لا يمكنك تصور الانفعال الذي حدث ! لقد كدنا نموت لعدم قدرتنا على الضحك علناً. واندفع الطلاب الجالسون في الصفوف الأولى لمساعدة الآنسة " بوز " في النهوض. كانت ذراعها تؤلمها، المسكينة، ولكنها استقامت ووقفت دفعة واحدة وهي تطلب من عريفي الصف أن يعيدا المكتب إلى موقعه الأول، ومن كل واحد أن يجلس مكانه. ومن أجل " نيمو " اضطررنا للذهاب إلى المطبخ، لإحضار وعاء مربى فارغ، لأن وعاءها كان قد انكسر فعلاً . بعد ذلك، صفقتنا بمذاكرة كتابية، لمدة ساعة. إنها مسألة استعادة هيبة. لقد كانت هذ الحادثة أقوى من قدرتنا على التحمل بكثير، فمن حين لآخر، كان واحد منا ينفجر ضاحكاً، بشكل عصبي، دون أن يتجرأ على رفع رأسه. وحتى النهاية، تصنّعت " بوز " عدم ملاحظتها أي شيء. لقد توقفت عن الكتابة لكِ، منذ أكثر من شهر. لم أعد أستطيع تحمل نفسي، وجدي لم يعد يستطيع تحملي. إنني أغرق نفسي في الصمت، لأنني خجل جداً من هذا الصوت المرتعش. إنك الشخص الوحيد الذي أرغب في التحدث إليه، دون أن أكون مجبراً، إذن، لو توقفت عن الكتابة لك فسوف أنتهي. وبالإضافة لذلك، إذا لم يعد صوتي إلي، فلن توافقي على الزواج مني، ولن يكون لنا أطفال. سوف أصبح بائراً، أخرس يضع نظارات، ونظارات سميكة جداً. لم أعد أعرف ماذا علي أن أفعل، وكذلك جدي. وكذلك الدكتور " بالان " وكذلك أخصائي السمع.

كلهم يدّعون أنني " لا أشكو من شيء " 

إذا كنت " لا أشكو من شيء "، فهذا يعني أنني " مجنون " سوف ينتهون إلى وضعي في مصحة المجانين. إنهم يتصورون أن صمتي هذا يلائمني لسبب لا أعرفه.. ولهذا أشعر بالخجل. بالطبع، أنا أتكلم بصوت منخفض. ولكن بمثل هذا الصوت لن تستطيعي مناقشة أو محادثة سوى شخص واحد، وهو يحاول أن يصغي إليك بانتباه، وفي مكان خالٍ من الضجة. إنني، عملياً، لا أتكلم إلا مع جدي، وأيضاً، ليس كثيراً، لأن هذا يؤلمه. إنني أتكلم أيضاً مع " جوليا " هي، على الأقل، تعتقد أن الأمر ليس خطيراً. وأصدقائي يعتقدون ذلك أيضاً، على ما أظن. ولكن، بما أنه ليس لدي أصدقاء حقيقيون، فإن زملائي في الصف، لا يعيرونني أي انتباه، والأمر سيان بالنسبة لهم لو تكلمت بصوت عال، أو منخفض، أوسكتُ. أشعر أنني دخيل عليهم. إنني واثق من أن جدتي كانت ستعرف ماذا تفعل، هي. لقد كانت تجد دائماً حلاً. كانت تعرف، مسبقاً، أجوبة المسائل، وكان ذلك أحياناً، بطريقة مبالغ فيها، لأنه لم يكن لديك الوقت الكافي لإيجادها بنفسك. أنا وجدي أقل منها ثقة بأنفسنا، وهذا بطبعنا. مثلاً، نذهب إلى المقبرة. يجب أن نتذكر أخذ الورود من الحديقة، نفعل ذلك. ولكن إبريق الماء، ننساه، أغلب الأحيان، وهكذا، يجب أن نعود إلى الصنبور الموجود في الطرف الآخر، وكذلك، يلزمنا مكنسة صغيرة، لتنظيف القبر من الأوساخ، ولا نحضرها أبداً معنا، فلهذا نمسح القبر بخنشار الزهرية التي قمنا باستبدالها. ثم نتلو صلاتين : جدي واحدة، والأخرى أنا، وإلا سوف يكون مخيفاً أن نبقى جامدين هنا، كلّ يفكر مع نفسه. بعد ذلك نذهب، ولا يعود لنا تنفسنا الطبيعي، حتى نصل أمام محل صانع الأحذية. كل يوم تسألنا "جوليا " عما نريد أن نأكل في اليوم التالي. لا توجد لدينا أفكار أبداً.

حاولي يا شوكس : إنني بحاجة إليك ! حاولي أن تدخلي تاريخ حياتي، قبل الوقت الطبيعي. سوف تكونين رؤيا، وعند حدوثها، معجزة ! سوف أتكلم من جديد. إنني أفكر في هذه الجملة من الكنيسة : " قل فقط كلمة واحدة، وسوف تشفى نفسي ". ولكن بالنسبة لي سوف تكون بالعكس : " أعطني، فقط، نفسك، وسأنطق." . إنني أقول لك " أنتِ " يا صديقتي الصغيرة في المستقبل. يجب ألا أتوقف عن الكتابة في هذا الدفتر. إنني افضّل أن أكتب لك، أكثر من الذهاب المتكرر إلى الدكتور " بالان " مثل " كره الصوف ". ومع ذلك، فالدكتور " بالان " يهتم بي كثيراً وفي هذه الفترة، يطلب مني كتابة الجمل التي لفتت انتباهي خلال النهار، على ورقة. اليوم كتبت: " - حزمة ضائعة - دون حق في الإعادة، أو رسم أمانة. - العلامات الفارقة لاشيء ". وبدا الدكتور سعيداً جداً. بعد ذلك طلب مني أن أقص عليه ( بصوت منخفض ) قصة، مستعملاً هذه الكلمات. فقصصت عليه قصة زجاجة عادية جداً، لدرجة أنه لم تكن لها " علامات فارقة " وقد كتب عليها " دون حق في الإعادة، أو أية تعليمات أخرى ". وقد أُلقِيَتْ هذه الزجاجة في صندوق للقمامة، وكانت رائحتها عفنة جداً. وكانت تعيسة جداً لفكرة أنها ستقضي آخر أيامها في مكان القاء القمامة التي تعج بالغربان. لم تكن تريد أن تدفن تحت الأنقاض، أو أن تتكسر إلى آلاف القطع. هنا، ترددتُ في المتابعة وبعد ذلك كدت أن أتوقف، ولكن السيد " بالان " ابتسم لي الابتسامة الأكثر إشراقاً، وهو يقول كعادته : يا للأمر ! وتابعت عندئذ قصتي، بسبب هذه الابتسامة، إن الميزة الوحيدة التي يتمتع بها هذا الشخص هي ابتسامته. البقية كانت سطحية : فتاة صغيرة تدعى " شوكس " تريد تزيين غرفتها بالورود، ولكنها لا تملك سوى واحدة منها، لونها زهري، وليس لديها مزهرية عنقها طويل، ورفيع لحمل الساق، فترفع غطاء صندوق القمامة في الطريق، وتجد تلك الزجاجة. لا حظي، أنها زجاجة جميلة، من الخزف الملون، صغيرة قليلاً، ودون فتحة فم واسعة. فتأخذها لمنزلها، وتنظفها، وتصبح الزجاجة لائقة، حسنة المظهر، مثل مزهرية، وتضع الفتاة وردتها فيها، والكل على منضدتها. بدا " بالان " أكثر سعادة.

ولكني أنا،  وبما أنني لست مجنوناً أبداً،  فهمتُ وبالضبط ما كنت أقصه تباعاً،  لأنني كنت أفكر فيك. 

إنني أتحسن قليلاً. جدي بدأ يعتاد على الوضع.

إنه إنسان له عاداته الثابتة. إنه منظم ومرتب جداً. إنه يدوّن كل ما عليه أن يفعله  على ورق،  ويضعه في ملفات خاصة،  ثم يصنفها في ملفات أكبر،  أويضعها في بعض الأحيان في حقيبته. إنه لايقول " رتّب " بل " اطو "،  " هل طويت أغراضك في حقيبتك،  يا نيقولا ؟ " 

سابقاً، كنت أذهب لشراء الحاجيات، هنا في "برامفان ". والآن، نذهب أنا وجدي إلى " كاموت "، ونشتري كل ما نريد. إن " جوليا " هي التي تكتب القائمة. ولكن، بالإضافة لذلك، يأخذ جدي أشياء كثيرة، عن الرفوف. أحياناً، أخاف ألا نتمكن من تسديد ثمنها، فأمتنع عن شراء الشوكولا. أما فيما يخص الثياب، فليست لديه أفكار مثل جدتي، مما يدعوني لاختيارها بنفسي. لقد وافق على شراء بنطال جينز " رانغلر " وحذاء رياضة. إنني استعملهما دائماً، حتى في الأيام الممطرة. جدتي لم تكن لتوافق على ذلك. ارغب كذلك في شراء سترة جلدية، ولكنني لا أجرؤ على طلبها من جدي، فنحن لسنا أغنياء كثيراً. منذ حصولي على الجنيز، ازداد شبهي بالآخرين أكثر كثيراً، وشعرت بتحسن كبير، ثم إنني أركض، مثل " حمار الوحش ". إنه يّدفعني للحركة والنشاط. إنني أمثّل لنفسي. ما رأيك لو اشتغلت في السينما الصامتة ؟

للأسف،  لقد أصبَحَتْ موضة  قديمة،  وانتهى عهدها. ولكنني أحب كثيراً رقص  " الروك ". فيما بعد،  سنحضر حفلات كثيرة،  سوف أمرجحك،  أرفعك وأمررك فوق كتفي. هوب ! لن أرقص إلا معك. هناك أولاد في صفي يتحدثون عن حفلات " بوم " راقصة،  ولكنني لم أدع إليها أبداً.  إن أولاد " المجمع المدرسي " هم كالفقراء في  " كليرمون ". 

قمت، مع جدي، بغربلة جميع الصور التي تظهر فيها جدتي، لتكبير الصورة الأجمل بينها. توجد صورها ( القبل ) و ( البعد ) : قبل مرضها، وبعده. جدي يحب صورها القديمة، أما أنا فلا. عندما كانت جدتي بصحة جيدة، لم أكن أعرف أنني أحبها إلى هذا الحد، ولا أنها تحبني لهذه الدرجة. ولكن بعد أن نحفتْ، ولم تعد تخرج، أصبحنا، نحن الاثنين، كأننا شخص واحد. كانت تحب الاشياء التي أحبها ذاتها : مشاهدة التلفاز، الثرثرة، اللعب، الجلوس بهدوء، وأنا أصبحت أكثر حيوية. لقد تملكتني الرغبة في القيام باكتشافات، كي يتسنى لى أن أقصها عليها عند عودتي إلى المنزل. كانت تستمع إليّ، وكان هذا يسعدها. كنا نتكلم معاً عدة ساعات. وكنا متأكدين تماماً من أنها سوف تشفى، مع كل الأدوية التي كانت تتناولها. إن الموت هو سوء حظ رهيب، ولكن الشيء الأكثر رهبة هوأن نولد ! ألستِ من رأيي ؟! إنني أتساءل : لماذا وقعتُ على نفسي ؟ كنت أفضّل أن أكون شخصاً آخر، مثلاً " أنجلو " ! للأسف، ليس لنا الخيار ! هذه قصتي المرعبة، يا شوكس : ولدان في نفس العمر، يصابان بحادث في الوقت نفسه، أحدهما يموت، والثاني يحتضر، نرفع دماغ الميت لأنه سليم ونضعه في جمجمة الحي، لأن دماغه معطوب جداً. لنقل إنني الثاني... من أكون ؟ هو أم أنا ؟ ! لقد حدثت لي " واقعة ". لو أنك فقط تستطيعين أن تقولي رأيك بها.. إنني لا أريد، مطلقاً، التحدث عنها مع الدكتور " بالان ". بعض الأحيان، ألعب في السقيفة، عندما لا تكون جوليا موجودة. جدتي لم تكن تحب أن أقترب منها، لأنها كانت تحب النظام، حتى تحت السقف. بالتأكيد، أعرف كل شيء هناك، عن ظهر قلب : الكتب القديمة، أدوات المطبخ القديمة، الألعاب المكسرة، والعلب والثياب البالية وقطع القماش... ولكنني لم أتجرأ أبداً، على النظر داخل الخزائن التي وضعت جدتي عليها ملصقاً كتبت عليه: " لا تزعج ". هذه المرة، فتشتُ بداخلها، وجدت ثياباً، حتى ثوب زفاف جدتي، وكذلك علب قفازات، وأحزمة، وقبعات... واكتشفت تحت هذه الكومة علبة كرتون، كتب عليها " ماري " ! " ماري " هي والدتي. وجدت داخل العلبة أوراقاً، ودفاتر مدرسية، وبطاقات تهنئة بعيد الأم، وقميصاً صغيراً، وكذلك رزمة رسائل. ماذا كنت تفعلين لو كنت مكاني ؟ لقد فتحت الرسائل، وحاولت قراءتها، لأنها كانت بخط غير واضح. ووجدت بين الرسائل رسالة بدت لي مهمة. أخذتها إلى غرفتي. إنني لا أنسخها لك، بل ألخصها: كتبت أمي لجدي وجدتي أنها قابلت رجلاً، أحبها وأحبته، وأنها تنتظر مولوداً، وأنها لا تستطيع الزواج من هذا الرجل، وستقول لهما السبب، الأحد المقبل . وبعد ذلك لم يعد هناك شيء حول هذا الموضوع. كانت رسالة حزينة، حزينة جداً. لم أكن أتصور أبداً أن أمي كانت تعيسة. لقد هزتني هذه الفكرة مع ذلك، ومنذ ذلك الحين، وأنا أود أن أعرف لماذا لم يكن أبي يريد أن يتزوج أمي إذا كان يحبها. لقد كانت جميلة، أليس كذلك ؟ أنا كنت أظن أنهما كانا ينويان الزواج يوماً ما، ولكنها توفيت قبل ذلك، وأن أبي لم يُرِد أن يتعب نفسه بولد، لأنه كان يحب أن يذهب إلى آخر العالم، مثل قائد طائرة. والحقيقة أني لم أكن اعتقد شيئاً، لأنني لم أجد الرغبة في التفكير بهذا الموضوع. ( ليست لك الرغبة في التفكير بأن والدك هو من النوع الذي يذهب، دون أن يترك عنواناً ). كنت أقول لنفسي : أمي، على الأقل، اعتنت بي طوال حياتها، وكذلك جدتي وجدي، بينما هو لم يكن بحاجة لي. تبّاً له : إن الشيء الذي أدهشني في الرسالة هو أنهما كانا متحابين، هي التي كتبت ذلك. لو أن جدي وجدتي كانا يعرفان من هو والدي، لماذا لم يحدثاني عنه ؟ هل هو غير لائق ؟ هل هو دنيء ؟ هل هو أكبر سناً من جدي ؟! اعتقد أن كل العائلة على علم بالموضوع. سوف أحاول أن أسال العم " جان ". إنه يأتي الأحد. أما جدي، فلن أتجرأ على سؤاله أبداً.

لم أستطع. إنك لاتسطيعين سحب شخص، مثل العم " جان " إلى غرفتك دون أن يعلن على الملأ أنه ذاهب إلى غرفتك، تاركاً الأبواب مفتوحة. لقد أريته طائرة الورق التي صنعتها في حصة الأشغال اليدوية. هذا كل شيء.

ماهو الفرق بين مكبر الصوت، ومصغِّر الصوت، وصوت جميل ؟ ! سؤال بمائة فرنك ! إنني لازلت لا أتكلم. قلت لك، في المرة الماضية، إنني أردت معرفة شيء ما عن أبي، والآن، ليذهب عني. أنا عندي جدي مثل أب. إنه أب ممتاز. إنه يربيني جيداً، حتى بدون جدتي. عندي شعور بأن والدي محبوس في علبة، لو فتحناها، سينطلق منها عفريت. لدينا، في البيت، ما يكفينا من المتاعب، بعد جدتي وصوتي اللذين رحلاً ! أنت على الأقل، يا عزيزتي، سوف أختارك بنفسي، وأنت سوف تختار ينني بنفسك. إنني أكره والدي. نقطة (وكفى). إنني لا أمتّ له بأية صلة، ولا حتى اسمه. إن اسم عائلتي هو " دولوز "، سوف تدعينني " دولوز" أنت أيضاً. ربما " ليندون - دولوز " حتى إنه اسم جميل.....

لا أريد أن أعرف شيئاً عنه، ولكنني أفكر بهذا دون توقف. إنني مشاكس. عندما كانت جدتي على قيد الحياة، كنت أقل إثارة للمشاكل. كنت أتكلم " عالياً ". كان لي جد وجدة، مثل الأهل تماماً. لم أكن أفكر بالماضي. كنت " الصغير دولوز "، ولكن " الآلة " أصابها العطب. والآن، الذهاب إلى " كليرمون " قاسٍ، ثم الباقي...

أستطيع الادعاء أن جدي بخير،  ولكننا،  نحن الاثنين معاً،  لسنا سعيدين. إن موضوع حبالي الصوتية هوالذي يثير سخطه. في اليوم الماضي،  عندما وصلت،  سمعته يقول للسيدة " بويار " - " لا يمكن لهذا الوضع أن يستمر،  ربما يجب اتباع هذا الحل ". 

بدا عليهما الضيق، لدى رؤيتي. هل كانا يقصدانني ؟ يا صغيرتي " شوكس، ما هو لون عينيك ؟! لو كنت أنا...

لقد أردت كتابة : " شوكس " لو كنت مكانك،  لظهرت في أحلام " نيقولا دولوز  " تعالي لزيارتي. 
في الليل،  أحلم كثيراً. إنه عالم مختلف،  يسير على طريقته بشكل جيد.  بعض الأحيان،  أشاهد أحلامي كما لو كنت في السينما،  إنني ممثل ومتفرج في آن. وفي أحيان كثيرة،  أكون بداخلها سعيداً،  سعيداً.. وعندما يرن جرس المنبه... يالخيبة الأمل ! يجب أن أعود إلى العيش،  حياة طبيعية من جديد،  قليلاً،  أو كثيراً. 

إنني واثق من أن جدتي كانت تحلم في أيامها الأخيرة. كانت في الجهة الأخرى من نفسها ولكنها كانت نفسها أيضاً. كانت ترى الأشياء بالمقلوب، مثلي عندما أسير ليلاً في نومي. إنني أسير في نومي، يا شوكس. بين وقت وآخر، أنهض، وأرتدي ثيابي وأظن نفسي في مكان آخر، وأتجول في غرفتي، دون أن أصطدم بشيء. وفي إحدى المرات، كنت وحدي، في شقة " سان فلور" وكان جدي وجدتي قد ذهبا إلى السينما، فذهبت، وطرقت باب الجيران، من نفس الطابق، وأنا نائم. وعندما ظهرت السيدة أمام بابها، في قميص النوم، استيقظت ! قبلتني، فأصبت بصدمة رهيبة، ( ومنذ ذلك الوقت وأنا أتحاشى قُبَل السيدات، إنني أمد يدي). ثم أجلستني في صالونها، حتى عودة العائلة .كنت أموت خجلاً.. ( إنه لمن الصعب أن تعرف ماذا يجري في الرأس ) في الواقع، لايهمني إطلاقاً أنني أسير خلال نومي، بشرط ألا يأتي أحد ويفاجئني. غالباً ما يسمعني جدي، فيصعد، ويوقظني وقع أقدامه على الدرج، فأسرع إلى سريري، وأتظاهر بالنوم، ولكن قلبي يدق دقاً عنيفاً، واضطرب كثيراً، فيظن أنه أخطأ، وينزل. أف !

في آخر مرة حدث ذلك،  كنت ألبس حذائي،  كنت أحلم بأننا ذاهبون لجمع الفطر،  لا أعرف مع من. وفي الغد،  تساءلت " جوليا " لماذا يوجد تراب في سريري. 

فيما بعد، إذا رأيتني أسير في نومي، لا تتحركي. ولا تشعلي الضوء. وفي اليوم التالي، ستخبرينني ماذا صنعت. أحب كثيراً أن أشاهد نفسي.... أنني أتكلم كثيراً أيضاً وأنا نائم، كما يبدو. ربما أعرف أسراراً، ستقولينها لي.

لو كنت أنا،  يا شوكس،  سوف أكون كما في الأحلام السعيدة. 

الكوابيس نادراً ما تحدث لي. تعالي لرؤيتي عندما أنام، سوف نحلم الأحلام ذاتها نحن الأثنين. سوف نتنزه في الليل نفسه.

إنني أعرف،  يا شوكس،  يدي،  وعيني،  وجلدي.... ولكن الداخل هو أنا أيضاً. إن جلد معدتي هو نفسه جلد وجهي. إنني أمضي وقتاً طويلاً في التفكير بغرابة كوني هذا الحيوان... وأنت ؟! 

تصوري حيواناً، أياً كان، ليس عليه وبر ولاريش، ولكن فقط جلد مثلنا هذا فظيع، أليس كذلك ؟ أو تصوري أن يكون جلدنا شفافاً، وأن نرى كل الآلية من خلاله.. هذا أفظع بكثير، لا ؟ يا شوكس، ماذا لو كنا قططاً ؟! لقد ذهبت اليوم لحمل وعاء، يحتوي خياراً مخللاً، للسيدة " بويار " من عند " جوليا "، فقدمت لي شوكولا ساخنة مع الكاتو، في غرفة طعامها. كنا نحن الاثنين معاً. لم يكن هناك ضجة. وفجأة سمعت نفسي أسألها ( بصوت منخفض، بالتأكيد ) : - يا سيدة " بويار "، من هو أبي ؟ فتحت عينيها، وقالت : - لماذا لا تسأل جدك ؟ سوف يقول لك حتماً. وقد يواسيه أنك تود معرفته بسبب صوتك. أنا - بسبب صوتي ؟ هي - صوتك، ليس خطيراً. ليس عندك شيء معطوب. لست محللة نفسانية، لكن ربما كان اختفاء السيدة " دولوز " قد ذكّرك باختفاء أمك، حتى لو أنك لا تتذكرها. برأيي، إنهم يحيطون ولادتك بغموض كبير، سيكون من المستحسن أن يخبرك جدك، بالضبط ماذا حدث في الماضي. وهكذا تتجمع عندك كل العناصر لحل مشكلتك، حتى لو كان الأمر لن يسرك أو كنت لا ترغب بذلك. إن جدك يخاف فقط أن يرهق أعصابك أكثر فأكثر. هل تود معرفة ذلك ؟ أنا - كلا كنت أريد، فقط، أن أتأكد من أنك أنت أيضاً تعرفين، لكن ذلك لايهمني. وذهبت... لم أتصرف بشكل لائق.... لم أكمل قطعة الحلوى. والآن، لم أعد أجرؤ على النظر إلى السيدة " يويار "وجهاً لوجه.

في الصف، الحالة كما هي، يا شوكس، لم يعد أحد يتوقع مني أن أتكلم بشكل طبيعي، من جديد. مع ذلك، أصبح لي صديق. إنه " مارك بيلو " المشهور بـ " ماركو بولو ". ونحن الاثنين نشكل ثنائياً فريداً في نوعه، لأنه يتمتم، قليلاً فقط. وتصوري أنه اكتشف أنه، عندما يحدثني، بصوت منخفض ودون وجود أي شخص حولنا، لا يتلعثم أبداً في جمله. نحن نتبادل الملصقات والرسوم المتحركة، إنه مغرم بها، أما أنا فلا. وبعض الأحيان نتهاتفا، ونتحادث همساً... عدة ساعات. إنني لا أحب أن أتمتم. إنه يثير ضحك الآخرين. عدا عن ذلك، فإن " ماركو " لطيف جداً. إنني أتلقى دروساً خاصة في اللغة الانكليزية، مع مدرسة اسكتلندية ندعوها " مس " . إنني أتقدم بخطى خارقة. هذه الـ " مس " هي كريما انكليزية حقيقية (أواه). إنها لطيفة، ومضحكة جداً، لدرجة أنني عندما أفكر بعض الأحيان، أفكر بها. أود لو أستطيع مقابلتها صدفة في الشارع. لقد سألتني عن مكان سكني، وأرادت أن تعرف إذا كان لي أخوة صغار، كي تعلمني ألحاناً للأطفال، إنها أغانٍ للحاضنات. وافقت على ذلك من أجل طفل " جوليا ". لجوليا طفل اسمه " فيكتور " ليس له شعر. أمس، فاجأت الـ " مس " بأن أخذت الهارمونيكا، وعزفت عليها، لحناً غنته في اليوم السابق. إنني أعشق أن تغني هذه الأغنيات. ... ... ... هذه الليلة حلمت بجدتي. ربما بسبب الشعر، لقد أصبحت جدتي هي طفل "جوليا" وكنت أغني لها هذه الأغنيات. في أيامها الأخيرة، لم تعد جدتي تتحمل لا باروكة الشعر ولا الوشاح. وأصبحت عيناها سوداوين جداً. لم نعد نرى سوى عينيها. عيناها، كنت أحبهما أكثر من الحياة نفسها.

إنني أتحسن كما يبدو، لكن هذا ليس أكيداً! جدي هو الأكثر سعادة، وهاكم لماذا. مساء الأحد، وأثناء العشاء، فتح محفظته على الطاولة، وقال لي: -خذ، يا نيقولا، لقد وجدت صورة لوالدتك، وهي في مثل عمرك. انظركم تشبهها. كنا نأكل عجة نرويجية، كان جدي قد اشتراها من المخزن دون علم "جوليا"التي كانت تكره بشدة أن نخونها مع تحلية من هذا النوع، إنها تقول: "هذه كلها عبارة عن قذارة! ". وقلت لجدي إن أمي شقراء، شعرها أجعد، ولا تضع نظارات. أجابني بكل هدوء، قائلاً: "إن والدك هو الأسمر..." وضعت أنفي في صحني، وقلت: "لماذا لم يتزوجا؟" لم ينظر جدي إلي، وراح يشرح لي السبب، وهو يرسل تنهيدة طويلة: -لقد كان والدك متزوجاً، وزوجته كانت صديقة لأمك، وله منها طفلة صغيرة. لهذا السبب قررت والدتك أن تربيك بمفردها، ثم كان الحادث، فاحتفظنا بك... كان باستطاعتنا إعادتك لوالدك.. ربما كانت زوجته ستقبلك، لأنها كانت تعلم بوجودك -ولكننا، أنا وجدتك، فكرنا أننا مازلنا شباباً، وأنك سوف تكون سعيداً معنا... وهكذا يا نيقولا... أنت تعرف كل شيء الآن... أنهينا العجة بصمت. صعدتُ إلى غرفتي. كنت أشعر أنني متجمد، ليس بارداً فقط، بل قاسياً مثل الحصى، ولا أستطيع أن أحدد لك ما إذا كان هذا الخبر يسعدني، أم يحزنني، لم أكن أشعر لم أكن أشعر بشيء! واشتغلت على مكتبي. فجأة، بدأت أغني لحناً، لحن أغنية كانت جدتي تحبها منذ زمن بعيد. وها أنا أسمع نفسي أغنيها بصوتٍ عالٍ، وبقيت أغني: "كل الأجراس تدق، تدق" (هذه هي اللازمة). يسمعني جدي، ويصعد بهدوء، وشرع يغني، وهو يفتح الباب، باب غرفتي، المقطع الأول للأغنية: "ياقرية في قلب الوادي..." وهو يشير لي أن أغني معه. لم أستطع إكمال المقطع؛ كان صوتي منخفضاً جداً. ولكن اللازمة كنت أعود وأغنيها مع جدي بملء حنجرتي. والمقطع الختامي رددناه ثلاث مرات: "كل الأجراس تدق، تدق، والصوت من صدىً، لصدى يقول للجمع الذي اندهش إنها لجان فرانسوا نيقولا" كانت الدموع تملأ أعيننا، وتوقفنا، وقبلني جدي ثم قال: - هل كنت تفكر بأبيك، عندما تذكرت هذا اللحن؟ - كلا، بجدتي، دعنا لا نعد للحديث عن أبي. ومنذ ذلك الحين، قمنا بتجارب أخرى، أستطيع أن أغني بصوتٍ أعلى، ولكن ليس بصوت قوي. كنت أتوصل إلى ذلك مع أغاني الـ "مس"، وقد دُهِشتْ كثيراً وهي تسمعني، وفي الواقع، عندما أتحدث معها بالانكليزية، فإن صوتي يخرج أحسن بكثير منه في الفرنسية، إنها ظريفة، فهي تتظاهر بأنها لم تلحظ شيئاً، لن أقول ذلك للدكتور "بالان". سوف يفسد عليَّ الـ"مس" الصغيرة. إنني مستمر معه، ولكنني توقفت عن "ممارسة النطق الصحيح". كنت أفضل الذهاب إلى المعهد الرياضي، ثم إن القراءة في كتاب "قمم هورلوفان" لم أعد أستطيع تحملها. ووافق الدكتور "بالان" أن أتركه. الدكتور "بالان" صار، بشكل طبيعي، يجعلني أغني.. وهكذا، سوف يقول إن التحسن تمّ بفضلة. لكن هذا ليس صحيحاً على الإطلاق. إنه بفضل جدتي وأغاني الحاضنات على ما أعتقد.

توجد بالإضافة إلى أبي شخصية يزعجني التفكير بها، إنها "نصف -شقيقتي" ليست شقيقة، بل أخت. الأكبر أو الأصغر برأيك؟ هل توافقين على زوج يغني، ولكن لا يتحدث؟ ويغني فقط النغمات الثاقبة وليس القوية. في النهاية ظلت جدتي في المستشفى، لم تعد تأكل، ولكنني كنت أعتقد دوماً أنها سوف تشفى. لم أكن أعلم أن الحياة تتوقف، هكذا، فجأة.كنت أفكر فيها مساءً، وأنا في سريري، لم أكن أستطيع أن أصلي لأجلها خوفاً من الفشل. ولكنني كنت أرسل لها إشارات حنان برأسي، وأدفعه باتجاهها. إنني لا أستطيع قص ذلك إلا عليك، كنت واثقاً من أن حناني يذهب باتجاه المستشفى، ويمر فوق الغابة، والقرى الأخرى، ويستطيع شفاءها. في الأسابيع الأخيرة، جاءت العمة "إيرا" لتسكن معنا، إنها شقيقة جدي. وهكذا كانا يتناوبان الذهاب إلى "كليرمون" في الليل. وإلا لما استطاع جدي أن يتحمل أكثر. ومساء يوم، في "كليرمون"، فهمت أن جدتي مريضة جداً. طلبت مني ثلاث مرات أن أرفع نظارتيها، لم تكن هناك نظارات، كانت تظن أن الأنبوب الصغير الذي يدخل أنفها هو نظارتها. كانت تأمل دائماً العودة إلى البيت. لكن هذا صار مستحيلاً، وشيئاً فشيئاً لم تعد تأمل، بل فقدت الأمل على ماأظن، لأنها لم تعد متماسكة، كانت تتكلم بصورة مستمرة، لم تعد ترغب في البقاء على سريرها، وكانت تحاول أن تمسك بأشياء لا وجود لها. ولكن أنا، كانت تعرفني دائماً، وكانت تحبني دائماً. لقد فهمت أن المرض يمكن أن يمنعكِ من التفكير بشكل طبيعي، ولا يمنعك أن تحبي. كان جدي شديد التجهم، وكان يفضل ألا يصطحبني إلى المستشفى، ولكني كنت أريد أن أبقى مع جدتي. أعطتني سبحتها، كانت تدعوني "ياحبيبي" وائتمنتني على جدي. ومع ذلك كنت أعتقد أنها ستشفى، لأنني شاهدت صوراً للعم "جان" يوم كان في الأسر-إنه عجوز، لقد حارب-وكانت حالته سيئة مثل جدتي، ولكنه تحسن، بَيد أن جدتي لم تتحسن. لا أستطيع الكتابة لك، لوصف ليلة وفاة جدتي، لا أستطيع، لقد حاولت.... تم دفنها. لقد كنا، أنا وجدي، شجاعين، الكل قال ذلك، لم نبكِ. في البدء، أردت رؤية جدتي، على سريرها، سمح لي جدي، لقد كانت فعلاً ميتة، لم يبق أدنى شك، ولم أعد أعرف ماذا أفعل بحبي لها. لم أعد أعرف ماذا أفعل، بتاتاً. كانت جدتي تعرف دائماً ماذا تفعل. لقد افتقدناها كثيراً يوم الدفن. حتى الآن لا أتكلم، ومن المضحك: غناء "أعطني الماء". انتظر أن أكبر. آمل أن يتحمل جدي الصدمة، وإلا ماذا سيحل بي؟ وهناك صدمة قوية أخرى، لعينة! أين أذهب؟ ماالذي سيحل بي؟ اسمعي: قيل لنا، الساعة الثانية عشرة ظهراً أن أستاذ البيولوجيا مريض. إنه يوم الخميس: أعرف أن والدة " نيللي" تأتي لتأخذها عن الرصيف، بعد المطعم، وتعود إلى "برامفان" فأسرعت، وعدت معهما، كي لا أنتظر ساعة الباص. أصل إلى البيت. ماذا أرى؟ سيارة مدرس اللغة الفرنسية، أمام منزلنا. هكذا إذاً؟! هل يأتي لزيارة جدي دون علمي؟ أنا غاضب. أدخل الكراج، وأدلف إلى المطبخ. لا أحد في قاعة الاستقبال. "جوليا" ليست هنا، الصالون يطل على مكتب جدي، ولكن الأبواب المبطنة لا تسمح بسماع أي شيء. على جدار مكتب جدي توجد خزانة أدوات المائدة. أفتحها، وأقترب، حتى أقرب حد ممكن من عمقها، وأنا أنحني. هناك صوت. إنك واثق من سماع صوت السيد "دولاهي" ومع ذلك، مستحيل أن تفهم ماذا يقول. إنني مضطرب. أحاول أن أحرك مجموعة من الصحون، دون إحداث ضجة، وفي هذه اللحظة، كراكْ على الفور! تفتح أبواب المكتب، وها هما الاثنان أمامي. كنت مذعوراً جداً، مذعوراً من الخجل. -ماذا تفعل هنا؟ دهش جدي. أخرج من الخزانة، شعرت بوجهي مثل الحصى، مستحيل أن أحرك فيه عضلة واحدة. استعاد السيد "دولاهي" توازنه، مد يده وشددت عليها.. قال: - ألم يكن عندك درس هذا العصر؟ أشرت برأسي: لا... ورجاني جدي أن أجلس... سوف ألخص لك المحادثة، شوكس. جدي- نيقولا، السيد "دولاهي" جاء لرؤيتي، كي نتحدث بخصوصك، وقد فهمت منه أنك مجتهد، لا توجد مشكلة كي تنجح إلى الصف الخامس ولكنني كنت أتساءل إذا كان اختفاء صوتك لن يؤثر على دراستك من هذه الناحية، لا يوجد تحسن، إذاً، لو طال الأمر، سوف ينحدرمستواك التعليمي، ويجب أن تعرف ذلك. السيد "دولاهي" - وأيضاً، يا نيقولا، كنت أريد التحدث مع السيد "دولوز" في موضوع آخر، شخصي. اعذرني لصراحتي القاسية، ولكني من نفس عمر والدك، وأنا أعرفه منذ زمن طويل. والآن، وبعد وفاة جدتك، ولكونك قد أصبحت كبيراً لتستوعب الأمر، فهو يسألك، إذا كنت تود مقابلته. صدقاً، لقد جئت من أجل ذلك. أنا -(بصوت منخفض، قلت للسيد "دولاهي"): أريد أن أتحدث مع جدي، ولكن ليس معك. السيد "دولاهي" كما تريد. أنا مندهش من ردة فعلك، ظننت أنه من المفيد أن أهزك، لكن على مايبدو، ليست هذه هي الطريقة الصحيحة. على كل حال، يا نيقولا، سوف تبدأ العطلة الصيفية بعد خمسة عشر يوماً، وسوف تدرس اللغة الفرنسية مع الآنسة "كلوستر" لقد وزعنا الطلاب على الصفوف، إذا كان ذلك يطمئنك. أنا-طيب، (لم أتجرأ على القول "أحسن" مع ذلك). جدي -اذهب، وأحضر لنا كوكا كولا، يا فهمان! شربا، وهما يتحدثان عن الطقس، لم أكن ظمآن... كنت متجهماً، وذهب السيد "دولاهي". إن جدتي لم تكن لتقبل أبداً أن يتدخل أحد في كل هذا، وأستاذي بالذات.

إن الأمر متداخل في رأسي: عندي أخت، يا صغيرتي شوكس.. وماذا؟ لست بحاجة لأخت، أو أخ، أو أب! إنني بحاجة إليك! أنتِ!.... أفعل مثل جدتي؛ أركز جيداً جداً، وأفكر في شوكس . توجد في الحياة ألغاز كثيرة. ربما سيصلك حناني، ويسعدك، ولو لم تعرفي أنه آتٍ من عندي. أنت موجودة بالتأكيد، لأنني عندما أكبر، سوف تعود إلي قدرة النطق، وسوف ألتقي بك، وسوف يحب الواحد منا الآخر بقوة، وسوف نتزوج، وإذا قدِّر لك أن تموتي قبلي، فسأستلقي بجانبك، وسوف آخذ، عن قصد دواء، ونموت سوية، وهكذا، لن تشعري بالخوف، سوف نكون متقدمين كثيراً في السن، لدرجة أنه لن يكون من الضروري أن نحاول البقاء. هل تعرفين؟ إنني أفكر في شيء واحد: لقد تحدث أستاذ البيولوجيا أمس، عن المكان والزمان، وكان يقول إنه ربما كانت واحدة من هذه النجوم التي ترينها في السماء، ترينها بملء عينيك، لم يعد لها وجود منذ مئات السنين أو ملايين السنين، لأنها قد انفجرت. حسناً!! إذا تصورت العكس، أي كوكباً يعيش عليه أناس أكثر ذكاءً منا، فمن المنطقي عندئذ، أن ينظروا إلى الأرض، مثلما كانت في الماضي. وكلما كنت بعيدة، رأيت بعيداً في الزمن الماضي. يوجد إذاً، على الدوام، مكان من العالم، يستطيعون منه رؤيتنا نعيش، بشرط أن يستخدموا مناظير قوية بما فيه الكفاية، ربما تكون هذه هي الآخرة. ليس من مصلحتنا أن نقوم بحماقات، أو سفالات، لأنها تُسجِّل في المكان، على شريط كاسيت أو فيلم مثلاً إذ وجد. إنني لا أستوعب لماذا لن يكون هناك أناس من خارج الأرض، في العالم الخارجي، في مكان ما من السماء، على كبرها. أو لماذا، إذا لم يكونوا موجودين الآن، سوف يوجدون في يوم من الأيام، إنني أود أن أقول: "في أي وقت لا على التعيين". ماذا تعتقدين؟ ماهو رأيك حول هذا الموضوع؟ إن علم الفلك يسبب الدوار، كما أعتقد، ولكنني أحبه جداً، ومن المفترض أن نشفى من الدوار، وأن نعتاد على فكرة أننا لسنا مجرد شيء " في بحر العوالم اللامتناهية"، كما يقول الأستاذ، وإلا أُصِبْنا بالجنون، لهذا ترينني بعض الأحيان، أغار من القطط. هنا ليس لدينا قطط؛ لكن قطة الجيران تأتي دائماً لتنام تحت شجرة الصنوبر "الزرقاء" في الحوش. إنني أداعب بطنها، كانت جدتي لا تحب القطط، لكن، ربما سيسمح لي جدي بالاحتفاظ بواحدة من الصغار التي سوف تلدهم، إنها تدعى "مينيت" إن شعرها كثيف كالدببة. هذا سخيف! عندما أنظر إليها فترة طويلة أظنها السيد. إنها تبدو أعلى وأسمى من الواقع... سوف أدعو قطتي الصغيرة "شوكس" ذكرى لك. غالباً ما أكتب لك أشياء أتحدث عنها مع "بالان"، الفرق هو أنني أحبك أنتِ، أما هو فلا، مرة حلمت أنه والدي، قال: "آه: نعم؟!" مثل العادة. إذا ظن أن هذا كان مدحاً له فإنه مخطئ! بالان، بالان.. إنني أسخر منه! اليوم تحدثت معه حول هذه الجملة:"لا يوجد مشترك للرقم الذي طلبته". وعوضاً عن شرح ما تعنيه لي هذه الجملة، كما كان يريد، أخذت حقيبة كتبي وذهبت، وأنا أردد:"لا يوجد مشترك للرقم الذي طلبته". ولكني أخطأت، وقلت: "لا يوجد رقم للمشترك الذي طلبته، شيء سخيف! ياللسخرية! شوكس، أنت موجودة، أنتِ تعيشين، يوجد لديك حتماً هاتف، يوجد رقم هاتف لك؟ قولي! منذ المقابلة اللعينة مع السيد "دولاهي"، وأنا أعلم، يا شوكس، أنه ينبغي أن أتحدث مع جدي، أعرف هذا، وإلا فلن يكون سعيداً، لكنني كل يوم أؤجل ذلك، وأجد أعذاراً، مثلاً، أقول لنفسي: لدي وظائف كثيرة متراكمة. وقد دعوت "ماركو بيلو" من مساء الثلاثاء، حتى الخميس صباحاً، وقد كان جدي فرحاً بذلك، ذهبت مع "ماركو" إلى الغابة، لاصطياد عصافير "الدوري" مع أن بارودتي تعمل بالهواء المضغوط. عادةً، اصطاد بالبطاطا: تأخذين قطعة بطاطا وتشقينها برأس فوهة البارودة، فتبقى بداخلها، تطلقين طلقة طَقْ! وتنطحن البطاطا على الهدف. لكننا هذه المرة أخذنا رصاصاً (خردقاً) وافق جدي على ذلك، واصطدنا اثنين منها. تباً لهما، لم أشعر تجاههما بالشفقة مطلقاً، إذا كان ذلك يحزنك فأرجو أن تسامحيني، يوجد من نوع الطيور هذا الكثير، وفي كل مكان. وقد سعدت بالحصول عليهما، أنا الذي اصطدت الاثنين. و"جوليا" تعرف وصفة: فهي تنتف ريشهما، وتضعهما على حبة بطاطا ضخمة مكتفين، و.. هوب، تدخلهما إلى الفرن. أكلنا، أنا وماركو، العصفورين ، كان طعمهما لذيذاً، إن جدي، في الصيد يقتل أي شيء، سوف أذهب، بعد فترة، إلى الصيد من جديد، وسأقتل الغربان فقط، لأن الغربان التي تحلق فوق أكوام النفايات مقرفة. النفايات تقع مباشرة بعد المقبرة. وقد كنت، من قبل، أذهب إليها كثيراً، لجلب أشياء، الآن: أبداً! " يا سيدتي شوكس، يا طفلتي شوكس أنت قدري وأنا "كاوبوي" مسكين، ووحيد يضع نظارتين على أنفه". (أغنية بالإنكليزية). انظري كم تقدمت في الانكليزية. مرت ثلاث أشهر وأنا لا زلت أتكلم دون صوت! دون صوت، توجد أشياء كثيرة لا تستطيعين فعلها: -التبضع، عدا مخازن "كاموت". -مخاطبة أشخاص لا تعرفينهم، للسؤال عن شيء ما. - الرد على الهاتف. -الاشتراك في مناقشة مع مجموعة من الناس. إنها عاهة!! منذ حضوره إلى المنزل، لم تعد الأمور تسير كما يجب بيني وبين السيد "دولاهي". لتحيا العطلة! إنني أتعمد أن أكون بغيضاً معه. أما هو، فإنه محرج. هذا واضح. ومع جدي، أيضاً، لا تسير الأمور على مايرام، إنني أهرب منه. أعتقد أنه غاضب مني. أنا وهو نعلم السبب جيداً. إذاً كان يود تقديمي لوالدي، لماذا احتاج للتحدث عن ذلك مع أستاذي، وليس مع شخص آخر، أستاذ وصديق يشكلان اثنين، والأنكى من هذا، أمس، تصوري يا صغيرتي "شوكس" وأنا عائد من عند "بالان"، وذاهب لأستقل الباص، قطعت شارع "جود".... ماذا أرى على الرصيف المقابل لي؟ بالطبع، السيد "دولاهي" مع فتاة لها ضفائر على ظهرها. إنها في مثل سني، أو أكبر قليلاً، كان يتحدث معها، وأنا كنت أمام متجر أحذية. لقد تملكني الذعر، وخفت من أن يراني، فدخلت المتجر بأقصى ما أستطيع من سرعة. هنا، كان الموقف مريعاً. وقعت البائعة على رأسي، فاحمر وجهي أو اخضر، لا أدري، وفتشت بيأس عن أي شيء؛ غير الأحذية، موجود في المخزن، كي أعطي نفسي الوقت الكافي للانتظار فيه، حتى ابتعاد السيد "دولاهي"، وأخيراً، أشرت للبائعة بإصبع، وبالإصبع الأخرى لحلقي، وطلبت بصوت منخفض زوجاً من شريط ربط الحذاء. لحسن الحظ، كانت معي بعض النقود. واشتريت شريطاً أحمر اللون، لأن شريط حذائي لم يكن مقطوعاً. ربما إنها لم تستطع أن تفهم أنني أود شريطاً آخر أبيض اللون.

أنا وجدي متخاصمان. أنا و "بالان" متخاصمان. أنا وأنا متخاصمان. ولكن، أنتِ: أحبك. لولا "جوليا" كنا هلكنا، "جوليا" هي التي تهتم بشؤون المنزل، تماماً مثل جدتي. نحن نلاحظ ذلك يوم الأحد، لأنها لا تحضر في هذا اليوم. تبدو الغرف أكثر اتساعاً من العادة. هذا الصباح، تناقشنا، أنا وإياها، مناقشة لعينة، مناقشة في غاية الأهمية! يا شوكس، أنا أحمق، لحسن الحظ أن "جوليا" افهمتني ذلك. كنت أنتظر أن يبرد شراب الشوكولا الساخن، لأنني كنت لا أريد الأكل، كان جدي قد ذهب إلى المكتب منذ فترة، وفجأة نظرت "جوليا" إلى كأسي، نظرت إلي، ثم انفجرت قائلة: - نيقولا، هذا يكفي، الآن ستشرب شرابك، هل تعرف ماذا يجري؟ - أنا - ماذا؟ ما الذي يجري!؟ جوليا- جدك، سوف ينتهي الأمر بمرض جدك، لكثرة مايعانيه بسببك. أنا لدي أذنان تسمعان في كل مكان، أسمع أشياء كثيرة، لقد أصبحت صعب المراس، سييء الطبع، حزيناً، حتى أنك تهدم كل العالم من حولك. وحتى أنا، فإنك تثير غضبي. إنك لا تأكل، ولا تتكلم، وتبدو وكأنك صنم. ألا يكفي السيد "دولوز" بؤساً أن يعيش أرملاً ؟ هل تعتقد أن جدتك ستكون سعيدة لما تفعله؟ إنك تخرب حياة جدك. وأنا أعلم مالذي سيحدث. في يوم من الأيام، سوف يطفح الكيل به، وسيرسلك إلى مكان آخر. هل تفهم مالذي أريد قوله؟ " إلى أي مكان آخر". أنا أفهم ذلك. أنا - إلى مدرسة داخلية؟ إلى منزل معاقين؟ جوليا - لم لا؟ إلى مدرسة داخلية!! يا صغيرتي شوكس، لقد أخذت كأس الشوكولا، وألقيت به في حوض المطبخ بقوة، فانكسر، وهربت إلى غرفتي فوراً. صعدت "جوليا" ورائي راكضة؛ وقالت: - "نيقولا، ربما أكون مخطئة، لكن، عليك أن تنتبه لجدك". بكيت. حاولت أن أنادي جدتي، ولكن من غير جدوى، لقد ماتت. إذاً، هذا مايحاول الجميع فعله؟ إرسالي إلى مكان آخر، إلى مدرسة داخلية! أنا أفضل أن أموت، إنني غبي! أكتب لك بصوت منخفض. عندما توفيت جدتي، كان الوقت ليلاً، يا شوكس، مثل الآن. كنت أنام في سريري. وجدي في غرفته. كان دور العمة "إيرا" في المناوبة في المستشفى. (كنت قد ذهبت في اليوم السابق لرؤية جدتي، لم تكن واعية، ولكنها كانت تحبني، كانت تحبنا، وكان ذلك واضحاً، كانت لا تزال تملك حياتها وصوتها لنفسها. كانت تقول أشياء كثيرة مثل السابق، ولكن دون ترتيب. كانت جميلة. وكانت تضع على رأسها وشاحها الذي تزينه العصافير) سمعت صوتاً تحت، نهضت مختبئاً، نزلت دون أن أظهر نفسي، رأيت العمة "إيرا” تدخل على رؤوس أصابع قدميها. تبعتها في العتمة. ذَهَبَتْ إلى مخزن البياضات، أخذت بعض الأغراض، وذهبتْ. لكن الباب الخارجي للبيت صرَّ، عندها استيقظ جدي. وثب في الممر وشعره مشعث. نظرت العمة "إيرا" نظر الواحد للآخر، وهي تقول: - انتهى الأمر. أنا أقول - ماهو الأمر الذي انتهى، وذلك في الوقت نفسه الذي فهمت فيه. وضممنا بعضنا بعضاً. كانت العمة "إيرا" تبكي وحدها. جدي وأنا كنا جافين. العمة "إيرا" كانت صارمة، أرسلتنا، أنا وجدي، إلى النوم، طالبة منا الانتظار حتى الفجر، وعادت هي إلى "كليرمون". نمت مكان جدي، كان جدي يدعوني "يا صغيري نيقولا"، وانتهى الأمر بي إلى النوم على صدره، عندما استيقظت، شعرت بالخوف، كان خوفاً رهيباً. لم يكن جدي موجوداً! ولحسن الحظ، "جوليا" كانت موجودة، شرحت لي إنهم سيعيدون جدتي إلى هنا. قمت وارتديت ملابسي، وعندما نزلت رأيت جدتي، قلت ذلك لك على ما أظن. ثم وضعوها في التابوت، ووضعوا التابوت على حامل، وضع عمداً، في منتصف الصالون. بَقِيَتْ في الصالون يومين. كان الناس يقفون بالصف للصلاة عليها. كانوا يتحدثون بصوت منخفض. أنا كنت أفضل ألا يروا جدتي، بسبب الفضول الذي لا أحبه. ثم إن "الباروكة" لم تكن موضوعة بالطريقة التي تحبها. ثم إنها كانت ميتة جداً.

يا شوكس المستقبل. نحن الآن في العطلة تقريباً. يجب أن آخذ "نيقولا دولوز" في نزهة، كما يأخذ المرء كلبه للنزهة. جدي شجاع جداً. إنه منظم، لكنني خائف، من الشعور بأنه لم يعد يحبني. خائف من أن يرسلني إلى مدرسة داخلية، في أول السنة الدراسية القادمة. ومن أنه يريد أن يعرفني بوالدي، كي يعلن هو الخبر لي. هكذا هو الأمر. هذا هو، هذا هو يا شوكس. إن المدرسة الداخلية ترعبني، هناك لا أستطيع البقاء أبداً وحدي، لن تبقى لي غرفتي المستقلة. ولن أستطيع الكتابة لـ "شوكس" عندما يكون جدي في مكتبه، وهو يظن أني نائم. إذا وضَعُوني في المدرسة الداخلية، فسوف أهرب. أين أذهب؟ أعود إلى هنا، وأختبئ في السقيفة، وسوف آخذ ما آكله من الثلاجة عندما تكون جوليا غائبة، وسوف أرفض كل شيء: الدكتور "بالان"، أن أعمل، ’ أن آكل.... كل شيء. أو أذهب، سيراً على قدمي، وأجول العالم، وأبحث عنك، أبحث عنك حتى أجدك. إنني واثق من ِأنني سأتعرف عليك. ولكن أنتِ؟ أنا سطحي جداً! مر شهر آخر دون الكتابة إليكِ. وثم... شوكس، شوكس، شوكس. لو كنت تعلمين. استمعي لي جيداً، بعينيك الواسعتين المفتوحتين كصحون صغيرة، بدلاً من الآذان (مهلاً، مهلاً، نيقولا دولاز!) لنستعد الأمور من البداية. الليلة الماضية، وأنا عائد إلى المنزل، فاجأت جدي جالساً إلى طاولة المائدة، وهو يحمل رأسه بين يديه، كان يجلس بهذا الشكل ولا يتحرك. عطستُ، لكنه لم ينتبه، عندئذ، صعدت إلى غرفتي. كنت مضطرباً، لقد فهمت للتو أن فقدان الزوجة أصعب كثيراً من فقدان الجدة (لكن جدي شجاع، ومنظم جداً، حتى ظننت أنه كان يتحمل المأساة). وعلى الفور قررت، وقلت لنفسي: "نيقولا، لقد بلغتَ أقصى مداك؛ يجب أن تتكلم مع جدك". بعد العشاء، سألته إذا كنا نستطيع التنزه في الحديقة، بعد تناول الطعام، لمشاهدة النجوم. كنت أحاول أن أبدو سعيداً، لكن ذلك كان صعباً، وأعتقد أيضاً أن جدي كان متعباً. في الطريق توصلت للقول: - لماذا يا جدي تريدني حتماً أن أتعرف إلى أبي؟ لقد استغنينا عنه جيداً حتى الآن! أجابني جدي - يا نيقولا، عمري ستون عاماً، لست صديقاً لولد في مثل سنك، إنك تصادف متاعب كثيرة منذ وفاة جدتك، إن كل مانحاول فعله لإخراجك من محنتك يذهب سدى. أنا والدكتور "بالان" نعتقد أنه من الواجب تغيير حياتك، ومعرفة والدك هي الحل. وهو نفسه يرغب في ذلك. وأيضاً زوجته. إن لهما فتاة لطيفة جداً، أنت تعلم هذا، ولم تحاول أن تعرف اسمها أو عمرها أو أي شيء آخر عنها. (وها أنا من جديد عاجز عن النطق، يا شوكس، مستحيل أن أنطق بكلمة) وتابع جدي، (وكلما زاد غضبه، زاد سكوني): - وفي النهاية، يا نيقولا، سوف أضطر إلى اتخاذ القرار بدلاً منك، وخلافاً للسيد "دولاهي" أعتقد أننا لا نحتاج لانتظار "أن يبدي السيد نيقولا رغبته في الخروج من نفسه" (هذه قالها بقسوة). أنا - أوه!! ذاك السيد "دولاهي" أتركه وشأنه. أكره أن يتدخل في شؤوني. توقف جدي فجأة، وهو الإنسان الهادئ اللطيف، وهاهو يثور غاضباً: - ثم في البدء، من هو الذي يقول لك أنني أرغب في تربيتك؟ وهل تظن أن لعب دور المربية يسعدني؟ أم اهتمامي بمذاكرتك أو عطلتك أو أخذك إلى أي مكان أذهب إليه، أو التحدث بصوت منخفض؟ وإذا متُّ يا نيقولا، من الذي سيهتم بك؟ قل لي! الجد لا يؤلف عائلة. وجدك ذاق الأمرّين من حفيده (حضرتك)! نعم ذقتُ الأمّرين! أنا لا أستطيع تحملك بهذا الشكل بعد اليوم! إذا كان يود والدك أن يأخذك، فليفعل! أنظر إلى جدي، كنت مذهولاً، وفي ثانية واحدة، حملتُ ساقيّ وركضت، وركضت، وركضت.جدي لن يحاول الإمساك بي. إنني حتى لم أنظر لأتأكد إن كان يتبعني. إلى أين أنا ذاهب؟ ليس إلى المنزل، ليس إلى شخص محدد، ليس إلى الغابة، أتخذ طرقاً معقدة أركض كمجنون، أذهب إلى المقبرة، بابها لا يزال مفتوحاً، سأذهب لرؤية جدتي، أنا أبكي، أقول لها إن جدي رجل سييء، وأن أبي هو رجل سييء أيضاً، وأنه كان عليها أن تبقى بدلاً من أن تموت. أنا في أقصى حالات اليأس. أودّ دخول التابوت والبقاء ميتاً تماماً بجانب جدتي. أقرر أنني ميت! أنام على التابوت، أركز بكل قوة، وأصبح ثقيلاً مثل الحجر كي ألتصق به. أتوقف عن التنفس، عن الحركة، عن التفكير، لكن هذا مستحيل؛ إنني محشو كبيضة. أنا لا أستطيع إيقاف تنفسي". لا أستطيع أن أموت. توجد في رأسي صور عديدة. تنتقل بداخلي من قمة رأسي إلى أخمص قدمي. أنا مادة متفجرة لا تنفجر. إنني بائس، مشوَّش، ومجروح. لا أشعر بالألم في أي مكان من جسمي، وفي كل مكان منه أنا مستلق كجدتي. أنا قاس مثلها. لا أجرؤ على التفكير بأمي التي توجد تحتها منذ سنوات عديدة. لكن انتبه، لست ميتاً. يجب أن يكون لدينا زر نضغط عليه إذا أردنا الموت. أنا حي بالرغم مني. والأنكى من ذلك أن الجو بارد. والأدهى منه أن الظلام دامس. ماذا سأصبح؟ هل أضرب رأسي بالرخام؟ أنتفض واقفاً، فجأة، أصبحت مجنوناً أرى زهريات الورد، ألتقطها وأقذف بها فوق اسم أمي على لوحة الرخام، إنني أشخر، أفتعل ضجة كبيرة لدرجة إنني لم أعد أسمع شيئاً، أبكي بشدة حتى أنني لم أعد أرى شيئاً، لقد انفجرت. وعندما أصبح كل شيء حطاماً، صرخت صرخة مدوية، واستدرت لأتأكد أن الليل مازال ليلاً. هل تعرفين من وجدت ورائي؟! جدي! لقد كان هنا! صرخت "جدي!" لقد صرخت بصوت، بصوت حقيقي، وارتميت عليه وأخذت أضربه بقبضتي، وأركله بقدمي. كان صعباً عليه الاحتماء مني، ثم صرت أضربه بقوة، أقل، لأنه كان يحتضنني: - ياصغيري نيقولا؛ يا صغيري نيقولا! كان يبكي. كانت سيارته أمام المقبرة، أعادني إلى البيت، وكنت لا أزال أنتحب. قام جدي بتغيير ملابسي، ووضعني في سريره. وضمني بذراعيه مثلما فعل ليلة وفاة جدتي. ثم كلمني، وقال لي إنه لم يكن يريد أن يفارقني، وأنني كنت كل مابقي له في هذا العالم. وأنه غضب مني، لأنه كان هو أيضاً يعود طفلاً، من وقت لآخر. وقال لي أننا سوف لن نفترق أبداً، إلا إذا كنت أريد ذلك، أنا. وقال لي إنه أبي، وأبي وحده الآن. بعد ذلك، أضاف، أنه كان لابد من التعرف على أبي الحقيقي وزوجته وأختي، لأنه هو أيضاً، سيختفي في يوم من الأيام، كما فعلت جدتي (نعم قال "يختفي") وأنه، بعد ذلك، سأحتاج إلى عائلة.ثم أضاف إنه بصحة جيدة، وأنه لن "يختفي" الآن، ولكن من واجبه أن يفكر بذلك وهو في هذه السن. داعب شعري. كنت بحالة جيدة. وقد كدنا ننام قبل النهاية، ولكن لحسن الحظ، استدركت هذا، وقلت بصوت مسموع:-ياجدي، أعدك بأن أقابل والدي، إذا وعدتني بأن أبقى معك. وقد وافق، وافق بحق، لم يكن هذا مزاحاً. لم تكن لديه أبداً فكرة إرسالي للعيش عند والدي، أو في مدرسة داخلية، كان هذا فقط ضرباً من الغضب. ومنذ ذلك الحين. عدت أتكلم يا شوكس، إنني أتكلم! وأخيراً، إنني أتكلم نوعاً ما، ومن وقت لآخر صار "صوتي يتفخم". وعلى أية حال، وكما لم يبق لنا سوى خمسة أيام دراسية، مازلت أهمس في المدرسة: ليس من الضروري أن أثير الجماهير. عند العودة سوف يذهب ذلك مع "البرنزة" (الاسمرار)، أليس كذلك؟ الأمور عادت بيني وبين جدي إلى أحسن حال. الآن نضحك معاً. كان "بالان" مندهشاً جداً، عندما دخلت إليه، وأنا أقول "صباح الخير يا سيدي" وبما أنه لم يفهم شيئاً بنفسه، شرحت له أنني قررت مقابلة أبي في يوم من الأيام، وأنني اتفقت حول ذلك مع جدي. وأضفت أنني لن أذهب للعيش معه، ولا مع أي شخص آخر، حتى أبلغ سن الرشد، لأن جدي سوف يحتاج كثيراً لعنايتي حتى ذلك الوقت. قال الدكتور "بالان": - "حسن، هذا جيد جداً" ثم " إلى اللقاء" سوف أذهب للعيادة مرة أو اثنتين قبل ذهابي مع جدي إلى البحر. نحن ذاهبان إلى البحر.

لقد أصبحت، يا شوكس، أكثر ذكاء، منذ أن عدت أتكلم، ومع ذلك، جدتي لا تزال غائبة، وعليَّ أن أقدّر كيف سأتصرف مع والدي، وأحل الوضع معه... لقد فكرت في ذلك كثيراً. سوف أكتب له. سأعطي "دولاهي" رسالة في آخر يوم من أيام الدراسة، هكذا سوف يرى أنني لست غاضباً منه لأنه تدخل في خصوصياتي. في الواقع إنه ألطف أستاذ عندنا، إذا فكرنا بالموضوع جيداً! جدي موافق على أن أكتب له، يقول إنه ليس هناك داعٍ للعجلة، وإنه يمكن أن أقابل والدي بعد الإجازة الصيفية، وأن علي الاعتياد على الفكرة أولاً، لقد أقسم لي أنني سأعيش عنده مادمنا سعداء معاً، ومادام قد بقي سليماً معافى، ولم يمرض. ثانية واحدة للدعاية: "لا يوجد نيقولا دون جد ولا جد دون نيقولا!" وكتبت رسالة لوالدي المساء ذاته، ووضعت ورقة كربون تحت الرسالة، كي أعطيك الصورة، لقد اجتهدت في الكتابة: "سيدي العزيز؛ إنه لطف منك أن تشرفني بالاهتمام بوضعي حين أصبح بدون عائلة. لا تؤاخذني إذا تأخرت في الإجابة على طلبك في الأيام الأخيرة، لأنني كنت مشغولاً جداً بجدي بعد وفاة زوجته، الشيء الذي أثر فيّ أيضاً كثيراً ، ولكنني أصغر سناً منه. أفهم عدم حاجتك إلى الاهتمام بي من قبل، لأنني كنت بحالة جيدة جداً هنا، في البيت، والآن، إنني عاقل بما فيه الكفاية للتفكير في الوضع. إنني موافق على التعرف إليك، ولكنني أفضل أولاً، الكتابة إليك وأن ترد على رسالتي. لنفترض أن جدي "اختفى" على حد قوله، عندئذٍ سوف أكون بحاجة إليك. ولكنه الآن بصحة جيدة، يجب ألا نفكر بذلك، أعرف أن لك بنتاً، لنفترض أيضاً أنها "اختفت، عندئذٍ، أعدك أنني سوف آتي لزيارتك كثيراً، ولكن دون أن أعدك بالعيش معك، ودون أن أجرحك، لأنني اعتدت على الحياة بشكل مختلف. إنني أرسل لك صورتي بالنظارات، وإلا سوف تندهش عندما تراني أضعها يوم نتقابل. إن لها زجاجتين سميكتين. هلاّ أردت الإجابة على أسئلتي؟ - كم عمر ابنتك؟ - ماهي مهنتك؟ - ماهي هواياتك؟ - أين تسكن؟ عندما نلتقي، أرجو ألا تتصرف كما لو كنت أبي، ولكن كصديق. وهكذا أستطيع في البداية أن أدعوك " ياسيدي" وهذا طبيعي أكثر عندما لا نعرف شخصاً، وبعد ذلك، إذا تفاهمت معي، وكذلك عائلتك، فسوف نلتقي من وقت لآخر للذهاب إلى السينما، أو المطعم. إنني خجول بمافيه الكفاية. أخيراً، شيء واحد أريد التأكد منه، وهو أننا لن نتكلم عن أمي، أو عن حادثة القطار. أرجو قبول فائق الاحترام. نيقولا دولوز". يا شوكس، لقد تم الأمر، وقد أعطيت الرسالة إلى السيد "دولاهي". احمرَّ وجههُ. وقلت له: "هذا لأبي" بصوت مسموع. لقد ظننت أنني سأدهشه أكثر حين سأتكلم بصوت مرتفع، ولكنه على مايبدو لم يلاحظ ذلك، كان ينظر للظرف الذي يضم الرسالة. وبما أنني لم أكن أعرف اسم أبي (عندما سألت جدي قال: ليس الآن، ليس الآن، سوف تكون مفاجأة: "له اسم غريب")؛ فقد كتبت على الظرف: "إلى سيدي والد نيقولا دولوز" كان بقية الأولاد قد ذهبوا؛ مددتُ يدي إلى السيد "دولاهي" لأقول. له "إلى اللقاء" ولكنه لم يمسك بها، وقال لي: " هذه هي العطلة الصيفية، إنني أقبّلك، سوف نتقابل حتماً" عدت إلى المنزل مع "التجميع المدرسي" الأخير في السنة الدراسية، تعرفين: يقولون ( تجميع) للتلاميذ مثلما يقولونها للقاذورات أو البطاطا إنها كلمة بشعة!! ياشوكس، يا غاليتي شوكس السرية، سوف أذهب قريباً مع جدي في أثناء العطلة، سوف نذهب إلى مركز من النوع الذي يكون لك فيه غرفتك الخاصة. وحيث يقدم لك الطعام، ونقوم بنشطات رياضية، سوف يكون هناك مجموعة للصغار وأخرى للكبار، هذا مافهمته من جدي، وهكذا سوف يستطيع جدي أن يكوّن لنفسه أصدقاء من جانبه، وأنا من جانبي. وسوف نلتقط صوراً كي أريك إياها فيما بعد. أرجو أن يرد أبي على رسالتي قبل ذهابنا.

تم الأمر، أحضر لي جدي الرسالة، وضعها على مكتبه وهو يبتسم، ولم يسألني شيئاً. أخذ قلبي يدق بسرعة. إنها مطبوعة على الآلة الكاتبة، وها إنني ألصقها هنا، تحت: "عزيزي نيقولا، لقد سررت جداً لاستلام رسالتك. اطمئن؛ لقد فهمت تماماً تمنّعك عن مقابلتي، لأن لديك كل أسباب العالم كي تكره أباً لم تعرفه أبداً: سوف لن نتكلم عن والدتك، موافق، إعلم فقط أنها كانت غالية جداً عندي، وأننا قد دفعنا ثمن هذه المرحلة من حياتنا آلاماً كثيرة، سوف أقول لك كل ماتود معرفته عندما تصبح في مثل عمري، إذا، طبعاً، أردت أنت ذلك". أشكرك على صورتك. إنك تبدو جيداً جداً، وهل لي أن أقول لك مع ذلك إنني كنت أعرفك من قبل. وإنني منذ اثني عشر عاماً (سنوات عمرك) قد تابعت خطوة بخطوة طفولتك، ولم أرد الدخول في حياتك الخاصة، لأنك كنت تبدو سعيداً تماماً مع جدّيك. لقد ربَّتك جدتُك، تماماً مثل ابنها. وعندما مَرضَتْ، هكذا فجأة، وجب عليها وعلى السيد "دولوز" أن يواجها مستقبلك بطريقة مختلفة، لقد تكلمنا معاً حول ذلك، واعتقدنا أنه من الأفضل أن تعرفني، وأن نتعلم كيف نحب الواحد منا الآخر ماهو صعب عليك، لن يكون سهلاً كذلك بالنسبة لـ "ديزي" "ديزي" هي ابنتي، إنها تجهل أن لها أخاً يصغرها بعامين. سوف أكون بحاجة لمعرفتك كي تعتاد على هذه الفكرة، فيما لو قدرنا أنا وإياك أن نحدثّها بذلك. أنا أدعى "إيف" وزوجتي "بريجيت" لن أريها رسائلك، اطمئن اطمئن. ولكنني قلت لها إنك كنت تفضل أن نتراسل في البدء، حتى نصبح كالأصدقاء، دون لعب دور الأب والابن الاجباريين). إنها ترى بذلك طريقة ممتازة في التصرف. يمكنك مناداتها "بريجيت" وأنا "إيف" إنها صحفية، أنا موظف. بالنسبة لاسم عائلتي فإنني مضطر للاحتفاظ به سرّياً بعض الوقت أيضاً. استمر بإرسال رسائلك إلى السيد "دولاهي" وسوف يوافيني بها. إننا نسكن في البناية نفسها. إنها صدفة غريبة، اكتب: إيف عن طريق السيد دولاهي. 8، شارع سانت أوديل. كليرمون- فيران. ملاحظة: إنني أرسل لك صورة لبريجيت وديزي، ليس لدي صورة لي في الوقت الحاضر، لكنني سوف أذهب إلى المصوِّر خلال أيام. والدك: إيف". حدَّقت إلى الصورة، يا شوكس. الأم ترتدي بنطال جينز وكنزة، إنها بعمر كل الأمهات. لا يوجد تعليق، إنها مقبولة. لكن ديزي ليست واضحة تماماً؛ تبدو جميلة. شيء عجيب، إنني واثق، واثق جداً من أنني سبق ورأيتها في مكان ما، على كل حال ليس في المدرسة، لأنني كنت سأتذكرها ولاشك، إن الإنسان يتعرف على كل الوجوه التي يراها، ولكن أين؟ اللعنة، أين؟ لا أستطيع أن أتذكر. أمَّا من ناحية أبي، فأنا مطمئن. سوف يكون صديقاً فقط، يمكنه أن يدعى "صندوق القمامة" وهذا سيان عندي، لن نقول شيئاً لابنته، لن أتكلم شيئاً مع زوجته. سوف نتصرف كما لوأنني فقط "دولوز" الصغير، حفيد جدي، نقطة. سوف يكون سراً بيننا نحن الاثنين: إيف وأنا نيقولا. سر أبوي. يوم زواجنا، يا شوكس، سوف أدعوه هو وزوجته وابنته "ديزي" سوف أريك إياه. سوف أقول لك: "يا شوكس، هذا هو والدي" ولن يعرف أحد شيئاً.

يا عزيزتي شوكس الصغيرة، لقد انتهى الأمر، حقائبي جاهزة، سوف نرحل، لن آخذ هذا الدفتر معي لأنه انتهى تقريباً، ’ بقي منه ورقة بيضاء واحدة. أمس، أرسلت لوالدي كلمة صغيرة على ورقة كرتون: "هل أنت موافق على السر الأبوي بيني وبينك، مادام جدي على قيد الحياة؟" اتصل أبي هاتفياً، لم أكن موجوداً في المنزل، أستلم جدي الرسالة: " موافق على سر الأبوة- إيف". في الواقع كنت هناك، لكن جدي لم يجدني، أحسن! لكن الأكثر سرية من ذلك كله، يا شوكس، السر الذي أبوح به لكِ وحدك، والذي أحمله في حقائبي، إلى البحر، هو أنني بالأمس مساءً، وأنا أرتب أغراضي، وجدت شرائط الحذاء الأحمر؛ وفجأة، من الذي رأيته في الطريق، من الذي رأيت، احزري؟ هل حزرتِ، لا ؟ آنسة لها ضفائر، بالقرب من "جود"... إنها هي نفسها التي تظهر في الصورة... "ديزي"! لن أخبر جدي بذلك مطلقاً خلال هذه الأيام. أنا بصحة جيدة الآن. بينما جدي لا يزال نحيفاً. ملاحظة: "جوليا" قالت لي إن قطتي "مينيت" تنتظر صغاراً، وسوف تحتفظ لي بواحدة منها حتى عودتي من العطلة. أقبلك، ياشوكس، بكل قوتي.

نيقولا.

-انتهت-