الأديان العلمانية
كان من اثر الهزة التي احدثتها الثورة الفرنسية أن انصبت الفلسفة الأوروبية بمجملها في القرن التاسع عشر على محاولة اكتشاف "انجيل" حديث أخلاقي واجتماعي .. بحيث توافر فيه الإحتفاظ بالإستلهام المسيحي من ناحية والإستناد من ناحية ثانية إلى أسس اخرى غير السنن الدينية الموروثة , التي كانت محفوفة بالشكوك في تلك الفترة ...وقد نقب المفكرون الألمان عن هذه " العلوية المحدثة" في فكرة "الصيرورة الكلية" ,أما الإصلاحيون االفرنسيون في اعوام فقد اتجهوا إلى " الإنسانية" معتبرين إياها كواقع أعلى يتجاوز الفرد بما لا نهاية , ويتحكم فيه بالتالي . سان سيمون والمسيحية الجديدة – وضع سان سيمون المتوفي عام 1825 أسس المسيحية الجديدة التي حولها تلامذته فيما بعد إلى كنيسة حقيقية قائمة على الشمولية الإلهية ( وزودوها بالطقوس والتسلسل الكهنوتي ) وقد ارادت هذه المسيحية المحدثة الإحتفاظ بالقاعدة الذهبية " احبوا بعضكم بعضا " فعمدت إلى دمجها في تنظيم اجتماعي مبتى على (المقدرة) وحدها وتسوده روح واحدة : الإخلاص للعمل المشترك القائم على الإستثمار التقني لخيرات الكرة الأرضية , بصورة اوسع فأوسع , في سبيل خير الجميع ...... وهذا النوع من الأخلاق " اخلاقية قائمة على الإنتاج الصناعي" ذات ميزة جديرة كل الجدارة بالإعتبار هي ادراكها ( الذى اخذته عنها السوفياتية الروسية)أن عملا ذا نزعة جماعية كهذا لا يمكن أن يستمر أو يتقدم إلا اذا كان صادرا عن حماس كما لابد له ايضا من خلق "ايمان " ما , وهو هذا الإندفاع النابع عن وحدة الهدف المشترك . أوغست كونت ودين الإنسانية – يهدف دين الإنسانية الذى وضعه أوغوست كونت المتوفى عام 1857 إلى الحفاظ على بنيان لكاثوليكية وعلى مثلها الأعلى الغيري ... ولكنه يستعيض عن فكرة "الإله" التي يعتبرها قديمة ماضية بفكرة ط الكائن العظم " وهو الإنسانية التي ليس الفرد شيئا بدونها ... وعلى ذلك فإن دور الأخلاق هو تطوير الإتجاهات الإجتماعية بإسم قاعدة وحيدة هي : " العيش لأجل الآخرين " وفي نطاق البرنامج الأساسي للمجتمع "الوضعي" , وتتلخص هذه القاعدة في التعبير التالي : [ الحب هو المبدأ , والنظام هو الأساس , والتقدم الهدف ].
مذهب "فورييه" – يماثل مذهب فورييه المتوفي عام 1837 المذهب السابق من حيث كونه جماعيا , بيد انه يختلف عنه كل الإختلاف في نظرته إلى الجماعية , فهو يستند إلى فكرة تقوم على مبدأ "العناية الإلهية" الذى يقود الكون بأجمعه , وعلى اعتبار الأهواء صالحة لأنها " طبيعية" .. ولذا فلن يتيسر الوصول إلى الإنسجام الإجتماعي إلا عن طريق اصلاح يأذن للأهواء بالإنطلاق الحر . ويتلخص منهجه بما يلي : ( استبدال قيود القسر الحديدية بقيود الهوى المصنوعة من الورد ) .. وذلك عن طريق جعل الناس يعيشون على شكل مجموعات صغيرة ( خلايا ) كل منها مزيج من " دير تيليم" ( مجموعة من الأبيقوريين تخيلهم "رابليه" في قصته " غارغانترا" فإقتبست اللغة الفرنسية هذا التعبير الذى اصبح وصفا للمكان الذى يجتمع فيه بعضهم لتذوق المباهج والمسرات المترفة ) ومن معسكر كشفي ومن منظمة قائمة على قائمة مبدأ " القوة عن طريق الفرح " وتعيش المجموعة بحيث تكفي نفسها بنفسها من ثمرة عمل الجميع [ويؤدى العمل كما تؤدى لعبة رياضية , من قبل فرق تتنافس على الفعالية المرحة ] كما يستطيع كل عضو فيها اشباع جميع ميوله ( حتى الجنسية منها ) بحرية تامة .
برودون – يجب الإشارة أخيرا إلى أن الفكر المعقد الذى جاء به برودون المتوفى عام 1856 والذى يتنازعه الإعتقاد بالمساواة ( بشكل قريب إلى الفوضوية) من ناحية والإقتناع من ناحية اخرى بوجود "ميل" كلي اعلى يسود العالم , هو العدالة .. فيجب أن تهدف الأخلاق بالتالي إلى انشاء وضع اجتماعي يمجد الكرامة الإنسانية والفردية .. ولكن منازعات انات ( جمع الأنا) الأفراد يجب أن تتوازن في هذا الوضع بحيث لا تحتفظ كل "أنا" إلا بما فيها من عقلاني ( وهو الصدى في كل "أنا" للعدالة الكونية ) .. وهكذا ينشأ " العقل الجمعي " .
رينان , مورا , باريس , بورجوا – كان نتاج فكر كونت بين النتاجات السابقة جميعا ابعدها تأثيرا .. فنكتشف هذا التأثير مثلا في فكر رينان الذى اتصف بالتبدل .. وقد تصور رينان دين المستقبل ك " عقيدة انسانية خالصة , أو عبادة لكل ما ينبع عن الإنسان " ولا سيما العلم , ثم عاد في أواخر حياته حين انتابه شعور بالتشاؤم المعادي للديموقراطية فإعترف بأن الدين المسيحي دون غيره هو الذى يستطيع انتزاع الإنسان من براثن الوضاعة الغريزية , فيجب بالتالي التصرف " وكأن الدين المسيحي صحيح " .. ويصبح العلم آنئذ اداة بيد " عدد صغير من الحكماء" يستخدمونه لفرض احترام القيم الروحية على " الجماهير" التي لا يمكن تثقيفها . وكذلك فإن المكانة التي جعلها فكر كونت للنظام هي الجانب من الوضعية الذى احتفظ به في عصرنا الحاضر مفكرون من امثال مورا وباريس .. فليس الفرد - في نظرتهم - سوى انتاج " عابر" للجماعة , اما الواقع الأوحد ( الذى يفرض نفسه بفضل حسناته البدهية) فهو السُنة البشرية الموروثة .. وهي في نظر مورا السلطة الملكية , أما بالنسبة لباريس فهي الأمة , والأرض التي ولد فيها الإنسان , والأموات .. ويمكن لهذه السُنة الإستناد إلى الكاثوليكية , ولكنها لا تحتفظ منها ( ضمنيا) إلا " بقيم" معينة هي ثباتها واستمرارها عبر الأجيال . واخيرا فهناك الخلاق " التضامنية" التي جاء بها " ل . بورجوا" فقد عمدت إلى فكر كونت ايضا فإستخلصت منه بشكل خاص الفكرة القائلة بأن كلا منا مثقل بدَين بالغ تجاه المجتمع .. وهذا الدَين ذو صفتين في آن واحد : فهو " إرث" من ناحية ( اللغة , النظم , إلخ ... ) فهي " الكنز الذى جمعه الأجداد بالتدريج " , وهو من ناحية اخرى " الربح" الذى يعود علينا من عمل جميع معاصرينا .. ولهذا فإن الأفراد جميعا مترابطون يجمعهم التضامن الكلي ( وهذا قانون كوني يتحكم في الكواكب ايضا) .. وذلك هو مصدر قاعدة اخلاقية " حتمية" وهي التالية : يجب علينا أن نساهم في هذا "الكل" وأن نريد نحن ايضا أن نكون اعضاء فعالين في الإنسانية أما الشر فهو تفضيل العيش بمعزل عن هذا الجسم الذى نحن اعضاؤه .