الثورة الأمريكية

من كتب

الثورة الأمريكية ( 1763م –1783م )


تعرف أحياناً بحرب الإستقلال الأمريكية ( 1775م-1783م ) وهي أول الثورات العارمة في التاريخ الحديث سبقت الثورة الفرنسية بست وعشرين سنة والروسية بأربعة وستين عاماً والهندية والعربية بما يزيد قليلاً عن القرن ونصف القرن.

لقد كانت ثورة عقائدية ,ثورة مبادئ دستورية قبل أن تكون ثورة سياسية للتحرروالإستقلال حيث أن القتال للإستقلال لم يبدأ حتى كانت الثورة قد سلخت من عمرها أكثر من عشرة سنوات مرَّت كلّها في ثورات مضطربة محلية ثم إن القتال للتحرر والإستقلال لم يكن أصلاً في عقول الناس عندما أعلنوا الثورة على حكومة الملك جورج الثالث بصورة أوبأخرى ثم إن الثلاث عشرة مستعمرة على الجانب البعيد للأطلسي لم تعلن استقلالها حتى كان القتال قد استمر لعام كامل تأرجحت فيه كفتا الميزان بين كسب وخسارة.

لقد كانت ثورة عقائدية دستورية لأن المشكلة الأساسية كانت تدور حول حق حكومة الوطن الأم في إصدار قوانين تفرض الضرائب وتحدد التجارة وتجيش الجيوش للدفاع في صراع استعماري لا ناقة للمستوطنين فيه ولاجمل وتفرض على هؤلاء المستوطنين أن يحتملوا نصيباً كبيراً من نفقات هذه الكتائب التي قالت الحكومة إنها حشدتها للدفاع عن المستوطنين في الوقت التي استخدمت فيه هذه القوات لتنفيذ جباية الضرائب ولحماية من يحبونها مثلما حدث في بوسطن يوم الخامس من مارس عام 1770م أي لفرض حق الحكومة في إصدار هذه القوانين بواسطة مجلس نواب لا تمثّل فيه المستعمرات ولا يعرف أعضائه شيئاً عما يحدث في الجانب الآخر من المحيط الفسيح . والثورة في الواقع قد بدأت قبل سنوات في يوم إطلاق الجنود الإنجليز النار على جنود الميليشيا الأمريكان في لكسنجتون يوم 19 من أبريل عام 1775م ,كانت بريطانيا على ما يقول ( إدموند بيرك ) تنفذ سياسة اهمال ناجح مفيدSalutary Neglect ولو كانت هذه السياسة قد استمرت لكانت المستعمرات قد استقلت مع الزمن كما حدث مع باقي دول الكومنولث البريطاني ولكن بريطانيا سرعان مانسيت هذه السياسة وأنهت هذا الإهمال أو الإغفال وقد بدأت عمليات طابعها الإستقلال ووصلت الأزمة الإقتصادية إلى ذروتها في ضوء هذه السلسلة المتتالية من القوانين:

  1. . قانون سنة 1763 م بإعداد 17 آلاياً من الجنود في أمريكا الشمالية .
  2. . قانون السابع من أكتوبر سنة 1763م باعتبار الهنود ملاكاً للأرض التي يشغلونها ومنع المستوطنين من التحرك باتجاه الغرب إلى ما وراء جبال أليجني Allegheny في وادي المسيسيبي .
  3. . قانون سنة 1764م لمنع المجالس الأمريكية من إصدار العملة الورقية Paper Money .
  4. . قانون السّكر باضافة ضربية مقدارها ثلاثة بنسات على كل جالون من العسل الأسود Molasses المستورد من جزر الهند الغربية .
  5. . قانون الإسكان Quartering لسنة 1765م بالزام المستوطنين بإمداد الجند الإنكليز Red Coats بالمساكن والتموين .
  6. . قانون التمغة في ربيع سنة 1765م وفرض رسوم على الصحف وورق اللعب واجازات الكليات وما إليها من الأوراق القانونية .

وقد لايكون من محل هنا لأن نتعقب هذه القوانين ونتتبعها ولكن الذي يعنينا أن المستوطنين تحت زعامة ( باتريك هنري ) اعتبروا كل ما أصدرته وزارتا ( بوت وجرينفيل ) من ضرائب عملاً غير دستورياً ورفضوا تسديد هذه الضرائب وهاجمت الجماهير باعة طوابع التمغة وأرغموهم على الإستقالة بعد أن ملؤوا الجدران بملصقات للدعاية ضد هذه الضريبة ولم يبع من طوابع التمغة هذه غير أقل القليل في ولاية جورحيا وكتب الثوار تحذيراً ضد طوابع التمغة كان يلصق على الجدران .

أيها المواطنين : إن أول رجل يوزع أو يستخدم طوابع التمغة ,فليحترس على منزله وشخصه وممتلكاته. والواقع أن وزارة واطسون هينتوورث قد ألغت بمعاونة وليم بت قانون التمغة ولكن كل السياسيين البريطانيين –عدا بت وقلة من أنصاره – رفضوا وجهة نظر المستوطنين وأصدر مجلس العموم البريطاني قراراً بأن سلطاته تمتد إلى أمريكا فلم يغير إلغاء القانون شيئاً لأن المشكلة الأساسية كانت لا تزال قائمة .

وفي الخامس من مارس سنة 1770م أطلق النقيب توماس بريستون وجنوده النار على الجماهير التي وقفت خارج مبنى قوميسيري الضرائب في مدينة بوسطن منددين بها ( في الوقت الذي كان البرلمان في حكومة لندن قد ألغى كل أنواع الضرائب ما عدا ضريبة الشاي ) فقتل خمسة وجرح ستة وحوكم الضابط وجنوده ولكنهم برئوا ما عدا جنديين أدينا بجريمة القتل ,وكانت مذبحة بوسطن الشرارة التي أشعلت نيران الحرب بالقتال الذي بدأ في لكسنجتون يوم 19 أبريل سنة 1775م . لطالما أسيء التعبير عن البوادر وأغراض الرئيسية لما عرف بالثورة الأمريكية أو حرب الإستقلال الأمريكية ولقد كتب ( جون آدامز ) الرئيس الثاني لجمهورية الولايات المتحدة الأمريكية ذات مرة :

لقد قامت الثورة قبل أن تبدأ الحرب, كانت الثورة في قلوب وعقول الناس وهذا القول ولو أنه كثير ما ذكر واستشهد به إلا أنه كثيراً ما أسيء فهمه وفسر ليعني أن كل الأمريكان بكل ما توارثوه سيشجعون أي قتال من أجل الحرية والواقع أن الغالبية من الأباء الآولين لم تكن تتوفر لهم مثل هذه الفكرة و الحقيقة أنهم قاتلوا لسنة كاملة دون إعلان الإستقلال ودون رغبة عامة في الثورة .

لقد بدأ كل شيء قبل مائة وسبعين سنة على من إنطلاق أول رصاصة في الثورة بدأ مع إقامة المستعمرات نفسها كان أغلب الذين جاؤوا أمريكا من أوروبا قد نزلوها فارين ليتجنبوا نوعاً من الإضطهاد الديني أو السياسي أو الإقتصادي وكان الإضطهاد في أوروبا في ذلك الوقت البعيد عنيفاً قاسياً ثم إن تصور الغرض من إقامة مستعمرة وتصور حقوق المستعمرين أنفسهم كان مثار عدة طوابع مختلفة من التصور ,متباينة بدرجة كبيرة عن الأغراض من المستعمرات وحقوق المستعمرين وعلى سبيل المثال فإن أنجلترا لم تتقاضى ضرائب من كندا وأوستراليا وغيرهما من دول الكومنولث البريطاني بل إن الضرائب في تلك البلاد كانت تصدر قوانينها عن المجالس النيابية والجمعيات العامة والمجالس المختلفة في تلك البلاد .

ولقد نشأت أول مستعمرة بريطانية ناجحة في جيمس تاون بفرجينيا سنة 1607م ثم جاء الحجاج والطهريون Puritans إلى ماساشوستس وأنشئت مستعمرات أخرى بواسطة أناس من جنسيات مختلفة ولكنها سرعان ما وضعت تحت السيطرة البريطانية ولم تنشأ جورجيا آخر الثلاث عشرة مستعمرة أصلية حتى سنة 1733م ولكن في أثناء هذا كانت المستعمرات الأولى قد زادت سكاناً واتسعت رقعة الأرض التي يستغلها المستوطنون وفي هذه السنوات والسنوات التي تلتها ترك المستوطنون يطورون أرائهم في الحكم الذاتي بأسلوبهم الذي ارتضوه ,فقد كانت بريطانيا قليلة التدخل في شؤون المستعمرات وكان البرلمان يصدر بأمر الحكومة وتوجيهها القوانين الخاصة بالضرائب دون أن يرغم الناس على تنفيذها .

كان هذا الإغفال يرجع في الواقع من ناحية إلى الجهل بحقيقة وإمكانيات الموارد المتوفرة في أمريكا كما كان يرجع من ناحية أخرى إلى بعد المسافة وما يتطلبه الإتصال من وقت طويل .فقد كانت السفن تعبر المحيط من أنجلترا في أكثر من شهر هذا فضلاً عن أن بريطانيا كانت طوال هذه السنوات منغمرة حتى ذؤابتها في نزاع مع الأمم الأخرى وبخاصة فرنسا من أجل السيادة على امريكا الشمالية ولقد قامت بينهما أربعة حروب في أمريكا الشمالية :

  1. . حرب الملك وليم ( 1689م – 1697م )
  2. . حرب الملكة آن ( 1702م – 1713م )
  3. . حرب الملك جورج ( 1744م-1748م )
  4. . الحرب ضد فرنسا والهنود ( 1754م-1763م )

وقد قدم المستوطنون نصيبهم من الرجال في هذه الحروب ولم تظهر بادرة للعصيان وعدم الولاء برغم انتشار البرم و الضجر بسبب ما كان الجنود الأنجليز يظهرونه من استخفاف وازدراء نحو حلفائهم من جنود الميليشيا الأمريكية الذي أعدتهم أمريكا وكذلك بسبب تعاظم وعجرفة الضباط الأنجليز وبسبب فرض اسكان الوحدات الأنجليزية على عاتق سكان المستعمرات ولكن مع هذا لم يحدث أي صدع وبقيت المستعمرات تسير حياتها كما شاءت وكان مظهر الإرتباط الوحيد ببريطانيا هم أولئك الحكام التي تعينهم بريطانيا إلا أنهم كانوا يعتمدون على نواب المستعمرات في تقرير مرتباتهم ودفعها لهم .

وكانت النتيجة أنه في الجو الأكثر تحرراً للحياة في أمريكا البعيدة عن الوطن الأم أوجد المستوطنون نظاماً للحكم الذاتي ومارسوا الإبتكار في تنظيم شؤونهم وصياغة حضارتهم الخاصة بهم وصار المستوطنون أكثر اعتماداً على أنفسهم مما كانوا في العالم القديم ونما على هذا الجانب من الأطلسي شعب جديد أناس كانوا برغم ولائهم للتاج البريطاني يضعون تفسيرهم الذاتي للدستور البريطاني وفضلاً عن هذا فإن تفكير الناس كان يتغير تدريجياً على مر السنين إلى حد أن الملك جورج الثالث ووزرائه الذين لم تكن لهم مصلحة في المستعمرات ولا يعنون بأمرها ,لم يحذروا هذا الذي يحدث ,كانت المشكلة الأوروبية التي تزداد ضغوطها أكثر أهمية في تقدريهم من الإتجاه الفكري للمستوطنين في أمريكا البعيدة.

فلما انتهت الحرب ضد الفرنسيين والهنود وكانت نفقاتها جسيمة هائلة بدأ الملك جورج الثالث ووزرائه يتلفتون من حولهم باحثين عن طرق ووسائل يمكن منها الحصول على المال لسداد الدين العام الكبير ولم يتطلب الأمر وقتاً طويلاً ليكتشفوا أن المستعمرات الأمريكية يمكن أن تكون مورداً للدخل لميزانية الدولة . وكانت الخطوة الأولى القرار الذي يلزم بتنفيذ قوانين الملاحة وهي قوانين كانت في ملفات التشريعات لمائة عام دون أن تنفذ كان الجميع يتجنبون بوسيلة أو أخرى هذا التنفيذ وكان القصد منها ارغام المستوردين على ألا يصدّروا بضاعتهم إلا على سفن إنجليزية يعمل عليها بحارة إنجليز كما تمنع تصدير هذه البضائع لغير الموانئ الإنجليزية فهي كما بدا كانت تتماشى مع الفكرة الأوروبية عن الغرض من إنشاء المستعمرات . وجاء القرار صدمة للمستوطنين الذين أحسوا بالحيرة والحنق وكان رد الفعل من جانبهم مدهشاً للملك جورج الثالث ووزرائه الذين لم يكن باستطاعتهم أن يروا سبباً للإعتراض على ما ظنوه الإجراء الحكومي العادي .

وجاء بعد ذلك في سنة 1765م قانون التمغة الذي سرعان ما نقض وألغي ولكنه مع هذا زاد حنق المستوطنين إبان المدة القصيرة التي بقي القانون قائماً طوالها صالحاً للتنفيذ ,كما سبب ارتفاع صيحات يندد أصحابها بمبدأ فرض ضرائب على المستعمرين دون أن ن يكونوا ممثلين في البرلمان الإنجليزي. وفي السنوات التالية أصدر البرلمان البريطاني قوانين أخرى قاومها المستعمرون وإن لم تكن هذه القوانين في الواقع عبئاً فقد كانت الحكومة البريطانية تعتبرها عملاً طبيعياً على أساس أن إنشاء المستعمرات قد استهدف زيادة أهمية الوطن الأم والإمداد بدخل لأولئك الذين مولوا المشروع من البداية وللمعاونة في سداد قروض واجبة السداد مثل نفقات الحرب الأخيرة ضد الفرنسيين والهنود .

وحدث إبان هذه السنوات عدة حوادث عاونت على إبقاء الحكومة الإنجليزية والمستعمرين ثائرين حانقين وكان اهم هذه الحوادث مذبحة بوسطن سنة 1770م التي قتل فيها ثلاثة من المدنيين وجرح اثنان جراحاً أفضت إلى الموت ( بحسب دائرة المعارف الأمريكية عدد القتلى خمسة و الجرحى ستة ) وكذلك كانت الحركة ضد قوانين الشاي في بوسطن سنة 1773م وكانت نتيجة هذه الحركة أن أصدر البرلمان البريطاني ( قوانين عدم التسامح ) كان من بينها غلق ميناء بوسطن . وعندما بدأ تنفيذ قانون غلق ميناء بوسطن عند ظهيرة يوم أول يونيو سنة 1774م ,كان لدى الجنرال توماس جيج الحاكم العسكري أقل من ألفي جندي تحت قيادته وزادت قوته ببطء في الأشهر القليلة التالية ولكنها كانت زيادة تطرد باستمرار حتى أضحى تحت إمرته في فجر سنة 1775م أربعة آلاف جندي من الجيش البريطاني بالإضافة إلى أربعمائة وخمسين بحار في السفن التي في الميناء وفي أبريل وصلت تعزيزات قليلة ولكن مع هذا لم تتجاوز جملة قواته خمسة آلاف جندي ولم يكن في ماساشوستس لمقاومة هذا الجيش الكبير غير وحدات الميليشيا التي هي من الناحية الفنية كل القوات المقاتلة للمسـتعمرات ولكن كان جزء أساسي وجوهري منها من المواليين للحكومة Loyalists ( وهم المستوطنون في المستعمرات الأمريكية الذين كانوا مواليين للحكومة البريطانية إبان الثورة – وبستر )

وقدّر أهالي وستر Worcester امكانية استقالة كل ضباط وحدات الميليشيا فاختير ضباط جدد لتشكيل وحدات جديدة وهنا خطرت لأول مرة فكرة إعداد متطوعين يكونون على استعداد للقتال بعد انذارهم بدقيقة واحدة ( رجال اللحظة Minute Men ) وعين ثلث عدد الجنود ليعملوا في مواجهة أي طارئ بعد دقيقة واحدة من اصدار الإنذار وانتشرت الفكرة وطبقها المجلس الإقليمي لماساشوستس في أوكتوبر سنة 1774م ومن الطبيعي أن يتطلب تنظيم القوات بعض الوقت ولهذا فإنه عندما بدأت الحرب كانت بعض القوات لم تتشكل بعد.

ومن الصعب أن نذكر على التحقيق كم كان عدد جنود الميليشيا وكم كان عدد أولئك الذين يهبون إلى العمل بعد دقيقة واحدة من إنذارهم في أبريل سنة 1775م ومن الممكن ان نصل إلى تقدير ما من ملاحظة أنه بعد بدء العمليات العدائية جندت ماساشوستس قوة من 13600 جندي وأغفلت فكرة إعداد الرجال الذين يتأهبون بعد دقيقة واحدة وهكذا كان هذا التنظيم قصير الأجل ولم يخدم بعض الرجال أكثر من أيام قلائل ولكن أثبت كل هؤلاء المتطوعون غير المدربين الذين نظموا على عجل والذين كانوا يحملون كل ما أمكن الحصول عليه من أسلحة قديمة أثبتوا قيمتهم في لكسنجتون وفي كونكورد ولا محل هنا للتساؤل عن قدرة خمسة آلاف جندي بريطاني من الجنود العاملين النظاميين على هزيمة ثلاث أضعاف عددهم من الميليشيا في ميدان القتال حتى ولو كان بعض المستعمرين قد شهدوا القتال في الحرب ضد الفرنسيين و الهنود ,ومن الممكن أن يعتبروا من الجنود الذين يعتد بهم ويعتمد عليهم ولكن كان هذا ولا شك إسرافاً في تبسيط المشكلة التي تواجه الإنجليز فلو ثارت ماساشوستس فستثور جاراتها أيضاً وفي نفس الوقت إذا كان مجلس ماساشوستس قد طالب بتجنيد 13600 جندي فإنه قد احتفظ بأن يطلب من باقي مستعمرات نيوإنجلاند 16400 جندي أي تكون الجملة 30000 جندي في نيو إنجلاند وحدها.

وكان جملة سكان الثلاث عشرة مستعمرة تقرب من 2500000 مقابل تسعة ملايين يسكنون الجزر البريطانية ولكن كان على بريطانبا أن تقدم الحاميات العسكرية لأجزاء كثيرة متباعدة من امبراطوريتها من الهند إلى إفريقيا إلى جبل طارق ثم أنها كانت يوم ذاك على استعداد دائم لمقابلة عدوتيها فرنسا وإسبانيا التي كان يسرهما أن تسوقاها إلى ميدان القتال فور قيام فرصة كهذه وأضف إلى هذا أنها كان يجب أن تقوم بالكثير لضمان ألا تنجح الثورة في جزء كبير من الإمبراطورية كالمستعمرات الأمريكية ومع أنه كان من الواضح استحالة أن يستطيع الجنرال جيج بخمسة آلاف جندي فقط أن يفرض رغبات الحكومة البريطانية على الثلاث عشرة مستعمرة التي تمتد على أكثر من ألف ميل على طول الساحل الشرقي فإنه كان من المؤكد أيضاً أن التعزيزات سترسل إليه وبهذه التعزيزات سيستطيع جيشه ولا شك الصمود في ميدان القتال وهزيمة أي قوة يمكن أن تعبأ ضده وبدا هذا صحيحاً بخاصة إذا لم تكن هناك أية وسيلة لإعداد قوات المستعمرات إعداداً صحيحاً ثم إنه لم يكن يتوافر الوقت لتدريب هذه القوات,بالإضافة إلى هذا بل وربما كان الأكثر أهمية هو أن الأسطول الملكي البريطاني وإن لم يكن في أحسن حال ( بسبب سياسة الإهمال للقوات المسلحة الأمر الذي كان يحدث عادة للشعوب التي تتكلم الإنجليزية في الفترات بين الحروب ) إلا أنه كان قوة يعتد بها ومع أنه لم يكن من الممكن أن يستخدم الأسطول بكل قوته ضد أمريكا مادام هناك احتمال تدخل فرنسا وإسبانيا فإن أي قوة تستخدم ستمكن من السيطرة التامة على البحر ثم إن المستعمرين لم يكن لديهم أسطول يقاتلون فيه في البحر الفسيح, وهكذا كان من الممكن نقل الجيش البريطاني وانزال جنوده على الساحل الشرقي والقيام بعمليات حربية من الداخل وسيتطلب وصول القافلة من الوطن الأم ولا شك بضعة أشهر إلا أن هذه الحقيقة يمكن أن توازن مع حال الطرق في المستعمرات فهي قليلة ثم أنها متباعدة وحالها سيئة وسيواجه أي جيش يمكن للمستعمرين ان يحشدوه للدفاع عن سواحلها وقتاً عصبياً ليس فقط من ناحية تقدير أين يمكن ان تسقط الضربة بل وأيضاً في الإحتشاد في النقطة المناسبة لمواجهة هذا الهجوم وهكذا فبالرغم من أن جيش الجنرال جيج لم يكن كافياً فقد كان من الممكن زيادته إلى الحجم الضروري خلال أشهر قليلة إذا اقتضت الضرورة بهذا ويبدو أن الجنرال جيج قد أمل ألا تشتعل الحرب بالإضافة إلى أنه كان عطوفاًعلى المستطونين وإن كان الكثيرون ( وبخاصة أولئك الذين كانوا يعيشون في بوسطن ) لايصدقون هذا.

فالجنرال جيج كان قد وصل إلى أمريكا قبل سنوات طوال وخدم في الحرب ضد الفرنسيين والهنود وأسهم في كارثة حملة برادوك ( إدوارد برادوك 1695م-1755م قائد القوات البريطانية في الحرب الفرنسية الهندية ) , كما اشترك في القتال في معارك وحملات أخرى ثم إنه كان متزوجاً من فتاة أمريكية سليلة إحدى أسر نيوجرسي الكبيرة وكان صديقاً شخصياً لكثير من زعماء المستعمرات كما كان يمتلك ارضاً في نيويورك , وكان جيج يعرف من سابق تجربته ( كما لابد أن يكون كثيرون من الضباط الإنجليز قد أخبروه ) أن الإستيلاء على واحدة من مدن أمريكا الكبرى لن يكون نهاية الحملة فإن قوة أمريكا لا تكمن في مدنها الصناعية الكبرى والتي لم يكن منها شيء يومذاك بل كانت القوة في المزارع وعلى طول الحدودوكانت اعظم مشكلة تواجه زعماء المستوطنين هي كيف يمكن أن يحصلوا وبأي كمية على المدافع وذخيرتها مما لا يمكن ان يصنعوه لأنفسهم على انه بالإضافة إلى نفص الطاقة الصناعية فلم يكن هناك أي استقرار اقتصادي والحقيقة أن المستوطنين الذين قادوا هذه الثورة قد بدؤوا وعلى ما يظهر بوضوح من لا شيء .

لقد كان زعماء المستوطنين على دراية بهذه الحقائق وفضلاً عن هذا فإنه كان من الصعب جعل الثلاث عشرة مستعمرة تعمل كلها معاً فلم تكن المستعمرات منفصلة عن بعضها البعض بأميال كثيرة فحسب بل اقترن هذا بسوء حالة الطرق وقلة تسهيلات النقل وكانت المستعمرات تزخر بمختلف انواع البشر من المهاجرين إلى المتدينين البوريتان الذين فروا إلى نيوإنجلاند ليعبدوا الله على طريقتهم الخاصة والهولنديين والسويسريين والفرسان الهوجنوت والفرسان الكويكرز والكاثوليك والباحثين عن الثروة والكسب والمعتقلين في السجون لعدم سداد ما عليهم من ديون وكان سكان نيويورك وبنسلفانيا لا يثقون باليانكي سكان نيوإنجلاند الذين كانوا بدورهم يشكون من سكان الجنوب من ماريلاند و ديلاوير وغيرهما من المستعمرات الجنوبية وكان هؤلاء يكرهون اليانكي وكانوا ينظرون إليهم بقدر كبير من الإستخفاف والإزدراء.

ومع مثل هذا الخليط من الناس لم يكن ليتوفر إجماع على رأي حتى ولا بعد أن بدأ إطلاق النيران ولم تكن الغالبية في البداية تعمل للإستقلال . وكان الناس ببساطة يريدون أن يمنحوا الحقوق التي ظنوا أن الرعايا الإنجليز يجب أن يتمتعوا بها وكان أهم هذه الحقوق هو ان يحكموا أنفسهم حكماً ذاتياً عن طريق مجالسهم النيابية التي يتخيرون أعضائها بصورة أو بأخرى . وكان من الصعب أن يفهم الملك جورج الثالث ووزرائه هذا الأمر إذ أن سكان إنجلترا أنفسهم لم تكن لديهم حكومة برلمانية بالمعنى الصحيح ومع هذا فإن الكثيرين من الأحرار أعضاء الحزب الراديكالي الذين كانوا يعارضون حكومة المحافظين التي كانت تتولى الحكم يومذاك قد تبينوا أن الأمريكان يقاتلون من أجل المبادئ التي يكافحون هم من أجلها في بريطانيا وكنتيجة لهذا عضدوا وجهة نظر الأمريكان في برلمانهم ومن ثم يمكن أن يعتبر نجاح الثورة الأمريكية جزءاً من المعركة الطويلة التي خاضها الرجل الإنجليزي من أجل حريته مع أن الإصلاحات التي جعلت البرلمان هيئة تمثيلية كاملة لم يتحقق وجودها حتى القرن التاسع عشر .

لقد كان نقص الحماس في بريطانيا عاملاً هاماً من الناحية العسكرية وذلك لأن عدداً كبيراً من ضباط الجيش الإنجليزي قد استقالوا بدلاً من أن يقاتلوا الأمريكان وكان ذلك عاملاً أدى إلى استئجار محاربين مأجورين من الألمان للمعاونة على كبح جماح الثورة وقد أغاظ استخدام الأجانب كل المستوطنين وعجل من اقرار ( اعلان الإستقلال )وكان من الطبيعي مع هذا الإنقسام العاطفي في إنجلترا أن نجد درجات مختلفة من حدة المشاعر وقوتها في أمريكا فقد كان في بعض المستعمرات عدداً كبيراً من الناس الذين يدينون بالولاء للملك بأكثر مما في مستعمرات أخرى وكان بين هؤلاء كثيرون من المدنيين ذوي النفوذ ومن كبار رجال الأعمال ولقد قدر أن نصف الناس فقط كانوا يقفون موقفاً إيجابياً من الحرب وكان الباقون إما قليلي الإهتمام غير مكترثين لامع هؤلاء أو أولئك وإما أنهم قاتلوا بدرجة لها أثرها في جانب الإنجليز . لا تشذ الثورة الأمريكية عن غيرها من الثورات في القاعدة العامة إن الناس في أي بلد تخوض غمار الثورة ينقسمون في عواطفهم وينتهي هذا إلى أن يقاتلوا بعضهم بعضاً فإذا ما حدث هذا كانت المعارك في الغالبية وحشية وكانت نزاعاً مريراً قاسياً .