الجزء الثاني
الجزء الثاني باب في ترك الأخذ عن أهل المدر كما أخذ عن أهل الوبر
علّة امتناع ذلك ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد والخطل. ولو علم أن أهل مدينة باقون على فصاحتهم ولم يعترض شيء من الفساد للغتهم لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر. وكذلك أيضاً لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها وانتقاض عادة الفصاحة وانتشارها لوجب رفض لغتها وترك تلقي ما يرد عنها. وعلى ذلك العمل في وقتنا هذا لأنا لا نكاد نرى بدوياً فصيحا. وإن نحن آنسنا منه فصاحة في كلامه لم نكد نعدم ما يفسد ذلك ويقدح فيه وينال ويغض منه. وقد كان طرأ علينا أحد من يدعي الفصاحة البدوية ويتباعد عن الضعفة الحضرية فتلقينا أكثر كلامه بالقبول له وميزناه تمييزاً حسن في النفوس موقعه إلى أن أنشدني يوماً شعرا لنفسه يقول في بعض قوافيه: أشئؤها وادأؤها بوزن أشععها وأدععها فجمع بين الهمزتين كما ترى واستأنف من ذلك ما لا أصل له ولا قياس يسوغه. نعم وأبدل إلى الهمز حرفا لا حظ في الهمز له بضد ما يجب لأنه لو التقت همزتان عن وجوب صنعة للزم تغيير إحداهما فكيف أن يقلب إلى الهمز قلباً ساذجاً عن غير صنعة ما لا حظ له في الهمز ثم يحقق الهمزتين جميعاً! هذا ما لا يتيحه قياس ولا ورد بمثله سماع. فإن قلت: فقد جاء عنهم خطائئ ورزائئ ودريئة ودرائئ ولفيئة ولفائئ وأنشدوا قوله: فإنك لا تدري متى الموت جائئ إليك ولا ما يحدث الله في غد قيل: أجل قد جاء هذا لكن الهمز الذي فيه عرض عن صحة صنعة ألا ترى أن عين فاعل مما هي فيه حرف علة لا تأتي إلا مهموزة نحو قائم وبائع فاجتمعت همزة فاعل وهمزة لامه فصححها بعضهم في بعض الاستعمال. وكذلك خطائئ وبابها: عرضت همزة فعائل عن وجوب كهمزة سفائن ورسائل واللام مهموزة فصحت في بعض الأحوال بعد وجوب اجتماع الهمزتين. فأما أشئؤها وأدأؤها فليست الهمزتان فيهما بأصلين. وكيف تكونان أصلين وليس لنا أصل عينه ولامه همزتان ولا كلاهما أيضاً عن وجوب. فالناطق بذلك بصورة من جر الفاعل أو رفع المضاف إليه في أنه لا أصل يسوغه ولا قياس يحتمله ولا سماع ورد به. وما كانت هذه سبيله وجب اطراحه والتوقف عن لغة من أورده. وأنشدني أيضاً شعراً لنفسه يقول فيه: كأن فاي. . . فقوى في نفسي بذلك بعده عن الفصاحة وضعفه عن القياس الذي ركبه. وذلك أن ياء المتكلم تكسر أبداً ما قبلها. ونظير كسرة الصحيح كون هذه الأسماء الستة بالياء نحو مررت بأخيك وفيك. فكان قياسه أن يقول كأن في بالياء كما يقول كأن غلامي. ومثله سواء ما حكاه صاحب الكتاب من قولهم: كسرت في ولم يقل فاي وقد قال الله سبحانه: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ} ولم يقل: إن أباي. وكيف يجوز إن أباي بالألف وأنت لا تقول: إن غلامي قائم وإنما تقول: كأن غلامي بالكسر. فكذلك تقول كأن في بالياء. وهذا واضح. ولكن هذا الإنسان حمل بضعف قياسه قوله كأن فاي على قوله: كأن فاه وكأن فاك وأنسى ما توجبه ياء المتكلم: من كسر ما قبلها وجعله ياء. فإن قلت: فكان يجب على هذا أن تقول: هذان غلامى فتبدل ألف التثنية ياء لأنك تقول هذا غلامي فتكسر الميم قيل هذا قياس لعمري غير أنه عارضه قياس أقوى منه فترك إليه. وذلك أن التثنية ضرب من الكلام قائم برأسه مخالف للواحد والجميع ألا تراك تقول: هذا وهؤلاء فتبني فيهما فإذا صرت إلى التثنية جاء مجيء المعرب فقلت: هذان وهذين. وعلى أن هذا الرجل الذي أومأت إليه من أمثل من رأيناه ممن رأيناه ممن جاءنا مجئه وتحلى عندنا حليته. فأما ما تحت ذلك من مرذول أقوال هذه الطوائف فأصغر حجماً وأنزل قدراً أن يحكى في جملة ما يثنى. ومع هذا فإذا كانوا قد رووا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يلحن في كلامه فقال: ( أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل ) ورووا أيضاً أن أحد ولاة عمر رضي الله تعالى عنه كتب إليه كتاباً لحن فيه فكتب إليه عمر: أن قنع كاتبك سوطاً وروى من حديث علي رضي الله عنه مع الأعرابي الذي أقرأه المقرئ: {أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} حتى قال الأعرابي: برئت من رسول الله فأنكر ذلك علي عليه السلام ورسم لأبي الأسود من عمل النحو ما رسمه: مالا يجهل موضعه فكان ما يروى من أغلاط الناس منذ ذاك إلى أن شاع واستمر فساد هذا الشأن مشهوراً ظاهراً فينبغي أن يستوحش من الأخذ عن كل أحد إلا أن تقوى لغته وتشيع فصاحته. وقد قال الفراء في بعض كلامه: إلا أن تسمع شيئاً من بدوي فصيح فتقوله. وسمعت الشجري أبا عبد الله غير دفعة يفتح الحرف الحقي في نحو يعدو وهو محموم ولم أسمعها من غيره من عقيل فقد كان يرد علينا منهم من يؤنس به ولا يبعد عن الأخذ بلغته. وما أظن الشجري إلا استهواه كثرة ما جاء عنهم من تحريك الحرف الحلقي بالفتح إذا انفتح ما قبله في له نعل لا تطبي الكلب ريحها وإن جعلت وسط المجالس شمت وقول أبي النجم: وجبلا طال معدا فاشمخر أشم لا يسطيعه الناس الدهر وهذا قد قاسه الكوفيون وإن كنا نحن لا نراه قياساً لكن مثل يعدو وهو محموم لم يرو عنهم فيما علمت. فإياك أن تخلد إلى كل ما تسمعه بل تأمل حال مورده وكيف موقعه من الفصاحة فاحكم عليه وله.
باب اختلاف اللغات وكلها حجة
اعلم أن سعة القياس تبيح لهم ذلك ولا تحظره عليهم ألا ترى أن لغة التميميين في ترك إعمال ما يقبلها القياس ولغة الحجازيين في إعمالها كذلك لأن لكل واحد من القومين ضرباً من القياس يؤخذ به ويخلد إلى مثله. وليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها لأنها ليست أحق بذلك من رسيلتها. لكن غاية مالك في ذلك أن تتخير إحداهما فتقويها على أختها وتعتقد أن أقوى القياسين أقبل لها وأشد أنسابها. فأما رد إحداهما بالأخرى فلا. أولا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( نزل القرآن بسبع لغات كلها كاف شاف ). هذا حكم اللغتين إذا كانتا في الاستعمال والقياس متدانيتين متراسلتين أو كالمتراسلتين. فأما أن تقل إحداهما جدا وتكثر الأخرى جدا فإنك تأخذ بأوسعهما رواية وأقواهما قياسا ألا تراك لا تقول: مررت بك ولا المال لك قياساً على قول قضاعة: المال له ومررت به ولا تقول أكرمتكش ولا أكرمتكس قياساً على لغة من قال: مررت بكش وعجبت منكس. حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال: ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم وكشكشة ربيعة وكسكسة هوازن وتضجع قيس وعجرفية ضبة وتلتلة بهراء. فأما عنعنة تميم فإن تميماً تقول في موضع أن: عن تقول: عن عبد الله قائم وأنشد ذو الرمة عبد الملك: أعن ترسمت من خرقاء منزلة قال الأصمعي: سمعت ابن هرمة ينشد هارون الرشيد: أعن تغنت على ساق مطوقة ورقاء تدعو هديلا فوق أعواد وأما تلتلة بهراء فإنهم يقولون: تِعلمون وتِفعلون وتِصنعون بكسر أوائل الحروف. وأما كشكشة ربيعة فإنما يريد قولها مع كاف ضمير المؤنث: إنكش ورأيتكش وأعطيتكش تفعل هذا في الوقف فإذا وصلت أسقطت الشين. وأما كسكسة هوازن فقولهم أيضاً: أعطيتكس ومنكس وعنكس. وهذا في الوقف دون الوصل. فإذا كان الأمر في اللغة المعول عليها هكذا وعلى هذا فيجب أن يقل استعمالها وأن يتخير ما هو أقوى وأشيع منها إلا أن إنسانا لو استعملها لم يكن مخطئا لكلام العرب لكنه كان يكون مخطئاً لأجود اللغتين. فأما إن احتاج إلى ذلك في شعر أو سجع فإنه مقبول منه غير منعي عليه. وكذلك إن قال: يقول علي قياس من لغته كذا كذا ويقول على مذهب من قال كذا كذا. وكيف تصرفت الحال فالناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ وإن كان غير ما جاء به خيراً منه.
باب في العربي الفصيح ينتقل لسانه
اعلم أن المعمول عليه في نحو هذا أن تنظر حال ما انتقل إليه لسانه. فإن كان إنما انتقل من لغته إلى لغة أخرى مثلها فصيحة وجب أن يؤخذ بلغته التي انتقل إليها كما يؤخذ بها قبل انتقال لسانه إليها حتى كأنه إنما حضر غائب من أهل اللغة التي صار إليها أو نطق ساكت من أهلها. فإن كانت اللغة التي انتقل لسانه إليها فاسدة لم يؤخذ بها ويؤخذ بالأولى حتى كأنه لم يزل من أهلها. وهذا واضح. فإن قلت: فما يؤمنك أن تكون كما وجدت في لغته فساداً بعد أن لم يكن فيها فيما علمت أن يكون فيها فساد آخر فيما لم تعلمه. فإن أخذت به كنت آخذا بفاسد عروض ما حدث فيها من الفساد فيما علمت قيل هذا يوحشك من كل لغة صحيحة لأنه يتوجه منه أن تتوقف عن الأخذ بها مخافة أن يكون فيها زيغ حادث لا تعلمه الآن ويجوز أن تعلمه بعد زمان كما علمت من حال غيرها فساداً حادثاً لم يكن فيما قبل فيها. وإن اتجه هذا انخرط عليك منه ألا تطيب نفساً بلغة وإن كانت فصيحة مستحكمة. فإذا كان أخذك بهذا مؤدياً إلى هذا رفضته ولم تأخذ به وعملت على تلقي كل لغة قوية معربة بقبولها واعتقاد صحتها. وألا توجه ظنة إليها ولا تسوء رأيا في المشهود تظاهره من اعتدال أمرها. وذلك كما يحكى من أن أبا عمرو استضعف فصاحة أبي خيرة لما سأله فقال: كيف تقول استأصل الله عرقاتهم ففتح أبو خيرة التاء فقال له أبو عمرو: هيهات أبا خيرة لأن جلدك! فليس لأحد أن يقول: كما فسدت لغته في هذا ينبغي أن أتوقف عنها في غيره لما حذرناه قبل ووصفنا. فهذا هو القياس وعليه يجب أن يكون العمل.
باب في العربي يسمع لغة غيره أيراعيها ويعتمدها ام يلغيها ويطرح حكمها
أخبرنا أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس عن أبي عثمان عن أبي زيد قال: سألت خليلاً عن الذين قالوا: مررت بأخواك وضربت أخواك فقال: هؤلاء قولهم على قياس الذين قالوا في ييأس: ياءس أبدلوا الياء لانفتاح ما قبلها. قال يعني الخليل: ومثله قول العرب من أهل الحجاز: يا تزن وهم ياتعدون فروا من يوتزن ويوتعدون. فقوله: أبدلوا الياء لانفتاح ما قبلها يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون يريد: أبدلوا الياء في ييأس والآخر: أبدلوا الياء في أخويك ألفاً. وكلاهما يحتمله القياس ههنا ألا ترى أنه يجوز أن يريد أنهم أبدلوا ياء أخويك في لغة غيرهم ممن يقولها بالياء وهم أكثر العرب فجعلوا مكانها ألفا في لغتهم استخفافاً للألف فأما في لغتهم هم فلا. وذلك أنهم هم لم ينطقوا قط بالياء في لغتهم فيبدلوها ألفاً ولا غيرها. ويؤكد ذلك عندك أن أكثر العرب يجعلونها في النصب والجرياء. فلما كان الأكثر هذا شاع على أسماع بلحرث فراعوه وصنعوا لغتهم فيه ولم تكن الياء في التثنية شاذة ولا دخيلة في كلام العرب فيقل الحفل بها ولا ينسب بلحرث إلى راعوها أو تخيروا للغتهم عليها. فإن قلت: فلعل الخليل يريد أن من قال: مررت بأخواك قد كان مرة يقول: مررت بأخويك كالجماعة ثم رأى فيما بعد أن قلب هذه الياء ألفاً للخفة أسهل عليه وأخف كما قد تجد العربي ينتقل لسانه من لغته إلى لغة أخرى قيل: إن الخليل إنما أخرج كلامه على ذلك مخرج التعليل للغة من نطق بالألف في موضع جر التثنية ونصبها لا على الانتقال من لغة إلى أخرى. وإذا كان قولهم: مررت بأخواك معللاً عندهم بالقياس فكان ينبغي أن يكونوا قد سبقوا إلى ذلك منذ أول أمرهم لأنهم لم يكونوا قبلها على ضعف قياس ثم تداركوا أمرهم فيما بعد فقوي قياسهم. وكيف كانوا يكونون في ذلك على ضعف من القياس والجماعة عليه! أفتجمع كافة اللغات على ضعف ونقص حتى ينبغ نابغ منهم فيرد لسانه إلى قوة القياس دونهم! نعم ونحن أيضاً نعلم أن القياس مقتض لصحة لغة الكافة وهي الياء في موضع الجر والنصب ألا ترى أن في ذلك فرقاً بين المرفوع وبينهما وهذا هو القياس في التثنية كما كان موجوداً في الواحد. ويؤكده لك أنا نعتذر لهم من مجيئهم بلفظ المنصوب في التثنية على لفظ المجرور. وكيف يكون القياس أن تجتمع أوجه الإعراب الثلاثة على صورة واحدة! وقد ذكرت هذا الموضع في كتابي في فقد علمت بهذا أن صاحب لغة قد راعى لغة غيره. وذلك لأن العرب وإن كانوا كثيراً منتشرين وخلقاً عظيماً في أرض الله غير متحجرين ولا متضاغطين فإنهم بتجاورهم وتلاقيهم وتزاورهم يجرون مجرى الجماعة في دار واحدة. فبعضهم يلاحظ صاحبه ويراعي أمر لغته كما يراعي ذلك من مهم أمره. فهذا هذا. وإن كان الخليل أراد بقوله: تقلب الياء ألفاً: أي في ييأس فالأمر أيضاً عائد إلى ما قدمنا ألا ترى أنه إذا شبه مررت بأخواك بقولهم: ييأس وياءس فقد راعى أيضاً في مررت بأخواك لغة من قال: مررت بأخويك. فالأمران إذاً صائران إلى موضع واحد. ولهذا نظائر في كلامهم وإنما أضع منه رسماً ليرى به غيره بإذن الله. وأجاز أبو الحسن أن يكون كانت العرب قدماً تقول: مررت بأخويك وأخواك جميعاً إلا أن الياء كانت أقيس للفرق فكثر استعمالها وأقام الآخرون على الألف أو أن يكون الأصل قبله الياء في الجر والنصب ثم قلبت للفتحة فيها ألفاً في لغة بلحرث بن كعب. وهذا تصريح بظاهر قول الخليل الذي قدمناه. ولغتهم عند أبي الحسن أضعف من هذا جحر ضب خرب قال: لأنه قد كثر عنهم الإتباع نحو شد وشروبابه فشبه هذا به. ومن هذا حذف بني تميم ألف ها من قولهم هلم لسكون اللام في لغة أهل الحجاز إذا قالوا المم وإن لم يقل ذلك بنو تميم أو أن يكونوا حذفوا الألف لأن أهل الحجاز حذفوها. وأيا ما كان فقد نظر فيه بنو تميم إلى أهل الحجاز. ومن ذلك قول بعضهم في الوقف رأيت رجلاً بالهمزة. فهذه الهمزة بدل من الألف في الوقف في لغة من وقف بالألف لا في لغته هو لأن من لغته هو أن يقف بالهمزة. أفلا تراه كيف راعى لغة غيره فأبدل من الألف همزة.
باب في الامتناع من تركيب ما يخرج عن السماع
سألت أبا علي رحمه الله فقلت: من أجرى المضمر مجرى المظهر في قوله أعطيتكمه فأسكن الميم مستخفاً كما أسكنها في قوله: أعطيتكم درهما كيف قياس قوله على قول الجماعة: أعطيته درهماً إذا اضمر الدرهم على قول الشاعر: له زجل كأنه صوت حاد إذا طلب الوسيقة أو زمير إذا وقع ذلك قافية فقال: لا يجوز ذلك في هذه المسألة وإن جاز في غيرها لا لشيء يرجع إلى نفس حذف الواو من قوله: كأنه صوت حاد لأن هذا أمر قد شاع عنهم وتعولمت فيه لغتهم بل لقرينة انضمت إليه ليست مع ذلك ألا ترى أنه كان يلزمك على ذلك أن تقول: أعطيتهه خلافاً على قول الجماعة: أعطيتهوه. فإن جعل الهاء الأولى روياً والأخرى وصلا لم يجز ذلك لأن الأولى ضمير والتاء متحركة قبلها وهاء الضمير لا تكون روياً إذا تحرك ما قبلها. فإن قلت: أجعل الثانية رويا فكذلك أيضاً لأن الأولى قبلها متحركة. فإن قلت: أجعل التاء روياً والهاء الأولى وصلا قيل: فما تصنع بالهاء الثانية أتجعلها خروجاً هذا محال لأن الخروج لا يكون إلا أحد الأحرف الثلاثة: الألف والياء والواو. فإذا أداك تركيب هذه المسئلة في القافية إلى هذا الفساد وجب ألا يجوز ذلك أصلاً. فأما في غير القافية فتتابعة جائز. هذا محصول معنى أبي علي فأما نفس لفظه فلا يحضرني الآن حقيقة صورته. وإذا كان كذلك وجب إذا وقع نحو هذا قافية أن تراجع فيه اللغة الكبرى فيقال: أعطيتهوه البتة فتكون الواو ردفاً والهاء بعدها روياً وجاز أن يكون بعد الواو روياً لسكون ما قبلها. ومثل ذلك في الامتناع أن تضمر زيداً من قولك: هذه عصا زيد على قول من قال: وأشرب الماء ما بي نحوه عطشٌ إلا لأن عيونه سيل واديها لأنه كان يلزمك على هذا أن تقول: هذه عصاه فتجمع بين ساكنين في الوصل فحينئذ ما تضطر إلى مراجعة لغة من حرك الهاء في نحو هذا بالضمة وحدها أو بالضمة والواو بعدها فتقول: هذه عصاه فاعلم أو عصا هو فاعلم على قراءة من قرأ خذوهو فغلوهو وفألقى عصاهو ونحوه. ونحو من ذلك أن يقال لك: كيف تضمر زيداً من قولك: مررت بزيد وعمرو فلا يمكنك أن تضمره هنا والكلام على هذا النضد حتى تغيره فتقول: مررت به وبعمرو فتزيد حرف الجر لما أعقب الإضمار من العطف على المضمر المجرور بغير إعادة الجار. وكذلك لو قيل لك: كيف تضمر اسم الله تعالى في قولك: والله لأقومن ونحوه لم يجز لك حتى تأتي بالباء التي هي الأصل فتقول: به لأقومن كما أنشده أبو زيد من قول الشاعر: ألا نادت أمامة باحتمال لتحزنني فلا بك ما أبالي وكإنشاده أيضاً: رأى برقاً فأوضع فوق بكر فلا بك ما أسال ولا أغاما وكذلك لو قيل لك: أضمر ضارباً وحده من قولك: هذا ضارب زيداً لم يجز لأنه كان يلزمك عليه أن تقول: هذا هو زيداً فتعمل المضمر وهذا مستحيل. فإن قلت فقد تقول: قيامك أمس حسن وهو اليوم قبيح فتعمل في اليوم هو قيل: في هذا أجوبة: أحدها أن الظرف يعمل فيه الوهم مثلا كذا عهد إلي أبو علي رحمه الله في هذا. وهذا لفظه لي فيه البتة. والآخر أنه يجوز في المعطوف مالا يجوز في المعطوف عليه. ولا تقول على هذا: ضربك زيداً حسن وهو عمرا قبيح لأن الظرف يجوز فيه من الاتساع ما لا يجوز في غيره. وثالث: وهو أنه قد يجوز أن يكون اليوم من قولك: قيامك أمس حسن وهو اليوم قبيح ظرفا لنفس قبيح يتناوله فيعمل فيه. نعم وقد يجوز أن يكون أيضاً حالاً للضمير الذي في قبيح فيتعلق حينئذ بمحذوف. نعم وقد يجوز أن يكون أيضاً حالاً للضمير الذي في قبيح فيتعلق حينئذ بمحذوف. نعم وقد يجوز أن يكون أيضاً حالاً من هو وإن تعلق بما العامل فيه قبيح لأنه قد يكون العامل في الحال غير العامل في ذي الحال. نحو قول الله تعالى {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً} فالحال ههنا من الحق والعامل فيه " هو " وحده أو " هو " والابتداء الرافع له. وكلاذينك لا ينصب الحال. وإنما جاز أن يعمل في الحال غير العامل في صاحبها من حيث كانت ضرباً من الخبر والخبر العامل فيه غير العامل في المخبر عنه. فقد عرفت بذلك فرق ما بين المسئلتين. وكذلك لو قيل لك: أضمر رجلاً من قولك: رب رجل مررت به لم يحز لأنك تصير إلى أن تقول: ربه مررت به فتعمل رب في المعرفة. فأما قولهم: ربه رجلاً وربها امرأة فإنما جاز ذلك لمضارعة هذا المضمر للنكرة إذ كان إضماراً على غير تقدم ذكر ومحتاجاً إلى التفسير فجرى تفسيره مجرى الوصف له. فلما كان المضمر لا يوصف ولحق هذا المضمر من التفسير ما يضارع الوصف خرج بذلك عن حكم الضمير. وهذا واضح. نعم ولو قلت: ربه مررت به لوصفت المضمر والمضمر لا يوصف. وأيضاً فإنك كنت تصفه بالجملة وهي نكرة والمعرفة لا توصف بالنكرة. أفلا ترى إلى ما كان يحدث هناك من خبال الكلام وانتقاض الأوضاع. فالزم هذه المحجة. فمتى كان التصرف في الموضع ينقض عليك أصلاً أو يخالف بك مسموعاً مقيساً فالغه ولا يسمع من العربي الفصيح
باب في الشيء يسمع من العربي الفصيح لا يسمع من غيره
وذلك ما جاء به ابن أحمر في تلك الأحرف المحفوظة عنه. قال أحمد بن يحيى: حدثني بعض أصحابي عن الأصمعي أنه ذكر حروفاً من الغريب فقال: لا أعلم أحداً أتى بها إلا ابن أحمر الباهلي. منها الجبر وهو الملك. وإنما سمى بذلك أظن لأنه يجبر بجوده. وهو قوله: اسلم براووق حبيت به وانعم صباحا أيها الجبر ومنها قوله: كأس رنوناة أي دائمة وذلك قوله: بنت عليه الملك أطنابها كأس رنوناةٌ وطرف طمر ومنها الديدبون وهو قوله: خلوا طريق الديدبون وقد فات الصبا وتنوزع الفخر ومنها مارية أي لؤلؤية لونها لون اللؤلؤ. ومنها قوله البابوس وهو أعجمي يعني ولد ناقته. وذلك قوله: حنت قلوصي إلى بابوسها جزعا فما حنينك أم ما أنت والذكر وإنما العيش بربانه وأنت من أفنانه مقتفر ومنها المأنوسة وهي النار وذلك قوله: كما تطاير عن مأنوسة الشرر قال أبو العباس أحمد بن يحيى أيضاً: وأخبرنا أبو نصر عن الأصمعي قال: من قول ابن أحمر الحيرم وهو البقر ما جاء به غيره. انتهت الحكاية. وقد أنشد أبو زيد: كأنها بنقا العزاف طاوية لما انطوى بطنها واخروط السفر مارية لؤلؤان اللون أودها طل وبنس عنها فرقد خصر وقال: المارية: البقرة الوحشية. وقوله. بنس عنها هو من النوم غير أنه إنما يقال للبقر. ولم سيند أبو زيد هذين البيتين إلى ابن أحمر ولا هما أيضاً في ديوانه ولا أنشدهما الأصمعي فيما أنشده من الأبيات التي أورد فيها كلماته. وينبغي أن يكون ذلك شيئاً جاء به غير ابن أحمر تابعاً له فيه ومتقيلاً أثره. هذا أوفق لقول الأصمعي: إنه لم يأت به غيره من أن يكون قد جاء به غير متبع أثره. والظاهر أن يكون ما أنشده أبو زيد لم يصل إلى الأصمعي لا من متبع فيه ابن أحمر ولا غير متبع. وجاء في شعر أمية الثغرور ولم يأت به غيره. والقول في هذه الكلم المقدم ذكرها وجوب قبولها. وذلك لما ثبتت به الشهادة من فصاحة ابن أحمر. فإما أن يكون شيئاً أخذه عمن ينطق بلغة قديمة لم يشارك في سماع ذلك منه على حد ما قلناه فيمن خالف الجماعة وهو فصيح كقوله في الذرحرح: الذرحرح ونحو ذلك وإما أن يكون شيئاً ارتجله ابن أحمر فإن الأعرابي إذا قويت فصاحته وسمت طبيعته تصرف وارتجل ما لم يسبقه أحد قبله به فقد حكى عن رؤبة وأبيه أنهما كانا يرتجلان ألفاظاً لم يسمعاها ولا سبقا إليها. وعلى نحو من هذا قال أبو عثمان: ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب. وقد تقدم نحو ذلك. وفي هذا الضرب غار أبو علي في إجازته أن تبنى اسماً وفعلاً وصفة ونحو ذلك من ضرب فتقول: ضربب زيد عمرا وهذا رجل ضربب وضرنبي ومررت برجل خرجج وهذا رجل خرجج ودخلخل وخرجج أفضل من ضربب ونحو ذلك. وقد سبق القول على مراجعتي إياه في هذا المعنى وقولي له: أفترتجل اللغة ارتجالاً وما كان من جوابه في ذلك. وكذلك إن جاء نحو هذا الذي رويناه عن ابن أحمر عن فصيح آخر غيره كانت حاله فيه حاله. لكن لو جاء شيء من لك عن ظنين أو متهم أو من لم ترق به فصاحته ولا سبقت إلى الأنفس ثقته كان مردوداً غير متقبل. فإن ورد عن بعضهم شيء يدفعه كلام العرب ويأباه القياس على كلامها فإنه لا يقنع في قبوله أن تسمعه من الواحد ولا من العدة القليلة إلا أن يكثر من ينطق به منهم. فإن كثر قائلوه إلا أنه مع هذا ضعيف الوجه في القياس فإن ذلك مجازه وجهان: أحدهما أن يكون من نطق به لم يحكم قياسه على لغة آبائهم وإما أن تكون أنت قصرت عن استدراك وجه صحته. ولا أدفع أيضاً مع هذا أن يسمع الفصيح لغة غيره مما ليس فصيحاً وقد طالت عليه وكثر لها استماعه فسرت في كلامه ثم تسمعها أنت منه وقد قويت عندك في كل شيء من كلامه غيرها فصاحته فيستهويك ذلك إلى أن تقبلها منه على فساد أصلها الذي وصل إليه منه. وهذا موضع متعب مؤذ يشوب النفس ويشرى اللبس إلا أن هذا كأنه متعدر ولا يكاد يقع مثله. وذلك أن الأعرابي الفصيح إذا عدل به عن لغته الفصيحة إلى أخرى سقيمة عافها ولم يبهأ بها. سألت مرة الشجري أبا عبد الله ومعه ابن عم له دونه في فصاحته وكان اسمع غصنا فقلت لهما: كيف تحقران حمراء فقالا: حميراء. قلت: فسوداء قالا: سويداء. وواليت من ذلك أحرفا وهما يجيئان بالصواب. ثم دسست في ذلك علباء فقال غصن: عليباء وتبعه الشجري. فلما هم بفتح الباء تراجع كالمذعور ثم قال: آه! عليبي ورام الضمة في الياء. فكانت تلك عادة له إلا أنهم أشد استنكاراً لزيغ الإعراب منهم لخلاف اللغة لأن بعضهم قد ينطق بحضرته بكثير من اللغات فلا ينكرها. إلا أن أهل الجفاء وقوة الفصاحة يتناكرون خلاف اللغة تناكرهم زيع الإعراب ألا ترى أن أبا مهدية سمع رجلاً من العجم يقول لصاحبه زوذ فسأل أبو مهدية عنها فقيل له: يقول له: اعجل فقال أبو مهدية: فهلا قال له: حيهلك. فقيل له: ما كان الله ليجمع لهم إلى العجمية العربية. وحدثني المتنبي أنه حضرته جماعة من العرب منصرفه من مصر وأحدهم يصف بلدة واسعة فقال في كلامه: تحير فيها العيون قال: وآخر من الجماعة يحي إليه سراً ويقول له: تحار تحار. والحكايات في هذا المعنى كثيرة منبسطة. ومن بعد فأقوى القياسين أن يقبل ممن شهرت فصاحته ما يورده ويحمل أمره على ما عرف من حاله لا على ما عسى أن يكون من غيره. وذلك كقبول القاضي شهادة من ظهرت عدالته وإن كان يجوز أن يكون الأمر عند الله بخلاف ما شهد به ألا تراه يمضي الشهادة ويقطع بها وإن لم يقع العلم بصحتها لأنه لم يؤخذ بالعمل بما عند الله إنما أمر بحمل الأمور على ما تبدو وإن كان في المغيب غيره. فإن لم تأخذ بها دخل عليك الشك في لغة من تستفصحه ولا تنكر شيئاً من لغته مخافة أن يكون فيها بعض ما يخفى عليك فيعترض الشك على يقينك وتسقط بكل اللغات ثقتك. ويكفي من هذا ما تعلمه من بعد لغة حمير من لغة ابني نزار. روينا عن الأصمعي أن رجلاً من العرب دخل على ملك ظفار وهي مدينة لهم يجيء منها الجزع الظفاري فقال له الملك: ثب وثب بالحميرة: اجلس فوثب الرجل فانتدقت رجلاه فضحك الملك وقال لست عندنا عربيت من دخل ظفار حمر أي تكلم بكلام حمير. فإذا كان كذلك جاز جوازاً قريباً كثيراً أن يدخل من هذه اللغة في لغتنا وإن لم يكن لها فصاحتنا غير أنها لغة عربية قديمة. أوضعت هذه اللغة في وقت واحد باب في هذه اللغة: أفي وقت واحد وضعت أم تلاحق تابع منها بفارط قد تقدم في أول الكتاب القول على اللغة: أتواضع هي أم إلهام. وحكينا وجوزنا فيها الأمرين جميعاً. وكيف تصرفت الحال وعلى أي الأمرين كان ابتداؤها فإنها لا بد أن يكون وقع في أول الأمر بعضها ثم احتيج فيما بعد إلى الزيادة عليه لحضور الداعي إليه فزيد فيها شيئاً فشيئاً إلا أنه على قياس ما كان سبق منها في حروفه وتأليفه وإعرابه المبين عن معانيه لا يخالف الثاني الأول ولا الثالث الثاني كذلك متصلاً متتابعاً. وليس أحد من العرب الفصحاء إلا يقول: إنه يحكى كلام أبيه وسلفه ويتوارثونه آخر عن أول وتابع عن متبع. وليس كذلك أهل الحضر لأنهم يتظاهرون بينهم بأنهم قد تركوا وخالفوا كلام من ينتسب إلى اللغة العربية الفصيحة. غير أن كلام أهل الحضر مضاه لكلام فصحاء العرب في حروفهم وتأليفهم إلا أنهم أخلوا بأشياء من إعراب الكلام الفصيح. وهذا رأي أبي الحسن وهو الصواب. وذهب إلى أن اختلاف لغات العرب إنما أتاها من قبل أن أول ما وضع منها وضع على خلاف وإن كان كله مسوقاً على صحة وقياس ثم أحدثوا من بعد أشياء كثيرة للحاجة إليها غير أنها على قياس ما كان وضع في الأصل مختلفاً وإن كان كل واحد آخذا من صحة القياس حظاً. ويجوز أيضاً أن يكون الموضوع الأول ضرباً واحداً ثم رأى من جاء من بعد أن خالف قياس الأول إلى قياس ثان جار في الصحة مجرى الأول. ولا يبعد عندي ما قال من موضعين: أحدهما سعة القياس وإذا كان كذلك جازت فيه أوجه لا وجهان اثنان. والآخر أنه كان يجوز أن يبدأ الأول بالقياس الذي عدل إليه الثاني فلا عليك أيهما تقدم وأيهما تأخر. فهذا طريق القول على ابتداء بعضها ولحاق بعضها به. فأما أي الأجناس الثلاثة تقدم أعني الأسماء والأفعال والحروف فليس مما نحن عليه في شيء وإنما كلامنا هنا: هل وقع جميعها في وقت واحد أم تتالت وتلاحقت قطعة قطعة وشيئاً بعد شيء وصدراً بعد صدر. وإذ قد وصلنا من القول في هذا إلى ها هنا فلنذكر ما عندنا في مراتب الأسماء والأفعال والحروف فإنه من أماكنه وأوقاته. اعلم أن أبا علي رحمه الله كان يذهب إلى أن هذه اللغة أعني ما سبق منها ثم لحق به ما بعده إنما وقع كل صدر منها في زمان واحد وإن كان تقدم شيء منها على صاحبه فليس بواجب أن يكون المتقدم على الفعل الاسم ولا أن يكون المتقدم على الحرف الفعل وإن كانت رتبة الاسم في النفس من حصة القوة والضعف أن يكون قبل الفعل والفعل قبل الحرف. وإنما يعني القوم بقولهم: إن الاسم أسبق من الفعل أنه أقوى في النفس وأسبق في الاعتقاد من الفعل لا في الزمان. فأما الزمان فيجوز أن يكونوا عند التواضع قدموا الاسم قبل الفعل. ويجوز أن يكونوا قدموا الفعل في الوضع قبل الاسم وكذلك الحرف. وذلك أنهم وزنوا حينئذ أحوالهم وعرفوا مصاير أمورهم فعلموا أنهم محتاجون إلى العبارات عن المعاني وأنها لا بد لها من الأسماء والأفعال والحروف فلا عليهم بأيها بدءوا أبالاسم أم بالفعل أم بالحرف لأنهم قد أوجبوا على أنفسهم أن يأتوا بهن جمع إذا المعاني لا تستغني عن واحد منهن. هذا مذهب أبي علي وبه كان يأخذ ويفتي. وهذا يضيق الطريق على أبي إسحاق وأبي بكر في اختلافهما في رتبة الحاضر والمستقبل. وكان أبو الحسن يذهب إلى أن ما غير لكثرة استعماله إنما تصورته العرب قبل وضعه وعلمت أنه لا بد من كثرة استعمالها إياه فابتدءوا بتغييره علماً بأن لا بد من كثرته الداعية إلى تغييره. وهذا في المعنى كقوله: وقد كان أيضاً أجاز أن يكون قد كانت قديماً معربة فلما كثرت غيرت فيما بعد. والقول عندي هو الأول لأنه أدل على حكمتها واشهد لها بعلمها بمصاير أمرها فتركوا بعض الكلام مبنياً غير معرب نحو أمس وهؤلاء وأين وكيف وكم وإذ واحتملوا ما لا يؤمن معه من اللبس لأنهم إذا خافوا ذلك زادوا كلمة أو كلمتين فكان ذلك أخف عليهم من تجشمهم اختلاف الإعراب واتقائهم الزيغ والزلل فيه ألا ترى أن من لا يعرب فيقول: ضرب أخوك لأبوك قد يصل باللام إلى معرفة الفاعل من المفعول ولا يتجشم خلاف الإعراب ليفاد منه المعنى فإن تخلل الإعراب من ضرب إلى ضرب يجري مجرى مناقلة الفرس ولا يقوى على ذلك من الخيل إلا الناهض الرجيل دون الكودن الثقيل قال جرير: من كل مشترف وإن بعد المدى ضرم الرفاق مناقل الأجرال ويشهد للمعنى الأول أنهم قالوا: اقتل فضموا الأول توقعاً للضمة تأتي من بعد. وكذلك قالوا: عظاءة وصلاءة وعباءة فهمزوا مع الهاء توقعاً لما سيصيرون إليه من طرح الهاء ووجوب الهمز عند العظاء والصلاء والعباء. وعلى ذلك قالوا: الشيء منتن فكسروا أوله لآخره وهو منحدر من الجبل فضموا الدال لضمة الراء. وعليه قالوا: هو يجوءك وينبؤك فأثر المتوقع لأنه كأنه حاضر. وعلى ذلك قالوا: امرأة شمباء وقالوا: العمبر ونساء شمب فأبدلوا النون ميماً مما يتوقع من مجيء الباء بعدها. وعليه أيضاً أبدلوا الأول للآخر في الإدغام نحو مرأيت واذهفى ذلك واصحمطرا. فهذا كله وما يجري مجراه مما يطول ذكره يشهد لأن كل ما يتوقع إذا ثبت في النفس كونه كان كأنه حاضر مشاهد. فعلى ذلك يكونون قدموا بناء نحوكم وكيف وحيث وقبل وبعد علماً بأنهم سيستكثرون فيما بعد منها فيجب لذلك تغييرها. فإن قلت: هلا ذهبت إلى أن الأسماء أسبق رتبة من الأفعال في الزمان كما أنها أسبق رتبة منها في الاعتقاد واستدللت على ذلك بأن الحكمة قادت إليه إذ كان الواجب أن يبدءوا بالأسماء لأنها عبارات عن الأشياء ثم يأتوا بعدها بالأفعال التي بها تدخل الأسماء في المعاني والأحوال ثم جاءوا فيما بعد بالحروف لأنك تراها لواحق بالجمل بعد تركبها واستقلالها بأنفسها نحو إن زيداً أخوك وليت عمرا عندك وبحسبك أن تكون كذا قيل يمنع من هذا أشياء: منها وجودك أسماء مشتقة من الأفعال نحو قائم من قام ومنطلق من انطلق ألا تراه يصح لصحته ويعتل لاعتلاله نحو ضرب فهو ضارب وقام فهو قائم وناوم فهو مناوم. فإذا رأيت بعض الأسماء مشتقاً من الفعل فكيف يجوز أن يعتقد سبق الاسم للفعل في الزمان وقد رأيت الاسم مشتقاً منه ورتبة المشتق منه أن يكون أسبق من المشتق نفسه. وأيضاً فإن المصدر مشتق من الجوهر كالنبات من النبت وكالاستحجار من الحجر وكلاهما اسم. وأيضاً فإن المضارع يعتل لاعتلال الماضي وإن كان أكثر الناس على أن المضارع أسبق من الماضي. وأيضاً فإن كثيراً من الأفعال مشتق من الحروف نحو قولهم: سألتك حاجة فلوليت لي أي قلت لي: لولا وسألتك حاجة فلاليت لي أي قلت لي: لا. واشتقوا أيضاً المصدر وهو اسم من الحرف فقالوا: اللالاة واللولاة وإن كان الحرف متأخراً في الرتبة عن الأصلين قبله: الاسم والفعل. وكذلك قالوا: سوفت الرجل أي قلت له: سوف وهذا فعل كما ترى مأخوذ من الحرفز ومن أبيات الكتاب: لو ساوفتنا بسوفٍ من تحيتها سوف العيوف لراح الركب قد قنع انتصب سوف العيوف على المصدر المحذوف الزيادة أي مساوفة العيوف. وأنا أرى أن جميع تصرف " ن ع م " إنما هو من قولنا في الجواب: نعم. من ذلك النعمة والنعمة والنعيم والتنعيم ونعمت به بالا وتنعم القوم والنعمى والنعماء وأنعمت به له وكذلك البقية. وذلك أن نعم أشرف الجوابين وأسرهما للنفس وأجلبهما للحمد ولا بضدها ألا ترى إلى قوله: وإذا قلت نعم فاصبر لها بنجاح الوعد إن الخلف ذم وقال الآخر أنشدناه أبو علي: أبي جوده لا البخل واستعجلت به نعم من فتى لا يمنع الجوع قاتله يروى بنصب البخل وجره. فمن نصبه فعلى ضربين: أحدهما أن يكون بدلاً من لا لأن لا موضوعة للبخل فكأنه قال: أبي جوده البخل والآخر أن تكون لا زائدة حتى كأنه قال أبي جوده البخل لا على البدل لكن على زيادة لا. والوجه هو الأول لأنه قد ذكر بعدها نعم ونعم لا تزاد فكذلك ينبغي أن تكون لا ههنا غير زائدة. والوجه الآخر على الزيادة صحيح أيضاً لجرى ذكر لا في مقابلة نعم. وإذا جازا للا أن تعمل وهي زائدة فيما أنشده أبو الحسن من قوله: لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها إلي لامت ذوو أحسابها عمراً كان الاكتفاء بلغظها من غير عمل له أولى بالجواز. ومن جره فقال لا البخل فبإضافة لا إليه لأن لا كما تكون للبخل قد تكون للجود أيضاً ألا ترى أنه لو قال لك إنسان: لا تطعم الناس ولا تقر الضيف ولا تتحمل المكارم فقلت أنت: لا لكانت هذه اللفظة هنا للجود لا للبخل فلما كانت لا قد تصلح للأمرين جميعاً أضيفت إلى البخل لما في ذلك من التخصيص الفاصل بين المعنيين الضدين. فإن قلت: فكيف تضيفها وهي مبنية ألا تراها على حرفين الثاني حرف لين وهذا أدل شيء على البناء قيل: الإضافة لا تنافي البناء بل لو جعلها جاعل سبباً له لكان أعذر من أن يجعلها نافية له ألا ترى أن المضاف بعض الاسم وبعض الاسم صوت والصوت واجب بناؤه. فهذا من طريق القياس وأما من طريق السماع فلأنهم قد قالوا: كم رجل قد رأيت فكم مبنية وهي مضافة. وقالوا أيضاً: لأضربن أيهم أفضل وهي مبنية عند سيبويه. فهذا شيء عرض قلنا فيه. ثم لنعد إلى ما كنا عليه من أن جميع باب " ن ع م " إنما هو مأخوذ من نعم لما فيها من المحبة للشيء والسرور به. فنعمت الرجل أي قلت له نعم فنعم بذلك بالا كما قالوا: بجلته أي قلت له بجل أي حسبك حيث انتهيت فلا غاية من بعدك ثم اشتقوا منه الشيخ البجال والرجل البجيل. فنعم وبجل كما ترى حرفان وقد اشتق منهما أحرف كثيرة. فإن قلت: فهلا كان نعم وبجل مشتقين من النعمة والنعيم والبجال والبجيل ونحو ذلك دون أن يكون كل ذلك مشتقاً منهما قيل: الحروف يشتق منها ولا تشتق هي أبداً. وذلك أنها لما جمدت فلم تتصرف شابهت بذلك أصول الكلام الأول التي لا تكون مشتقة من شيء لأنه ليس قبلها ما تكون فرعاً له ومشتقة منه يؤكد ذلك عندك قولهم: سألتك حاجة فلوليت لي أي قلت لي لولا فاشتقوا الفعل من الحرف المركب من لو و لا فلا يخلو هذا أن يكون لو هو الأصل أو لولا لا يجوز أن يكون لولا لأنه لو كان لولا هو الأصل كان لو محذوفاً منه والأفعال لا تحذف إنما تحذف الأسماء نحو يدٍ ودمٍ وأخٍ وأب وما جرى مجراه وليس الفعل كذلك. فأما خذ وكل ومر فلا يعتد إن شئت لقلته وإن شئت لأنه حذف تخفيفا في موضع وهو ثابت في تصريف الفعل نحو أخذ يأخذ وأخذ وآخذ. فإن قلت: فكذلك أيضاً يدٌ ودمٌ وأخٌ وأبٌ وغدٌ وفمٌ ونحو ذلك ألا ترى أن الجميع تجده متصرفاً وفيه ما حذف منه وذلك نحو أيدٍ وأيادٍ ويدي ودماءٍ ودمي وأدماءٍ والدما في قوله فإذا هي بعظام ودما وإخوة وأخوة وآخاء وأخوان وآباء وأبوة وأبوان وغدواً بلاقع وأفواه وفويه وأفوه وفوهاء وفوه قيل: هذا كله إن كان قد عاد في كل تصرف منه ما حذف من الكلمة التي هي من أصله فدل ذلك على محذوفه فليست الحال فيه كحال خذ من أخذ ويأخذ. وذلك أن أمثلة الفعل وإن اختلفت في أزمنتها وصيغها فإنها تجري مجرى المثال الواحد حتى إنه إذا حذف من بعضها شيء عوض منه في مثال آخر من أمثلته ألا ترى أنهم لما حذفوا همزة يكرم ونحوه عوضوه منها أن أوجدوها في مصدره فقالوا: إكراماً. وكذلك بقية الباب. وليس كذلك الجمع والواحد ولا التكبير والتصغير من الواحد لأنه ليس كل واحد من هذه المثل جارياً مجرى صاحبه فيكون إذا حذف من بعضها شيء ثم وجد ذلك المحذوف في صاحبه كان كأنه فيه وأمثلة الفعل إذا حذف من أحدها شيء ثم وجد ذلك المحذوف في صاحبه فإن قلت: فقد نجد بعض ما حذف في الأسماء موجوداً في الأفعال من معناها ولفظها. وذلك نحو قولهم في الخبر: أخوت عشرة وأبوت عشرة وأنشدنا أبو علي عن الرياشي: وبشرة يأبونا كأن خباءنا جناح سماني في السماء تطير وقالوا أيضاً: يديت إليه يداً وأيديت ودميت تدمى دمى وغدوت عليه وفهت بالشيء وتفوهت به. فقد استعملت الأفعال من هذه الكلم كما استملت فيما أوردته. قيل: وهذا أيضاً ساقط عنا وذلك أنا إنما قلنا: إن هذه المثل من الأفعال تجري مجرى المثال الواحد لقيام بعضها قيام بعض واشتراكها في اللفظ. وليس كذلك أب وأخ ونحوهما ألا ترى أن أب ليس بمثال من أمثلة الفعل ولا باسم فاعل ولا مصدر ولا مفعول فيكون رجوع المحذوف منه في أبوت كأنه موجود في أب وإنما أب من أبوت كمدق ومكحلة من دققت وكحلت. وكذلك القول في أخٍ ويدٍ ودمٍ وبقية تلك الأسماء. فهذا فرق. فقد علمت بما قدمناه وهضبنا فيه قوة تداخل الأصول الثلاثة: الاسم والفعل والحرف وتمازجها وتقدم بعضها على بعض تارة وتأخرها عنه أخرى. فلهذا ذهب أبو علي رحمه الله إلى أن هذه اللغة وقعت طبقة واحدة كالرقم تضعه على المرقوم والميسم يباشر به صفحة الموسوم لا يحكم لشيء منه بتقدم في الزمان وإن اختلفت بما فيه من الصنعة القوة والضعف في الأحوال. وقد كثر اشتقاق الأفعال من الأصوات الجارية مجرى الحروف نحو هاهيت وحاحيت وعاعيت وجأجأت وحأحأت وسأسأت وشأشأت. وهذا كثير في الزجر. وقد كانت حضرتني وقتاً فيه نشطة فكتبت تفسير كثير من هذه الحروف في كتاب ثابت في الزجر فاطلبها في جملة ما أثبته عن نفسي في هذا وغيره.
باب في اللغة المأخوذة قياساً
هذا موضع كأن في ظاهره تعجرفاً وهو مع ذلك تحت أرجل الأحداث ممن تعلق بهذه الصناعة فضلاً عن صدور الأشياخ. وهو أكثر من أن أحصيه في هذا الموضع لك لكني أنبهك على كثير من ذلك لتكثر التعجب ممن تعجب منه أو يستبعد الأخذ به. وذلك أنك لا تجد مختصراً من العربية إلا وهذا المعنى منه في عدة مواضع ألا ترى أنهم يقولون في وصايا الجمع: إن ما كان من الكلام على فعل فتكسيره على أفعل ككلب وأكلب وكعب وأكعب وفرخ وأفرخ. وما كان على غير ذلك من أبنية الثلاثي فتكسيره في القلة على أفعال نحو جبل وأجبال وعنق وأعناق وإبل وآبال وعجز وأعجاز وربع وأرباع وضلع وأضلاع وكبد وأكباد وقفل وأقفال وحمل وأحمال. فليت شعري هل قالوا هذا ليعرف وحده أو ليعرف هو ويقاس عليه غيره ألا تراك لو لم تسمع تكسير واحد من هذه الأمثلة بل سمعته منفرداً أكنت تحتشم من تكسيره على ما كسر عليه نظيره. لا بل كنت تحمله عليه للوصية التي تقدمت لك في بابه. وذلك كأن يحتاج إلى تكسير الرجز الذي هو العذاب فكنت قائلاً لا محالة: أرجاز قياساً على أحمال وإن لم تسمع أرجازا في هذا المعنى. وكذلك لو احتجت إلى تكسير عجر من قولهم: وظيف عجر لقلت: أعجار قياساً على يقظ وأيقاظ وإن لم تسمع أعجارا. وكذلك لو احتجت إلى تكسير شبع بأن توقعه على النوع لقلت: أشباع وإن لم تسمع ذلك لكنك سمعت نطع وأنطاع وضلع وأضلاع. وكذلك لو احتجت إلى تكسير دمثر لقلت: دماثر قياساً على سبطر وسباطر. وكذلك قولهم: إن كان الماضي على فعل فالمضارع منه على يفعل فلو أنك على هذا سمعت ماضياً على فعل لقلت في مضارعه: يفعل وإن لم تسمع ذلك كأن يسمع سامع ضؤل ولا يسمع مضارعه فإنه يقول فيه: يضؤل وإن لم يسمع ذلك ولا يحتاج أن يتوقف إلى أن يسمعه لأنه لو كان محتاجاً إلى ذلك لما كان لهذه الحدود والقوانين التي وضعها المتقدمون وتقبلوها وعمل بها المتأخرون معنى يفاد ولا عرض ينتحيه الاعتماد ولكان القوم قد جاءوا بجميع المواضي والمضارعات وأسماء الفاعلين والمفعولين والمصادر وأسماء الأزمنة والأمكنة والآحاد والتثاني والجموع والتكابير والتصاغير ولما أقنعهم أن يقولوا: إذا كان الماضي كذا وجب أن يكون مضارعه كذا واسم فاعله كذا واسم مفعوله كذا واسم مكانه كذا واسم زمانه كذا ولا قالوا: إذا كان المكبر كذا فتصغيره كذا وإذا كان الواحد كذا فتكسيره كذا دون أن يستوفوا كل شيء من ذلك فيوردوه لفظاً منصوصاً معيناً لا مقيساً ولا مستنبطاً كغيره من اللغة التي لا تؤخذ قياساً ولا تنبيهاً نحو دار وباب وبستان وحجر وضبع وثعلب وخزز لكن القوم بحكمتهم وزنوا كلام العرب فوجدوه على ضربين: أحدهما ما لا بد من تقبله كهيئته لا بوصية فيه ولا تنبيه عليه نحو حجر ودار وما تقدم ومنه ما وجدوه يتدارك بالقياس وتخف الكلفة في علمه على الناس فقننوه وفصلوه إذ قدروا على تداركه من هذا الوجه القريب المغنى عن المذهب الحزن البعيد. وعلى ذلك قدم الناس في أول المقصور والممدود ما يتدارك بالقياس والأمارات ثم أتلوه ما لا بدله من السماع والروايات فقالوا: المقصور من حاله كذا ومن صفته كذا والممدود من أمره كذا ومن سببه كذا وقالوا في المذكر والمؤنث: علامات التأنيث كذا وأوصافها كذا ثم لما أنجزوا ذلك قالوا: ومن المؤنث الذي روى رواية كذا وكذا. فهذا من الوضوح على ما لا خفاء به. فلما رأى القوم كثيراً من اللغة مقيساً منقاداً وسموه بمواسمه وغنوا بذلك عن الإطالة والإسهاب فيما ينوب عنه الاختصار والإيجاز. ثم لما تجاوزوا ذلك إلى ما لا بد من إيراده ونص ألفاظه التزموا وألزموا كلفته إذ لم يجدوا منها بداً ولا عنها منصرفاً. ومعاذ الله أن ندعي أن جميع اللغة تستدرك بالأدلة قياساً لكن ما أمكن ذلك فيه قلنا به ونبهنا عليه كما فعله من قبلنا ممن نحن له متبعون وعلى مثله وأوضاعه حاذون فأما هجنة الطبع وكدورة الفكر وخمود النفس وخيس الخاطر وضيق المضطرب فنحمد الله على أن حماناه ونسأله سبحانه أن يبارك لنا فيما آتاناه ويستعملنا به فيما يدني منه ويوجب الزلفة لديه بمنه. فهذا مذهب العلماء بلغة العرب وما ينبغي أن يعمل عليه ويؤخذ به فأمضه على ما أريناه وحددناه غير هائب له ولا مرتاب به. وهو كثير وفيما جئنا به منه كاف. باب في تداخل الأصول الثلاثية والرباعية والخماسية ولنبدأ من ذلك بذكر الثلاثي منفرداً بنفسه ثم مداخلاً لما فوقه. اعلم أن الثلاثي على ضربين: أحدهما ما يصفو ذوقه ويسقط عنك التشكك في حروف أصله كضرب وقتل وما تصرف منهما. فهذا ما لا يرتاب به في جميع تصرفه نحو ضارب ويضرب ومضروب وقاتل وقتال واقتتل القوم واقتل ونحو ذلك. فما كان هكذا مجرداً واضح الحال من الأصول فإنه يحمي نفسه وينفي الظنة عنه. والآخر أن تجد الثلاثي على أصلين متقاربين والمعنى واحد فههنا يتداخلان ويوهم كل واحد منهما كثيراً من الناس أنه من أصل صاحبه وهو في الحقيقة من أصل غيره وذلك كقولهم: شيء رخو ورخود. فهما كما ترى شديدا التداخل لفظاً وكذلك هما معنى. وإنما تركيب رخو من رخ و وتركيب رخود من رخ د وواو رخود زائدة وهو فعول كعلود وعسود والفاء والعين من رخو ورخود متفقتان لكن لاماهما مختلفتان. فلو قال لك قائل: كيف تحقر رخوداً على حذف الزيادة لقلت: رخيد بحذف الواو وإحدى الدالين. ولو قال لك: كيف تبني من رخو مثل جعفر لقلت رخوى ومن رخود: رخدد أفلا ترى إلى ازدحام اللفظين مع تماس المعنيين وذلك أن الرخو الضعيف والرخود المتثني والتثني عائد إلى معنى الضعف فلما كانا كذلك أوقعا الشك لمن ضعف نظره وقل من هذا الأمر ذات يده. ومن ذلك قولهم: رجل ضياط وضيطار. فقد ترى تشابه الحروف والمعنى مع ذلك واحد فهو أشد لإلباسه. وإنما ضياط من تركيب " ض ي ط " وضيطار من تركيب " ض ط ر ". ومنه قول جرير: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم بني ضوطرى! لو لا الكمى المقنعا فضياط يحتمل مثاله ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون فعالاً كخياط ورباط والآخر أن يكون فيعالاً كخيتام وغيداق والثالث أن يكون فوعالاً كتوراب. فإن قلت: إن فوعالا لم يأت صفة قيل اللفظ يحتمله وإن كانت اللغة تمنعه. ومن ذلك لوقة وألوقة وصوص وأصوص وينجوج وألنجوج ويلنجوج وضيف وضيفن في قول أبي زيد. ومن ذلك حية وحواء فليس حواء من لفظ حية كعطار من العطر وقطان من القطن بل حية من لفظ " ح ي ي " من مضاعف الياء وحواء من تركيب " ح و ى " كشواء وطواء. ويدل على أن الحية من مضاعف الياء ما حكاه صاحب الكتاب من قولهم في الإضافة إلى حية بن بهدلة: حيوى. فظهور الياء عيناً في حيوى قد علمنا منه كون العين ياء وإذا كانت العين ياء واللام معتلة فالكلمة من مضاعف الياء البتة ألا ترى أنه ليس في كلامهم نحو حيوت. وهذا واضح. ولولا هذه الحكاية لوجب أن تكون الحية والحواء من لفظ واحد لضربين من القياس: أما أحدهما فلأن فعالا في المعاناة إنما يأتي من لفظ المعاني نحو عطار من العطر وعصاب من العصب. وأما الآخر فلأن ما عينه واو ولامه ياء أكثر مما عينه ولامه ياءان ألا ترى أن باب طويب وشويت أكثر من باب حييت وعييت. وإذ كان الأمر كذلك علمت قوة السماع وغلبته للقياس ألا ترى أن سماعاً واحداً غلب قياسين اثنين. نعم وقد يعرض هذا التداخل في صنعة الشاعر فيرى أو يرى أنه قد جنس وليس في الحقيقة تجنيساً وذلك كقول القطامي: مستحقبين فؤادا ما له فاد ففؤاد من لفظ " ف أ د " وفاد من تركيب " ف د ى " لكنهما لما تقاربا هذا التقارب دنوا من التجنيس. وعليه قول الحمصي: وتسويف العدات من السوافي فظاهر هذا يكاد لا يشك أكثر الناس أنه مجنس وليس هو كذلك. وذلك أن تركيب تسويف من " س و ف " وتركيب السوافي من " س ف ي " لكن لما وجد في كل واحد من الكلمتين سين وفاء وواو جرى في بادي السمع مجرى الجنس الواحد وعليه قال الطائي الكبير: ألحد حوى حية الملحدين! ولدن ثرى حال دون الثراء! فيمن رواه هكذا حوى حية الملحدين أي قاتل المشركين وكذلك قال في آخر البيت أيضاً: ولدن ثرى حال دون الثراء فجاء به مجيء التجنيس وليس على الحقيقة تجنيساً صحيحاً. وذلك أن التجنيس عندهم أن يتفق اللفظان ويختلف أو يتقارب المعنيان كالعقل والمعقل والعقلة والعقيلة ومعقلة. وعلى ذلك وضع أهل اللغة كتب الأجناس. وليس الثرى من لفظ الثراء على الحقيقة وذلك أن الثرى وهو الندى من تركيب " ث ر و " لقولهم: التقى الثريان. وأما الثراء لكثرة المال فمن تركيب " ث ر و " لأنه من الثروة ومنه الثريا لأنها من الثروة لكثرة كواكبها مع صغر مرآتها فكأنها كثيرة العدد بالإضافة إلى ضيق المحل. ومنه قولهم: ثرونا بني فلان تثروهم ثروة إذا كنا أكثر منهم. فاللفظان - كما ترى - مختلفان فلا تجنيس إذاً إلا للظاهر. وقد ذكرت هذا الموضع في كتابي في شرح المقصور والممدود عن ابن السكيت وأن الفراء تسمح في ذكر مثل هذا على اختلاف أصوله وأن عذره في ذلك تشابه اللفظين بعد القلب. ومن ذلك قولهم: عدد طيس وطيسل. فالياء في طيس أصل وتركيبه من " ط ي س " وهي في طيسل زائدة وهو من تركيب " ط س ل ". ومثله الفيشة والفيشلة: حالهما في ذلك سواء. وذهب سيبويه في عنسل إلى زيادة النون وأخذها من قوله: عسلان الذئب أمسى قارباً برد الليل عليه فنسل وذهب محمد بن حبيب في ذلك إلى أنه من لفظ العنس وأن اللام زائدة وذهب بها مذهب زيادتها في ذلك وأولالك وعبدل وبابه. وقياس قول محمد ابن حبيب هذا أن تكون اللام في فيشلة وطيسل زائدة. وما أراه إلا أضعف القولين لأن زيادة النون ثانية أكثر من زيادة اللام في كل موضع فكيف بزيادة النون غير ثانية. وهو أكثر من أن أحصره لك. فهذه طريق تداخل الثلاثي بعضه في بعض. فأما تداخل الثلاثي والرباعي لتشابههما في أكثر الحروف فكثير منه قولهم: سبط وسبطر. فهذان أصلان لا محالة ألا ترى أن أحداً لا يدعى زيادة الراء. ومثله سواء دمث ودمثر وحبج وحبجر. وذهب أحمد بن يحيى في قوله: يرد قلخاً وهديراً زغدبا إلى أن الباء زائدة وأخذه من زغد البعير يزغد زغداً في هديره. وقوله: إن الباء زائدة كلام تمجه الآذان وتضيق عن احتماله المعاذير. وأقوى ما يذهب إليه فيه أن يكون أراد أنهما أصلان مقتربان كسبط وسبطر. وإن أراد ذلك أيضاً فإنه قد تعجرف. ولكن قوله في أسكفة الباب: إنها من استكف الشيء أي انقبض أمر لا ينادي وليده روينا ذلك عنه. وروينا عنه أيضاً أنه قال في تنور: إنه تفعول من النار. وروينا عنه أيضاً أنه قال: الطيخ: الفساد قال: فهو من تواطخ القوم. وسنذكر ذلك في باب سقطات العلماء بإذن الله. ولكن من الأصلين المتداخلين: الثلاثي والرباعي قولهم: زرم وازرأم وخضل واخضأل وأزهر وازهأر وضفد واضفأد وزلم القوم وازلأموا وزغب الفرخ وازلغب. ومنه قولهم: مبلع وبلعوم وحلق وحلقوم وشيء صلد وصلادم وسرطم وسرواط. وقالوا للأسد: هرماس وحدثنا أبو علي عن الأصمعي أنه قال في هرماس: إنه من الهرس. وحدثنا أيضاً أنهم يقولون: لبن ممارص. وقالوا دلاص ودلامص ودمالص. وأنشد ابن الأعرابي: فباتت تشتوي والليل داج ضماريط استها في غير نار ومن هذا أيضاً قولهم: بعير أشدق وشدقم. وينبغي أن يكون جميع هذا من أصلين ثلاثي ورباعي. وهو قياس قول أبي عثمان ألا تراه قال في دلامص: إنه رباعي وافق أكثره حروف الثلاثي كسبط وسبطر ولؤلؤ ولآل. فلؤلؤ رباعي ولآل ثلاثي. وقياس مذهب الخليل بزيادة الميم في دلامص أن تكون الميم في هذا كله زائدة وتكون على مذهب أبي عثمان أصلاً وتكون الكلم التي اعتقبت هذه الحروف عليها أصلين لا أصلاً واحداً. نعم وإذا جاز للخليل أن يدعي زيادة الميم حشوا وهو موضع عزيز عليها فزيادتها آخرا أقرب مأخذاً لأنها لما تأخرت شابهت بتطرفها أول الكلمة الذي هو معان لها ومظنة منها. فقياس قوله في دلامص: إنه فعامل أن يقول في دمالص: فماعل وكذلك في فمارص وأن يقول في بلعوم وحلقوم: إنه فعلوم لأن زيادة الميم آخراً أكثر منها أولاً ألا ترى إلى تلفيهم كل واحد من دلقم ودردم ودقعم وفسحم وزرقم وستهم ونحو ذلك بزيادة الميم في آخره. ولم نر أبا عثمان خالف في هذا خلافه في دلامص. وينبغي أن يكون ذلك لأن آخر الكلمة مشابه لأولها فكانت زيادة الميم فيه أمثل من زيادتها حشوا. فأما ازرأم واضفاد ونحو ذلك فلا تكون همزته إلا أصلاً ولا تحملها على باب شأمل وشمأل لقلة ذلك. وكذلك لام ازلغب هي أحرى أن تكون أصلاً. ومن الأصلين الثلاثي والرباعي المتداخلين قولهم: قاع قرق وقرقر وقرقوس وقولهم: سلس وسلسل وقلق وقلقل. وذهب أبو إسحاق في نحو قلقل وصلصل وجرجر وقرقر إلى أنه فعفل وأن الكلمة لذلك ثلاثية حتى كأن أبا إسحاق لم يسمع في هذه اللغة الفاشية المتشرة بزغد وزغدب وسبط وسبطر ودمث ودمثر وإلى قول العجاج: هذا مع قولهم وتر حبجر للقوى الممتلئ. نعم وذهب إلى مذهب شاذ غريب في أصل منقاد عجيب ألا ترى إلى كثرته في نحو زلز وزلزل ومن أمثالهم توقرى يا زلزه فهذا قريب من قولهم: قد تزلزلت أقدامهم إذا قلقت فلم تثبت. ومنه قلق وقلقل وهوة وهوهاءة وغوغاءٌ وغوغاءُ لأنه مصروفاً رباعي وغير مصروف ثلاثي. ومنه رجل أدرد وقالوا: عض على دردره ودردوره. ومنه صل وصلصل وعج وعجعج. ومنه عين ثرة وثرثارة. وقالوا: تكمكم من الكمة وحثحثت وحثثت ورقرقت ورققت قال الله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} وهذا باب واسع جداً ونظائره كثيرة: فارتكب أبو إسحاق مركباً وعزا وسحب فيه عدداً جماً وفي هذا إقدام وتعجرف. ولو قال ذلك في حرف أو حرفين كما قال الخليل في دلامص بزيادة الميلم لكان أسهل لأن هذا شيء إنما احتمل القول به في كلمة عنده شاذة أو عزيزة النظير. فأما الاقتحام بباب منقاد في مذهب متعاد ففيه ما قدمناه ألا ترى أن تكرير الفاء لم يأت به ثبت إلا في مرمريس وحكى غير صاحب الكتاب أيضاً مرمريت وليس بالبعيد أن تكون التاء بدلاً من السين كما أبدلت منها في ست وفيما أنشده أبو زيد من قول الشاعر: يا قاتل الله بني السعلات عمرو بن يربوع شرار النات فأبدل السين تاء. فإن قلت: فإنا نجد للمرمريت أصلاً يحتازه إليه وهو المرت قيل: هذا هو الذي دعانا إلى أن قلنا: إنه قد يجوز أن تكون التاء في مرمريت بدلاً من سين مرمريس. ولولا أن معنا مرتا لقلنا فيه: إن التاء بدل من السين البتة كما قلنا ذلك في ست والنات وأكيات. فإن قال قائل منتصراً لأبى إسحاق: لا ينكر أن يأتي في المعتل من الأمثلة ما لا يأتي في الصحيح نحو سيد وميت وقضاة ودعاة وقيدودة وصيرورة وكينونة وكذلك يجيء في المضاعف ما لا يأتي في غيره من تكرير الفاء. بل إذا كانوا قد كرروها في مرمريت ومرمريس ولم نر في الصحيح فيعلا ولا فعلة في جمع فاعل ولا فيعلولا مصدراً كان ما ذهب إليه أبو إسحاق من تكرير الفاء في المضاعف أولى بالجواز وأجدر بالتقبل فهو قول غير أن الأول أقوى ألا ترى أن المضاعف لا ينتهي في الاعتلال إلى غاية الياء والواو وأن ما أعل منه في نحو ظلت ومست وظنت في ظننت وتقصيت تقضيت وتفضيت من الفضة وتسريت من السرية ليس شيء من إعلال ذلك ونحوه بواجب بل جميعه لو شئت لصححته وليس كذلك حديث الياء والواو والألف في الاعتلال بل ذلك فيها في عام أحوالها التي اعتلت فيها أمر واجب أو مستحسن في حكم الواجب أعني باب حاري وطائي وياجل وياءس وآية في قول سيبويه. فإن قلت فقد قرأ الأعمش بعذاب بيئس فإنما ذاك لأن الهمزة وإن لم تكن حرف علة فإنها معرضة للعلة وكثيرة الانقلاب عن حروف العلة فأجريت بيئس عنده مجرى سيد وهين كما أجريت التجزئة مجرى التعزية في باب الحذف والتعويض وتابع أبو بكر البغداديين في أن الحاء الثانية في حثحثت بدل من ثاء وان أصل حثثت. وكذلك قال في نحو ثرة وثرثارة: إن الأصل فيها ثرارة فأبدل من الراء الثانية ثاء فقالوا ثرثارة. وكذلك طرد هذا الطرد. وهذا وإن كان عندنا غلطا لإبدال الحرف مما ليس من مخرجه ولا مقارباً في المخرج له فإنه شق آخر من القول. ولم يدع أبو بكر فيه تكرير الفاء وإنما هي عين أبدلت إلى لفظ الفاء فأما أن يدعى أنها فاء مكررة فلا. فهذا طريق تزاحم الرباعي مع الثلاثي. وهو كثير جداً فاعرفه وتوق حمله عليه أو خلطه به ومز كل واحد منهما عن صاحبه وواله دونه فإن فيه إشكالاً. وأنشدني الشجري لنفسه: أناف على باقي الجمال ودففت بأنوار عشب مخضئل عوازبه وأما تزاحم الرباعي مع الخماسي فقليل. وسبب ذلك قلة الأصلين جميعاً فلما قلاَّقلَّ ما يعرض من هذا الضرب فيهما إلا أن منه قولهم: ضبغطى وضبغطرى وقوله أيضاً: قد دردبت والشيخ دردبيس فدردبت رباعي ودردبيس خماسي. ولا أدفع أن يكون استكره نفسه على أن بنى من كيف حال المثلين في الأصلية والزيادة باب في المثلين: كيف حالهما في الأصلية والزيادة وإذا كان أحدهما زائداً فأيهما هو اعلم أنه متى اجتمع معك في الأسماء والأفعال حرف أصل ومعه حرفان مثلان لا غير فهما أصلان متصلين كانا أو منفصلين. فالمتصلان نحو الحفف والصدد والقصص وصببت وحللت وشددت وددن ويين. وأما المنفصلان فنحو دعد وتوت وطوط وقلق وسلس. وكذلك إن كان هناك زائد فالحال واحدة نحو حمام وسمام وثالث وسالس روينا عن الفراء قول الراجز: ممكورة غرثي الوشاح السالس تضحك عن ذي أشر غضارس وكذلك كوكب ودودح. وليس من ذلك دؤادم لأنه مهموز. وكذلك إن كان هناك حرفان تسقطهما الصنعة جريا في ذلك مجرى الحرف الواحد كألف حمام وسمام وواو كوكب ودودح وذلك ألندد ويلندد يوضح ذلك الاشتقاق في ألندد لأنه هو الألد. وأما ألنجج فإن عدة حروفه خمسة وثالثه نون ساكنة فيجب أن يحكم بزيادتها فتبقى أربعة فلا يخلو حينئذ أن يكون مكرر اللام كباب قعدد وشربب وأو مزيدة في أوله الهمزة كأحمر وأصفر وإثمد. وزيادة الهمزة أولاً أكثر من تكرير اللام آخراً. فعلى ذلك ينبغي أن يكون العمل. فتبقى الكلمة من تركيب " ل ج ج " فمثلاها إذن أصلان وكذلك يلنجج لأن الياء في ذلك كالهمزة كما قدمناه. فمثلاً ألنجج ويلنجج أصلان كمثلي ألندد ويلندد. فهذه أحكام المثلين إذا كان معهما أصل واحد في أنهما أصلان لا محالة. فأما إذا كان معك أصلان ومعهما حرفان مثلان فعلى أضرب: منها أن يكون هناك تكرير على تساوي حال الحرفين. فإذا كانا كذلك كانت الكلمة كلها أصولاً وذلك نحو قلقل وصعصع وقرقر. فالكلمة إذاً لذلك رباعية. وكذلك إن اتفق الأول والثالث واختلف الثاني والرابع فالمثلان أيضاً أصلان. وذلك نحو فرفخ وقرقل وزهزق وجرجم. وكذلك إن اتفق الثاني والرابع واختلف الأول والثالث نحو كربر وقسطاس وهزنبزان وشعلع فالمثلان أيضاً أصلان. وكل ذلك أصل رباعي. وكذلك إن اتفق الأول والرابع واختتلف الثاني والثالث فالمثلان أصلان والكلمة أيضاً من بنات الأربعة. وذلك نحو قربق وصعفصة وسلعوس. وكذلك إن اتفق الأول والثاني واختلف الثالث والرابع فالمثلان أصلان والكلمة أيضاً رباعية. وذلك نحو ديدبون وزيزفون: هما رباعيان كباب ددن وكوكب في الثلاثة. ومثالهما فيعلول كخيسفوج وعيضموز. فهذه حال الرباعي. وكذلك أيضاً إن حصل معك ثلاثة أحرف أصول ومعها مثلان غير ملتقيين فهما أيضاً أصلان وذلك كقولهم زبعبق وشمشليق وشفشليق. فهذه هي الأصول التي يكون فيها المثلان أصلين. وما علمنا أن وراء ما حضرنا وأحضرناه منها مطلوباً فيتعب بالتماسه وتطلبه. فأما متى يكون أحد المثلين زائداً فهو أن يكون معك حرفان أصلان من بعدهما حرفان مثلان فأحدهما زائد. وسنذكر أيهما هو الزائد عقيب الفراغ من تقسيم ذلك. وذلك كمهدد وسردد وجلبب وشملل وصعرر واسحنكك واقعنسس. وكذلك إن كان معك حرفان أصلان بينهما حرفان مثلان فأحد المثلين أيضاً زائد. وذلك نحو سلمن وقلفٍ وكسرَّ وقطع. وكذلك إن فصل بين المثلين المتأخرين عن الأصلين المتقدمين أو المتوسطين بينهما زائد فالحال واحدة. وذلك نحو قردود وسحتيت وصهميم. وقرطاط وصفنات وعثوثل واعشوشب واخلولق. فهذا حكم المثلين بجيئان مع الأصلين. وكذلك إن جاءا بعد الثلاثة الأصول وذلك نحو قفعدد وسهلل وسبحلل وهرشف وعربد وقسحب وقسقب وطرطب. وكذلك إن التقى المثلان حشوا وذلك نحو علكد وهلقس ودبخس وشمخر وضمخر وهمقع وزملق وشعلع وهملع وعدبس وعجنس. وكذلك إن حجز بين المثلين زائد. وذلك نحو جلفزيز وهلبسيس وخربصيص وحندقوق. فهذه الكلم كلها رباعية الأصل وأحد مثليها زائد. فأما همرش فخماسي وميمه الأولى نون وأدغمت في الميم لما لم يخف هناك لبس ألا ترى أنه ليس في بنات الأربعة مثال جعفر فيلتبس به همرش. ولو حقرت همرشاً لقلت هنيمر فأظهرت نونها لحركتها. وكذلك لو استكرهت على تكسيرها لقلت هنامر. ونظير إدغام هذه النون إذا لم يخافوا لبساً قولهم امحي واماز واماع. ولما لم يكن في الكلام افعل علم أن هذا انفعل قال أبو الحسن: ولو أردت مثال انفعل من رأيت ولحزت لقلت: ارأى والحز. فإن قلت: فما تقول في مثل عذور وسنور واعلوط واخروط وهبيخ وهبيغ وجبروة وسمعنة ونظرنة وزونك فيمن أخذه من زاك يزوك وعليه حمله أبو زيد لأنه صرف فعله عقيبه معه فإن هذا سؤال ساقط عنا وذلك أنا إنما كلامنا على ما أحد مثليه زائد ليذكر فإن قيل: فهذا ولكن ما تقول في صمحمح ودمكمك وبابهما قيل: هذا في جملة ما عقدناه ألا ترى أن معك في أول المثال الصاد والميم وهما لفظ أصلين ثم تكرر كل واجد من الثاني والثالث فصار عود الثالث فصار عود الثاني ملحقاً له بباب فعل وعود الثالث ملحقاً له بباب فعلل فقد ثبت أن كل واحد من الحرفين الثاني والثالث قد عاد عليه نفس لفظه كما عاد على طاء قطع لفظها وعلى دال قعدد أيضاً لفظها. فباب فعلعل ونحوه أيضاً ثلاثي كما أن كل واحد من سلم وقطع وقعدد وشملل ثلاثي. وهذا أيضاً جواب من سأل عن مرمريس ومرمريت سؤاله عن صمحمح ودمكمك لأن هذين أولا كذينك آخرا. الآن قد أتينا على أحكام المثلين: متى يكونان أصلين ومتى يكون أحدهما زائداً بما لا تجده متقصي متحجراً في غير كلامنا هذا. وهذا أوان القول على الزائد منهما إذا اتفق ذلك أيهما هو. فمذهب الخليل في ذلك أن الأول منهما هو الزائد ومذهب يونس وإياه كان يعتمد أبو بكر أن الثاني منهما هو الزائد. وقد وجدنا لكل من القولين مذهباً واستوسعنا له بحمد الله مضطرباً. فجعل الخليل الطاء الأولى من قطع ونحوه كواو حوقل وياء بيطر وجعل يونس الثانية منه كواو جهور ودهور. وجعل الخليل باء جلبب الأولى كواو جهور ودهور وجعل يونس الثانية كياء سلقيت وجعبيت. وهذا قدر من الحجاج مختصر وليس بقاطع وإنما فيه الأنس بالنظير لا القطع باليقين. ولكن من أحسن ما يقال في ذلك ما كان أبو علي رحمه الله يحتج به لكون الثاني هو الزائد قولهم: اقعنسس واسحنكك قال: ووجه الدلالة من ذلك أن نون افعنلل بابها إذا وقعت في ذوات الأربعة أن تكون بين أصلين نحو احرنجم واخرنطم. واقعنسس ملحق بذلك فيجب أن يحتذي به طريق ما ألحق بمثاله. فلتكن السين الأولى أصلاكما أن الطاء المقابلة لها من اخرنطم أصل. وإذا كانت السين الأولى من اقعنسس أصلاً كانت الثانية الزائدة من غير ارتياب ولا شبهة. وهذا في معناه سديد حسن جار على أحكام هذه الصناعة. ووجدت أنا أشياء في هذا المعنى يشهد بعضها لهذا المذهب وبعضها لهذا المذهب. فمما يشهد لقول يونس قول الراجز: بني عقيل ماذه الخنافق! المال هدى والنساء طالق فالخنافق جمع خنفقيق وهي الداهية. ولن تخلو القاف المحذوفة أن تكون الأولى أو الثانية فيبعد أن تكون الأولى لأنه لو حذفها لصار التقدير به في الواحد إلى خنفيق ولو وصل إلى ذاك لوقعت الياء رابعة فيما عدته خمسة وهذا موضع يثبت فيه حرف اللين بل يجتلب إليه تعويضاً أو إشباعاً. فكان يجب على هذا خنافيق. فلما لم يكن كذلك علمت أنه إنما حذف القاف الثانية فبقى خنفقي فلما وقعت الياء خامسة حذفت فبقي خنفق فقيل في تكسيره خنافق. فإن قلت: ما أنكرت أن يكون حذف القاف الأولى فبقي خنفيق وكان قياس تكسيره خنافيق غير أنه اضطر إلى حذف الياء كضرورته إلى حذفها في قوله: والبكرات الفسج العطامسا قيل: الظاهر غير هذا وإنما العمل على الظاهر لا على المحتمل. فإذا صح أنه إنما حذف الثانية علمت أنها هي الزائدة دون الأولى. ففي هذا بيان وتقوية لقول يونس. ويقوى قوله أيضاً أنهم لما ألحقوا الثلاثة بالأربعة فقالوا مهدد وجلبب وبدأوا باستعمال الأصلين وهما الميم والهاء والجيم واللام فهذان أصلان لا محالة. فكما تبعت الهاء الميم والهاء أصل كما أن الميم أصل فكذلك يجب أن تكون الدال الأولى أصلاً لتتبع الهاء التي هي أصل. فكما لا يشك أن الهاء أصل تبع أصلاً فكذلك ينبغي أن تكون الدال الأولى أصلاً تبعت أصلاً من حيث تساوت أحوال الأصول الثلاثة وهي الفاء والعين واللام. فلما استوفيت الأصول الثلاثة المقابل بها من جعفر الأصول الأول الثلاثة وبقيت هناك بقية من الأصل الممثل وهي اللام الثانية التي هي الراء استؤنفت لها لام ثانية مكررة وهي الدال الثانية. نعم وإذا كانت اللام الثانية من الرباعي مشابهة بتجاوزها الثلاثة للزائد كان الحرف المكرر الذي هو أجد فهذا كله كما ترى شاهد بقوة قول يونس. فأما ما يشهد للخليل فأشياء. منها ما جاء من نحو فعوعل وفعيعل وفعنلل وفعاعل وفعاعيل نحو غدودن وخفيدد وعقنقل وزرارق وسخاخين. وذلك أنك قد علمت أن هذه المثل التي تكررت فيها العينان إنما يتقدم على الثانية منهما الزائد لا محالة أعني واو فعوعل وياء فعيعل ونون فعنلل وألف فعاعل وفعاعيل. فكما أنهما لما اجتمعا في هذه المثل ما قبل الثانية زائد لا محالة فكذلك ينبغي أن يكونا إذا التقيا غير مفصول بينهما في نحو فَعَّل وفُعّل وفَعَّال وفُعَّال وفٍعِّل وما كان نحو ذلك: الزائدة منهما أيضاً هي الأولى لوقوعها موقع الزوائد مع التكرير فيهما لا محالة. فكما لا يشك في زيادة ما قبل العين الثانية في فعوعل وبابه فكذلك ينبغي ألا يشك في زيادة ما قبل العين الثانية مما التقت عيناه نحو فَعَّل وفُعّل وبقية الباب. وهذا واضح. فإن عكس عاكس هذا فقال: إن كان هذا شاهداً لقول الخليل عندك كان هو أيضاً نفسه شاهدا لقول يونس عند غيرك. وذلك أن له أن يقول: قد رأينا العينين في بعض المثل إذا التقتا مفصولة إحداهما من الأخرى فإن ما بعد الأولى منهما زائد لا محالة ويورد هذه المثل عينها نحو عثوثل وخفيدد وعقنقل وبقية الباب فيقول لك: فكما أن ما بعد العين الأولى منها زائد فالجواب أن هذه الأحرف الزوائد في فعوعل وفعيعل وفعنلل وبقية الباب أشبه بالعين الأولى منها بالعين الآخرة وذلك لسكونها كما أن العينين إذا التقتا فالأولى منهما ساكنة لا غير نحو فَعّل وفُعّل وفِعِّيل وبقية الباب ولا نعرف في الكلام عينين التقتا والأولى منهما متحركة ألا ترى أنك لا تجد في الكلام نحو فِعِعْل ولا فُعُعْل ولا فُعُعْل ولا شيئاً من هذا الضرب لم نذكره. فإذا كان كذلك علمت أن واو فعوعل لسكونها أشبه بعين فعل الأولى لسكونها أيضاً منها بعينها الثانية لحركتها فاعرف ذلك فرقاً ظاهراً. ومنها أن أهل الحجاز يقولون للصواغ: الصياغ فيما رويناه عن الفراء وفي ذلك دلالة على ما نحن بسبيله. ووجه الاستدلال منه أنهم كرهوا التقاء الواوين لا سيما فيما كثر استعماله فأبدلوا الأولى من العينين ياء كما قالوا في أما: أيما ونحو ذلك فصار تقديره: الصيواغ فلما التقت الواو والياء على هذا أبدلوا الواو للياء قبلها فقالوا الصياغ. فإبدالهم العين الأولى من الصواغ دليل على أنها هي الزائدة لأن الإعلال بالزائد أولى منه بالأصل. فإن قلت: فقد قلبت العين الثانية أيضاً فقلت صياغ فلسنا نراك إلا وقد أعللت العينين جميعاً فمن جعلك بأن تجعل الأولى هي الزائدة دون الآخرة وقد انقلبتا جميعاً قيل قلب الثانية لا يستنكر لأنه كان عن وجوب وذلك لوقوع الياء ساكنة قبلها فهذا غير بعيد ولا معتذر منه لكن قلب الأولى وليس هناك علة تضطر إلى إبدالها أكثر من الاستخفاف مجرداً هو المعتد المستنكر المعول عليه المحتج به فلذلك اعتمدناه وأنشأنا الاحتجاج للخليل عنه إذ كان تلعباً بالحرف من غير قوة سبب ولا وجوب علة. فأما ما يقوي سببه ويتمكن حال الداعي إليه فلا عجب منه ولا عصمة للحرف وإن كان أصلياً دونه. وإذا كان الحرف زائداً كان بالتلعب به قمنا. واذكر قول الخليل وسيبويه في باب مقول ومبيع وأن الزائد عندهما هو المحذوف أعني واو مفعول من حيث كان الزائد أولى بالإعلال من الأصل. فإن قلت: فما أنكرت أن يكونوا إنما أبدلوا العين الثانية في صواغ دون الأولى فصار التقدير به إلى صوياغ ثم وقع التغيير فيما بعد قيل: يمنع من ذلك أن العرب إذا غيرت كلمة عن صورة إلى أخرى اختارت أن تكون الثانية مشابهة لأصول كلامهم ومعتاد أمثلتهم. وذلك أنك تحتاج إلى أن تنيب شيئاً عن شيء فأولى أحوال الثاني بالصواب أن يشابه الأول. ومن مشابهته له أن يوافق أمثلة القوم كما كان المناب عنه مثالاً من مثلهم أيضاً ألا ترى أن الخليل لما رتب أمر أجزاء العروض المزاحفة فأوقع للزحاف مثالاً مكان مثال عدل عن الأول المألوف الوزن إلى آخر مثله في كونه مألوفاً وهجر ما وذلك أنه لما طوى " مُسْ تَفْ عِلُنْ " فصار إلى مُسْ تَعِلُن " ثناه إلى مثال معروف وهو مفتعلن لما كره مُسْتَعِلُنْ إذ كان غير مألوف ولا مستعمل. وكذلك لما ثرم فَعُولُنْ فصار إلى عُولُ وهو مثال غير معروف عدله إلى فَعْلُ. وكذلك لما خبل مُسْتَفْعِلُنْ فصار إلى مُتَعِلُنْ فاستنكر ما بقي منه جعل خالفة الجزء فَعَلَتُنْ ليكون ما صير إليه مثالاً مألوفاً كما كان ما انصرف عنه مثالاً مألوفاً. ويؤكد ذلك عندك أن الزحاف إذا عرض في موضع فكان ما يبقى بعد إيقاعه مثالاً معروفاً لم يستبدل به غيره. وذلك كقبضه مفاعلين إذا صار إلى مفاعلن وككفه أيضاً لما صار إلى مفاعيل فلما كان ما بقي عليه الجزء بعد زحافه مثالاً غير مستنكر أقره على صورته ولم يتجشم تصوير مثال آخر غيره عوضاً منه وإنما أخذ الخليل بهذا لأنه أحزم وبالصنعة أشبه. فكذلك لما أريد التخفيف في صواغ أبدل الحرف الأول فصار من صيواغ إلى لفظ فيعال كفيداق وخيتام. ولو أبدل الثاني لصار صوياغ إلى لفظ فيعال وفعْيال مثال مرفوض. فإن قلت كان يصير من صوياغ إلى لفظ فوعال قيل قد ثبت أن عين هذه الكلمة واو فصوياغ إذاً لو صير إليه لكان فعيالا لا محالة فلذلك قلنا: إنهم أبدلوا العين الأولى ياء ثم إنهم أبدلوا لها العين الثانية وإذا كان المبدل هو الأول لزم أن يكون هو الزائد لأن حرمة الزائد أضعف من حرمة فهذا أيضاً أحد ما يشهد بصحة قول الخليل. ومنها قولهم: صَمَحْمَح ودَمَكْمَك فالحاء الأولى هي الزائدة وكذلك الكاف الأولى وذلك أنها فاصلة بين العينين والعينان متى اجتمعتا في كلمة واحدة مفصولاً بينهما فلا يكون الحرف الفاصل بينهما إلا زائداً نحو عثوثل وعقنقل وسلالم وخفيفد. وقد ثبت أيضاً بما قدمناه قبيل أن العين الأولى هي الزائدة. فثبت إذاً أن الميم والحاء الأوليين في صمحمح هما الزائدتان وأن الميم والحاء الأخريين هما الأصلان. فاعرف ذلك فإنه مما يحقق مذهب الخليل. ومنها أن التاء في تفعيل عوض من عين فعال الأولى والتاء زائدة فينبغي أن تكون عوضاً من زائد أيضاً من حيث كان الزائد بالزائد أشبه منه بالأصلي. فالعين الأولى إذاً من قطاع هي الزائدة لأن تاء تقطيع عوض منها كما أن هاء تفعلة في المصدر عوض من ياء تفعيل وكلتاهما زائدة. فليس واحد من المذهبين إلا وله داع إليه وحامل عليه. وهذا مما يستوقفك عن القطع على أحد المذهبين إلا بعد تأمله وإنعام الفحص عنه. والتوفيق تبالله عز وجل.
باب في الأصلين يتقاربان في التركيب بالتقديم والتأخير
اعلم أن كل لفظين وجد فيهما تقديم وتأخير فأمكن أن يكونا جميعاً أصلين ليس أحدهما مقلوباً عن صابحه فهو القياس الذي لا يجوز غيره. وإن لم يمكن ذلك حكمت بأن أحدهما مقلوب عن صاحبه ثم أريت أيهما الأصل وأيهما الفرع. وسنذكر وجوه ذلك. فمما تركيباه أصلان لا قلب فيهما قولهم: جذب وجبذ ليس أحدهما مقلوباً عن صاحبه. وذلك أنهما جميعاً يتصرفان تصرفاً واحداً نحو جذب يجذب جذباَ فهو جاذب والمفعول مجذوب وجبذ يجبذ جبذاً فهو جابذ والمفعول مجبوذ. فإن جعلت مع هذا أحدهما أصلاً لصاحبه فسد ذلك لأنك لو فعلته لم يكن أحدهما أسعد بهذه الحال من الآخر. فإذا وقفت الحال بينهما ولم يؤثر بالمزية أحدهما وجب أن يتوازيا وأن يمثلا بصفحتيهما معاً. وكذلك ما هذه سبيله. فإن قصر أجدهما عن تصرف صاحبه ولم يساوه فيه كان أوسعهما تصرفاً أصلاً لصاحبه. وذلك كقولهم أنى الشيء يأني وآن يئين. فآن مقلوب عن أنى. والدليل على ذلك وجودك مصدر أنى يأنى وهو الإنَى ولا تجد لآن مصدراً كذا قال الأصمعي. فأما الأين فليس من هذا في شيء إنما الأين: الإعياء والتعب. فلما قال الأصمعي. فأما الأين فليس من هذا في شيء إنما الأين: الإعياء والتعب. فلما عدم من آن المصدر الذي هو أصل للفعل علم أنه مقلوب عن أنى يأنى إنىً قال الله تعالى {إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} أي بلوغه وإدراكه. قال أبو علي: ومنه سموا الإناء لأنه لا يستعمل إلا بعد بلوغه حظه من خرزه أو صياغته أو نجارته أو نحو ذلك. غير أن أبا زيد قد حكى لآن مصدراً وهو الأين. فإن كان الأمر كذلك فهما إذاً أصلان متساويان وليس أحدهما أصلاً لصاحبه. ومثل ذلك في القلب قولهم أيست من كذا فهو مقلوب من يئست لأمرين ذكر أبو علي أحدهما وهو ما ذهب إليه من أن أيست لا مصدر له وإنما المصدر ليئست وهو اليأس واليآسة. قال: فأما قولهم في اسم الرجل إياس فليس مصدراً لأيست ولا هو أيضاً من لفظه وإنما هو مصدر أست الرجل أؤوسه إياساً سموه به كما سموه عطاء تفاؤلا بالعطية. ومثل ذلك عندى تسميتهم إياه عياضاً وإنما هو مصدر عضته أي أعطيته قال: عاضها الله غلاماً بعد ما شابت الأصداغ والضرس نقد عطف جملة من مبتدأ وخبر على أخرى من فعل وفاعل أعني قوله: والضرس نقد أي ونقد الضرس. وأما الآخر فعندي أنه لو لم يكن مقلوباً لوجب إعلاله وأن يقول: إست أآس كهبت أهاب. فظهوره صحيحاً يدل على أنه إنما صح لأنه مقلوب عما تصح عينه وهو يئست لتكون الصحة دليلاً على ذلك المعنى كما كانت صحة عور دليلاً على أنه في معنى ما لا بد من صحته وهو أعور. فأما تسميتهم الرجل أوسا فإنه يحتمل أمرين أحدهما أن يكون مصدر أسته أي أعطيته كما سموه عطاء وعطية. والآخر أن يكون سموه به كما سموه ذئباً. فأما ما أنشدناه من قول الآخر: لي كل يوم من ذواله ضغث يزيد على إباله فلا حشأنك مشقصاً أوسا أويس من الهباله فأوساً منه ينتصب على المصدر بفعل دل عليه قوله: لأحشأنك فكأنه قال لأؤوسنك أوساً كقول الله سبحان {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ} لأن مرورها يدل على صنع الله فكأنه قال: صنع الله ذلك صنعاً وأضاف المصدر إلى فاعله كما لو ظهر الفعل الناصب لهذا المصدر لكان مسنداً إلى اسم الله تعالى. وأما قوله أويس فنداء أراد: يا أويس يخاطب الذئب وهو اسم له مصغراً كما أنه اسم له مكبر قال: فأما ما يتعلق به " من " فإن شئت علقته بنفس أوسا ولم يعتدد بالنداء فاصلاً لكثرته في الكلام وكونه معترضاً به للتسديد كما ذكرنا من هذا الطرز في باب الاعتراض في قوله: يا عمر الخير جريت الجنه اكس بنياتي وأمهنه أو يا أبا حفص لأمضينه فاعترض بالنداء بين " أو " والفعل. وإن شئت علقته بمحذوف يدل عليه أوسا فكأنه قال: أؤوسك من الهبالة أي أعطيك من الهبالة. وإن شسئت جعلت حرف الجر هذا وصفاً لأوساً فعلقته بمحذوف وضمنته ضمير الموصوف. ومن المقلوب قولهم امضحل وهو مقلوب عن اضمحل ألا ترى أن المصدر إنما هو على اضمحل وهو الاضمحلال ولا يقولون: امضحلا. وكذلك قولهم: اكفهر واكرهف الثاني مقلوب عن الأول لأن التصرف على اكفهر وقع ومصدره الاكفهرار ولم يمرر بنا الأكرهفاف قال النابغة: أو فازجروا مكفهراً لا كفاء له كالليل يخلط أصراماً بأصرام وقد حكى بعضهم مكرهف. فإن ساواه في الاستعمال فهما على ما ترى أصلان. ومن ذلك: هذا لحم شخم وخشم وفيه تشخيم ولم أسمع تخشيم. فهذا يدل على أن شخم أصل ومن ذلك قولهم: اطمأن. ذهب سيبويه فيه إلى أنه مقلوب وأن أصله من طأمن وخالفه أبو عمر فرأى ضد ذلك. وحجة سيبويه فيه أن طأمن غير ذي زيادة واطمأن ذو زيادة والزيادة إذا لحقت الكلمة لحقها ضرب من الوهن لذلك وذلك لأن مخالطتها شيء ليس من أصلها مزاحمة لها وتسوية في التزامه بينها وبينه وهو وإن لم تبلغ الزيادة على الأصول فحش الحذف منها فإنه على كل حال على صدد من التوهين لها إذ كان زيادة عليها تحتاج إلى تحملها كما يتحامل بحذف ما حذف منها. وإذا كان في الزيادة طرف من الإعلال للأصل كان أن يكون القلب مع الزيادة أولى. وذلك أن الكلمة إذا لحقها ضرب من الضعف أسرع إليها ضعف آخر وذلك كحذفهم ياء حنيفة في الإضافة إليها لحذف تائها في قولهم حنفي ولما لم يكن في حنيف تاء تحذف فيحذف ياؤها جاء في الإضافة إليه على أصله فقالوا: حنيفى. فإن قال أبو عمر: جرى المصدر على اطمأن يدل على أنه هو الأصل وذلك قولهم: الاطمئنان قيل: قولهم الطأمنة بإزاء قولك: الاطمئنان فمصدر بمصدر وبقي على أبي عمر أن الزيادة جرت في المصدر جريها في الفعل. والعلة في الموضعين واحدة. وكذلك الطمأنينة ذات زيادة فهي إلى الاعتلال قرب. ولم يقنع أبا عمر أن يقول: إنهما أصلان متقاودان كجبذ وجذب حتى مكن خلافه لصاحب الكتاب بأن عكس الأمر عليه البتة. وذهب سيبويه في قولهم أينق مذهبين: أحدهما أن تكون عين أنوق قلبت إلى ما قبل الفاء فصارت في التقدير أونق ثم أبدلت الواو ياء لأنها كما أعلت بالقلب كذلك أعلت أيضاً بالإبدال على ما مضى والآخر أن تكون العين حذفت ثم عوضت الياء منها قبل الفاء. فمثالها على هذا القول أيفل وعلى القول الأول أعفل. وذهب الفراء في الجاه إلى أنه مقلوب من الوجه. وروينا عن الفراء أنه قال: سمعت أعرابية من غطفان وزجرها ابنها فقلت لها: ردي عليه فقالت: أخاف أن يجوهني بأكثر من هذا. قال: وهو من الوجه أرادت: يواجهني. وكان أبو علي رحمه الله يرى أن الجاه مقلوب عن الوجه أيضاً. قال: ولما أعلوه بالقلب أعلوه أيضاً بتحريك عينه ونقله من فَعْلٍ إلى فَعَل يريد أنه صار من وجه إلى جَوْهٍ ثم حركت عينه فصار إلى جَوَهٍ ثم أبدلت عينه لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار جاه كما ترى. وحكى أبو زيد: قد وجه الرجل وجاهة عند السلطان وهو وجيه. وهذا يقوي القلب لأنهم لم يقولوا جَوِيه ولا نحو ذلك. ومن المقلوب قِسِيّ وأشياء في قول الخليل. وقوله: مروان مروان أخو اليوم اليمي فيه قولان: أحدهما أنه أراد: أخو اليوم السهل اليوم الصعب يقال يوم أيوم ويوم كأشعث وشعث وأخشن وخشن وأوجل ووجل فقلب فصار يمو فانقلبت العين لانكسار ما قبلها طرفا. والآخر أنه أراد: أخو اليوم اليوم كما يقال عند الشدة والأمر العظيم: اليوم اليوم فقلب فصار اليمو ثم نقله من فَعْل إلى فَعِل كما أنشده أوب زيد من قوله: علام قتل مسلم تعبدا مذ سنة وخَمِسون عددا يريد خَمْسونَ فلما انكسر ما قبل الواو قلبت ياء فصار اليَمِى. هذان قولان فيه مقولان. ويجوز عندي فيه وجه ثالث لم يقل به. وهو أن يكون أصله على ما قيل في المذهب الثاني: أخو اليوم اليوم ثم قلب فصار اليَمْوُ ثم نقلت الضمة إلى الميم على حد قولك: هذا بَكُرْ فصارت اليَمُو فلما وقعت الواو طرفا بعد ضمة في الاسم أبدلوا من الضمة كسرة ثم من الواو ياء فصارت اليَمِى كأحقٍ وأدْلٍ. فإن قيل: هلا لم تُستنكَر الواو هنا بعد الضمة لما لم تكن الضمة لازمة قيل: هذا وإن كان على ما ذكرته فإنهم قد أجروه في هذا النحو مجرى اللازم ألا تراهم يقولون على هذه اللغة: هذه هند ومررت بجمل فيتبعون الكسر الكسر والضم الضم كراهية للخروج من كسرة هاء هند إلى ضمة النون وإن كانت الضمة عارضة. وكذلك كرهوا مررت بجمل لئلا يصيروا في الأسماء إلى لفظ فِعلُ. فكما أجروا النقل في هذين الموضعين مجرى اللازم فكذلك يجوز أن يجرى اليمو مجرى أدلو وأحقو فيغيركما غيرا فقيل اليمى حملا على الأدلى والأحقي. فإن قيل: نحو زيد وعون لا ينقل إلى عينه حركة لامه واليوم كعون قيل جاز ذلك ضرورة لما يعقب من صلاح القافية وأكثر ما فيه إجراء المعتل مجرى الصحيح لضرورة الشعر. ومن المقلوب بيت القطامي: ما اعتاد حب سليمى حين معتاد ولا تقصى بواقي دينها الطادي هو مقلوب عن الواطد وهو الفاعل من وطد يطد أي ثبت. فقلب عن فاعل إلى عالف. ومثله عندنا الحادي لأنه فاعل من وحد وأصله الواحد فنقل عن فاعل إلى عالف سواء فإنقلبت الواو التي هي في الأصل فاء ياء لانكسار ما قبلها في الموضعين جميعاً. وحكى الفراء: معي عشرة فأحدهن لي أي اجعلهن أحد عشر فظاهر هذا يؤنس بأن الحادي فاعل. والوجه إن كان المروي صحيحاً أن يكون الفعل مقلوباً من وحدت إلى حدوت وذلك أنهم لما رأوا الحادي في ظاهر الأمر على صورة فاعل صار كأنه جارٍ على حدوت جريان غازٍ على غزوت كما أنهم لما استمر استعمالهم الملك بتخفيف الهمزة صار كأن مَلَكا على فَعَل فلما صار اللفظ بهم إلى هذا بنى الشاعر على ظاهر أمره فاعلاً منه فقال حين ماتت نساؤه بعضهن إثر بعض: غدا مالك يرمي نسائي كأنما نسائي لسهمي مالكٍ غرضان يعني ملك الموت ألا تراه يقول بعد هذا: فيا رب عمر لي جهيمة أعصرا فمالك الموت بالقضاء دهاني وهذا ضرب من تدريج اللغة. وقد تقدم الباب الذي ذكرنا فيه طريقه في كلامهم فليضمم هذا إليه فإنه كثير جداً. ومثل قوله فاحْدُهُنَّ في أنه مقلوب من وحد قول الأعرابية: أخاف أن يَجُوهَني وهو مقلوب من الوجه. فأما وزن مالك على الحقيقة فليس فاعلاً لكنه ما فل ألا ترى أن أصل ملك ملأك: مفعل من تصريف ألكني إليها عمرك الله وأصله ألئكني فخففت همزته فصار ألكني كما صار ملأك بعد التخفيف إلى ملك ووزن مَلَك مَفَل. ومن طريف المقلوب قولهم للقطعة الصعبة من الرمل تَيْهُورة وهي عندنا فَيْعُولة من تهور الجرف وانهار الرمل ونحوه. وقياسها أن تكون قبل تغييرها هَيْوُورة فقدمت العين وياء فيعول إلى ما قبل الفاء فصارت وَيْهُورة ثم أبدلت الواو التي هي عين مقدمة قبل الياء تاء كتَيْقُور فصارت تيهورة كما ترى. فوزنها على لفظها الآن عيفولة. أنشدنا أبو علي: خليلي لا يبقى على الدهر فادر بتيهورة بين الطخا فالعصائب ويروى: الطخاف العصائب فهذا قول وهو لأبي علي رحمه الله. ويجوز عندي أن تكون في الأصل أيضاً تفعولة كتعضوضة وتدنوبة فيكون أصلها على هذا تهوورة فقدمت العين على الفاء إلى أن صار وزنها تعفولة وآل اللفظ بها إلى توهورة فأبدلت الواو التي هي عين مقدمة ياء كما أبدلت عين أينق لما قدمت في مذهبي الكتاب ياء فنقلت من أنوق إلى أونق ومن أونق تقديراً إلى أينق لأنها كما أعلت بالقلب كذا أعلت بالإبدال فصارت أينقا. وكذلك صارت توهورة إلى تيهورة. وإن شئت جعلتها من الياء لا من الواو فقد حكى أبو الحسن عنهم: هار الجرف يهير. ولا تحمله على طاح يطيح وتاه يتيه في قول الخليل لقلة ذلك ولأنهم قد قالوا أيضاً: تهير الجرف في معنى تهور وحمله على تفعل أولى من حمله على تفيعل كتحيز. فإذا كانت تيهورة من الياء على هذا القول فأصلها تهيورة ثم قدمت العين التي هي الياء على الفاء فصار تيهورة. وهذا القول إنما فيه التقديم من غير إبدال. وإنما قدمنا القول الأول وإن كانت كلفة الصنعة فيه أكثر ويجوز فيه عندي وجه ثالث وهو أن يكون في الأصل يفعولة كيعسوبٍ ويربوعٍ فيكون أصلها يهوورة ثم قدمت العين إلى صدر الكلمة فصارت ويهورة: عيفولة ثم أبدلت الواو التي هي عين مقدمة تاء على ما مضى فصارت تيهورة. ودعانا إلى اعتقاد القلب والتحريف في هذه الكلمة المعنى المتقاضيته هي. وذلك أن الرمل مما ينهار ويتهور ويهور ويهير ويتهير. فإن كسرت هذه الكلمة أقررت تغييرها عليها كما أن أينقا لما كسرتها العرب أقرتها على تغييرها فقالت: أيانق. فقياس هذا أن تقول في تكسير تيهورة على كل قول وكل تقدير: تياهير. وكذلك المسموع عن العرب أيضاً في تكسيرها. والقلب في كلامهم كثير. وقد قدمنا في أول هذا الباب أنه متى أمكن تناول الكلمة على ظاهرها لم يجز العدو عن ذلك بها وإن دعت ضرورة إلى القول بقلبها كان ذلك مضطراً إليه لا مختاراً.
باب في الحرفين المتقاربين يستعمل أحدهما مكان صاحبه
اعلم أن هذا الباب لاحق بما قبله وتال له. فمتى أمكن أن يكون الحرفان جميعاً أصلين كل واحد منهما قائم برأسه لم يسغ العدول عن الحكم بذلك. فإن دل دال أو دعت ضرورة إلى القول بإبدال أحدهما من صاحبه عمل بموجب الدلالة وصير إلى مقتضى الصنعة. ومن ذلك سكر طبرزل وطبرزن: هما متساويان في الاستعمال فلست بأن تجعل أحدهما أصلاً لصاحبه أولى منك بحمله على ضده. ومن ذلك قولهم: هتلت السماء وهتنت: هما أصلان ألا تراهما متساويين في التصرف يقولون: هتنت السماء تهتن تهتاناً وهتلت تهتل تهتالاً وهي سحائب هتن وهتل قال امرؤ القيس: فسحت دموعي في الرداء كأنها كلى من شعيب ذات سح وتهتان وقال العجاج: عزز منه وهو معطى الإسهال ضرب السواري متنه بالتهتال ومن ذلك ما حكاه الأصمعي من قولهم: دهمج البعير يدهمج دهمجة ودهنج يدهنج دهنجة إذا قارب الخطو وأسرع وبعير دهامج ودهانج وأنشد للعجاج: كأن رعن الآل ممنه في الآل بين الضحا وبين قيل القيال إذا بدا دهانج ذو أعدال وأنشد أيضاً: # وعير لها من بنات الكداد يدهنج بالوطب والمزود فأما قولهم: ما قام زيد بل عمرو وبن عمرو فالنون بدل من اللام ألا ترى إلى كثرة استعمال بل وقلة استعمال بن والحكم على الأكثر لا على الأقل. هذا هو الظاهر من أمره. ولست مع هذا أدفع أن يكون بن لغة قائمة برأسها. وكذلك قولهم: رجل خامل وخامن النون فيه بدل من اللام ألا ترى أنه أكثر وأن الفعل عليه تصرف وذلك قولهم: خمل يخمل خمولاً. وكذلك قولهم: قام زيد فم عمرو الفاء بدل من الثاء في ثم ألا ترى أنه أكثر استعمالاً. فأما قولهم في الأثافي: الأثاثي فقد ذكرناه في كتابنا في سر الصناعة وقال الأصمعي: بنات مخر وبنات بخر: سحائب يأتين قبل الصيف بيض منتصبات في السماء قال طرفة: كبنات المخر يمأدن إذا أنبت الصيف عساليج الخضر قال أبو علي رحمه الله: كان أبو بكر يشتق هذه الأسماء من البخار فالميم على هذا في مخر بدل من الباء في بخر لما ذكر أبو بكر. وليس ببعيد عندي أن تكون الميم أصلاً في هذا أيضاً وذلك لقول الله سبحانه: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ} أي ذاهبة وجائية وهذا أمر قد يشاركها فيه السحائب ألا ترى إلى قول الهذلي. شربن بماء البحر ثم ترفعت متى لجج خضر لهن نئيج فهذا يدل على مخالطة السحائب عندهم البحر وتركضها فيه وتصرفها على صفحة مائه. وعلى كل حال فقول أبي بكر أظهر. ومن ذلك قولهم: بلهلة بن أعصر ويعصر فالياء في يعصر بدل من الهمزة في أعصر يشهد بذلك ما ورد به الخبر من أنه إنما سمي بذلك لقوله: أبني إن أباك غير لونه كر الليالي واختلاف الأعصر يريد جمع عصر. وهذا واضح. فأما قولهم: إناء قربان وكربان إذا دنا أن يمتلئ فينبغي أن يكونا أصلين لأنك تجد لكل واحدة مهما متصرفاً أي قارب أن يمتلئ وكرب أن يمتلئ إلا أنهم قد قالوا: جمجمة قربى ولم نسمعهم قالوا كربى. فإن غلبت القاف على الكاف من هنا فقياس ما. وقال الأصمعي: يقال: جعشوش وجعسوس وكل ذلك إلى قمأةٍ وقلةٍ وصغر ويقال: هم من جعاسيس الناس ولا يقال بالشين في هذا. فضيق الشين مع سعة السين يؤذن بأن الشين بدل من السين. نعم والاشتقاق يعضد كون السين غير معجمة هي الأصل وكأنه أشتق من الجعس صفة على فعلول وذلك أنه شبه الساقط المهين من الرجل بالخرء لذله ونتنه. ونحو من ذلك في البدل قولهم: فسطاط وفستاط وفساط وبكسر الفاء أيضاً فذلك ست لغات. فإذا صاروا إلى الجمع قالوا فساطيط وفساسيط ولا يقولون فساتيط بالتاء. فهذا يدل أن التاء في فستاط إنما هي بدل من طاء فسطاط أو من سين فساط. فإن قلت: هلا اعتزمت أن تكون التاء في فستاط بدلاً من طاء فسطاط لأن التاء أشبه بالطاء منها بالسين قيل بإزاء ذلك أيضاً: إنك إذا حكمت بأنها بدل من سين فساط ففيه شيئان جيدان: أحدهما تغيير للثاني من المثلين وهو أقيس من تغيير الأول من المثلين لأن الاستكراه في الثاني يكون لا في الأول والآخر أن السينين في فسّاط ملتقيتان والطاءين في فسطاط منفصلتان بالألف بينهما واستثقال المثلين ملتقيين أحرى من استثقالهما مفترقين وأيضاً فإن السين والتاء جميعاً مهموستان والطاء مجهورة. فعلى هذا الاعتبار ينبغي أن يتلقى ما يرد من حديث الإبدال إن كان هناك إبدال أو اعتقاد أصلية الحرفين إن كانا أصلين. وعلى ما ذكرناه في الباب الذي قبل هذا ينبغي أن تعتبر الكلمتان في التقديم والتأخير نحو اضمحل وامضحل وطأمن واطمأن. والأمر واسع. وفيما أوردناه من مقاييسه كاف بإذن الله. ونحن نعتقد إن أصبنا فسحة أن نشرح كتاب يعقوب بن السكيت في القلب والإبدال فإن معرفة هذه الحال فيه أمثل من معرفة عشرة أمثال لغته وذلك أن مسألة واحدة من القياس أنبل وأنبه من كتاب لغة عند عيون الناس. قال لي أبو علي رحمه الله بحلب سنة ست وأربعين: أخطئ في خمسين مسألة في اللغة ولا أخطئ في واحدة من القياس. ومن الله المعونة وعليه الاعتماد. باب في قلب لفظ إلى لفظ بالصنعة والتلطف لا بالإقدام والتعجرف أما ما طريقه الإقدام من غير صنعة فنحو ما قدمناه آنفا من قولهم: ما أطيبه وأيطبه وأشياء في قول الخليل وقسيّ وقوله أخو اليوم اليمى. فهذا ونحوه طريقه طريق الاتساع في اللغة من غير تأت ولا صنعة. ومثله موقوف على السماع وليس لنا الإقدام عليه من طريق القياس. فأما ما يتأتى له ويتطرق إليه بالملاينة والإكثاب من غير كد ولا اغتصاب فهو ما عليه عقد هذا الباب. وذلك كأن يقول لك قائل: كيف تحيل لفظ وأيت إلى لفظ أويت فطريقه أن تبني من وأيت فَوْعلاً فيصير بك التقدير فيه إلى وَوْأَىٍ فتقلب اللام ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فيصير وَوْأًى ثم تقلب الواو الأولى همزة لاجتماع الواوين في أول الكلمة فيصير أَوْأًى قم تخفف الهمزة فتحذفها وتلقي حركتها على الواو قبلها فيصير أَواً اسما كان أو فعلاً. فقد رأيت كيف استحال لفظ وأى إلى لفظ أوا من غير تعجرف ولا تهكم على الحروف. وكذلك لو بنيت مثل فَوْعال لصرت إلى وَوْآىٍ ثم إلى أَوْآىٍ ثم أوْآءٍ. ثم تخفف فيصير إلى أواءٍ فيشبه حينئذ لفظ آءة أو أويت أو لفظ قوله: فأو لذكراها إذا ما ذكرتها وقد فعلت العرب ذلك منه قولهم: أوار النار وهو وهجها ولفحها ذهب فيه الكسائي مذهباً حسناً وكان هذا الرجل كثيراً في السداد والثقة عند أصحابنا قال: هو فُعَال من وَأَرْتُ الإرة أي احتفرتها لإضرام النار فيها. وأصلها وُآر ثم خففت الهمزة فأبدلت في اللفظ واواً فصارت ووار فلما التقت في أول الكلمة الوالوان وأجرى غير اللازم مجرى اللازم أبدلت الأولى همزة فصارت أوَار أفلا ترى إلى استحالة لفظ وأر إلى لفظ أور بالصنعة. وقال أبو زيد في تخفيف همزتي افعوعلت من وأيت جميعاً: أويت وقد أوضح هذا أبو زيد وكيف صنعته وتلاه بعده أبو عثمان في تصريفه. وأجاز أبو عثمان أيضاً فيها وويت قال لأن نية الهمزة فاصلة بين الواوين. فقياس هذا أن تصحح واوى ووار عند التخفيف لتقديرك فيه نية التحقيق وعليه قال الخليل في تخفيف فعل من وأيت أوى أفلا تراه كيف أحالته الصنعة من لفظ إلى لفظ. وكذلك لو بنيت من أول مثال فَعْل لوجب أن تقول أَوْل: فتصيرك الصنعة من لفظ وول إلى لفظ أول. ومن ذلك قول العرب: نسريت من لفظ " س ر ر " ومثله قصيت أظفاري هو من لفظ " ق ص ص " وقد آل بالصنعة إلى لفظ " ق ص ى ". وكذلك قوله: تقضى البازي إذا البازي كسر هو في الأصل من تركيب " ق ض ض " ثم أحاله ما عرض من استثقال تكريره إلى لفظ " ق ض ى ". وكذلك قولهم: تلعيت من اللعاعة أي خرجت أطلبها وهي نبت أصلها " ل ع ع " ثم صارت بالصنعة إلى لفظ " ل ع ى " قال: كاد اللعاع من الحوذان يسحطها ورجرج بين لحييها خناطيل وأشباه هذا كثير. والقياس من بعد أنه متى ورد عليك لفظ أن تتناوله على ظاهره ولا تدعي فيه قلباً ولا تحريفاً إلا أن تضح سبيل أو يقتاد دليل. ومن طريف هذا الباب قولك في النسب إلى محياً: محوى وذلك أنك حذفت الألف لأنها خامسة فبقي مُحَىّ كقُصَىّ فحذفت للإضافة ما حذفت من قُصَىّ وهي الياء الأولى التي هي عين محيا الأولى فبقي محى فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصارت مُحاً كهُدىً. فلما أضفت إليها قلبت الألف واواً فقلت مُحَوِىّ كقولك في هُدىً: هُدَوِىّ. فمثال محوى في اللفظ مُفَعِىّ واللام على ما تقدم محذوفة. ثم إنك من بعد لو بنيت من ضرب على قول من أجاز الحذف في الصحيح لضربٍ من الصنعة مثل قولك محوى لقلت مضرى فحذفت الياء من ضرب كما حذفت لام محياً. أفلا تراك كيف أحلت بالصنعة لفظ ضرب إلى لفظ مضر فصار مضرى كأنه منسوب إلى مضر. وكذلك لو بنيت مثل قولهم في النسب إلى تحية: تحوى من نزف أو نشف أو نحو ذلك لقلت: تَنَفِىّ. وذلك أن تحية تفعلة وأصلها تحيية كالتسوية والتجزئة فلما نسبت إليها حذفت أشبه حرفيها بالزائد وهو العين أعني الياء الأولى فكما تقول في عصية وقضية عصوى وقضوى قلت أيضاً في تحية تحوى فوزن لفظ تحوى الآن تفلى فإذا أردت مثل ذلك من نزف ونشف قلت تنفي ومثالها تفلي إلا أنه مع هذا خرج إلى لفظ الإضافة إلى تنوفة إذا قلت تنفى كقول العرب في الإضافة إلى شنوءة: شنئى. أفلا ترى إلى الصنعة كيف تحيل لفظاً إلى لفظ وأصلاً إلى أصل. وهذا ونحوه إنما الغرض فيه الرياضة به وتدرب الفكر بتجشمه وإصلاح الطبع لما يعرض في معناه وعلى سمته. فأما لأن يستعمل في الكلام مضرى من ضرب وتنفى من نزف فلا. ولو كان لا يخاض في علم من العلوم إلا بما لا بد له من وقوع مسائله معينة محصلة لم يتم علم على وجهٍ ولبقي مبهوتاً بلا لحظٍ ومخشوباً بلا صنعة ألا ترى إلى كثرة مسائل الفقه والفرائض والحساب والهندسة وغير ذلك من المركبات المستصعبات وذلك إنما يمر في الفرط منها الجزء النادر الفرد وإنما الانتفاع بها من قبل ما تقنيه النفس من الارتياض بمعاناتها.
باب في اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين في الحروف والحركات والسكون
غرضنا من هذا الباب ليس ما جاء به الناس في كتبهم نحو وجدت في الحزن ووجدت الضالة ووجدت في الغضب ووجدت أي علمت كقولك: وجدت الله غالباً ولا كما جاء عنهم من نحو الصدى: الطائر يخرج من رأس المقتول إذا لم يدرك بثأره والصدى: العطش والصدى: ما يعارض الصوت في الأوعية الخالية والصدى من قولهم: فلان صدى مال أي حسن الرعية له والقيام عليه. ولا " هل " بمعنى الاستفهام وبمعنى قد و " أم " للاستفهام وبمعنى بل ونحو ذلك فإن هذا الضرب من الكلام وإن كان أحد الأقسام الثلاثة عندنا التي أولها اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين ويليه اختلاف اللفظين واتفاق المعنيين كثير في كتب العلماء وقد تناهبته أقوالهم وأحاطت بحقيقته أغراضهم. وإنما غرضنا هنا ما وراءه من القول على هذا النحو في الحروف والحركات والسكون المصوغة في أنفس الكلم. قد يتفق لفظ الحروف ويختلف معناها وذلك نحو قولهم: درع دلاص وأدرع دلاص وناقة هجان ونوق هجان. فالألف في دلاص في الواحد بمنزلة الألف في ناقة كناز وامرأة ضناك والألف في دلاص في الجمع بمنزلة ألف ظراف وشراف. وذلك لأن العرب كسرت فعالا على فعال كما كسرت فعيلاً على فعال نحو كريم وكرام ولئيم ولئام. وعذرها في ذلك أن فعيلاً أخت فعال ألا ترى أن كل واحد منهما ثلاثي الأصل وثالثه حرف لين وقد اعتقبا أيضاً على المعنى الواحد نحو كليب وكلاب وعبيدٍ وعباد وطسيس وطساس قال الشاعر: قرع يد اللعابة الطسيسا فملا كانا كذلك وإنما بينهما اختلاف حرف اللين لا غير ومعلوم مع ذلك قرب الياء من الألف وأنها أقرب إلى الياء منها إلى الواو كسر أحدهما على ما كسر عليه صاحبه فقيل: درع دلاص وأدرع دلاص كما قيل: ظريف وظراف وشريف وشراف. ومثل ذلك قولهم في تكسير عُذَافِر وجُوَالِق: عَذافِر وجَوالِق وفي تكسير قُناقِنٍ: قَنَاقِن وهُداهِدٍ: هَداهِد قال الراعي: كهُداهِدٍ كسر الرماة جناحه يدعو بقارعة الطريق هَدِيلا فألف عذافِرٍ زيادة لحقت الواحد للبناء لا غير وألف عذافِر ألف التكسير كألف دَراهم ومنابر. فألف عُذافِر تحذف كما تحذف نون جَحَنْفَلٍ في جحافِل وواو فَدَوْكسٍ في فداكِس وكذلك بقية الباب. وأغمض من ذلك أن تسمى رجلاً بعبالٍّ وحمارٍّ جمع عبالة وحمارةٍ على حد قولك: شجرة وشجر ودجاجة ودجاج فتصرف فإن كسرت عبالاً وحمارا هاتين قلت حَمَارُّ وعَبَالٌّ فلم تصرف لأن هذه الألف الآن ألف التكسير بمنزلة ألف مخاد ومشاد جمع مخدة ومشد. أفلا نرى إلى هاتين الألفين كيف اتفق لفظاهما واختلف معناهما ولذلك لم تصرف الثاني لما ذكرنا وصرفت الأول لأنه ليست ألفه للتكسير إنما هي كألف دجاجةٍ وسمامةٍ وحمامةٍ. ومن ذلك أن توقع في قافية اسماً لا ينصرف منصوباً في لغة من نون القافية في الإنشاد نحو قوله: أقلى اللوم عاذل والعتابن فتقول في القافية: رأيت سعاداً فأنت في هذه النون مخير: إن شئت اعتقدت أنها نون الصرف وأنك صرفت الاسم ضرورة أو على لغة من صرف جميع ما لا ينصرف كقول الله تعالى {سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} وإن شئت جعلت هذه النون في سعاداً نون الإنشاد كقوله: داينت أروى والديون تقضن فمطلت بعضاً وأدت بعضن يا أبتا علك أو عساكن ولكن إنما يفعل ذلك في لغة من وقف على المنصوب بلا ألف كقول الأعشى: وآخذ من كل حي عصم وكما رويناه عن قطرب من قول آخر: شئز جنبي كأني مهدأ جعل القين على الدف إبر وعليه قال أهل هذه اللغة في الوقف: رأيت فرح. ولم يحك سيبويه هذه اللغة لكن حكاها الجماعة: أبو الحسن وأبو عبيدة وقطرب وأكثر اكوفيين. فعلى هذه اللغة يكون قوله: فمطلت بعضاً وأدت بعضن إنما نونه نون الإنشاد لا نون الصرف ألا ترى أن صاحب هذه اللغة إنما يقف على حرف الإعراب ساكنا فيقول: رأيت زيد كالمرفوع والمجرور. هذا هو الظاهر من الأمر. فإن قلت: فهل تجيز أن يكون قوله: وأدت بعضاً تنوينه تنوين الصرف لا تنوين الإنشاد إلا أنه على إجراء الوقف مجرى الوصل كقوله: بل جوزتيهاء كظهر الحجفت فإن هذا وإن كان ضرباً من ضروب المطالبة فإنه يبعد وذلك أنه لم يمر بنا عن أحد من العرب أنه يقف في غير الإنشاد على تنوين الصرف فيقول في غير قافية الشعر: رأيت جعفرن ولا كلمت سعيدن فيقف بالنون. فإذا لم يجئ مثله قبح حمله عليه. فوجب حمل قوله: وأدت بعضن على أنه تنوين الإنشاد على ما تقدم من قوله: ولا تبقي خمر الأندرينن و # أقلى اللوم عاذل والعتابن و # ما هاج أحزانا وشجواً قد شجنْ ولم تحضرنا هذه المسألة في وقت علمنا الكتاب المعرب في تفسير قوافي أبي الحسن فنودعها إياه فلتلحق هذه المسألة به بإذن الله. فإذا مر بك في الحروف ما هذه سبيله فأضفه إليه. ومن ذلك الحركات. هذه الحال موجودة في الحركات وجدانها في الحروف. وذلك كامرأة سميتها بحيث وقبل وبعد فإنك قائل في رفعه: هذه حيث وجاءتني قبل وعندي بعد. فالضمة الآن إعراب وقد كانت في هذه الأسماء قبل التسمية بها بناء. وكذلك لو سميتها بأين وكيف وفقلت: رأيت أين وكلمت كيف لكانت هذه الفتحة إعراباً بعد ما كانت قبل التسمية في أين وكيف بناء. وكذلك لو سميت رجلاً بأمسِ وجيرِ لقلت مررت بأمسٍ وجيرٍ فكانت هذه الكسرة إعراباً بعد ما كانت قبل التسمية بناء. وهذا واضح. فإن سميته بهؤلاء فقلت في الجر: مررت بهؤلاء كانت كسرة الهمزة بعد التسمية به هي الكسرة قبل التسمية به. وخالف هؤلاء باب أمس وجير وذلك أن هؤلاء مما يجب بناؤه وحكايته بعد التسمية به على ما كان من قبل التسمية ألا ترى أنه اسم ضم إليه حرف فأشبه الجملة كرجل سميته بلعل فإنك تحكي الاسم لأنه حرف ضم إليه حرف وهو عَلَّ ضمت إليه اللام كما أنك لو سميته بأنت لحكيته أيضاً فقلت: رأيت أنت ولعل فكانت الفتحة في التاء بعد التسمية به هي التي كانت فيه قبلها لكنك إن سميته بأولاء أعربته فقلت: هذا أولاء ورأيت أولاءً ومررت بأولاٍ فكانت الكسرة لأن فيه إعراباً لا غير لأن أولاء اسم مفرد مثاله فعال كغراب وعقاب. ومن الحركات في هذا الباب أن ترخم اسم رجل يسمى منصوراً فتقول على لغة من قال يا حارِ: يا منصُ ومن قال يا حارُ قال كذلك أيضاً بضم الصاد في الموضعين جميعاً. أما على يا حار فلأنك حذفت الواو وأقررت الضمة بحالها كما أنك لما حذفت الثاء أقررت الكسرة بحالها. وأما على يا حار فلأنك حذفت الواو والضمة قبلها كما في يا حارُ حذفت الثاء والكسرة قبلها ثم اجتلبت ضمة النداء فقلت: يا مَنْصُ. فاللفظان كما ترى واحد والمعنيان مختلفان. ومثل ذلك قول العرب في جمع الفُلكِ: الفُلْك كسروا فُعْلا على فُعْلٍ من حيث كانت فٌعْل تعاقب فَعَلاً على المعنى الواحد نحو الشُغْل والشَغَلِ والبُخْلِ والبَخَل و العُجْمِ والعَجَم والعُرْب والعَرَب. وفَعَلٌ مما يكسر على فُعْل كأََسَدٍ وأسْد ووَثَنٍ ووُثْن. حكى صاحب الكتاب إن تدعون من دونه إلا أُثْنا وذكر أنها قراءة. وكما كسروا فعلا على فُعْل وكانت فُعْل وفَعَل أختين معتقبتين على المعنى الواحد كعجمٍ وعَجَم وبابه جاز أيضاً أن يكسر فُعْل على فُعْل كما ذهب إليه صاحب الكتاب في الفُلْكِ إذ كسر على الفُلْك ألا ترى أن قوله عز اسمه {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} يدل على أنه واحد وقوله تعالى {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم} فهذا يدل على الجمعية. فالفُلْك إذاً في الواحد بمنزلة القُفْلِ والخُرْج والفُلْك في الجميع بمنزلة الحُمْرِ والصُفْر. فقد ترى اتفاق الضمتين لفظاً واختلافهما تقديراً ومعنى. وإذا كان كذلك فكسرة الفاء في هجان ودلاص في الواحد ككسرة الفاء في كنازٍ وضناكٍ وكسرة الفاء في هجانٍ ودلاصٍ في الجمع ككسرة الفاء في كرامٍ ولئام. ومن ذلك قولهم قنو وقنوانٌ وصنو وصنوانٌ وخشف وخشفانٌ ورئد ورئدان ونحو ذلك مما كسر فيه فِعْل على فِعْلان كما كسروا فَعَلا على فِعْلان. وذلك أن فِعْلا وفَعَلا قد اعتقبا على المعنى الواحد نحو بِدْلٍ وبَدَلٍ وشِبْهٍ وشَبَهٍ ومِثْلٍ ومَثَلٍ. فكما كسروا فَعَلا على فِعلان كَشَبثٍ وشبْثان وخَرَبٍ وخِرْبانٍ ومن المعتل تاج وتيجان وقاع وقيعان كذلك كسروا أيضاً فِعْلاً على فِعْلان فقالوا: قِنْو وقِنْوانٌ وصِنْو وصِنْوانٌ. ومن وجه آخر أنهم رأوا فِعْلا وفُعْلا قد اعتقبا على المعنى الواحد نحو العِلْو والعُلْو والسِفْل والسُفْل والرِجْز والرُجْز فكما كسروا فُعْلا على فِعلان ككُوزٍ وكِيزان وحوت وحيتان كذلك كسروا أيضاً فعلا على فعلان نحو صنو وصنوان وحسلٍ وحسلان وخشف وخشفان. فكما أن كسرة فاء شِبثان وبِرقان غير فتحة فاء شَبثٍ وبَرق لفظاً فكذلك كسرة فاء صنو غير كسرة فاء صِنوان تقديراً. وكما أن كسرة فاء حيتان وكيزان غير ضمة فاء كُوزٍ وحوت لفظاً فكذلك أيضاً كسرة فاء صِنوان غير كسرة فاء صِنْو تقديرا. وسنذكر في كتابنا هذا باب حمل المختلف فيه على المتفق عليه بإذن الله. وعلى هذا فكسرة فاء هجان ودلاص لفظاً غير كسرة فاء هجان ودلاص تقديراً كما أن كسرة فاء كرام ولئام غير فتحة فاء كريم ولئيم لفظا. وعلى هذا استمرار ما هذه سبيله فاعرفه. وأما السكون في هذه الطريقة فهو كسكون نون صِنْو وقِنْوٍ فينبغي أن يكون في الواحد غير سكون نون صِنوان وقِنْوان لأن هذا شيء أحدثته الجمعية وإن كان بلفظ ما كان في الواحد ألا ترى أن سكون عين شِبْثان وبِرْقان غير فتحة عين شَبَث وبَرَق فكما أن هذين مختلفان ونظير فِعْل وفِعْلان في هذا الموضع فُعْل وفُعْلان في قولهم قُوم وقُومَان وخُوط وخُوطان. فواجب إذاً أن تكون الضمة والسكون في فُوم غير الضمة والسكون في فُومان وكذلك خُوط وخُوطان. ومثله أن سكون عين بُطْنان وظُهْران غير سكون عين بَطْن وظَهْر الباب واحد غير مختلف. وكذلك كسرة اللام من دِهْليِز ينبغي أن تكون غير كسرتها في دهالِيز لأن هذه كسرة ما يأتي بعد ألف التكسير وإن لم يكن في الواحد مكسورا نحو مفتاح ومفاتيح وجُرْموق وجرامِيق وعلى هذا أيضاً يجب أن تكون ضمة فاء رُبَابٍ غير ضمة فاء رُبى لأن ربابا كعُراق وظُؤارٍ ونُؤَام. فكما أن أوائل كل منهن على غير أول واحده الذي هو عرق وظئر وتوأم لفظا فكذلك فليكن أول رُبَّى ورُبَابٍ تقديراً.
باب في اتفاق المصاير على اختلاف المصادر
من ذلك اسم الفاعل والمفعول في افتعل مما عينه معتلة أوة ما فيه تضعيف. فالمعتل نحو قولك: اختار فهو مختار واختير فهو مختار: الفاعل والمفعول واحد لفظاً غير أنهما مختلفان تقديراً ألا ترى أن أصل الفاعل مختِير بكسر العين وأصل المفعول مختَير بفتحها. وكذلك هذا رجل معتاد للخير وهذا أمر معتاد وهذا فرس مقتاد إذا قاده صاحبه الصاحب مقتاد له. وأما المدغم فنحو قولك: أنا معتد لك بكذا وكذا وهذا أمر معتد به. فأصل الفاعل معتدد كمقتطع وأصل المفعول معتدد كمقتطع. ومثله هذا فرس مستن لنشاطه وهذا مكان مستن فيه إذا استنت فيه الخيل ومنه قولهم " استنت الفصال حتى القرعى ". وكذلك افعَلَّ وافعالَّ من المضاعف أيضاً نحو هذا بسر محمر ومحمار وهذا وقت محمر فيه ومحمار فيه. فأصل الفاعل محمِرر ومحمارِر مكسور العين وأصل المفعول محمَرر فيه مفتوحها. وليس كذلك اسم الفاعل والمفعول في افعل وأفعال إذا ضعف فيه حرفا علة بل ينفصل فيه اسم الفاعل من اسم المفعول عندنا. وذلك قولك: هذا رجل مُرْعَوٍ وأمر مُرْعَوى إليه وهذا رجل مًغَزاوٍ وهذا وقت مُغْزَاوًى فيه لكنه على مذهب الكوفيين لا فرق بينهما لأنهم يدغمون هذا النحو من مضاعف المعتل ويجرونه مجرى الصحيح فيقولون اغزوا يغزاو وآغزوَّ يغزو. واستشهد أبو الحسن على فساد مذهبهم بقول العرب: أرعوى. قال ولم يقولوا: أرعوَّ. ومثله من كلامهم قول يزيد بن الحكم أنشدنيه أبو علي وقرأته في القصيدة عليه: تبدل خليلا بي كشكلك شكله فإني خليلاً صالحاً بك مقتوى فهذا عندنا مُفْعِّل من القنو وهو المراعاة والخدمة كقوله: إني امرؤ من بني خزيمة لا أحسن قتو الملوك والحفدا وفيها أيضاً: مُدْحَوِى وفيها أيضاً مُحْجَوِى: فهذا كله مُفْعَل كما تراه غير مدغم. وانفعل في المضاعف كافتعل نحو قولك هذا أمر منحل ومكان منحل فيه ويوم منحل فيه أي تنحل فيهما الأمور. فهذا طرف من هذا النحو. ومن ذلك قولك في تخفيف فُعْل من جئت على قول الخليل وأبي الحسن تقول في القولين جميعاً: وذلك أن الخليل يقول في فُعْل من جئت: جيء كقوله فيه من بِعْت بِيعٌ. وأصل الفاء عنده الضم لكنه كسرها لئلا تنقلب الياء واواً فيلزمه أن يقول: بُوع. ويستدل على ذلك بقول العرب في جمع أبيض وبيضاء: بيض. وكذلك عين تكسير أًعْيَن وعَيْناء وشِيم في أشيم وشيماء. وأبو الحسن يخالفه فيقر الضمة في الفاء فيبدل لها العين واواً فيقول: برع وجوء. فإذا خففا جميعاً صارا إلى جُيٍ لا غير. فأما الخليل فيقول: إذا تحركت العين بحركة الهمزة الملقاة عليها فقويت رددت ضمة الفاء لأمنى على العين القلب فأقول: جيٌ وأما أبو الحسن فيقول: إنما كنت قلت: جُوء فقلبت العين واواً لمكان الضمة قبلها وسكونها فإذا قويت بالحركة الملقاة عليها تحصنت فحمت نفسها من القلب فأقول: جُي. أفلا ترى إلى ما ارتمى إليه الفرعان من الوفاق بعد ما كان عليه الأصلان من الخلاف. وهذا ظاهر. ومن ذلك قولك في الإضافة إلى مائة في قول سيبويه ويونس جميعاً فيمن رد اللام: مئوى كمعوى فتوافى اللفظان على أصلين مختلفين. ووجه ذلك أن مائة أصلها عند الجماعة مِئية ساكنة العين فلما حذفت اللام تخفيفاً جاورت العين تاء التأنيث فانفتحت على العادة والعرف في ذلك فقيل: مئة. فإذا رددت اللام فمذهب سيبويه أن يقر العين بحالها متحركة وقد كانت قبل الرد مفتوحة فتقلب لها الام ألفاً فيصير تقديرها: مِئا كمعي فإذا أضفت إليها أبدلت الألف واوا فقلت: مئوى كثنوى. وأما مذهب يونس فإنه كان إذا نسب إلى فَعْلة أو فعْلة مما لامه ياء أجراه مجرى ما أصله فَعِلة ألا تراه كيف كان يقول في الإضافة إلى ظَبْية: ظَبوَى ويحتج بقول العرب في النسب إلى بطية: بِطَوِيّ وإلى زنية: زِنَوِيّ فقياس هذا أن تجري مائة وإن كانت فِعْلة مجرى فِعِلة فتقول فيها: مِئَوىّ. فيتفق اللفظان من أصلين مختلفين. ومن ذلك أن تبنى من قلت ونحوه فُعُلا فتسكن عينه استثقالاً للضمة فيها فتقول: فُولٌ كما يقول أهل الحجاز في تكسير عَوَان ونَوَار: عُون ونُور فيسكنون وإن كانوا يقولون: رُسُل وكُتُب بالتحريك. فهذا حديث فُعُل من باب قلت. وكذلك فُعْل منه أيضاً قُول فيتفق فُعُل وفُعْل فيخرجان على لفظ متفق عن أول مختلف. وكذلك فِعْل من باب بعت وفُعْل في قول الخليل وسيبويه: تقول فيهما جميعاً بيعٌ. وسألت أبا علي رحمه الله فقلت: لو أردنا فُعْلات مما عينه ياء لا نريد بها أن تكون جارية على فِعْلة كتينة وتينات فقال أقول على هذا الشرط: تونات وأجراها لبعدها عن الطرف مُجرى واو عُوطَطٍ. ومن ذلك أن تبنى من غَزَوت مثل إصبُع بضم الباء فتقول: إغزٍ. وكذلك إن أردت مثل إصبع قلت أيضا: إغز. فيستوي لفظ إفعُل ولفظ إفْعِل. وذلك أنك تبدل من الضمة قبل الواو كسرة فتقلبها ياء فيستوي حينئذ لفظها ولفظ إفِعل. وإِصْبُع وإن كانت مستكَرهة لخروجك من كسر وما يخرج إلى لفظ واحد عن أصلين مختلفين كثير لكن هذا مذهبه وطريقه فاعرفه وقسه. ومن ذلك قولك في جمع تعزية وتعزوة جميعاً: تَعَازٍ وكذلك اللفظ بمصدر تعازَينا أي عَزَّى بعضًنا بعضاً: تعاز يا فتى. فهذه تفاعُل كتضارُب وتحاسد وأصلها تعازو ثم تعازِى ثم تعازٍ. فأما تعازٍ في الجمع فأصل عينها الكسر كنتافِل وتناضِب جمع تتفُل وتَنْضُبٍ. ونظائره كثيرة.
باب في ترافع الأحكام
هذا موضع من العربية لطيف لم أر لأحد من أصحابنا فيه رسماً ولا نقلوا إلينا فيه ذكرا. من ذلك مذهب العرب في تكسير ما كان من فعل على أفعال نحو عَلَم وأعلام وقدمٍ وأقدام ورَسنٍ وأرسان وفَدَنٍ وأفدانٍ. قال سيبويه: فإن كان على فَعَلة كسروه على أَفْعُلٍ نحو أَكَمةٍ وآكُمٍ. ولأجل ذلك ما حمل أمة على أنها فَعَلة لقولهم في تكسيرها: آمٍ إلى هنا انتهى كلامه إلا أنه أرسله ولم يعلله. والقول فيه عندي أن حركة العين قد عاقبت في بعض المواضع تاء التأنيث وذلك في الأدواء نحو قولهم: رمث رمثا وحبط حبطا وحبج حبجاً. فإذا ألحقوا التاء أسكنوا العين فقالوا: حَقِل حَقْلة ومغَل مَغْلة. فقد ترى إلى معاقبة حركة العين تاء التأنيث. ومن ذلك قولهم: جَفْنة وجَفَنات وقَصْعة وقَصَعات لما حذفوا التاء حركوا العين. فلما تعاقبت التاء وحركة العين جريا لذلك مجرى الضدين المتعاقبين. فلما اجتمعا في فَعَلة ترافعا أحكامهما فأسقطت التاءُ حكم الحركة وأسقطت الحركة حكم التاء. فآل الأمر بالمثال وهذا حديث من هذه الصناعة غريب من هذه الصناعة غريب المأخذ لطيف المضطرب. فتأمله فإنه مُجْدٍ عليك مُقَوِّ لنظرك. ومن فَعَلة وأفعُل رَقَبة وأَرْقُب وناقة وأَيْنُق. ومن ذلك أنا قد رأينا تاء التأنيث تعاقب ياء المد وذلك نحو فرازين وفرازنة وحجاجيح وجحاجحة وزناديق وزنادقة. فلما نسبوا إلى نحو حنيفة وبجيلة تصوروا ذلك الحديث أيضاً فترافعت التاء والياء أحكامهما فصارت حنيفة وبجيلة إلى أنهما كأنهما حَنِف وبَجِل فجريا لذلك مجرى شَقِر ونَمِر فكما تقول فيهما: شَقَرِيّ ونَمَريّ كذلك قلت أيضاً في حنيفة: حنفي وفي بجيلة: بجلي. يؤكد ذلك عندك أيضاً أنه إذا لم تكن هناك تاء كان القياس إقرار الياء كقولهم في حنيف: حنيفي وفي سعيد: سعيديّ. فأما ثقفي فشاذ عنده ومشبه بحنفي. فهذا طريق آخر من الحجاج في باب حنفيّ وبجليّ مضاف إلى ما يحتج به أصحابنا في حذف تلك الياء. ومما يدلك على مشابهة حرف المد قبل الطرف لتاء التأنيث قولهم: رجل صَنَع اليد وامرأة صَنَاع اليد فأغنت الألف قبل الطرف مغنى التاء التي كانت تجب في صنعة لو جاءت على حكم نظيرها نحو حَسَن وحَسَنةٍ وبَطَلٍ وبَطَلة. وهذا أيضاً حَسَن في بابه. ويزيد عندك في وضوح ذلك أنهم قالوا في الإضافة إلى اليمن والشأم وتهامة: يمان وشآم وتهامٍ فجعلوا الألف قبل الطرف عوضاً من إحدى الياءين اللاحقتين بعدها. وهذا يدلك أن الشيئين إذا اكتنفا الشيء من ناحيتيه تقاربت حالاهما وحالاه بهما. ولأجله وبسببه ما ذهب قوم إلى أن حركة الحرف تحدث قبله وآخرون إلى أنها تحدث بعده وآخرون إلى أنها تحدث معه. قال أبو علي: وذلك لغموض الأمر وشدة القرب. نعم وربما احتج بهذا لحسن تقدم الدلالة وتأخرها هذا في موضع وهذا في موضع. وذلك لإحاطتهما جميعاً بالمعنى المدلول عليه. فمما تأخر دليله قولهم: ضربني وضربت زيداً ألا ترى أن المفسر للضمير المتقدم جاء من بعده. وضده زيد ضربته لأن المفسر للضمير متقدم عليه. وقريب من هذا أيضاً إتباع الثاني للأول نحو شُدٌّ وفِرٌّ وضّنَّ وعكسه قولك: اقتل اُستُضعِف ضممت الأول للآخر. فإن قلت: فإن في تهامة ألفا فلم ذهبت إلى أن الألف في تهام عوض من إحدى الياءين للإضافة قيل: قال الخليل في هذا: إنهم كأنهم نسبوه إلى فَعْل أو فَعَل وكأنهم فكوا صيغة تهامة فأصاروها إلى تَهَمٍ أو تَهْم ثم أضافوا إليه فقالوا: تهامٍ. وإنما ميل الخليل بين فَعْل وفَعَل ولم يقطع بأحدهما لأنه قد جاء هذا العمل في هذين المثالين جميعاً وهما الشأم واليمن. وهذا الترجيم الذي أشرف عليه الخليل ظنَّا قد جاء به السماع أرَّقنى الليلةَ بَرْقٌ بالتَهم يا لكَ برقا من يَشُفْه لا ينمْ فانظر إلى قوة تصور الخليل إلى أن هجم به الظن على اليقين فهو المعنى بقوله: الألمعى الذيب يظنُّ بك الظ ن كأن قد رأى وقد سمعا وإذا كان ما قدمناه من أن العرب لا تكسر فعلة على أفعال مذهبا لها فواجب أن يكون أفلاء من قوله: مثلها يخرج النصيحة للقو م فلاة من دونها أفلاء تكسير فلا الذي هو جمع فلاة لا جمعا لفلاة إذ كانت فَعَلة. و على هذا فينبغي أيضاً أن يكون قوله: كأن متنيه من النفي مواقع الطير على الصفي إنما هو تكسير صفاً الذي هو جمع صفاة إذ كانت فعلة لا تكسر على فعول إنما ذلك فعلة كبدرة وبدور ومأنة ومئون. أو فعل كطلل وطلول وأسد وأسود. وقد ترى بهذا أيضاً مشابهة فعلة لفعل في تكسيرهما جميعاً على فعول. ومن ذلك قولهم في الزكام: آرضه الله وأملأه وأضأده. وقالوا: هي الضؤدة والملأة والأرض. و الصنعة في ذلك أن فُعْلا قد عاقبت فَعَلا على الموضع الواحد نحو المعُجْم والعَجَم والعُرْب والعَرَب والشُغْل والشَغَل والبُخْل والبَخَل. و قد عاقبتها أيضاً في التكسير على أفعال نحو بُرْدٍ وأبراد وجُنْد وأجناد فهذا كقلم وأقلام وقدم وأقدام. فلما كان فُعْل من حيث ذكرنا كفَعَل صارت الملأة والضؤدة كأنها فعلة وفعلة قد كسرت على أفْعُل على ما قدمنا في أكمة وآكُم وأمة وآمٍ. فكما رفعت التاء في فَعَلة حكم الحركة في العين ورفعت حركة العين حكم التاء فصار الأمر لذلك إلى حكم فَعْلٍ حتى قالوا: أكمة وآكم ككلب وأكلب وكعب وأكعب فكذلك جرت فُعْلة مجرى فَعْل حتى عاقبته في الضؤدة والملأة والأرض فصارت الأرض كأنه أرضة أو صار الملأة والضؤدة كأنهما ملء وضأد. أفلا ترى إلى الضمة كيف رفعت حكم التاء كما رفعت التاء حكم الضمة وصار الأمر إلى فَعْل.
باب في تلاقي المعاني على اختلاف الأصول والمباني
هذا فصل من العربية حسن كثير المنفعة قوي الدلالة على شرف هذه اللغة. وذلك أن تجد للمعنى الواحد أسماء كثيرة فتبحث عن أصل كل اسم منها فتجده مفضي المعنى إلى معنى صاحبه. وذلك كقولهم خُلق الإنسان فهو فعل من خلقت الشيء أي ملسته ومنه صخرة خلقاء للملساء. ومعناه أن خلق الإنسان هو ما قدر له ورتب عليه فكأنه أمر قد استقر وزال عنه الشك. ومنه قولهم في الخبر: قد فرغ الله من الخَلْق والخُلقُ. والخليقة فَعِيلة منه. وقد كثرت فعيلة في هذا الموضع. وهو قولهم: الطبيعة وهي من طبعت الشيء أي قررته على أمر ثبت عليه كما يطبع الشيء كالدرهم والدينار فتلزمه أشكاله فلا يمكنه انصرافه عنها ولا انتقاله. ومنها النحية وهي فَعِيلة من نحت الشيء أي ملسته وقررته على ما أردته منه. فالنحيتة كالخليقة: هذا من نحت وهذا من خلقت. ومنها الغريزة وهي فعيلة من غرزت كما قيل لها طبيعة لأن طبع الدرهم ونحوه ضرب من وسمه وتغريزه بالآلة التي تثبت عليه الصورة. وذلك استكراه له وغمز عليه كالطبع. ومنها النقيبة وهي فَعِيلة من نقبت الشيء وهو نحو من الغريزة. ومنها الضريبة وذلك أن الطبع لا بد معه من الضرب لتثبيت له الصورة المرادة. ومنها النخيزة هي فَعِيلة من نَخَزْت الشيء أي دققته ومنه المنحاز: الهاوون لأنه موضوع للدفع به والاعتماد على المدقوق قال: ينحزن من جانبيها وهي تنسلب أي تضرب الإبل حول هذه الناقة للحاق بها وهي تسبقهن وتنسلب أمامهن. ومنها السجية هي فعيلة من سجا يسجو إذا سكن ومنه طرف ساج وليل ساج قال: يا حبذا القمراء والليل الساج وطرق مثل ملاء النساج وقال الراعي: ألا أسلمي اليوم ذات الطوق والعاج والدل والنظر المستأنس الساجي وذلك أن خلق الإنسان أمر قد سكن إليه واستقر عليه ألا تراهم يقولون في مدح الرجل: فلان يرجع إلى مروءة ويخلد إلى كرم ويأوي إلى سداد وثقة. فيأوي إليه هو هذا لان المأوى ومنها الطريقة من طرقت الشيء أي وطأتة وذللته وهذا هو معنى ضربته ونقبته وغرزته ونحته لأن هذه كلها رياضات وتدريب واعتمادات وتهذيب. ومنها السجيحة وهي فَعِيلة من سجح خلقه. وذلك أن الطبييعة قد قرت واطمأنت فسجحت وتذللت. وليس على الإنسان من طبعه كُلْفَة وإنما الكلفة فيما يتعاطاه ويتجشمه قال حسان: ذروا التخاجؤ وامشوا مشية سجحاً إن الرجحال ذوو عصب وتذكير وقال الأصمعي: إذا استوت أخلاق القوم قيل: هم على سرجوجة واحدة ومرن واحد ومنهم من يقول: سرجيجة وهي فعليلة من هذا فسرجوجة: فعلولة من لفظ السرج ومعناه. والتقاؤهما أن السرج إنما أريد للراكب ليعدله ويزل اعتلاله وميله. فهو من تقويم الأمر. وكذلك إذا استتبوا على وتيرة واحدة فقد تشابهت أحوالهم وزاح خلافهم وهذا أيضاً ضرب من التقرير والتقدير فهو بالمعنى عائد إلى النحيتة والسجية والخليقة لأن هذه كلها صفات تؤذن بالمشابهة والمقاربة. والمرن ومصدر كالحلف والكذب. والفعل منه مرن على الشيء إذا ألفه فلان له. وهو عندي من مارن الأنف لما لان منه. فهو أيضاً عائد إلى أصل الباب ألا ترى أن الخليقة والنحيتة والطبيعة والسجية وجميع هذه المعاني التي تقدمت تؤذن بالإلف والملاينة والإصحاب والمتابعة. ومنها السليقة وهي من قولهم: فلان يقرأ بالسليقية أي بالطبيعة. وتلخيص ذلك أنها كالنحيتة. وذلك أن السليق ما تحات من صغار الشحر قال: تسمع منها في السليق الأشهب معمعة مثل الأباء الملهب وذلك أنه إذا تحات لان وزالت شدته. والحت كالنحت وهما في غاية القرب. ومنه قول الله سبحانه سلقوكم بألسنة حداد أي نالوا منكم. وهذا هو نفس المعنى في الشيء المنحوت المحتوت ألا تراهم يقولون: فلان كريم النجار والنجر أي الأصل. والنجر والنحت والحت والضرب والدق والنحز والطبع والخلق والغرز والسلق وكله التمرين على الشيء وتلييين القوى ليصحب وينجذب. فأعجب للطف صنع الباري سبحانه في أن طبع الناس على هذا وأمكنهم من ترتيبه وتنزيله وهداهم للتواضع عليه وتقريره. ومن ذلك قولهم للقطعة من المسك: الصوار قال الأعشى: إذا تقوم يضوع المسك أصورة والعنبر الورد من أردانها شمل فقيل له: صوار لأنه فعال من صاره يصوره إذا عطفه وثناه قال الله سبحانه {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} وإنما قيل له ذلك لأنه يجذب حاسة من يشمه إليه وليس من خبائث ولو أن ركنا يمموك لقادهم نسيمك حتى يستدل بك الركب وكذا تجد أيضاً معنى المسك. وذلك أنه فعل من أمسكت الشيء كأنه لطيب رائحته يمسك الحاسة عليه ولا يعدل بها صاحبها عنه. ومنه عندي قولهم للجلد: المسك هو فعل من هذا الموضع ألا ترى أنه يمسك ما تحته من جسم الإنسان وغيره من الحيوان. ولولا الجلد لم يتماسك ما في الجسم: من اللحم والشحم والدم وبقية الأمشاج وغيرها. فقولهم إذا: مسك يلاقي معناه معنى الصوار إن كانا من أصلين مختلفين وبناءين متباينين: أحدهما " م س ك " والآخر ص و ر " كما أن الخليقة من " خ ل ق " والسجية من " س ج و " والطبيعة من " ط ب ع " والنحيتة من " ن ح ت " والغريزة من " غ ر ز " والسليقة من " س ل ق " والضريبة من " ض ر ب " والسجيحة من " س ج ح " والسرجوجة والسرجيجة من " س ر ج " والنجار من " ن ج ر " والمرن من " م ر ن ". فالأصول مختلفة والأمثلة متعادية والمعاني مع ذينك متلاقية. ومن ذلك قولهم: صبي وصبية وطفل وطفلة وغلام وجارية وكله للين والانجذاب وترك الشدة والاعتياص. وذلك أن صبياً من صبوت إلى الشيء إذا ملت إليه ولم تستعصم دونه. وكذلك الطفل: هو من لفظ طفلت الشمس للغرب أي مالت إليه وانجذبت نحوه ألا ترى إلى والشمس قد كادت تكون دنفا يصف ضعفها وإكبابها. وقد جاء به بعض المولدين فقال: وقد وضعت خدا إلى الأرض أضرعا ومنه قيل: فلان طفيلي وذلك أنه يميل إلى الطعام. وعلى هذا قالوا له: غلام لأنه من الغلمة وهي اللين وضعفة العصمة. وكذلك قالوا: جارية. فهي فاعلة من جرى الماء وغيره ألا ترى أنهم يقولون: إنها غضة بضة رطبة ولذلك قالوا: قد علاها ماء الشباب قال عمر: وهي مكنونة تحير منها في أديم الخدين ماء الشباب وذلك أن الطفل والصبي والغلام والجارية ليست لهم عصمة الشيوخ ولا جسأة الكهول. وسألت بعض بني عقيل عن قول الحمصي: لم تبل جدة سمرهم سمر ولم تسم السموم لأدمهن أديما فقال: هن بمائهن كما خلقنه. فإذا اشتد الغلام شيئاً قيل له حرور. وهو فعول من اللبن الحازر إذا اشتد للحموضة قال العجلي: وكأنهم زادوا الواو وشددوها لتشديد معنى القوة كما قالوا للسيء الخلق: عذور فضاعفوا الواو الزائدة لذلك قال: إذا نزل الأضياف كان عذورا على الحي حتى تستقل مراجله ومنه رجل كروس للصلب الرأس وسفر عطود للشديد قال: إذا جشمن قذفا عطودا رمين بالطرف مداه الأبعدا ومثل الأول: قولهم: غلام رطل وجارية رطلة للينها. وهو من قولهم: رطل شعره إذا أطاله فاسترخى. ومنه عندي الرطل الذي يوزن به. وذلك أن الغرض في الأوزان أن تميل أبداً إلى أن يعادلها الموزون بها. ولهذا قيل لها: مثاقيل فهي مفاعيل من الثقل والشيء إذا ثقل استرسل وارجحن فكان ضد الطائش الخفيف. فهذا ونحوه من خصائص هذه اللغة الشريفة اللطيفة. وإنما يسمع الناس هذه الألفاظ فتكون الفائدة عندهم منها إنما هي علم معنياتها. فأما كيف ومن أين فهو ما نحن عليه. وأحج به أن يكون عند كثير منهم نيفاً لا يحتاج إليه وفضلا غيره أولى منه. ومن ذلك أيضاً قالوا: ناقة كما قالوا: جمل. وقالوا ما بها دبيج كما قالوا: تناسل عليه الوشاء. والتقاء معانيهما أن الناقة كانت عندهم مما يتحسنون به ويتباهون بملكه فهي فعلة من . . . . . . . . . . . . . . . تنوقت به حضرميات الأكف الحوائك وعلى هذا قالوا: جمل لأن هذا فَعَل من الجمال كما أن تلك فَعَلة من تنوقت وأجود اللغتين تأنقت قال الله سبحانه: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ}. وقولهم: ما بها دبيج هو فِعْيل من لفظ الديباج ومعناه. وذلك أن الناس بهم العمارة وحسن الآثار وعلى أيديهم يتم الأنس وطيب الديار. ولذلك قيل لهم: ناس لأنه في الأصل أناس فحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال. فهو فعال من الأنس قال: أناس لا يملون المنايا إذا دارت رحى الحرب الزبون وقال: أناس عدا علقت فيهم وليتني طلبت الهوى في رأس ذي زلق أشم وكما اشتقوا ديبجا من الديباج كذلك اشتقوا الوشاء من الوشي فهو فعال منه. وذلك أن المال يشي الأرض ويحسنها. وعلى ذلك قالوا: الغنم لأنه من الغنيمة كما قالوا لها: الخيل لأنها فَعْل من الاختيال وكل ذلك مستحب. أفلا ترى إلى تتالي هذه المعاني وتلاحظها وتقابلها وتناظرها وهي النتوق والجمال والأنس والديباج والوشي والغنيمة والاختيال. ولذلك قالوا: البقر من بقرت بطنه أي شققته فهو إلى فإن قلت: فإن الشاة من قولهم: رجل أشوه وامرأة شوهاء للقبيحين. وهذا ضد الأول ففيه جوابان: أحدهما أ تكون الشاة جرت مجرى القلب لدفع العين عنها لحسنها كما يقال في استحسان الشيء: قاتله الله كقوله: رمى الله في عيني بثينة بالقدى وفي الشنب من أنيابها بالقوادح وهو كثير. والآخر أن يكون من باب السلب كأنه سلب القبح منها كما قيل للحرم: نالة. ولخشسبة الصرار تودية ولجو السماء السكاك. ومنه تحوب وتأثم أي ترك الحوب والإثم. وهو باب واسع وقد كتبنا منه في هذا الكتاب ما ستراه بإذن الله تعالى. وأهل اللغة يسمعون هذا فيرونه ساذجا غفلا ولا يحسنون لما نحن فليه من حديثه فرعا ولا أصلاً. ومن ذلك قولهم: الفضة سميت بذلك لانفضاض أجزائها وتفرقها في تراب معدنها كذا أصلها وإن كانت فيما بعد قد تصفى وتهذب وتسبك. وقيل لها فضة كما قيل لها لجين. وذلك لأنها ما دامت في تراب معدنها فيه ملتزقة في التراب متلجنة به قال الشماخ: وماء قد وردت أميم طام عليه الطير كالورق اللجين أي المتلزق المتلجن وينبغي أن يكونوا إنما ألزموا هذا الاسم التحقير لاستصغار معناه ما دام في تراب معدنه. ويشهد عندك بهذا المعنى قولهم في مراسله الذهب وذلك لأنه ما دام كذلك غير مصفى فهو كالذاهب لأن ما فيه من التراب كالمستهلك له أو لأنه لما قل في الدنيا فلم يوجد إلا عزيزاً صار كأنه مفقود ذاهب ألا ترى أن الشيء إذا قل قارب الانتفاء. وعلى ذلك قالت العرب: قل رجل يقول ذلك إلا زيد بالرفع لأنهم أجروه مجرى ما يقول ذاك أحد إلا زيد. وعلى نحو من هذا قالوا: قلما يقوم زيد فكفوا قل بما عن اقتضائها الفاعل وجاز عندهم إخلاء الفعل من الفاعل لما دخله من مشابهة حرف النفي كما بقوا المبتدأ بلا خبر في نحو هذا من قولهم: أقل امرأتين تقولان ذلك لما ضارع المبتدأ حرف النفي. أفلا ترى إلى أنسهم باستعمال القلة مقارنة للانتفاء. فكذلك لما قل هذا الجوهر في الدنيا أخذوا له اسماً من الذهاب الذي هو الهلاك. ولأجل هذا أيضاً سموه تبراً لأنه فعل من التبار. ولا يقال له تبر حتى يكون في تراب معدنه أو مكسور. ولهذا قالوا للجام من الفضة الغرب وهو فعل من الشيء الغريب وذلك أنه ليس في العادة والعرف استعمال الأنية من الفضة فلما استعمل ذلك في بعض الأحوال كان عزيزاً غريباً. هذا قول أبي إسحق. وإن شئت جذبته إلى ما كنا عليه فقلت: إن هذا الجوهر غريب من بين الجواهر لنفاسته وشرفه ألا تراهم إذا أثنوا على إنسان قالوا: هو وحيد في وقته وغريب غربته العلا على كثرة النا س فأضحى في الأقربين جنيبا فليطل عمره فلو مات في مر و مقيما بها لمات غريبا وقول شاعرنا: أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني ولا أعاتبه صفحاً وإهوانا وهكذا كنت في أهلي وفي وطني إن النفيس عزيز حيثما كانا ويدلك على أنهم قد تصوروا هذا الموضع من امتزاجه بتراب معدنه أنهم إذا صفوه وهذبوه أخذوا له اسماً من ذلك المعنى فقالوا له: الخلاص والإبريز والعقيان. فالخلاص فعال من تخلص والإبريز إفعيل من برز يبرز والعقيان فعلان من عقى الصبي يعقي وهو أول ما ينجيه عند سقوطه من بطن أمه قبل أن يأكل وهو العقي. فقيل له ذلك لبروزه كما قيل له البراز. فالتأتي والتلطف في جميع هذه الأشياء وضمها وملاءمة ذات بينها هو خاص اللغة وسرها وطلاوتها الرائقة وجوهرها. فأما حفظها ساذجة وقمشها محطوبة هرجة فنعوذ بالله منه ونرغب بما أتاناه سبحانه عنه. وقال أبو علي رحمه الله: قيل له حبي كما قيل له سحاب. تفسيره أن حبيا فعيل من حبا يحبو. وكأن السحاب لثقله يحبو حبواً كما قيل له سحاب وهو فعال من سحب لأنه يسحب وأقبل يزحف زحف الكسير سياق الرعاء البطاء العشارا وقال أوس: دان مسف فويق الأرض هيدبه يكاد يدفعه من قام بالراح وقالت صبية منهم لأبيها فتجاوزت ذلك: أناخ بذي نفر بركه كأن على عضديه كتافا وقال أبوهم: وألقى بصحراء الفبيط بعاعه نزول اليماني ذي العياب المحمل قال: ومن ذلك قولهم في أسماء الحاجة: الحاجة والحوجاء واللوجاء والإرب والإربة والمأربة واللبانة والتلاوة بقية الحاجة والتلية أيضاً والأشكلة والشهلاء قال الشاعر: لم أقض حين ارتحلوا شهلائي من الكعاب الطفلة الغيداء وأنت تجد مع ذلك من اختلاف أصولها ومبانيها جميعها راجعاً إلى موضع واحد ومخطوما بمعنى لا يختلف وهو الإقامة على الشيء والتشبث به. وذلك أن صاحب الحاجة كلف بها ملازم للفكر فيها ومقيم على تنجزها واستحثاثها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( حبك الشيء يعمى ويصم ) وقال المولد: وتفسير ذلك أن الحاج شجر له شوك وما كانت هذه سبيله فهو متشبث بالأشياء فأي شيء مر عليه اعتاقه وتشبث به. فسميت الحاجة تشبيهاً بالشجرة ذات الشوك. أي أنا مقيم عليها متمسك بقضائها كهذه الشجرة في اجتذابها ما مر بها وقرب منها. والحوجاء منها وعنها تصرف الفعل: احتاج يحتاج احتياجا وأحوج يحوج وحاج يحوج فهو حائج. واللوجاء من قولهم: لجت الشيء ألوجه لوجا إذا أدرته في فيك. والتقاؤهما أن الحاجة مترددة على الفكر ذاهبة جائية إلى أن تقضى كما أن الشيء إذا تردد في الفم فإنه لا يزال كذلك إلى أن يسيغه الإنسان أو يلفظه. والإرب والإربة والمأربة كله من الأربة وهي العقدة وعقد مؤرب إذا شدد. وأنشد أبو العباس لنكاز بن نفيع يقوله لجرير: غضبت علينا أن علاك ابن غالب فهلا على جديك إذ ذاك تغضب! هما حين يسعى المرء مسعاة جده أناخا فشداك العقال المؤرب! والحاجة معقودة بنفس الإنسان مترددة على فكره. واللبانة من قولهم: تلبن بالمكان إذا أقام به ولزمه. وهذا هو المعنى عينه. والتلاوة والتلية من تلوت الشيء إذا قفوته واتبعته لتدركه. ومنه قوله: والأشكلة كذلك كأنها من الشكال أي طالب الحاجة مقيم عليها كأنها شكال له ومانعة من تصرفه وانصرافه عنها. ومنه الأشكل من الألوان: الذي خالطت حمرته بياضه فكأن كل واحد من اللونين أعتاق صاحبه أن يصح ويصفو لونه. والشهلاء كذلك لأنها من المشاهلة وهي مراجعة القول قال: قد كان فيما بيننا مشاهلة ثم تولت وهي تمشي البأدله البأدلة: أن تحرك في مشيها بآدلها وهي لحم صدرها. وهي مشية القصار من النساء. فقد ترى إلى ترامي هذه الأصول والميل بمعانيها إلى موضع واحد. ومن ذلك ما جاء عنهم في الرجل الحافظ للمال الحسن الرعية له والقيام عليه. يقال: هو خال مال وخائل مال وصدى مال وسرسور مال وسؤبان مال ومحجن مال وإزاء مال وبلو مال وحبل مال وعسل مال وزر مال. وجميع ذلك راجع إلى الحفظ لها والمعرفة بها. فخال مال يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون صفة على فَعَل كبطل وحسن أو فَعِلٍ ككبش صاف ورجل مال. ويجوز أن يكون محذوفاً من فاعل كقوله: لاثٌ به الأشاء والعبرى فأما خائل مال ففاعل لا محالة. وكلاهما من قوله: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة أي يتعهدنا بها شيئاً فشيئاً ويراعينا. قال أبو علي: هو من قولهم تساقطوا أخولَ أخولَ أي شيئاً بعد شيء. وأنشدنا: يساقط عنه روقه ضارياتها سقاط حديد القين أخول أخولا فكأن هذا الرجل يرعى ماله ويتعهده حفظاً له وشحاً عليه. وأما صدى مال فإنه يعارضها من ههنا وههنا ولا يهملها ولا يضيع أمرها ومنه الصدى لما يعارض الصوت. ومنه قراءة الحسن رضي الله عنه صاد والقرآن وكان يفسره: عارض القرآن بعملك أي قابل كل واحد منهما بصاحبه قال العجلي: يأتي لها من أيمن وأشمل وكذلك سرسور مال أي عارف بأسرار المال فلا يخفى عنه شيء من أمره. ولست أقول كما يقول الكوفيون وأبو بكر معهم: إن سرسورا من لفظ السر لكنه قريب من لفظه ومعناه بمنزلة عين ثرة وثرثارة. وقد تقدم ذكر ذلك. وكذلك سوبان مالٍ هو فُعْلان من السأب وهو الزق للشراب قال الشاعر: إذا ذقت فاها قلت علق مدمس أريد به قيل فغودر في ساب والتقاؤهما أن الزق إنما وضع لحفظ ما فيه فكذلك هذا الراعي يحفظ المال ويحتاط عليه وكذلك محجن مال هو مِفْعل من احتجنت الشيء إذا حفظته وادخرته. وكذلك إزاء مال هو فِعَال من أزى الشيء يأزى إذا تقبض واجتمع قال: ظل لها يوم من الشعري أزى أي يغم الأنفاس ويضيقها لشدة الحر. وكذلك هذا الراعي يشح عليها ويمنع من تسربها. وأنشد أبو علي عن أبي بكر لعمارة: هذا الزمان مول خيره أزى صارت رءوس به أذناب أعجاز وكذلك بلو مال أي هو بمعرفته به قد بلاه واختبره قال الله سبحانه {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} قال عمر بن لجأ: فصادفت أعصل من أبلائها يعجبه النزع على ظمائها وكذلك حبل مال كأنه يضبطها كما يضبطها الحبل يشد به. ومنه الحبل: الداهية من الرجال لأنه يضبط الأمور ويحيط بها. وكذلك عسل مال لأنه يأتيها ويعسل إليها من كل مكان ومنه الذئب العسول ألا ترى أنه إنما سمي ذئباً لتذاؤ به وخبثه ومجيئه تارة من هنا ومرة من هنا. وكذلك زر مال: أي يجمعه ويضبطه كما يضبط الزر الشيء المزرور. ومن ذلك قولهم للدم: الجدية والبصيرة. فالدم من الدمية لفظاً ومعنى. وذلك أن الدمية إنما هي للعين والبصر وإذا شوهدت فكأن ما هي صورته مشاهد بها وغير غائب مع حضورها فهي تصف حال ما بعد عنك. وهذا هو الغرض في هذه الصور المرسومة للمشاهدة. وتلك عندهم حال الدم ألا ترى أن الرمية إذا غابت عن الرامي استدل عليها بدمها فاتبعه حتى يؤديه إليها. ويؤكد ذلك لك قولهم فيه البصيرة وذلك أنها إذا أبصرت أدت إلى المرمى الجريح. ولذلك أيضاً قالوا له الجدية لأنه يجدي على الطالب للرمية ما يبغيه منها. ولو لم ير الدم لم يستدلل عليها ولا عرف موضعها قال صلى الله عليه وسلم ( كل ما أصميت ودع وهذا مذهب في هذه اللغة طريف غريب لطيف. وهو فقهها وجامع معانيها وضام نشرها. وقد هممث غير دفعة أن أنشء في ذلك كتاباً أتقصى فيه أكثرها والوقت يضيق دونه. ولعله لو خرج لما أقنعه ألف ورقة إلا على اختصار وإيماء. وكان أبو علي رحمه الله يستحسن هذا الموضع جداً وينبه عليه ويسر بما يحضره خاطره منه. هذا باب إنما يجمع بين بعضه وبعض من طريق المعاني مجردة من الألفاظ وليس كالاشتقاق الذي هو من لفظ واحد فكأن بعضه منبهة على بعض. وهذا إنما يعتنق فيه الفكر المعاني غير منبهته عليها الألفاظ. فهو أشرف الصنعتين وأعلى المأخذين. فتفطن له وتأن لجمعه فإنه يؤنقك ويفئ عليك ويبسط ما تجعد من خاطرك ويريك من حكم الباري عز اسمه ما تقف تحته وتسلم لعظم الصنعة فيه وما أودعته أحضانه ونواحيه. باب في الاشتقاق الأكبر هذا موضع لم يسمه أحد من أصحابنا غير أن أبا علي رحمه الله كان يستعين به ويخلد إليه مع إعواز الاشتقاق الأصغر. لكنه مع هذا لم يسمه وإنما كان يعتاده عند الضرورة ويستروج إليه ويتعلل به. وإنما هذا التلقيب لنا نحن. وستراه فتعلم أنه لقب مستحسن. وذلك أن الاشتقاق عندي على ضربين: كبير وصغير. فالصغير ما في أيدي الناس وكتبهم كأن تأخذ أصلا من الأصول فتتقراه فتجمع بين معانيه وإن اختلفت صيغه ومبانيه. وذلك كتركيب " س ل م " فإنك تأخذ منه معنى السلامة في تصرفه نحو سلم ويسلم وسالم وسلمان وسلمى والسلامة والسليم: اللديغ أطلق عليه تفاؤلا بالسلامة. وعلى ذلك بقية الباب إذا تأولته وبقية الأصول غيره كتركيب " ض ر ب " و " ج ل س " و " ز ب ل " على ما في أيدي الناس من ذلك. فهذا هو الاشبقاق الأصغر. وقد قدم أبو بكر رحمه الله رسالته فيه بما أغنى عن إعادته لأن أبا بكر لم يأل فيه نصحا وإحكاما وصنعة وتأنيسا. وأما الاشتقاق الأكبر فهو أن تأخذ أصلا من الأصول الثلاثية فتعقد عليه وعلى تقاليبه الستة معنى واحداً تجتمع التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها عليه وإن تباعد شيء من ذلك عنه رد بلطف الصنعة والتأويل إليه كما يفعل الاشتقاقيون ذلك في التركيب الواحد. وقد كنا قدمنا ذكر طرف من هذا الضرب من الاشتقاق في أول هذا الكتاب عند ذكرنا أصل الكلام والقول وما يجيء من تقليب تراكيبهما نحو " ك ل م " " ك م ل " " م ك ل " " م ل ك " " ل ك م " " ل م ك " وكذلك " ق و ل " " ق ل و " " و ق ل " " و ل ق " " ل ق و " " ل و ق " وهذا أعوص مذهباً وأحزن مضطربا. وذلك أنا عقدنا تقاليب الكلام الستة على القوة والشدة وتقاليب القول الستة على الإسراع والخفة. وقد مضى ذلك في صدر الكتاب. لكن بقي علينا أن نحضر هنا مما يتصل به أحرفا تؤنس بالأول وتشجع منه المتأمل. فمن ذلك تقليب " ج ب ر " فهي أين وقعت للقوة والشدة. منها جبرت العظم والفقير إذا قويتهما وشددت منهما والجبر: الملك لقوته وتقويته لغيره. ومنها رجل مجرب إذا جرسته الأمور ونجذته فقويت منته واشتدت شكيمته. ومنه الجراب لأنه يحفظ ما فيه وإذا حفظ الشيء وروعى اشتد وقوى وإذا أغفل وأهمل تساقط ورذى. ومنها الأبجر والبجرة وهو القوى السرة. ومنه قول علي صلوات الله عليه: إلى الله أشكو عجري وبجري تأويله: همومي وأحزاني وطريقه أن العجرة كل عقدة في الجسد فإذا كانت في البطن والسرة فهي البجرة والبجرة تأويله أن السرة غلظت ونتأت فاشتد مسها وأمرها. وفسر أيضاً قوله: عجرى وبجرى أي ما أبدى وأخفى من أحوالي. ومنه البرج لقوته في نفسه وقوة ما يليه به وكذلك البرج لنقاء بياض العين وصفاء سوادها هو قوة أمرها وأنه ليس بلون مستضعف ومنها رجبت الرجل إذا عظمته وقويت أمره. ومنه رجب لتعظيمهم إياه عن القتال فيه وإذا كرمت النخلة على أهلها فمالت دعموها بالرجبة وهو شيء تسند إليه لتقوى به. والراجبة: أحد فصوص الأصابع وهي مقوية لها. ومنها الرباجي وهو الرجل يفخر بأكثر من فعله قال: وتلقاه رباجيا فخورا تأويله أنه يعظم نفسه ويقوي أمره. ومن ذلك تراكيب " ق س و " " ق و س " " و ق س " " و س ق " " س و ق " وأهمل " س ق و " وجميع ذلك إلى القوة والاجتماع. منها القسوة وهي شدة القلب واجتماعه ألا ترى إلى قوله: يا ليت شعري والمنى لا تنفع هل أغدون يوما وأمري مجمع أي قوى مجتمع ومنها القوس لشدتها واجتماع طرفيها. ومنها الوقس لابتداء الجرب وذلك لأنه يجمع الجلد ويقحله ومنها الوسق للحمل وذلك لاجتماعه وشدته ومنه استوسق الأمر أي اجتمع " والليل وما وسق " أي جمع ومنها السوق وذلك لأنه استحثاث وجمع للمسوق بعضه مستوسقات لو يجدن سائقا فهذا كقولك: مجتمعات لو يجدن جامعا فإن شد شيء من شعب هذه الأصول عن عقده ظاهرا رد بالتأويل إليه وعطف بالملاطفة عليه. بل إذا كان هذا قد يعرض في الأصل الواحد حتى يحتاج فيه إلى ما قلناه كان فيما انتشرت أصوله بالتقديم والتأخير أولى باحتمال وأجدر بالتأول له. ومن ذلك تقليب " س م ل " " س ل م " " م س ل " " م ل س " " ل م س " " ل س م " والمعنى الجامع لها المشتمل عليها الإصحاب والملاينة. ومنها الثوب السمل وهو الخلق. وذلك لأنه ليس عليه من الوبر الزئبر ما على الجديد. فاليد إذا مرت عليه للمس لم يستوقفها عنه جدة المنسج ولا خشنة الملمس. والسمل: الماء القليل كأنه شيء قد أخلق وضعف عن قوة المضطرب وجمة المرتكض ولذلك قال: حوضا كأن ماءه إذا عسل من آخر الليل رو يزى سمل وقال آخر: وراد أسمال المياه السدم في أخريات الغبش المغم ومنها السلامة. وذلك أن السليم ليس فيه عيب تقف النفس عليه ولا يعترض عليها به. ومنها المسل والمسل والمسيل كله واحد وذلك أن الماء لا يجري إلا في مذهب له وإمام منقاد به ولو صادف حاجزا لاعتاقه فلم يجد متسرباً معه. ومنها الأملس والملساء. وذلك أنه لا اعتراض على الناظر فيه والمتصفح له. ومنها اللمس. وذلك أنه إن عارض اليد شيء حائل بينها وبين الملموس لم يصح هناك لمس فإنما هو إهواء باليد نحوه ووصول منها إليه لا حاجز ولا مانع ولا بد مع اللمس من إمرار اليد وتحريكها على الملموس ولو كان هناك حائل لاستوقفت به عنه. ومنه الملامسة أو لامستم النساء أي جامعتم وذلك أنه لا بد هناك من حركات واعتمال وهذا واضح. فأما " ل س م " فمهمل. وعلى أنهم قد قالوا: نسمت الريح إذا مرت مراً سهلا ضعيفا والنون أخت اللام وسترى نحو ذلك. ومر بنا أيضاً ألسمت الرجل حجته إذا لقنته وألزمته إياها. قال: لا تلسمن أبا عمران حجته ولا تكونن له عونا على عمرا فهذا من ذلك أي سهلتها وأوضحتها. واعلم أنا لا ندعى أن هذا مستمر في جميع اللغة كما لا ندعي للاشتقاق الأصغر أنه في جميع اللغة. بل إذا كان ذلك الذي هو في القسمة سدس هذا أو خمسه متعذرا صعبا كان تطبيق هذا وإحاطته أصعب مذهبا وأعز ملتمسا. بل لو صح من هذا النحو وهذه الصنعة المادة الواحدة تتقلب على ضروب التقلب كان غريباً معجباً. فكيف به وهو يكاد يساوق الاشتقاق الأصغر ويجاريه إلى المدى الأبعد. وقد رسمت لك منه رسماً فاحتذه وتقيله تحظ به وتكثر إعظام هذه اللغة الكريمة من أجله. نعم وتسترفده في بعض الحاجة إليه فيعينك ويأخذ بيديك ألا ترى أن أبا علي رحمه الله كان يقوى كون لام أثفية فيمن جعلها أفعولة واواً بقولهم: جاء يثفه ويقول: هذا من الواو لا محالة كيعده. فيرجح بذلك الواو على الياء التي ساوقتها في يثفوه ويثفيه. أفلا تراه كيف استعان على لام ثفا بفاء وثف. وإنما ذلك لأنها مادة واحدة شكلت على صور مختلفة فكأنها لفظة واحدة. وقلت مرة للمتنبئ: أراك تستعمل في شعرك ذا وتا وذي كثيراً ففكر شيئاً ثم قال: إن هذا الشعر لم يعمل كله في وقت واحد. فقلت له: أجل لكن المادة واحدة. فأمسك البتة. والشيء يذكر لنظيره فإن المعاني وإن اختلفت معنياتها آوية إلى مضجع غير مقض وآخذ بعضها برقاب بعض.
باب في الإدغام الأصغر
قد ثبت أن الإدغام المألوف المعتاد إنما هو تقريب صوت من صوت. وهو في الكلام على ضربين: أحدهما أن يلتقى المثلان على الأحكام التي يكون عنها الإدغام فيدغم الأول في الآخر. والأول من الحرفين في ذلك على ضربين: ساكن ومتحرك فالمدغم الساكن الأصل كطاء قطع وكاف سكر الأوليين والمتحرك نحو دال شد ولام معتل. والآخر أن يلتقى المتقاربان على الأحكام التي يسوغ معها الإدغام فتقلب أحدهما إلى لفظ صاحبه فتدغمه فيه. وذلك مثل ود في اللغة التميمية وأمحى وأماز واصبر واثاقل عنه. والمعنى الجامع لهذا كله تقريب الصوت من الصوت ألا ترى أنك في قطع ونحوه قد أخفيت الساكن الأول في الثاني حتى نبا اللسان عنهما نبوة واحدة وزالت الوقفة التي كانت تكون في الأول لو لم تدغمه في الآخر ألا ترى أنك لو تكلفت ترك إدغام الطاء الأولى لتجشمت لها وقفة عليها تمتاز من شدة ممازجتها للثانية بها كقولك قططع وسككر وهذا إنما تحكمه المشافهة بله. فإن أنت أزلت تلك الوقيفة والفترة على الأول خلطته بالثاني فكان قربه منه وإدغامه فيه أشد لجذبه إليه وإلحاقه بحكمه. فإن كان الأول من المثلين متحركا ثم أشكنته وأدغمته في الثاني فهو أظهر أمراً وأوضح حكماً ألا ترى أنك إنما أسكنته لتخلطه بالثاني وتجذبه إلى مضامته ومماسة لفظه بلفظه بزوال الحركة التي كانت حاجزة بينه وبينه. وأما إن كانا مختلفين ثم قلبت أدغمت فلا إشكال في إيثار تقريب أحدهما من صاحبه وأما إن كانا مختلفين ثم قلبت أدغمت فلا إشكال في إيثار تقريب أحدهما من صاحبه لأن قلب المتقارب أوكد من تسكين النظير. فهذا حديث الإدغام الأكبر وأما الإدغام الأصغر فهو تقريب الحرف من الحرف وأدناؤه منه من غير إدغام يكون هناك. وهو ضروب. فمن ذلك الإمالة وإنما وقعت في الكلام لتقريب الصوت من الصوت. وذلك نحو عالم وكتاب وسعَى وقَضى واسقضى ألا تراك قربت فتحة العين من عالِم إلى كسرة اللام منه بأن نحوت بالفتحة نحو الكسرة فأملت الألف نحو الياء. وكذلك سعى وقضى: نحوت بالألف نحو الياء التي انقلبت عنها. وعليه بقية الباب. ومن ذلك أن تقع فاء افتعل صاداً أو ضاداً أو طاء أو ظاء فتقلب لها تاؤه طاء. وذلك نحو اصطبر واضطبر واضطرب واطرد واظطلم. فهذا تقريب من غير إدغام فأما اطرد فمن ذا الباب أيضاً ولكن إدغامه وردههنا التقاطا لا قصداً. وذلك أن فاءه طاء فلما أبدلت تاؤه طاء صادفت الفاء طاء فوجب الإدغام لما اتفق حينئذ ولو لم يكن هناك طاء لم يكن إدغام ألا ترى أن اصطبر واضطرب واظطلم لما كان الأول منه غير طاء لم يقع إدغام قال: ويظلم أحياناً فيظطلم وأما فيظلم وفيطلم بالظاء والطاء جميعاً فإدغام عن قصد لا عن توارد. فقد عرفت بذلك فرق ما بين اطرد وبين اصبر واظلم واطلم. ومن ذلك أن تقع فاء افتعل زايا أو دالاً أو ذالا فتقلب تاؤه لها دالاً كقولهم: ازدان وادعى وادكر واذدكر فيما حكاه أبو عمرو. فأما ادعى فحديثه حديث اطرد لا غير في أنه لم تقلب قصداً للإدغام لكن قلبت تاء ادعى دالاً كقلبها في ازدان ثم وافقت فاؤه الدال المبدلة من التاء فلم يكن من الإدغام بد. وأما اذدكر فمنزلة بين ازدان وادعى. وذلك أنه لما قلب التاء دالاً لوقوع الذال قبلها صار إلى اذدكر فقد كان هذا وجهاً يقال مثله مع أن أبا عمرو قد أثبته وذكره غير أنه أجريت الذال لقربها من الدال بالجهر مجرى الدال فأوثر الإدغام لتضام الحرفين في الجهر فأدغم. فهذه منزلة بين منزلتي ازدان وادعى. وأما اذكر فاسمع واصبر. ومن ذلك أن تقع السين قبل الحرف المستعلى فتقرب منه بقلبها صاداً على ما هو مبين في موضعه من باب الإدغام. وذلك كقولهم في سُقْت: صُقْت وفي السوق: الصوق وفي سبقت: صبقت وفي سملق وسوق: صملق وصويق وفي سالغ وساخط: صالخ وصاخط وفي سقر: صقر وفي مساليخ: مصاليخ. ومن ذلك قولهم ست أصلها سدس فقربوا السين من الدال بأن قلبوها تاء فصارت سدت فهذا تقريب لغير إدغام ثم إنهم فيما بعد أبدلوا الدال تقاء لقربها منها إرادة للإدغام الآن فقالوا ست. فالتغيير الأول للتقريب من غير إدغام والتغيير الثاني مقصود به الإدغام. ومن ذلك تقريب الصوت من الصوت مع حروف الحلق نحو شعيرٍ وبعيرٍ ورغيفٍ. وسمعت الشجري غير مرة يقول: زئير الأسد يريد الزئير. وحكى أبو زيد عنهم: الجنة لمن خاف وعيد الله. فأما مغيرة فليس إتباعه لأجل حرف الحلق إنما هو من باب منتن ومن قولهم أنا أجوءك وأنبوك. والقرفصاء والسلطان وهو منحدر من الجبل وحكة سيبويه أيضاً منتن ففيه إذاً ثلاث لغات: مُنْتِن وهو الأصل ثم يليه مِنْتِن وأقلها مُنْتُن. فأما قول من قال: إن مُنْتِن من قولهم أنتن ومِنْتِن من قولهم نَتُن الشيء فإن ذلك لكنة منه. ومن ذلك أيضاً قولهم فَعَل يَفْعَل مما عينه أو لامه حرف حلقي نحو سَأَل يسأل وقَرَأ يَقَرَأ وسَعَر يَسعر وقرع يقرع وسَحَل يسحل وسَبَح يَسْبَح. وذلك أنهم ضارعوا بفتحة العين في المضارع جنس حرف الحلق لما كان موضعاً منه مخرج الألف التي منها الفتحة. ومن التقريب قولهم: الحمدُ لُلَّه والحمدِ لِله. ومنه تقريب الحرف من الحرف نحو قولهم في نحو مَصْدر: مَزْدر وفي التصدير: التزدير. وعليه قول العرب في المثل " لم يُحْرَمْ منْ فُزْد لَهُ " أصله فصد له ثم أسكنت العين على قولهم في ضُرِب: ضُرْبَ وقوله: ونفخوا في مدائنهم فطاروا فصار تقديره: فُصْدله فما سكنت الصاد فضعفت به وجاورت الصاد وهو مهموسة الدال وهي مجهورة قربت منها بأن أشمت شيئاً من لفظ الزاي المقاربة للدال بالجهر. ونحو من ذلك قولهم: مررت بمذعور وابن بور: فهذا نحو من قيل وغيض لفاظاً وإن اختلفا طريقاً. ومن ذلك إضعاف الحركة لتقرب بذلك من السكون نحو حيِى وأُحْيِى وأُعيىَ فهو وإن كان مخفى بوزنه محركا وشاهد ذاك قبول وزن الشعر له قبوله للمتحرك البتة. وذلك قوله: أ أن زم أجمال وفارق جيرة فهذا بزنته محققاً في قولك: أأن زم أجمال. فأما روم الحركة فهي وإن كانت من هذا فإنما هي كالإهابة بالساكن نحو الحركة وهو لذلك ضرب من المضارعة. وأخفى منها الإشمام لأنه للعين لا للأذن. وقد دعاهم إيثار قرب الصوت إلى أن أخلوا بالإعراب فقال بعضهم: وقال اضرب الساقين إمكَ هابِل وهذا نحو من الحمدُ لُلَّه والحمدِ لِله. وجميع ما هذه حاله مما قرب فيه الصوت من الصوت جار مجرى الإدغام بما ذكرناه من التقريب. وإنما احتطنا له بهذه السمة التي هي الإدغام الصغير لأن في هذا إيذانا بأن التقريب شامل للموضعين وأنه هو المراد المبغى في كلتا الجهتين فاعرف ذلك.
باب في تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني
هذا غور من العربية لا ينتصف منه ولا يكاد يحاط به. وأكثر كلام العرب عليه وإن كان غفلا مسهواً عنه. وهو على أضرب: منها اقتراب الأصلين الثلاثيين كضياط وضَيْطار ولُوقةٍ وأَلوقةٍ ورخْو ورِخْوَدٍّ ويَنْجُوج وأَلَنْجُوج. وقد مضى ذكر ذلك. ومنها اقتراب الأصلين ثلاثياً أحدهما ورباعياً صاحبه أو رباعيا أحدهما وخماسياً صاحبه كدمث ودمثر و سبط وسبطر ولؤلؤ ولآل والضبغطى والضبغطرى. ومنه قوله: قد دَرْدَبَتْ والشيخ دَرْدَبِيس وقد مضى هذا أيضاً. ومنها التقديم والتأخير على ما قلنا في الباب الذي قبل هذا في تقليب الأصول نحو " ك ل م " و " ك م ل " و " م ك ل " ونحو ذلك. وهذا كله والحروف واحدة غير متجاورة. لكن من وراء هذا ضرب غيره وهو أن تتقارب الحروف لتقارب المعاني. وهذا باب واسع. من ذلك قول الله سبحانه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} أي تزعجهم وتقلقهم. فهذا في معنى تهزهم هزا والهمزة أخت الهاء فتقارب اللفظان لتقارب المعنيين. وكأنهم خصوا هذا المعنى بالهمزة لأنها أقوى من الهاء وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهز لأنك قد تهز ما لا بال له كالجذع وساق الشجرة ونحو ذلك. ومنه العسف والأسف والعين أخت الهمزة كما أن الأسف يعسف النفس وينال منها والهمزة أقوى من العين كما أن أسف النفس أغلظ من التردد بالعسف. فقد ترى تصاقب اللفظين لتصاقب المعنيين. ومنه القرمة وهي الفقرة تحز على أنف البعير. وقريب منه قلمت أظفاري لأن هذا انتقاص للظفر وذلك انتقاص للجلد. فالراء أخت اللام والعملان متقاربان. وعليه قالوا فيها: الجرفة وهي من " ج ر ف " وهي أخت جلفت لقلم إذا أخذت جُلْفته وهذا من " ج ل ف " وقريب منه الجنف وهو الميل وإذا جَلَفت الشيء أو جرفته فقد أملته عما كان عليه وهذا من " ج ن ف ". ومثله تركيب " ع ل م " في العلامة والعلم. وقالوا مع ذلك: بيضة عرماء وقطيع أعرم إذا كان فيهما سواد وبياض وإذا وقع ذلك بأن أحد اللونين من صاحبه فكان كل واحد منهما علما ما زلن ينسبن وهنا كل صادقةٍ باتت تباشر عراما غير أزواجِ حتى سَلَكن الشوى منهن في مسكٍ من نسل جوابة الآفاقِ مهداج ومن ذلك تركيب " ح م س " و " ح ب س " قالوا: حبست الشيء وحمس الشر إذا اشتد. والتقاؤهما أن الشيئين إذا حبس أحدهما صاحبه تمانعا وتعازا فكان ذلك كالشر يقع بينهما. ومنه العَلْب: الأثر والعَلْم: الشقّ في الشفة العليا. فذاك من " ع ل ب " وهذا من " ع ل م " والباء أخت الميم قال طرفة: كأن عُلوب النسع في دأياتها موارد من خلقاء في ظهرٍ قردد ومنه تركيب " ق ر د " و " ق ر ت " قالوا للأرض: قَرْدَد وتلك نباك تكون في الأرض فهو من قرد الشيء وتقرد إذا تجمع أنشدنا أبو علي: أهوى لها مشقصٌ حشر فشبرقها وكنتُ أدعو قذاها الإثمد القردا أي أسمي الإثمد القرد أذى لها. يعنى عينه وقالوا: قرت الدم عليه أي جمد والتاء أخت الدال كما ترى. فأما لم خص هذا المعنى بذا الحرف فسنذكره في باب يلي هذا بعون الله تعالى. ومن ذلك العلز: خفة وطيش وقلق يعرض للإنسان وقالوا العلوص لوجع في الجوف يلتوي له ومنه الغَرب: الدلو العظيمة وذلك لأنها يغرف من الماء بها فذاك من " غ ر ب " وهذا من " غ ر ف " أنشد أبو زيد: كأن عيني وقد بانوني غربان في جدول منجنون واستعملوا تركيب " ج ب ل " و " ج ب ن " و " ج ب ر " لتقاربها في موضع واحد وهو الالتئام والتماسك. منه الجبل لشدته وقوته وجبن إذا استمسك وتقف وتجمع ومنه جبرت العظم ونحوه أي قويته. وقد تقع المضارعة في الأصل الواحد بالحرفين نحو قولهم: السحيل والصهيل قال: كان سحيله في كل فجر على أحساء يمؤود دعاء وذاك من " س ح ل " وهذا من " ص ه ل " والصاد أخت السين كما أن الهاء أخت الحاء. ونحو منه قولهم سحل في الصوت وزحر والسين أخت الزاي كما أن اللام أخت الراء. وقالوا جلف وجرم فهذا للقشر وهذا للقطع وهما متقاربان معنى متقاربان لفظاً لأن ذاك من " ج ل ف " وهذا من " ج ر م ". وقالوا: صال يصول كما قالوا: سار يسور. نعم وتجاوزوا ذلك إلى أن ضارعوا بالأصول الثلاثة: الفاء والعين واللام. فقالوا: عصر الشيء وقالوا: أزله إذا حبسه والعصر ضرب من الحبس. وذاك من " ع ص ر " وهذا من أزل والعين أخت الهمزة والصاد أخت الزاي والراء أخت اللام. وقالوا: الأزم: المنع والعصب: الشد فالمعنيان متقاربان والهمزة أخت العين والزاي أخت الصاد والميم أخت الباء. وذاك من أزم وهذا من " ع ص ب ". وقالوا: السلب والصرف وإذا سلب الشيء فقد صرف عن وجهه. فذاك من " س ل ب " وهذا من " ص ر ف " والسين أخت الصاد واللام أخت الراء والباء أخت الفاء. وقالوا: الغدر كما قالوا الختل والمعنيان متقاربان واللفظان متراسلان فذاك من " غ د ر " وهذا من " خ ت ل " فالغين أخت الخاء والدال أخت التاء والراء أخت اللام. وقالوا: زأر كما قالوا: سعل لتقارب اللفظ والمعنى. وقالوا: عدن بالمكان كما قالوا: تأطر أي أقام وتلبث. وقالوا: شرب كما قالوا: جلف لأن شارب الماء مفن له كالجلف للشيء. وقالوا: ألته حقه كما قالوا: عانده. وقالوا: الأرفة للحد بين الشيئين كما قالوا: علامة. وقالوا: قفز كما قالوا: كبس وذلك أن القافز إذا استقر على الأرض كبسها. وقالوا: صهل كما قالوا: صهل كما قالوا: زأر. وقالوا: الهتر كما قالوا: الإدل وكلاهما العجب. وقالوا: كلف به كما قالوا: تقرب منه وقالوا: تجعد كما قالوا: شحط وذلك أن الشيء إذا تجعد وتقبض عن غيره شحط وبعد عنه ومنه قول الأعشى: إذا نزل الحي حل الجحيش شقيا غويا مبينا غيورا وذاك من تركيب " ج ع د " وهذا من تركيب " ش ح ط " فالجيم أخت الشين والعين أخت الحاء والدال أخت الطاء. وقالوا: السيف والصوب وذلك أن السيف يوصف بأنه يرسب في الضريبة لحدته ومضائه ولذلك قالوا: سيف رسوب وهذا هو معنى صاب يصوب إذا انحدر. فذاك من " س ي ف " وهذا من " ص و ب " فالسين أخت الصاد والياء أخت الواو والفاء أخت الباء. وقالوا: جاع يجوع وشاء يشاء والجائع مريد للطعام لا محالة ولهذا يقول المدعو إلى الطعام إذا لم يجب: لا أريد ولست أشتهي ونحو ذلك والإرادة هي المشيئة. فذاك من " ج و ع " وهذا من " ش ي أ " والجيم أخت الشين والواو أخت الياء والعين أخت الهمزة. وقالوا: فلان حلس بيته إذا لازمه. وقالوا: أرز إلى الشيء إذا اجتمع نحوه وتقبض إليه ومنه إن الإسلام ليأرز إلى المدينة وقال: بآرزة الفقارة لم يخنها قطاف في الركاب ولا خلاء فذاك من " ح ل س " وهذا من " أ ر ز " فالحاء أخت الهمزة واللام أخت الراء والسين أخت الزاي. وقالوا: أفل كما قالوا: غبر لأن أفل: غاب والغابر غائب أيضاً. فذاك من " أ ف ل " وهذا من " غ ب ر " فالهمزة أخت الغين والفاء أخت الباء واللام أخت الراء. وهذا النحو من الصنعة موجود في أكثر الكلام وفرش اللغة و إنما بقي من يثيره ويبحث عن مكنونه بل من إذا أوضح له وكشفت عنده حقيقته طاع طبعه لها فوعاها وتقبلها. وهيهات ذلك مطلبا وعز فيهم مذهبا! وقد قال أبو بكر: من عرف ألف ومن جهل استوحش. ونحن نتبع هذا الباب باباً أغرب منه وأدل على حكمة القديم سبحانه وتقدست أسماؤه فتأمله تحظ به بعون الله تعالى.
باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني
اعلم أن هذا موضع شريف لطيف. وقد نبه عليه الخليل وسيبويه وتلقته الجماعة بالقبول له والاعتراف بصحته. قال الخليل: كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة ومداً فقالوا: صر وتوهموا في صوت البازي تقطيعاً فقالوا: صرصر. وقال سيبويه في المصادر التي جاءت على الفعلان: إنها تأتي للاضطراب والحركة نحو النقزان والغلبان والغثيان. فقابلوا بتوالي حركات المثال توالي حركات الأفعال. ووجدت أنا من هذا الحديث أشياء كثيرة على سمت ما حداه ومنهاج ما مثلاه. وذلك أنك تجد المصادر الرباعية المضعفة تأتي للتكرير نحو الزعزعة والقلقلة والصلصلة والقعقعة والصعصعة والجرجرة والقرقرة. ووجدت أيضاً الفَعَلى في المصادر والصفات إنما تأتى للسرعة نحو البشكي والجمزي والولقي قال رؤبة: أو بشكى وخد الظليم النز كأني ورحلي إذا هجرت على جمزي جازئ بالرمال أو اصحم حام جراميزه حزابية حيدى بالدحال فجعلوا المثال المكرر للمعنى المكرر أعني باب القلقلة والمثال الذي توالت حركاته للأفعال التي توالت الحركات فيها. ومن ذلك وهو أصنع منه أنهم جعلوا استفعل في أكثر الأمر للطلب نحو استسقى واستطعم واستوهب واستمنح واستقدم عمرا واستصرخ جعفرا. فرتبت في هذا الباب الحروف على ترتيب الأفعال. وتفسير ذلك أن الأفعال المحدث عنها أنها وقعت عن غير طلب إنما تفجأ حروفها الأصول أو ما ضارع بالصنعة الأصول. فالأصول نحو قولهم طعم ووهب ودخل وخرج وصعد ونزل. فهذا إخبار بأصول فاجأت عن أفعال وقعت ولم يكن معها دلالة تدل على طلب لها ولا إعمال فيها. وكذلك ما تقدمت الزيادة فيه على سمت الأصل نحو أحسن وأكرم وأعطى وأولى. فهذا من طريق الصنعة بوزن الأصل في نحو دحرج وسرهف وقوقى وزوزى. وذلك أنهم جعلوا هذا الكلام عبارات عن هذه المعاني فكلما ازدادت العبارة شبها بالمعنى كانت أدل عليه وأشهد بالغرض فيه. فلما كانت إذا فأجأت الأفعال فاجأت أصول المثل الدالة عليها أو ما جرى مجرى أصولها نحو وهب ومنح وأكرم و أحسن كذلك إذا أخبرت بأنك سعيت فيها وتسببت لها وجب أن تقدم أمام حروفها الأصول في مثلها الدالة عليها أحرفاً زائدة على تلك الأصول تكون كالمقدمة لها والمؤدية إليها. وذلك نحو استفعل فجاءت الهمزة والسين والتاء زوائد ثم وردت بعدها الأصول: الفاء والعين واللام. فهذا من اللفظ وفق المعنى الموجود هناك. وذلك أن الطلب للفعل والتماسه والسعي فيه والتأتي لوقوعه تقدمه ثم وقعت الإجابة إليه فتبع الفعل السؤال فيه والتسبب لوقوعه. فكما تبعت أفعال الإجابة أفعال الطلب كذلك تبعت حروف الأصل الحروف الزائدة التي وضعت للالتماس والمسئلة. وذلك نحو استخرج واستقدم واستوهب واستمنح واستعطى واستدنى. فهذا على سمت الصنعة التي تقدمت في رأي الخليل وسيبويه إلا أن هذه أغمض من تلك. غير أنها وإن كانت كذلك فإنها منقولة عنها ومعقودة عليها. ومن وجد مقالاً قال به وإن لم يسبق إليه غيره. فكيف به إذا تبع العلماء فيه وتلاهم على تمثيل معانيه. ومن ذلك أنهم جعلوا تكرير العين في المثال دليلاً على تكرير الفعل فقالوا: كسر وقطع وفتح وغلق. وذلك أنهم لما جعلوا الألفاظ دليلة المعاني فأقوى اللفظ ينبغي أن يقابل به قوة الفعل والعين أقوى من الفاء واللام وذلك لأنها واسطة لهما ومنكوفة بهما فصارا كأنهما سياج لها ومبذولان للعوارض دونها. ولذلك تجد الإعلال بالحذف فيهما دونها. فأما حذف الفاء ففي المصادر من باب وعد نحو العدة والزنة والطدة والتدة والهبة والإبة. وأما اللام فنحو اليد والدم والفم والأب والأخ والسنة والمائة والفئة. وقلما تجد الحذف في العين. فلما كانت الأفعال دليلة المعاني كرروا أقواها وجعلوه دليلاً على قوة المعنى المحدث به وهو تكرير الفعل كما جعلوا تقطيعه في نحو صرصر وحقحق دليلاً على تقطيعه. ولم يكونوا ليضعفوا الفاء ولا اللام لكراهية التضعيف في أول الكلمة والإشفاق على الحرف المضعف أن يجيء في آخرها وهو مكان الحذف وموضع الإعلال وهم قد أرادوا تحصين الحرف الدال على قوة الفعل. فهذا أيضاً من مساوقة الصيغة للمعاني. وقد أتبعوا اللام في باب المبالغة العين وذلك إذا كررت العين معها في نحو دمكمك وصمحمح وعركرك وعصبصب وغشمشم والموضع في ذلك للعين وإنما ضامتها اللام هنا تبعاً لها ولاحقة بها ألا ترى إلى ما جاء عنهم للمبالغة من نحو اخلولق واعشوشب واغدودن واحمومى واذلولى واقطوطى وكذلك في الاسم نحو عثوثل وغدودن وخفيدد وعقنقل وعبنبل وهجنجل قال: ظلت ظل يومها حوب حل وظل يوم لأبي الهجنجل فدخول لام التعريف فيه مع العلمية يدل على أنه في الأصل صفة كالحرث والعباس وكل واجد من هذه المثل قد فصل بين عينيه بالزائد لا باللام. فعلمت أن تكرير المعنى في تباب صمحمح إنما هو للعين وإن كانت اللام فيه أقوى من الزائد في باب افعوعل وفعوعل وفعيعل وفعنعل لأن اللام بالعين أشبه من الزائد بها. ولهذا أيضاً ضاعفوها كما ضاعفوا العين للمبالغة نحو عتل وصمل وقمد وحزق إلا أن العين أقعد في ذلك من اللام ألا ترى إن الفعل الذي هو موضع للمعاني لا يضعف ولا يؤكد تكريره إلا بالعين. هذا هو الباب. فأما اقعنسس واسحنكك فليس الغرض فيه التوكيد والتكرير لأن ذا إنما ضعف للإلحاق فهذه طريق صناعية وباب تكرير العين هو طريق معنوية ألا ترى أنهم لما اعتزموا إفادة المعنى توفروا عليه وتحاموا طريق الصنعة والإلحاق فيه فقالوا: قطع وكسر تقطيعاً وتكسيراً ولم يجيئوا بمصدره على مثال فعللة فيقولوا: قطعةً وكسرة كما قالوا في الملحق: بيطر بيطرة وحوقل حوقلة وجهور جهورة. ويدلك على أن افعوعل لما ضعفت عينه للمعنى انصرف به عن طريق الإلحاق تغليباً للمعنى على اللفظ وإعلاماً أن قدر المعنى عندهم أعلى وأشرف من قدر اللفظ أنهم قالوا في افعوعل من رددت: اردود ولم يقولوا: اردودد فيظهروا التضعيف للإلحاق كما أظهروه في بياب اسحنكك واكلندد لما كان للإلحاق بالحرنجم واخرنطم ولا تجد في بنات الأربعة نحو احروجم فيظهروا افعوعل من رددت فيقال اردودد لأنه لا مثال له رباعياً فيلحق هذا به. فهذا طريق المثل واحتياطاتهم فيها بالصنعة ودلالاتهم منها على الإرادة والبغية. فأما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع ونهج متلئب عند عارفيه مأموم. وذلك أنهم كثيراً ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبر بها عنها فيعدلونها بها ويحتذونها عليها. وذلك أكثر مما تقدره وأضعاف ما نستشعره. من ذلك قولهم: خضم وقضم. فالخضم لأكل الرطب كالبطيخ والقثاء وما كان نحوهما من المأكول الرطب. والقضم للصلب اليابس نحو قضمت الدابة شعيرها ونحو ذلك. وفي الخبر قد يدرك الخضم بالقضم أي قد يدرك الرخاء بالشدة واللين بالشظف. وعليه قول أبي الدرداء: يخضمون ونقضم والموعد الله فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب والقاف لصلابتها لليابس حذواً لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث. ومن ذلك قولهم: التضح للماء نحوه والنضح أقوى من النضح قال الله سبحانه: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} فجعلوا الحاء لرقتها للماء الضعيف والخاء لغلظها لما هو أقوى منه. ومن ذلك القد طولا والقط عرضاً. وذلك أن الطاء أحصر للصوت وأسرع قطعاً له من الدال. فجعلوا الطاء المناجزة لقطع العرض لقربه وسرعته والدال المماطلة لما طال من الأثر وهو قطعه طولا. ومن ذلك قولهم: قرت الدم وقرد الشيء وتقرد وقرط يقرط. فالتاء أخفت الثلاثة فاستعملوها في الدم إذا جف لأنه قصد ومستخف في الحس عن القردد الذي هو النباك في الأرض ونحوها. وجعلوا الطاء وهي أعلى الثلاثة صوتاً للقرط الذي يسمع. وقرد من القرد وذلك لأنه موصوف بالقلة والذلة قال الله تعالى: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ}. ينبغي أن يكون خاسئين خبراً آخر لكونوا والأول قردة فهو كقولك: هذا حلو حامض وإن جعلته وصفا لقردة صغر معناه ألا ترى أن القرد لذله وصغاره خاسئ أبداً فيكون إذا ً صفة غير مفيدة. وإذا جعلت خاسئين خبراً ثانياً حسن وأفاد حتى كأنه قال: كونوا قردة وكونوا خاسئين ألا ترى أن ليس لأحد الاسمين من الاختصاص بالخبرية إلا ما لصاحبه وليس كذلك الصفة بعد الموصوف إنما اختصاص العامل بالموصوف ثم الصفة من بعد تابعة له. ولست أعني بقولي: إنه كأنه قال تعالى: كونوا قردة كونوا خاسئين أن العامل في خاسئين عامل ثان غير الأول معاذ الله أن أريد ذلك إنما هذا شيء يقدر مع البدل. فأما في الخبرين فإن العامل فيهما جميعاً واحد ولو كان هناك عامل آخر لما كانا خبرين لمخبر عنه واحد وإنما مفاد الخبر من مجموعهما. ولهذا كان عند أبي علي أن العائد على المبتدأ من مجموعهما لا من أحدهما لأنه ليس الخبر بأحدهما بل بمجموعهما. وإنما أريد أنك متى شئت باشرت بكونوا أي الاسمين آثرت ولست كذلك الصفة. ويؤنس بذلك أنه لو كانت خاسئين صفة لقردة لكان الأخلق أن يكون قردة خاسئة وفي أن لم يقرأ بذلك البتة دلالة على أنه ليس بوصف. وإن كان قد يجوز أن يكون خاسئين صفة لقردة على المعنى إذ كان المعنى أنها هي هم في المعنى إلا أن هذا إنما هو جائز وليس بالوجه بل الوجه أن يكون وصفاً لو كان على اللفظ. فكيف وقد سبق ضعف الصفة ههنا. فهذا شيء عرض قلنا فيه ثم لنعد. أفلا ترى إلى تشبيههم الحروف بالأفعال وتنزيلهم إياها على احتذائها. ومن ذلك قولهم: الوسيلة والوصيلة والصاد كما ترى أقوى صوتاً من السين لما فيها من الاستعلاء والوصيلة أقوى معنى من الوسيلة. وذلك أن التوسل ليست له عصمة الوصل والصلة بل الصلة أصلها من اتصال الشيء بالشيء ومماسته له وكونه في أكثر الأحوال بعضا له كاتصال الأعضاء بالإنسان وهي أبعاضه ونحو ذلك والتوسل معنى يضعف ويصغر أن يكون المتوسل جزءا أو كالجزء من المتوسل إليه. وهذا واضح. فجعلوا الصاد لقوتها للمعنى ومن ذلك قولهم: الخذا في الأذن والخذأ: الاستخذاء فجعلوا الواو في خذواء لأنها دون الهمزة صوتاً للمعنى الأضعف. وذلك لأن استرخاء الأذن ليس من العيوب التي يسب بها ولا يتناهى في استقباحها. وأما الذل فهو من أقبح العيوب وأذهبها في المزراة والسب فعبروا عنه بالهمزة لقوتها وعن عيب الأذن المحتمل بالواو لضعفها. فجعلوا أقوى الحرفين لأقوى العيبين وأضعفهما لأضعفهما. ومن ذلك قولهم: قد جفا الشيء يجفو وقالوا: جفأ الوادي بغثائه ففيهما كليهما معنى الجفاء لارتفاعهما إلا أنهم استعملوا الهمزة في الوادي لما هناك من حفزه وقوة دفعه. ومن ذلك قولهم: صعد وسعد. فجعلوا الصاد لأنها أقوى لما فيه أثر مشاهد يرى وهو الصعود في الجبل والحائط ونحو ذلك. وجعلوا السين لضعفها لما لا يظهر ولا يشاهد حساً إلا أنه مع ذلك فيه صعود الجد لا صعود الجسم ألا تراهم يقولون: هو سعيد الجد وهو عالي الجد وقد ارتفع أمره وعلا قدره. فجعلوا الصاد لقوتها مع ما يشاهد من الأفعال المعالجة المتجشمة وجعلوا السين لضعفها فيما تعرفه النفس وإن لم تره العين والدلالة اللفظية أقوى من الدلالة المعنوية. فإن قلت: فكان يجب على هذا أن يكون الخذا في الأذن مهموزاً وفي الذل غير مهموز لأن عيب الأذن مشاهد وعيب النفس غير مشاهد قيل: عيب الأذن وإن كان مشاهدا فإنه لا علاج فيه على الأذن وإنما هو خمول وذبول ومشقة الصاعد ظاهرة مباشرة معتدة متجشمة فالأثر فيها أقوى فكانت بالحرف الأقوى وهو الصاد أحرى. ومن ذلك أيضاً سد وصد. فالسد دون الصد لأن السد للباب يسد والمنظرة ونحوها والصد جانب الجبل والوادي والشعب وهذا أقوى من السد الذي قد يكون لثقب الكوز ورأس القارورة ونحو ذلك فجعلوا الصاد لقوتها للأقوى والسين لضعفها للأضعف. ومن ذلك القسم والقصم. فالقصم أقوى فعلاً من القسم لأن القصم يكون معه الدق وقد يقسم بين الشيئين فلا ينكأ أحدهما فلذلك خصت بالأقوى الصاد وبالأضعف السين. ومن ذلك تركيب " ق ط ر " و " ق د ر " و " ق ت ر " فالتاء خافية متسفلة والطاء سامية متصعدة فاستعملنا لتعاديهما في الطرفين كقولهم: فتر الشيء وقطره. والدال بينهما ليس لها صعود الطاء ولا نزول التاء فكانت لذلك واسطة بينهما فعبر بها عن معظم الأمر ومقابلته فقيل قدر الشيء لجماعة ومحرنجمه. وينبغي أن يكون قولهم: قطر الإناء الماء ونحوه إنما هو فعل من لفظ القطر ومعناه. وذلك أنه إنما ينقط الماء عن صفحته الخارجة وهي قطره. فاعرف ذلك. فهذا ونحوه أمر إذا أنت أتيته من بابه وأصلحت فكرك لتناوله وتأمله أعطاك مقادته وأركبك ذروته وجلا عليك بهجاته ومحاسنه. وإن أنت تناكرته وقلت: هذا أمر منتشر ومذهب صعب موعر حرمت نفسك لذته وسددت عليها باب الحظوة به. نعم ومن وراء هذا ما اللطف فيه أظهر والحكمة أعلى وأصنع. وذلك أنهم قد يضيفون إلى اختيار الحروف وتشبيه أصواتها بالأحداث المعبر عنها بها ترتيبها وتقديم ما يضاهي أول الحدث وتأخير ما يضاهي آخره وتوسيط ما يضاهي أوسطه سوقاً للحروف على سمت المعنى المقصود والغرض المطلوب. وذلك قولهم: بحث. فالباء لغلظها تشبه بصوتها خفقة الكف على الأرض والحاء لصحلها تشبه مخالب الأسد وبراثن الذئب ونحوهما إذا غارت في الأرض والثاء للنفث والبث للتراب. وهذا أمر تراه محسوساً محصلاً فأي شبهة تبقى بعده أم أي شك يعرض على مثله. وقد ذكرت هذا في موضع آخر من كتبي لأمر دعا إليه هناك. فأما هذا الموضع فإنه أهله وحقيق به لأنه موضوع له ولأمثاله. ومن ذلك قولهم: شد الحبل ونحوه. فالشين بما فيها من التفشي تشبه بالصوت أول انجذاب الحبل قبل استحكام العقد ثم يليه إحكام الشد والجذب وتأريب العقد فيعبر عنه بالدال التي هي أقوى من الشين ولاسيما وهي مدغمة فهو أقوى لصنعتها وأدل على المعنى الذي أريد بها. ويقال شد وهو يشد. فأما الشدة في الأمر فإنها مستعارة من شد الحبل ونحوه لضرب من الاتساع والمبالغة على حد ما نقول فيما يشبه بغيره لتقوية أمره المراد به. ومن ذلك أيضاً جر الشيء يجره قدموا الجيم لأنها حرف شديد وأول الجر بمشقة على الجار والمجرور جميعاً ثم عقبوا ذلك بالراء وهو حرف مكرر وكررها مع ذلك في نفسها. وذلك لأن الشيء إذا جر على الأرض في غالب الأمر اهتز عليها و اضطرب صاعداً عنها ونازلاً إليها وتكرر ذلك منه على ما فيه من العتعة والقلق. فكانت الراء لما فيها من التكرير ولأنها أيضاً قد كررت في نفسها في جر وجررت أوفق لهذا المعنى من جميع الحروف غيرها. هذا هو محجة هذا ومذهبه. فإن أنت رأيت شيئاً من هذا النحو لا ينقاد لك فيما رسمناه ولا يتابعك على ما أوردناه فأحد أمرين: إما أن تكون لم تنعم النظر فيه فيقعد بك فكرك عنه أو لأن لهذه اللغة أصولاً وأوائل قد تخفى عنا وتقصر أسبابها دوننا كما قال سيبويه: أو لأن الأول وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر. فإن قلت: فهلا أجزت أيضاً أن يكون ما أوردته في هذا الموضع شيئاً اتفق وأمراً وقع في قيل: في هذا حكم بإبطال ما دلت الدلالة عليه من حكمة العرب التي تشهد بها العقول وتتناصر إليها أغراض ذوي التحصيل. فما ورد على وجه يقبله القياس وتقتاد إليه دواعي النظر والإنصاف حمل عليها ونسبت الصنعة فيه إليها. وما تجاوز ذلك فخفى لم توءس النفس منه ووكل إلى مصادقة النظر فيه وكان الأحرى به أن يتهم الإنسان نظره ولا يخف إلى ادعاء النقض فيما قد ثبت الله أطنابه وأحصف بالحكمة أسبابه. ولو لم يتنبه على ذلك إلا بما جاء نهم من تسميتهم الأشياء بأصواتها كالخازباز لصوته والبط لصوته والخاقباق لصوت الفرج عند الجماع. والواق للصرد لصوته وغاق للغراب لصوته وقوله تداعين باسم الشيب لصوت مشافرها وقوله: بينما نحن مرتعون بفلج قالت الدلح الرواء إنيه فهذا حكاية لرزمة السحاب وحنين الرعد وقوله: كالبحر يدعو هيقما وهيقما وذلك لصوته. ونحو منه قولهم: حاحيت وعاعيت وهاهيت إذا قلت: حاء وعاء وهاء. وقولهم: بسملت وهيللت وحولقت كل ذلك وأشباهه إنما يرجع في اشتقاقه إلى الأصوات. والأمر أوسع. ومن طريف ما مر بي في هذه اللغة التي لا يكاد يعلم بعدها ولا يحاط بقاصيها ازدحام الدال والتاء والطاء والراء واللام والنون إذا مازجتهن الفاء على التقديم والتأخير فأكثر أحوالها ومجموع معانيها أنها للوهن والضعف ونحوهما. من ذلك الدالف للشيخ الضعيف والشيء التالف والطليف والظليف المجان وليست له عصمة الثمين والطنف لما أشرف خارجا عن البناء وهو إلى الضعف لأنه ليست له قوة الراكب الأساس والأصل والنطف: العيب وهو إلى الضعف والدنف: المريض. ومنه التنوفة وذلك لأن الفلاة إلى الهلاك ألا تراهم يقولون لها: مهلكة وكذلك قالوا لها: بيداء فهي فعلاء من باد يبيد. ومنه الترفة لأنها إلى اللين والضعف وعليه قالوا: الطرف لأن طرف الشيء أضعف من قبله وأوسطه قال الله سبحانه {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا}. وقال الطائي الكبير: كانت هي الوسط الممنوع فاستلبت ما حولها الخيل حتى أصبحت طرفا ومنه الفرد لأن المنفرد إلى الضعف والهلاك ما هو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( المرء كثير بأخيه ). والفارط المتقدم وإذا تقدم انفرد وإذا انفرد أعرض للهلاك ولذلك ما يوصف بالتقدم ويمدح به لهول مقامه وتعرض راكبه. وقال محمد بن حبيب في الفرتنى الفاجرة: إنها من السالك الثغرة اليقظان كالئها مشى الهلوك عليها الخيعل الفضل وقياس مذهب سيبويه أن تكون فرتنى فعللى رباعية كجحجبى. ومنه الفرات لأنه الماء العذب وإذا عذب الشيء ميل عليه ونيل منه ألا ترى إلى قوله: ممقر مر على أعدائه وعلى الأدنين حلو كالعسل وقال الآخر: تراهم يغمزون من استركوا يوجتنبون من صدق المصاعا ومنه الفتور للضعف والرفت للكسر والرديف لأنه ليس له تمكن الأول. ومنه الطفل للصبي لضعفه والطفل للرخص وهو ضد الشثن والتفل للريح المكوهة فهي منبوذة مطروحة. وينبغي أن تكون الدفلى من ذلك لضعفه عن صلابة النبع والسراء والتنضب والشوحط. وقالوا: الدفر للنتن وقالوا للدنيا أم دفر سب لها وتوضيع منها. ومنه الفلتة لضعفة الرأي وفتل المغزل لإنه تثن واستدارة وذاك إلى وهي وضعفة والفطر: الشق وهو إلى الوهن. الآن قد أنستك بمذهب القوم فقيما هذه حاله ووقفتك على طريقه وأبديت لك عن مكنونه وبقي عليك أنت التنبه لأمثاله وإنعام الفحص عما هذه حاله فإنني إن زدت على هذا مللت وأمللت. ولو شئت لكتبت من مثله أوراقا مئين فأبه له ولاطفه ولا تجف عليه فيعرض عنك مشابهة باب في مشابهة معاني الإعراب معاني الشعر نبهنا أبو علي رحمه الله من هذا الموضع على أغراض حسنة. من ذلك قولهم في لا النافية للنكرة: إنها تبنى معها فتصير كجزء من الاسم نحو لا رجل في الدار ولا بأس عليك وأنشدنا في هذا المعنى قوله: خيط على زفرة فتم ولم يرجع إلى دقة ولا هضم وتأويل ذلك أن هذا الفرس لسعة جوفه وإجفار محزمه كأنه زفر فلما اغترق نفسه بنى على ذلك فلزمته تلك الزفرة فصيغ عليها لا يفارقها كما أن الاسم بني مع لا حتى خلط بها لا تفارقه ولا يفارقها وهذا موضع متناه في حسنه آخذ بغاية الصنعة من مستخرجه. ومثله أيضاً من وصف الفرس: بنيت معاقمها على مطوائها أي كأنها تمطت فلما تناءت أطرافها ورحبت شحوتها صيغت على ذلك. ومن ذلك قولهم: ما أدري أأذن أو أقام إذا قالها بأو لا بأم. فهو أنه لم يعتد أذانه أذانا ولا قال: فمثل ذلك قول عبيد: أعاقر كذات رحم أم غانم كمن يخيب فكان ينبغي أن يعادل بقوله: ذات رحم نقيضتها فيقول: أغير ذات رحم كذات رحم وهكذا أراد لا محالة ولكنه جاء بالبيت على المسئلة. وذلك أنه لما لم تكن العاقر ولودا صارت وإن كانت ذات رحم كأنها لا رحم لها فكأنه قال: أغير ذات رحم كذات رحم كما أنه لما لم يوف أذانه ولا إقامته حقهما لمن يثبت له واحداً منهما لأنه قاله بأو ولو قال: ما أدري أأذن أم أقام بأم لأثبت له أحدهما لا محالة. ومن ذلك قول النحويين: إنهم لا يبنون من ضرب وعلم وما كانت عينه لاما أو راء مثل عنسل. قالوا: لأنا نصير به إلى ضنرب وعنلم فإن أدغمنا ألبس بفعل وإن أظهرنا النون قبل الراء واللام ثقلت فتركنا بناءه أصلاً. وكان ينشد في هذا المعنى قوله: فقال: ثكل وغدر أنت بينهما فاختر وما فيهما حظ لمختار وقول الآخر: رأى الأمر يفضى إلى آخر فصير آخره أولا ووجدت أنا من هذا الضرب أشياء صالحة. منها أن الشعر المجزوء إذا لحق ضربه قطع لم تتداركه العرب بالردف. وذلك أنه لا يبلغ من قدره أن يفي بما حذفه الجزء فيكون هذا أيضاً كقولهم للمغني غير المحسن: تتعب ولا أطرب. ومنهم من يلحق الردف على كل حال. فنطير معنى هذا معنى قول الآخر: ومبلغ نفسٍ عذرها مثل منجح وقول الآخر: فإن لم تنل مطلباً رمته فليس عليك سوى الاجتهاد ومن ذلك قول من اختار إعمال الفعل الثاني لأنه العامل الأقرب نحو ضربت وضربني زيد وضربني وضربت زيداً. فنظير معنى هذا معنى قول الهذلي: بلى إنها تعفو الكلوم وإنما نوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي وعليه قول أبي نواس: أمر غدٍ أنت منه في لبس وأمس قد فات فاله عن أمس فإنما العيش عيش يومك ذا فباكر الشمس بابنة الشمس ومنه قول تأبط شراً وما قدم نسي ومن كان ذا شر خشي في كلام له وقوله: وقول الآخر أنشدناه أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس عن أبي عثمان عن الأصمعي عن أبي عمر و أن رجلاً من أهل نجد أنشده: حتى كأن لم يكن إلا تذكره والدهر أيتما حال دهارير ومن ذلك أيضاً قول شاعرنا: خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل ومما جاء في معنى إعمال الأول قول الطائي الكبير: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول وقول كثير: ولقد أردت الصبر عنك فعاقني علق بقلبي من هواك قديم وقول الآخر: تمر به الأيام تسحب ذيلها فتبلى به الأيام وهو جديد ومن ذلك ما جاء عنهم من الجوار في قولهم: هذا حجر ضب خرب وما يحكى أن أعرابياً أراد امرأة له فقالت له: إني حائض فقال: فأين الهنة الأخرى فقالت له: اتق الله فقال: كلا ورب البيت ذي الأستار لأهتكن حلق الحتار ومنه قول العرب: أعطيتك إذ سألتني وزدتك إذ شكرنني. فإذ معمولة العطية والزيادة وإذا عمل الفعل في ظرف زمانياً كان أو مكانياً فإنه لا بد أن يكون واقعاً فيه وليست العطية واقعة فقي وقت المسئلة وإنما هي عقيبه لأن المسئلة سبب العطية والسبب جار مجرى العلة فيجب أن يتقدم المعلول والمسبب لكنه لما كانت العطية مسببة عن المسئلة وواقعة على أثرها وتقارب وقتاهما صار لذلك كأنهما في وقت واحد. فهذا تجاور في الزمان كما أن ذاك تجاور في الإعراب. ومنه قول الله تعالى: {وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}. طاولت أبا علي رحمه الله تعالى في هذا وراجعته فيه عودا على بدء فكان أكثر ما برد منه في اليد أنه لما كانت الدار الآخرة تلي الدار الدنيا لا فاصل بينهما إنما هي هذه فهذه صار ما يقع في الآخرة تلى الدار الدنيا لا فاصل بينهما إنما هي هذه فهذه صار ما يقع في الآخرة كأنه واقع في الدنيا فلذلك أجرى اليوم وهو الآخرة مجرى وقت الظلم وهو قوله: إذ طلمتم ووقت الظلم إنما كان في الدنيا. فإن لم تفعل هذا وترتكبه بقي إذا ظلمتم ووقت الظلم إنما كان في الدنيا. فإن لم تفعل هذا وتركبه بقي إذ ظلمتم غير متعلق بشيء فيصير ما قاله أبو علي إلى أنه كأنه أبدل إذ ظلمتم من اليوم أو كرره عليه وهو كأنه هو. فإن قلت: لم لا تكون إذ محمولة على فعل آخر حتى كأنه قال: ولن ينفعكم اليوم أنكم في العذاب مشتركون اذكروا إذ ظلمتم أو نحو ذلك. قيل: ذلك يفسد من موضعين: أحدهما اللفظ والآخر المعنى. أما اللفظ فلأنك تفصل بالأجنبي وهو قوله إذ ظلمتم بين الفعل وهو ينفعكم وفاعله وهو أنكم في العذاب مشتركون وأنت عالم بما في الفصل بينهما بالأجنبي. وإن كان الفصل بالظرف متجوزاً فيه. وأما المعنى فلأنك لو فعلت ذلك لأخرجت من الجملة الظرف الذي هو إذ ظلمتم وهذا ينقض معناها. وذلك لأنها معقودة على دخول الظرف الذي هو إذ فيها ووجوده في أثنائها ألا ترى أن عدم انتفاعهم بمشاركة أمثالهم لهم في العذاب إنما سببه وعلته ظلمهم فإذا كان كذلك كان احتياج الجملة إليه نحواً من احتياجها إلى المفعول له نحو قولك: قصدتك رغبة في برك وأتيتك طمعا في صلتك ألا ترى أن معناه: أنكم عدمتم سلوة التأسي بمن شارككم في العذاب لأجل ظلمكم فيما مضى كما قيل في نظيره: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} أي ذق بما كنت تعد في أهل العز والكرم. وكما قال الله تعالى في نقيضه: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ}. ومن الأول قوله: {ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} ومثله في الشعر كثير منه قول قول الأعشى: على أنها إذ رأتني أقاد تقول بما قد أراه بصيرا ومنه قولهم حكاية عن الشيخ: بما لا أخشى بالذئب أي هذا الضعف بتلك القوة. ومنه أبيات العجاج أنشدناها سنة إحدى وأربعين: إما تربني أصل القعادا وأتقى أن أنهض الإرعادا من أن تبدلت بآدي آدا لم يك يناد فأمسى آنادا وقصبا حنى حتى كادا يعود بعد أعظمٍ أعوادا فقد أكون مرة رواداً أطلع النجاد فالنجادا وآخر من جاء به على كثرته شاعرنا فقال: وكم دون الثوية من حزين يقول له قدومي ذا بذاكا فكشفه وحرره. ويدل على الانتفاع بالتأسي في المصيبة قولها: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزى النفس عنه بالتأسي ومنه قول أبي داود: ويصيخ أحيانا كما اس تمع المضل لصوت ناشد وهو كثير جداً. ولسنا نريد ههنا الجوار الصناعي نحو قولهم في الوقف: هذا بكُرْ ومررت ببِكرْ وقولهم: صُيمَّ وقُيمَّ وقول جرير: ومررت ببكر وقولهم: صيم وقيم وقول جرير: لحب المؤقدان إلى مؤسى وقولهم: هذا مصباح ومقلات ومطعان وقوله: إذا اجتمعوا علي وأشقذوني فصرت كأنني فرأ متار وما جرى مجرى ذلك. وإنما اعتزامنا هنا الجوار المعنوي لا اللفظي الصناعي. ومن ذلك قول سيبويه في نحو قولهم: هذا الحسن الوجه: إن الجر فيه من وجهين أحدهما طريق الإضافة والآخر تشبيه بالضارب الرجلِ هذا مع العلم بأن الجر في الضارب الرجل إنما جاءه وجاز فيه لتشبيههم إياه بالحسن الوجه فعاد الأصل فاستعاد من الفرع نفس الحكم الذي كان الأصل بدأ أعطاه إياه حتى دل ذلك على تمكن الفروع وعلوها في التقدير. وقد ذكرنا ذلك. ونظيره في المعنى قول ذي الرمة: ورملٍ كأوراك العذارى قطعته إذا ألبسته المظلمات الحنادس وإنما المعتاد في نحو هذا تشبيه أعجاز بكثبان الأنقاء. وقد تقدم ذكر هذا المعنى في باب قبل وقربوا كل جمالي عضه قريبةٍ ندوته من محمضه وقد ذكرنا حاله وشرحنا الغرض فيه في باب متقدم فلا وجه لإعادته ههنا. وسبب تمكن هذه الفروع عندي أنها في حال استعمالها على فرعيتها تأتي مأتى الأصل الحقيقي لا الفرع التشبيهي وذلك قولهم: أنت الأسد وكفك البحر فهذا لفظه لفظ الحقيقة ومعناه المجاز والاتساع ألا ترى أنه إنما يريد: أنت كالأسد وكفك مثل البحر. وعليه جاء قوله: ليلى قضيب تحته كثيب وإنما يريد: نصف ليلى الأعلى كالقضيب وتحته ردف مثل الكثيب وقول طرفة: جازت القوم إلى أرحلنا آخر الليل بيعفور خدر أي بشخص أو بإنسان مثل اليعفور وهو واسع كثير. فلما كثر استعمالهم إياه وهو مجاز استعمال الحقيقة واستمر واتلاب وتجاوزوا به ذاك إلى أن أصاروه كأنه هو الأصل والحقيقة فعادوا فاستعاروا معناه لأصله فقال: ورمل كأوراك العذارى وهذا من باب تدريج اللغة وقد ذكر فيما مضى. وكان أبو علي رحمه الله إذا أوجبت القسمة عنده أمرين كل واحد منهما غير جائز يقول فيه: قسمة الأعشي يريد قوله: وسأله مرة بعض أصحابه فقال له: قال الخليل في ذراع: كذا وكذا فما عندك أنت في هذا فأنشده مجيباً له: إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام ويشبه هذا ما يحكى عن الشعبي أنه ارتفع إليه في رجل بخص عين رجل ما الواجب في ذلك فلم يزدهم على أن أنشدهم بيت الراعي: لها مالها حتى إذا ما تبوأت بأخفافها مرعى تبوأ مضجعا فانصرف القوم مجابين. أي ينتظر بهذه العين المبخوصة فإن ترامى أمرها إلى الذهاب ففيها الدية كاملة وإن لم تبلغ ذاك ففيها حكومة.
باب في خلع الأدلة
من ذلك حكاية يونس قول العرب: ضرب من منا أي إنسان إنسانا أو رجل رجلا أفلا تراه كيف جرد مَنْ من الاستفهام ولذلك أعربها. ونحوه قولهم في الخبر: مررت برجل أي رجل. فجرد أيا من الاستفهام أيضاً. وعليه بيت الكتاب: والدهر أينما حالٍ دهارير أي والدهر في كل وقت وعلى كل حال دهارير أي متلون ومتقلب بأهله. وأنشدنا أبو علي: وأسماء ما أسماء ليلة أدلجت إلي وأصحابي بأي وأينما قال: فجرد أي من الاستفهام ومنعها الصرف لما فيها من التعريف والتأنيث. وذلك أنه وضعها علما على الجهة التي حلتها. فأما قوله: وأينما فكذلك أيضاً غير أن لك في أينما وجهين: أحدهما أن تكون الفتحة هي التي تكون في موضع جرما لا ينصرف لأنه جعله علماً للبقعة والآخر أن تكون فتحة النون من أينما فتحة التركيب ويضم أين إلى ما فيبنى الأول على الفتح كما يجب في نحو حضرموت وبيت بيت فإذا أنت فعلت ذلك قدرت في ألف ما فتحة ما لا ينصرف في موضع الجر كمررت بأحمد وعمر. ويدل على أنه قد يضم ما هذه إلى ما قبلها ما أنشدناه أبو علي عن أبي عثمان: أثور ما أصيدكم أم ثورين أم تيكم الجماء ذات القرنين فقوله: أثور ما فتحة الراء منه فتحة تركيب ثور مع ما بعده كفتحة راء حضرموت ولو كانت فتحة إعراب لوجب التنوين لا محالة لأنه مصروف. وبنيت ما مع الاسم وهي مبقاة على حرفيتها كما بنيت لا مع النكرة في نحو لا رجل. ولو جعلت ما مع ثور اسما ضممت إليه ثورا لوجب مدها لأنها قد صارت اسما فقلت: أثور ماء أصيدكم. وكما أنك لو جعلت حاميم من قوله: يذكرني حاميم والرمح شاجر اسمين مضموما أحدهما إلى صاحبه لمددت حا فقلت: حاء ميم ليصر كحضرموت. ومثل قوله: أثور ما أصيدكم في أنه اسم ضم إلى حرف في قول أبي عثمان ما أنشدناه أبو على: وأسماء ليلة أدلجت إلي وأصحابي بأي وأينما فكلام في ويحما هو الكلام في أثور ما. فأما قول الآخر: وهل لي أم غيرها إن هجوتها أبي الله إلا أن أكون لها لها أينما فليس من هذا الضرب في شيء وإنما هي ميم زيدت آخر ابن وجرت قبلها حركة الإتباع فصارت هذا ابنم ورأيت ابنما ومررت بابنم. فجريان حركات الإعراب على الميم يدل على أنها ليست ما. وإنما الميم في آخره كالميم في آخر ضرزم ودفعتم ودردم. وأخبرنا أبو علي أن أبا عثمان ذهب في قول الله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} إلى أنه جعل مثل وما اسما واحدا فبنى الأول على الفتح وهما جميعا عنده في موضع رفع لكونهما صفة لحق. فإن قلت: فما موضع {أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} قيل: هو جر بإضافة مثل ما إليه. فإن قلت: ألا تعلم أن ما على بنائها لأنها على حرفين الثاني منهما حرف لين فكيف تجوز إضافة المبنى قيل ليس المضاف ما وحدها إنما المضاف الاسم المضموم إليه ما فلم تعد ما هذه أن تكون كتاء التأنيث في نحو هذه جارية زيد أو كالألف والنون في سرحان عمرو أو في غائلات الحائر المتوه فهذا وجه. وإن شئت قلت: وما في إضافة المبنى! ألا ترى إلى إضافة كم في الخبر نحوكم عبد ملكت وهي مبنية وإلى إضافة أي من قول الله سبحانه {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} وهي مبنية عند سيبويه. وأيضاً فلو ذهب ذاهب واعتقد معتقد أن الإضافة كان يجب أن تكون داعية إلى البناء من حيث كان المضاف من المضاف إليه بمنزلة صدر الكلمة من عجزها وبعض الكلمة صوت والأصوات إلى الضعف والبناء لكان قولا!. ومما خلعت عنه دلالة الاستفهام قول الشاعر أنشدناه سنة إحدى وأربعين: أني جزوا عامرا سيئاً بفعلهم أم كيف يجزونني السوأى من الحسن أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به رثمان أنف إذ ما ضن باللبن فأم في أصل الوضع للاستفهام كما أن كيف كذلك. ومحال اجتماع حرفين لمعنى واحد فلا بد أن يكون أحدهما قد خلعت عنه دلالة الاستفهام. وينبغي أن يكون ذلك الحرف أم دون كيف حتى كأنه قال: بل كيف ينفع فجعلها بمنزلة بل في الترك والتحول. ولا يجوز أن تكون كيف هي المخلوعة عنها دلالة الاستفهام لأنها لو خلعت عنها لوجب إعرابها لأنها إنما بنيت لتضمنها معنى حرف الاستفهام فإذا زال ذلك عنها وجب إعرابها كما أنه لما خلعت دلالة الاستفهام عن مَنْ أعربت في قولهم: ضرب من مناً. وكذلك قولك: مررت برجل أي رجل لما خلعت عنها دلالة الاستفهام جرت وصفا. وهذا واضح جلى. ومن ذلك كاف المخاطب للمذكر والمؤنث نحو رأيتك وكلمتك هي تفيد شيئين: الاسمية والخطاب ثم قد خلع عنها دلالة الاسم في قولهم: ذلك وأولئك وهاك وهاءك وأبصرك زيدا وأنت تريد: أبصر زيداً وليسك أخالك في معنى ليس أخاك. وكذلك قولهم: أرأيتك زيدا ما صنع وحكى أبو زيد: بلاك والله وكلاك والله أي بلى وكلا. فالكاف في جميع ذلك حرف خطاب مخلوعة عنه دلالة الاسمية وعليه قول سيبويه. ومن زعم أن الكاف في ذلك اسم انبغى له أن يقول: ذلك نفسك. وهذا كله مشروح في أماكنه. فلا موضع إذاً لهذه الكاف من الإعراب. وكذلك هي إذا وصلت بالميم والألف والواو نحو ذلكما وذلكمو. فعلى هذا يكون قول الله سبحانه: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ}. كما من أنهكما منصوبة الموضع وكما من تلكما لا موضع لها لأنها حرف خطاب. فإن قيل: فإذا كان تحرفاً لا اسما فكيف جاز أن تكون الألف المنفصلة التي قبلها تأسيسا في . . . . . . . . . . . . . . . . . . على صدفي كالحنية بارك ولا غرو إلا جارتي وسؤالها أليس لنا أهل سئلت كذلك وقول خفاف بن ندبة: وقفت له علوي وقدم خام صحبتي لأبني مجدا أو لأثار هالكا أقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافا إنني أنا ذلكا ألا ترى أن الألف في هالكا وبارك تأسيس لا محالة وقد جمعهما مع الألف في ذلكا وذلك وهي منفصلة وليس الروي وهو الكاف اسما مضمرا كياء قوله بداليا ولا من جملة اسم مضمركميم كماهما. وهذا يدل على أن الكاف في ذلك اسم مضمر لا حرف. قيل: هذا كلام لا يدخل على المذهب في كونها حرفاً وقد قامت الدلالة على ذلك من عدة أوجه. ولكن بقي علينا الآن أن نرى وجه علة جواز كون الألف في ذلك تأسيساً مع أن الكاف ليست باسم مضمر. وعلة ذلك أنها وإن تجردت في هذا الموضع من معنى الاسمية فإنها في أكثر أحوالها اسم نحو رأيتك وكلمتك ونظرت إليك واشتريت لك ثوباً وعجبت منك ونحو ذلك. فلما جاءت ههنا على لفظ تلك التي هي اسم وهو أقل الموضعين حملت على الحكم في أكثر الأحوال لا سيما وهي هنا وإن جردت من معنى الاسمية فإن ما كان فيها من معنى الخطاب باق عليها وغير مختزل عنها. وإذا جاز حمل همزة علباء على همزة حمراء للزيادة وإن عريت من التأنيث الذي دعا إلى قلبها في صحراوات وصحراوي كان حمل كاف ذلك على كاف رأيتك جائزا أيضاً وإن لم يكن أقوى لم يكن أضعف. وقد اتصل بما نحن عليه موضع طريف. ونذكره لاستمرار مثله. وذلك أن أصغر الناس قدراً قد يخاطب أكبر الملوك محلا بالكاف من غير احتشام منه ولا إنكار عليه. وذلك نحو قول التابع الصغير للسيد الخطير: قد خاطبت ذلك الرجل واشتريت تينك الفرسين ونظرت إلى ذينك الغلامين فيخاطب الصاحب الأكبر بالكاف وليس الكلام شعرا فتحتمل له جرأة الخطاب فيه كقوله: لقينا بك الأسد وسألنا منك البحر وأنت السيد القادر ونحو ذلك. وعلة جواز ذلك عندي أنه إنما لم تخاطب الملوك بأسمائها إعظاما لها إذ كان الاسم دليل المعنى وجارياً في أكثر الاستعمال مجراه حتى دعا ذاك قوما إلى أن زعموا أن الاسم هو المسمى. فلما أرادوا إعظام الملوك وإكبارهم تجافوا وتجانفوا عن ابتذال أسمائهم التي هي شواهدهم وأدلة عليهم إلى الكناية بلفظ الغيبة فقالوا: إن رأى الملك أدام الله علوه ونسأله حرس الله ملكه ونحو ذلك وتحاموا إن رأيت ونحن نسألك لما ذكرنا. فهذا هذا. فلما خلعت عن هذه الكاف دلالة الاسمية وجردت للخطاب البتة جاز استعمالها لأنها ليست باسم فيكون في اللفظ به ابتذال له. فلما خلصت هذه الكاف خطاباً البتة وعريت من معنى الاسمية استعملت في خطاب الملوك لذلك. فإن قيل: فهلا جاز على هذا أن يقال للملك ومن يلحق به في غير الشعر أنت لأن التاء هنا أيضاً للخطاب مخلوعة عنها دلالة الاسمية قيل: التاء في أنت وإن كانت حرف خطاب لا اسما فإن معها نفسها الاسم وهو أن من أنت فالاسم على كل حال حاضر وإن لم تكن الكاف وليس كذا قولنا ذلك لأنه ليس للمخاطب بالكاف هنا اسم غير الكاف كما كان له مع التاء في أنت اسم للمخاطب نفسه وهو أن. فاعرف ذلك فرقا بين الموضعين. ونحو من ذلك ما رآه أبو الحسن في أن الهاء والياء في إياه وإياي حرفان أحدهما للغيبة وهو الهاء والآخر للحضور وهو الياء. وذلك أنه كان يرى أن الكاف في إياك حرف للخطاب فإذا أدخلت عليه الهاء والياء في إياه وإياي قال: هما أيضاً حرفان للغيبة والحضور مخلوعة عنهما دلالة الاسمية في رأيته وغلامي وصاحبي. وهذا مذهب هول. وهو وإن كان كذلك جار واعلم أن نظير الكاف في رأيتك إذا خلعت عنها دلالة الاسمية واستقرت للخطاب على ما أرينا التاء في قمت وقعدت ونحو ذلك هي هنا تفيد الاسمية والخطاب ثم تخلع عنها دلالة الاسمية وتخلص للخطاب البتة في أنت وأنت. فالاسم أن وحده والتاء من بعد للخطاب. وللتاء موضع آخر تخلص فيه للاسمية البتة وليس ذلك للكاف. وذلك الموضع قولهم: أرأيتك زيداً ما صنع. فالتاء اسم مجرد من الخطاب والكاف حرف للخطاب مجرد من الاسمية. هذا هو المذهب. ولذلك لزمت التاء الإفراد والفتح في الأحوال كلها نحو قولك للمرأة: أرأيتك زيدا ما شأنه وللاثنين وللاثنتين أرأيتكما زيدا أين جلس ولجماعة المذكر والمؤنث: أرأيتكم زيدا ما خبره وأرأيتكن عمرا ما حديثه فالتغيير للخطاب لاحق للكاف والتاء لأنه لا خطاب فيها على صورة واحدة لأنها مخلصة اسما. فإن قيل: هذا ينقض عليك أصلاً مقررا. وذلك أنك إنما تعتل لبناء الأسماء المضمرة بأن تقول: إن شبه الحرف غلب عليها ومعنى الاسم بعد عنها وذلك نحو قولك: ذلك وأولئك فتجد الكاف مخلصة للخطاب عارية من معنى الاسم. وكذلك التاء في أنت وأنت عارية من معنى الاسم مجردة لمعنى الحرف. وأنت مع هذا تقول: إن التاء في أرأيتك زيداً أين هو ونحو ذلك قد أخلصتها اسما وخلعت عنها دلالة الخطاب. فإذا كانت قد تخلص في موضع اسما كما قيل: إن الكاف في ذلك جردت من معنى الاسمية ولم تقرن باسم المخاطب بها. والتاء في أرأيتك زيداً ما صنع لم تجرد من معنى الحرفية إلا مقترنة بما كان مرة اسما ثم جرد من معنى الاسمية وأخلص للخطاب والحرفية وهو الكاف في أرأيتك زيداً ما صنع ونحوه. فأنت وإن خلعت عن تاء أرأيتك زيداً ما خبره معنى الحرفية فقد قرنت بها ما جردته من معنى الاسمية وهو الكاف بعدها فاعتدل الأمران باقتران الاسم البتة بالحرف البتة. وليس كذلك ذلك لأنك إنما معك الكاف المجردة لمعنى الخطاب لا اسم معها للمخاطب بالكاف فاعرف ذلك. وكذلك أيضاً في أنت قد جردت الاسم وهو أن من معنى الحرفية وأخلصت التاء البتة بعده للخطاب كما أخلصت الكاف بعد التاء في أرأيتك عمرا ما شأنه حرفا للخطاب. فإن قلت: فأن من أنت لم تستعمل قط حرفا ولا خلعت دلالة الاسمية عنها فهذا يقوي حكم الأسماء المضمرة كما أضعفها ما قدمت أنت من حالها في تجردها من معنى الأسمية وما غلب عليها من حكم الحرفية. قيل: لسنا ندعي أن كل اسم مضمر لا بد من أن يخلع عنه حكم الأسمية ويخلص للخطاب والحرفية فيلزمنا ما رمت إلزامنا إياه وإنما قلنا: إن معنى الحرفية قدج أخلص له بعضها فضعف لذلك حكم جميعها وذلك أن الخلع العارض فيها إنما لحق متصلها دون منفصلها وذلك لضعف المتصل فاجترئ عليه لضعفه فخلع معنى الاسمية منه. وأما المنفصل فجار بانفصاله مجرى الأسماء الظاهرة القوية المعربة. وهذا واضح. فإن قلت: في الأسماء الظاهرة كثيرة من المبنية نحو هذا وهذى وتاك وذلك والذي والتي وما ومن وكم وإذ ونحو ذلك فهلا لما وجد البناء في كثير من المظهرة سرى في جميعها كما أنه لما غلب شبه الحرف في بعض المضمرة أجرى عليها جميعها على ما قدمته قيل: إن الأسماء المظهرة من حيث كانت هي الأول القدائم القوية احتمل ذلك فيها لسبقها وقوتها والأسماء المضمرة ثوان لها وأخلاف منها ومعوضة عنها فلم تقو قوة ما هي تابعة له ومعتاضة منه فأعلها ما لا يعله ووصل إليها ما يقصر دونه. وأيضاً فإن المضمر المتصضل وإن كان أضعف من الضمير المنفصل فإنه أكثر وأسير في الاستعمال منه ألا تراك تقول: إذا قدرت على المتصل لم تأت بالمنفصل. فهذا يدلك على أن المتصل أخف عليهم وآثر في أنفسهم. فلما كان كذلك وهو مع ذلك أضعف من المنفصل وسرى فيه لضعفه حكم لزم المنفصل أعني البناء لأنه مضمر مثله ولا حق في سعة الاستعمال به. فإن قيل: وما الذي رغبهم في المتصل حتى شاع استعماله وصار متى قدر عليه لم يؤت قيل: علة ذلك أن الأسماء المضمرة إنما رغب فيها وفزع إليها طلباً للخفة بها بعد زوال الشك بمكانها وذلك أنك لو قلت: زيد ضرب زيداً فجئت بعائده مظهراً مثله لكان في ذلك إلباس واستثقال. أما الإلباس فلأنك إذا قلت: زيد ضربت زيدا لم تأمن أن يظن أن زيدا الثاني غير الأول وأن عائد الأول متوقع مترقب. فإذا قلت: زيد ضربته علم بالمضمر أن الضرب إنما وقع بزيد بزيد المذكور لا محالة وزال تعلق القلب لأجله وسببه. وإنما كان كذلك لأن المظهر يرتجل فلو قلت: زيد ضربت زيدا لجاز أن يتوقع تمام الكلام وأن يظن أن الثاني غير الأول كما تقول: زيد ضربت عمراً فيتوقع أن تقول: في داره أو معه أو لأجله. فإذا قلت زيد ضربته قطعت بالضمير سبب الإشكال من حيث كان المظهر يرتجل والمضمر تابع غير مرتجل في أكثر اللغة. فهذا وجه كراهية الإشكال. وأما وجه الاستخفاف فلأنك إذا قلت: العبيثران شممته فجعلت موضع التسعة واحدا كان أمثل من أن تعيد التسعة كلها فتقول: العبيثران شممت العبيثران. نعم وينضاف إلى الطول قبح التكرار المملول. وكذلك ما تحته من العدد الثماني والسباعي فما تحتهما هو على كل حال أكثر من الواحد. فلما كان الأمر الباعث عليه والسبب المقتاد إليه إنما هو طلب الخفة به كان المتصل منه آثر في نفوسهم وأقرب رحما عندهم حتى إنهم متى قدروا عليه لم يأتوا بالمنفصل مكانه. فلذلك لما غلب شبه الحرفية على المتصل بما ذكرناه: من خلع دلالة الاسمية عنه في ذلك وأولئك وأنتَ وأنتِ وقاما أخواك وقاموا إخوتك: و. . . يعصرن السليط أقاربه و قلن الجواري ما ذهبت مذهبا حملوا المنفصل عليه في البناء إذ كان ضميرا مثله وقد يستعمل في بعض الأماكن في موضعه نحو قوله: إليك حتى بلغت إياكا أي بلغتك وقول أبي بجيلة وهو بيت الكتاب: كأنا يوم قرى إن ما نقتل إيانا وبيت أمية: بالوارث الباعث الأموات قد ضمنت إياهم الأرض في دهر الدهارير كذلك قد يستعمل المتصل موضع المنفصل نحو قوله: فإن قلت: زعمت أن المتصل آثر في نفوسهم من المنفصل وقد ترى إلى أكثر استعمال المنفصل موضع المتصل وقلة استعمال المتصل موضع المنفصل فهلا دلك ذلك على خلاف مذهبك قيل: لما كانوا متى قدروا على المتصل لم يأتوا مكانه بالمنفصل غلب حكم المتصل فلما كان كذلك عوضوا منه أن جاءوا في بعض المواضع بالمنفصل في موضع المتصل كما قلبوا الياء إلى الواو في نحو الشروى والفتوى لكثرة دخول الياء على الواو في اللغة. ومن ذلك قولنا: ألا قد كان كذا وقول الله سبحانه: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} فألا هذه فيها هنا شيئان: التنبيه وافتتاح الكلام فإذا جاءت معها يا خلصت افتتاحا لا غير وصار التنبيه الذي كان فيها ليا دونها. وذلك نحو قول الله عز اسمه: { ألا يا اسجدوا لله } وقول الشاعر: ألا يا سنا برق على قلل الحمى لهنك من برق علي كريم ومن ذلك واو العطف فيها معنيان: العطف ومعنى الجمع. فإذا وضعت موضع مع خلصت للاجتماع وخلعت عنها دلالة العطف نحو قولهم: استوى الماء والخشبة وجاء البرد والطيالسة. ومن ذلك فاء العطف فيها معنيان: العطف والإتباع. فإذا استعملت في جواب الشرط خلعت عنها دلالة العطف وخلصت للإتباع. وذلك قولك: إن تقم فأنا أقوم ونحو ذلك. ومن ذلك همزة الخطاب في هاء يا رجل وهاء يا امرأة كقولك: هاكَ وهاكِ فإذا ألحقتها الكاف جردتها من الخطاب لأنه يصير بعدها في الكاف وتفتح هي أبداً. وهو قولك: هاءكَ وهاءَكِ وهاء كما وهاء كم. ومن ذلك يا في النداء تكون تنبيها ونداء في نحو يا زيد ويا عبد الله. وقد تجردها من النداء للتنبيه البتة نحو قول الله تعالى: { ألا يا اسجدوا } كأنه قال: ألا ها اسجدوا. وكذلك قول العجاج: يا دار سلمة يا أسلمي ثم أسلمي إنما هو كقولك: ها أسلمي. وهو كقولهم: هَلُمَّ في التنبيه على الأمر. وأما قول أبي العباس: إنه أراد: ألا يا هؤلاء اسجدوا فمردود عندنا. وقد كرر ذلك أبو علي في غير موضع فغنينا عن إعادته.
باب في تعليق الأعلام على المعاني دون الأعيان
هذا باب من العربية غريب الحديث أراناه أبو علي رحمه الله تعالى. وقد كنت شرحت حاله في صدر تفسيري أسماء شعراء الحماسة بما فيه مقنع إلا أنا أردنا ألا نخلي كتابنا هذا منه لإغرابه وحسن التنبيه عليه. اعلم أن الأعلام أكثر وقوعها في كلامهم إنما هو على الأعيان دون المعاني. الأعيان هي الأشخاص نحو: زيد وجعفر وأبي محمد وأبي القاسم وعبد الله وذي النون وذي يزن وأعوج وسبل والوجيه ولاحق وعلوي وعتوة والجديل وشدقم وعمان ونجران والحجاز والعراق والنجم والدبران الثريا وبرقع والجرباء. ومنه محوة للشمال لأنها على كل حال جسم وإن لم تكن مرئية. وكما جاءت الأعلام في الأعيان فكذلك أيضاً قد جاءت في المعاني نحو قوله: أقول لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر فسبحان اسم علم لمعنى البراءة والتنزيه بمنزلة عثمان وحمران. وإن قال غاو من تنوخ قصيدة بها جرب عدت علي بزوبرا سألت أبا علي عن ترك صرف زوبر فقال: علقه علما على القصيدة فاجتمع فيه التعريف والتأنيث كما اجتمع في سبحان التعريف والألف والنون. ومنه فيما ذكره أبو علي ما حكاه أبو زيد من قولهم: كان ذلك الفينة وفينة وندرى والندرى. فهذا مما اعتقب عليه تعريفان: العلمية والألف واللام. وهو كقولك: شعوب والشعوب للمنية. وعروبة والعروبة. كما أن الأول كقولك: في الفرط والحين. ومثله غدوة جعلوها علما للوقت. وكذلك أعلام الزمان نحو صفر ورجب وبقية الشهور وأول وأهون وجبار وبقية تلك الأسماء. ومنه أسماء الأعداد كقولك: ثلاثة نصف ستة وثمانية ضعف أربعة إذا أردت قدر العدد لا نفس المعدود فصار هذا اللفظ علما لهذا المعنى. ومنه ما أنشده صاحب الكتاب من قوله: أنا اقتسمنا خُطَّتينا بيننا فحملت برة واحتملت فجار فبرة اسم علم لمعنى البر فلذلك لم يصرف للتعريف والتأنيث. وعن مثله عدل فجار أي عن فجرة. وهي علم غير مصروف كما أن برة كذلك. وقول سيبويه: إنها معدولة عن الفجرة تفسير على طريق المعنى لا على طريق اللفظ. وذلك أنه أراد أن يعرف أنه معدول عن فجرة علماً ولم تستعمل تلك علماً فيريك ذلك فعدل عن لفظ العلمية المراد إلى لفظ التعريف فيها المعتاد. وكذلك لو عدلت عن برة هذه لقلت: برار كما قال: فجار. وشاهد ذلك أنهم عدلوا حذام وقطام عن حاذمة وقاطمة وهما عَلَمان فكذلك يجب أن تكون فَجَارِ معدولة عن فَفْرَة علماً أيضاً. ومن الأعلام المعلقة على المعاني ما استعمله النحويون في عباراتهم من المثل المقابل بها الممثلات نحو قولهم: أفعل إذا أرادت به الوصف وله فعلاء لم تصرف. فلا تصرف أنت أفعل هذه من حيث صارت علماً لهذا المثال نحو أحمر وأصفر وأسود وأبيض. فتجري أفعل هذا مجرى أحمد وأصرم علمين. وتقول فاعلة لا تنصرف معرفة وتنصرف نكرة. فلا تصرف فاعلة لأنها علم لهذا الوزن فجرت مجرى فاطمة وعاتكة. وتقول: فعلان إذا كانت له فَعْلَى فإنه لا ينصرف معرفة ولا نكرة. فلا تصرف فعلان هذا لأنه عَلَم لهذا الوزن بمنزلة حَمْدان وقحطان. وتقول: وزن طلحة فَعْلة ومثال عَبَيْثُرَان فَعَيْلُلان ومثال إسحارّ إفعالّ ووزن إستبرق إستفعل ووزن طريفة فعيلة. وكذلك جميع ما جاء من هذا الطرز. وتقول: وزن إبراهيم فعلاليل فتصرف هذا المثال لأنه لا مانع له من الصرف ألا ترى أنه ليس فيه أكثر من التعريف والسبب الواحد لا يمنع الصرف. ولا تصرف إبراهيم للتعريف والعجمة. وكذلك وزن جبرئيل فعلئيل فلا تصرف جبرئيل وتصرف مثاله. والهمزة فيه زائدة لقولهم: جبريل. وتقول: مثال جعفر فعلل فتصرفهما جميعاً لأنه ليس في كل واحد منهما أكثر من التعريف. وقد يجوز إذا قيل لك ما مثال أَفْكَلٍ أن تقول: مثاله أفعلٍ فتصرفه حكاية لصرف أفكلٍ كما جررته حكاية لجره ألا تراك إذا قيل لك: ما مثال ضرب قلت: فُعِل فتحكى في المثال بناء ضرب فتبنيه كما بنيت مثال المبنى كذلك حكيت إعراب أفكلٍ وتنوينه فقلت في جواب ما مثال أفكلٍ: مثاله أفعلٍ فجررت كما صرفت. فاعرف ذلك. ومن ذلك قولهم: قد صرجت بِجدّانَ وجلدانَ. فهذا علم لمعنى الجِدّ. ومنه قولهم: أتى على ذي بليان. فهذا علم للبعد قال: تنام ويذهب الأقوامُ حتى يقالَ أتوا على ذي بِليَّان فإن قلت: ولم قلت الأعلام في المعاني وكثرت في الأعيان نحو زيد وجعفر وجميع ما علق عليه علم وهو شخص قيل: لأن الأعيان أظهر للحاسة وأبدى إلى المشاهدة فكانت أشبه بالعلمية مما لا يرى ولا يشاهد حساً وإنما يعلم تأملاً واستدلالاً وليست كمعلوم الضرورة للمشاهدة.
باب في الشيء يرد مع نظيره مورده مع نقيضه
وذلك أضرب منها اجتماع المذكر والمؤنث في الصفة المؤنثة نحو رجل علامة وامرأة علامة ورجل نسابة وامرأة نسابة ورجل همزة لمزة وامرأة همزة لُمَزة ورجل صرورة وفروقة وامرأة صرورة وفروقة ورجل هلباجة فقاقة وامرأة كذلك. وهو كثير. وذلك أن الهاء في نحو ذلك لم تلحق لتأنيث الموصوف بما هي فيه وإنما لحقت لإعلام المسامع أن هذا الموصوف بما هي فيه قد بلغ الغاية والنهاية فجعل تأنيث الصفة أمارة لما أريد من تأنيث الغاية والمبالغة وسواء كان ذلك الموصوف بتلك الصفة مذكراً أم مؤنثاً. يدل على ذلك أن الهاء لو كانت في نحو امرأة فروقة إنما لحقت لأن المرأة مؤنثة لوجب أن تحذف في المذكر فيقال: رجل فروق كما أن التاء في نحو امرأة قائمة وظريفة لما لحقت لتأنيث الموصوف حذفت مع تذكيره في نحو رجل ظريف وقائم وكريم. وهذا واضح. ونحو من تأنيث هذه الصفة لا يعلم أنها بلغت المعنى الذي هو مؤنث أيضاً تصحيحهم العين في نحو حول وصيد واعتونوا واجتوروا إيذاناً بأن ذلك في معنى ما لا بد من تصحيحه. وهو احول واصيد وتعاونوا وتجاوروا وكما كررت الألفاظ لتكرير المعاني نحو الزلزلة والصلصلة والصرصرة. وهذا باب واسع. ومنها اجتماع المذكر والمؤنث في الصفة المذكرة. وذلك نحو رجل خصم وامرأة خصم ورجل عدل وامرأة عدل ورجل ضيف وامرأة ضيف ورجل رضا وامرأة رضاً. وكذلك ما فوق الواحد نحو رجلين رضا وعدل وقوم رضا وعدل قال زهير: متى يشتجر قوم يقل سرواتهم هم بيننا فهم رضاً وهم عدلُ وسبب اجتماعهما هنا في هذه الصفة أن التذكير إنما أتاها من قبل المصدرية فإذا قيل: رجل عدل فكأنه وصف بجميع الجنس مبالغة كما تقول: استولى على الفضل وحاز جميع الرياسة والنبل ولم يترك لأحد نصيباً في الكرم والجود ونحو ذلك. فوصف بالجنس أجمع تمكيناً لهذا الموضع وتوكيداً. وقد ظهر منهم ما يؤيد هذا المعنى ويشهد به. وذلك نحو قوله: أنشدناه أبو علي: ألا أصبحت أسماء جاذمة الحبل وضنت علينا والضنين من البخل فهذا كقولك: هو مجبول من الكرم ومطين من الخير وهي مخلوقة من البخل. وهذا أوفق معنى من أن تحمله على القلب وأنه يريد به: والبخل من الضنين لأن فيه من الإعظام والمبالغة ما ليس في القلب. ومنه ما أنشدناه أيضاً من قوله: وهن من الإخلاف قبلك والمطل وقوله: وهن من الإخلاف والولعان وأقوى التأويلين في قولها: فإنما هي إقبال وإدبار أن يكون من هذا أي كأنها مخلوقة من الإقبال والإدبار لا على أن يكون من باب حذف المضاف أي ذات إقبال وذات إدبار. ويكفيك من هذا كله قول الله عز وجل {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} وذلك لكثرة فعله إياه واعتياده له. وهذا أقوى معنى من أن يكون أراد: خلق العجل من الإنسان لأنه أمر قد اطرد واتسع فحمله على القلب يبعد في الصنعة ويصغر المعنى. وكأن هذا الموضع لما خفي على بعضهم قال في تأويله: إن العَجَل هنا الطين. ولعمري إنه في اللغة كما ذكر غير أنه في هذا الموضع لا يراد به إلا نفس العجلة والسرعة ألا تراه عز اسمه كيف قال عقبه {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} فنظيره قوله تعالى {وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} { وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} لأن العجلة ضرب من الضعف لما تؤذن به من الضرورة والحاجة. فلما كان الغرض في قولهم: رجل عدل وامرأة عدل إنما هو إرادة المصدر والجنس جعل الإفراد والتذكير أمارة للمصدر المذكر. فإن قلت: فإن نفس لفظ المصدر قد جاء مؤنثاً نحو الزيادة والعبادة والضئولة والجهومة والمحمية والموجدة والطلاقة والسباطة. وهو كثير جداً. فإذا كان نفس المصدر قد جاء مؤنثاً فما هو في معناه ومحمول بالتأويل عليه أحجى بتأنيثه. قيل: الأصل لقوته أحمل لهذا المعنى من الفرع لضعفه. وذلك أن الزيادة والعبادة والجهومة والطلاقة ونحو ذلك مصادر غير مشكوك فيها فلحاق التاء لها لا يخرجها عما ثبت في النفس من مصدريتها. وليس كذلك الصفة لأنه اليست في الحقيقة مصدراً وإنما هي متأولة عليه ومردودة بالصنعة إليه. فلو قيل: رجل عدل وامرأة عدلة وقد جرت صفة كما ترى لم يؤمن أن يظن بها أنها صفة حقيقية كصُعْبة من صعب وندبة من ندب وفخمة من فخم ورطبة من رطب. فلم يكن فيها من قوة الدلالة على المصدرية ما في نفس المصدر نحو الجهومة والشهومة والطلاقة والخلاقة. فالأصول لقوتها يتصرف فيها والفروع لضعفها يتوقف فإن قلت: فقد قالوا: رجل عدل وامرأة عدلة وفرس طوعة القياد وقال أمية أنشدناه: والحية الحتفة الرقشاء أخرجها من بيتها آمنات الله والكلم قيل: هذا مما خرج على صورة الصفة لأنهم لم يؤثروا أن يبعدوا كل البعد عن أصل الوصف الذي بابه أن يقع الفرق فيه بين مذكره ومؤنثه فجرى هذا في حفظ الأصول والتلفت إليها للمباقاة لها والتنبيه عليها مجرى إخراج بعض المعتل على أصله نحو استحوذ وضننوا وقد تقدم ذكره ومجرى إعمال صغته وعدته وإن كان قد نقل إلى فَعُلت لما كان أصله فَعَلت. وعلى ذلك أنث بعضهم فقال: خصمة وضيفة وجمع فقال: يا عين هلا بكيت أربد إذ قمنا وقام الخصوم في كبد وعليه قول الآخر: إذا نزل الأضياف كان عذوراً على الحي حتى تستقل مراجله الأضياف هنا بلفظ القلة ومعناها أيضاً وليس كقوله: وأسيافنا يقطرن من نجدة دما في أن المراد به معنى الكثرة. وذلك أمدح لأنه إذا قرى الأضياف وهم قليل بمراجل الحي أجمع فما ظنك به لو نزل به الضيفان الكثيرون! فإن قيل: فلم أنث المصدر أصلاً وما الذي سوغ التأنيث فيه مع معنى العموم والجنس وكلاهما إلى التذكير حتى احتجت إلى الاعتذار له بقولك: إنه أصل وإن الأصول تحمل ما لا تحمله الفروع. قيل: علة جواز تأنيث المصدر مع ما ذكرته من وجوب تذكيره أن المصادر أجناس للمعاني كما غيرها أجناس للأعيان نحو رجل وفرس وغلام ودار وبستان. فكما أن أسماء أجناس الأعيان قد تأتى مؤنثة الألفاظ ولا حقيقة تأنيث في معناها نحو غرفة ومشرقة وعلية ومروحة ومِقْرَمَة وكذلك جاءت أيضاً أجناس المعاني مؤنثاً بعضها لفظاً لا معنى. وذلك نحو المحمدة والموجدة والرشاقة والجباسة والضئولة والجهومة. نعم وإذا جاز تأنيث المصدر وهو على مصدريته غير موصوف به لم يكن تأنيثه وجمعه وقد ورج وصفاً على المحل الذي من عادته أن يفرق فيه بين مذكره ومؤنثه وواحده وجماعته قبيحاً ولا مستكرها أعني ضيفة وخصمة وأضيافاً وخصوماً وإن كان التذكير والإفراد أقوى في اللغة وأعلى في الصنعة قال الله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ}. وإنما كان التذكير والإفراد أقوى من قبل أنك لما وصفت بالمصدر أردت المبالغة بذلك فكان من تمام المعنى وكماله أن تؤكد ذلك بترك التأنيث والجمع كما يجب للمصدر في أول أحواله ألا ترى أنك إذا أنثت وجمعت سلكت به مذهب الصفة الحقيقة التي لا معنى للمبالغة فيها نحو قائمة ومنطلقة وضاربات ومكرمات. فكان ذلك يكون نقضا للغرض أو كالنقض له. فلذلك قل حتى وقع الاعتذار لما جاء منه مؤنثاً أو مجموعاً. ومما جاء من المصادر مجموعا ومعملا أيضاً قوله: مواعيد عرقوب أخاه بيثرب وبيترب ومنه عندي قولهم: تركته بملاحس البقر أولادها. فالملاحس جمع ملحس ولا يخلو أن يكون مكاناً أو مصدرا فلا يجوز أن يكون هنا مكاناً لأنه قد عمل في الأولاد فنصبها والمكان لا يعمل في المفعول به كما أن الزمان لا يعمل فيه. وإذا كان الأمر على ما ذكرنا كان المضاف هنا محذوفاً مقدراً وكأنه قال: تركته بمكان ملاحس البقر أولادها كما أن قوله: وما هي إلا في إزار وعلقة مغار ابن همام على حي خثعما محذوف المضاف أي وقت إغارة ابن همام على حي خثعم ألا تراه قد عداه إلى على في قوله على حي خثعما. فملاحس البقر إذاً مصدر مجموع معمل في المفعول به كما أن مواعيد عرقوب أخاه بيثرب كذلك. وهو غريب. وكان أبو علي رحمه الله يورد مواعيد عرقوب مورد فأما قوله: قد جربوه فما زادت تجاربهم أبا قدامة إلا المجد والفنعا فقد يجوز أن يكون من هذا. وقد يجوز أن يكون أبا قدامة منصوباً بزادت أي فما زادت أبا قدامة تجاربهم إياه إلا المجد. والوجه أن ينصب بتجاربهم لأنه العامل الأقرب ولأنه لو أراد إعمال الأول لكان حرى أن يعمل الثاني أيضاً فيقول: فما زادت تجاربهم إياه أبا قدامة إلا كذا كما تقول: ضربت فأوجعته زيدا وتضعف ضربت فأوجعت زيدا على إعمال الأول. وذلك أنك إذا كنت تعمل الأول على بعده وجب إعمال الثاني أيضاً لقربه لأنه لا يكون الأبعد أقوى حالاً من الأقرب. فإن قلت: أكتفي بمفعول العامل الأول من مفعول العامل الثاني قيل لك: فإذا كنت مكتفياً مختصراً فاكتفاؤك بإعمال الثاني الأقرب أولى من اكتفائك بإعمال الأول الأبعد. وليس لك في هذا مالك في الفاعل لأنك تقول: لا أضمر على غير تقدم ذكر إلا مستكرها فتعمل الأول فتقول قام وقعدا أخواك. فأما المفعول فمنه بد فلا ينبغي أن تتباعد بالعمل إليه وتترك ما هو أقرب إلى المعمول فيه منه. ومن ذلك فرس وساعٌ الذكر والأنثى فيه سواء وفرس جواد وناقة ضامر وجمل ضامر تدري فوق متنيها قرونا على بشر وآنسة لباب وقال ذو الرمة: سبحلا أبا شرخين أحيا بناته مقاليتها فهي اللباب الحبائس فأما ناقة هجان ونوق هجان ودرع دلاص وأدرع دلاص فليس من هذا الباب فإن فعالا منه في الجمع تكسير فعال في الواحد. وقد تقدم ذكر ذلك في باب ما اتفق لفظه واختلف تقديره.
باب في ورود الوفاق مع وجود الخلاف
هذا الباب ينفصل من الذي قبله بأن ذلك تبع فيه اللفظ ما ليس وفقاً له نحو رجل نسابة وامرأة عدل وهذا الباب الذي نحن فيه ليس بلفظ تبع لفظاً بل هو قائم برأسه. وذلك قولهم: غاض الماء وغضته سووا فيه بين المتعدى وغير المتعدى. ومثله جبرت يده وجبرتها وعمر المنزل وغمرته وسار الدابة وسرته ودان الرجل ودنته من الدين في معنى أدنته وعليه جاء مديون في لغة التميميين وهلك الشيء وهلكته قال العجاج: ومهمه هالك من تعرجا فيه قولان: أحدهما أن هالكاً بمعنى مهلك أي مهلك من تعرج فيه. والآخر: ومهمه هالك المتعرجين فيه كقولك: هذا رجل حسن الوجه فوضع من موضع الألف واللام. ومثله هبط الشيء وهبطته قال: ما راعني إلا جناح هابطاً على البيوت قوطه العلابطا أي مهبطاً قوطه. وقد يجوز أن يكون أراد: هابطاً بقوطه فلما حذف حرف الجر نصب فأما قول الله سبحانه {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ} فأجود القولين فيه أن يكون معناه: وإن منها لما يهبط من نظر إليه لخشية الله. وذلك أن الإنسان إذا فكر في عظم هذه المخلوقات تضاءل وتخشع وهبطت نفسه لعظم ما شاهد. فنسب الفعل إلى تلك الحجارة لما كان السقوط والخشوع مسبباً عنها وحادثاً لأجل النظر إليها كقول الله سبحانه {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى} وأنشدوا بيت الآخر: فاذكر موقفي إذا التقت الخي ل وسارت إلى الرجال الرجالا أي وسارت الخيل الرجال إلى الرجال. وقد يجوز أن يكون أراد: وسارت إلى الرجال بالرجال فحذف حرف الجر فنصب. والأول أقوى. وقال خالد بن زهير: فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها فأول راض سيرة من يسيرها ورجنت الدابة بالمكان إذا أقامت فيه ورجنتها وعاب الشيء وعبته وهجمت على القوم وهجمت غيري عليهم أيضاً وعفا الشيء: كثر وعفوته: كثرته وفغر فاه وفغر فوه وشحا فاه وشحا فوه وعثمت يده وعثمتها أي جبرتها على غير استواء ومد النهر ومددته قال الله عز وجل {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} وقال الشاعر: وسرحت الماشية وسرحتها وزاد الشيء وزدته وذرا الشيء وذروته: طيرته وخسف المكان وخسفه الله ودلع اللسان ودلعته وهاج القوم وهجتهم وطاخ الرجل وطخته أي لطخته بالقبيح في معنى أطخته ووفر الشيء ووفرته. وقال الأصمعي: رفع البعير ورفعته في السير المرفوع وقالوا: نفى الشيء ونفيته أي أبعدته قال القطامي: فأصبح جاراكم قتيلاً ونافيا ونحوه نكرت البئر ونكرتها أي أقللت ماءها ونزفت ونزفتها. فهذا كله شاذ عن القياس وإن كان مطرداً في الاستعمال إلا أن له عندي وجهاً لأجله جاز. وهو أن كل فاعل غير القديم سبحانه فإنما الفعل منه شيء أعيره وأعطيه وأقدر عليه فهو وإن كان فاعلاً فإنه لما كان معاناً مقدراً صار كأن فعله لغيره ألا ترى إلى قوله سبحانه {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى} نعم وقد قال بعض الناس: إن الفعل لله وإن العبد مكتسبه وإن كان هذا خطأ عندنا فإنه قول لقوم. فلما كان قولهم: غاض الماء أن غيره أغاضه وإن جرى لفظ الفعل له تجاوزت العرب ذلك إلى أن أظهرت هناك فعلاً بلفظ الأول متعدياً لأنه قد كان فاعله في وقت فعله إياه إنما هو مشاء إليه أو معان عليه. فخرج اللفظان لما ذكرنا خروجاً واحداً. فاعرفه. باب في نقض العادة المعتاد المألوف في اللغة أنه إذا كان فعل غير متعد كان أفعل متعدياً لأن هذه الهمزة كثيراً ما تجيء للتعدية. وذلك نحو قام زيد وأقمت زيداً وقعد بكر وأقعدت بكراً. فإن كان فعل متعدياً إلى مفعول واحد فنقلته بالهمزة صار متعدياً إلى اثنين نحو طعم زيد خبزاً وأطعمته خبزاً وعطا بكر درهماً وأعطيته درهماً. فأما كسى زيد ثوباً وكسوته ثوباً فإنه وإن لم ينقل بالهمزة فإنه نقل بالمثال ألا تراه نقل من فعل إلى فعل. وإما جاز نقله بفعل لما كان فعل وأفعل كثيراً ما يعتقبان على المعنى الواحد نحو جد في الأمر وأجد وصددته عن كذا وأصددته وقصر عن الشيء وأقصر وسحته الله وأسحته ونحو ذلك. فلما كان فعل وأفعل على ما ذكرنا: من الاعتقاب والتعاوض ونقل بأفعل نقل أيضاً فَعِل وأفعل على ما ذكرنا: من الاعتقاب والتعاوض ونقل بأفعل نقل أيضاً فَعِل بفَعَل نحو كسى وكسوته وشترِت عينه وشترها وعارت وعرتها ونحو ذلك. هذا هو الحديث: أن تنقل بالهمز فيحدث النقل تعدياً لم يكن قبله. غير أن ضرباً من اللغة وذلك قولهم: أجفل الظليم وجفلته الريح وأشنق البعير إذا رفع رأسه وشنقته وأنزف البئر إذا ذهب ماؤها ونزفتها وأقشع الغيم وقشعته الريح وأنس ريش الطائر ونسلته وأمرت الناقة إذا در لبنها ومَرَيتها. ونحو من ذلك ألوت الناقة بذنبها ولوت ذنبها وصر الفرس أذنه وأصر بأذنه وكبه الله على وجهه وأكب هو وعلوت الوسادة وأعليت عنها. فهذا نقض عادة الاستعمال لأن فعلت فيه متعد وأفعلت غير متعد. وعلة ذلك عني أنه جعل تعدي فعلت وجمود أفعلت كالعوض لفعلت من غلبة أفعلت لها على التعدي نحو جلس وأجلسته ونهض وأنهضته كما جعل قلب الياء واواً في التقوى والرعوى والثنوى والفتوى عوضاً للواو من كثرة دخول الياء عليها وكما جعل لزوم الضرب الأول من المنسرح لمفتعلن وحظر مجيئه تماماً أو مخبوناً بل توبعت فيه الحركات الثلاث البتة تعويضاً للضرب من كثرة السواكن فيه نحو مفعولن ومفعولان ومستفعلان ونحو ذلك ما التقى في آخره من الضروب ساكنان. ونحو من ذلك ما جاء عنهم من أفعلته فهو مفعول وذلك نحو أحببته فهو محبوب وأجنه الله فهو مجنون وأزكمه فهو مزكوم وأكزه فهو مكزوز وأقره فهو مقرور وآرضه الله فهو مأروض وأملأه الله فهو مملوء وأضأده الله فهو مضئود وأحمه الله من الحمى فهو محموم وأهمه من الهم فهو مهموم وأزعقته فهو مزعوق أي مذعور. ومثله ما أنشدناه أبو علي من قوله: إذا ما استحمت أرضه من سمائه جرى وهو مودوع وواعد مصدق وهو من أودعته. ويبغي أن يكون جاء على ودع. وأما أحزنه الله فهو محزون فقد حمل على هذا غير أنه قد قال أبو زيد: يقولون: الأمر يحزنني ولا يقولون: حزنني إلا أن مجيء المضارع يشهد للماضي. فهذا أمثل مما مضى. وقد قالوا فيه أيضاً: مُحْزَنٌ على القياس. ومثله قولهم: محب. منه بيت عنترة: ولقد نزلت فلا تظنى غيره مني بمنزلة المحب المكرم ومثله قول الأخرى: لأنكحن بَبَّه جارية خدبه مكرمة محبه تجب أهل الكعبة وقال الآخر: ومن يناد آل يربوع يُجَبْ يأتيك منهم خير فتيان العرب قالوا: وعلة ما جاء من أفعلته فهو مفعول نحو أجنه الله فهو مجنون وأسله الله فهو مسلول وبابه أنهم إنما جاءوا به على فعل نحو جن فهو مجنون وزكم فهو مزكوم وسل فهو مسلول. وكذلك بقيته. فإن قيل لك من بعد: وما بال هذا خالف فيه الفعل مسنداً إلى الفاعل صورته مسنداً إلى المفعول وعادة الاستعمال غير هذا وهو أن يجيء الضربان معاً في عدة واحدة نحو ضربته وضرب وأكرمته وأكرم وكذلك مقاد هذا الباب قيل: إن العرب لما قوى في أنفسها أمر المفعول حتى كاد يلحق عندها برتبة الفاعل وحتى قال سيبويه فيهما: " وإن كانا جميعاً يهمانهم ويعنيانهم " خصوا المفعول إذا أسند الفعل إليه بضربين من الصنعة: أحدهما تغيير صورة المثال مسنداً إلى المفعول عن صورته مسنداً إلى الفاعل والعدة واحدة وذلك نحو ضرب زيد وضرب وقتل وقتل وأكرم وأكرم ودحرج ودحرج. والآخر أنهم لم يرضوا ولم يقنعوا بهذا القدر من التغيير حتى تجاوزوه إلى أن غيروا عدة الحروف مع ضم أوله كما غيروا في الأول الصورة والصيغة وحدها. وذلك نحو قولهم: أحببته وحب وأزكمه الله وزكم وأضأده الله وضئد وأملاه الله وملئ. قال أبو علي: فهذا يدلك على تمكن المفعول عندهم وتقدم حاله في أنفسهم إذ أفردوه بأن صاغوا الفعل له صيغة مخالفة لصيغته وهو وهذا ضرب من تدريج اللغة عندهم الذي قدمت بابه ألا ترى أنهم لما غيروا الصيغة والعدة واحدة في نحو ضَرَب وضُرب وشَتَم وشُتِم تدرجوا من ذلك إلى أن غيروا الصيغة مع نقصان العدة نحو أزكمه الله وزكم وآرضه الله وأرض. فهذا كقولهم في حنيفة: حنفي لما حذفوا هاء حنيفة حذفوا أيضاً ياءها ولما لم يكن في حنيف تاء تحذف فتحذف لها الياء صحت الياء فقالوا فيه: حنيفيّ. وقد تقدم القول على ذلك. وهذا الموضع هو الذي دعا أبا العباس أحمد بن يحيى فقي كتاب فصيحه أن أفرد له باباًن فقال: هذا باب فُعِل بضم الفاء نحو قولك: عُنِيت بحاجتك وبقية الباب. إنما غرضه فيه إيراد الأفعال المسندة إلى المفعول ولا تسند إلى الفاعل في اللغة الفصيحة ألا تراهم يقولون: نخى زيد من النخوة ولا يقال: نخاه كذا ويقولون امتقع لونه ولا يقولون: امتقعه كذا ويقولون: انقطع بالرجل ولا يقولون انقطع به كذا. فلهذا جاء بهذا الباب أي ليريك أفعالاً خصت بالإسناد إلى المفعول دون الفاعل كما خصت أفعال بالإسناد إلى الفاعل دون المفعول نحو قام زيد وقعد جعفر وذهب محمد وانطلق بشر. ولو كان غرضه أن يرك صورة ما لم يسم فاعله مجملاً غير مفصل على ما ذكرنا لأورد فيه نحو ضرب وركب وطلب وقتل وأكل وسمل وأكرم فاعرف هذا الغرض فإنه أشرف من حفظ مائة ورقة لغة. ونظير مجيء اسم المفعول ههنا على حذف الزيادة نحو أجببته فهو محبوب مجيء اسم الفاعل على حذفها أيضاً وذلك نحو قولهم: أورس الرمث فهو وارس وأيفع الغلام فهو يافع وأبقل المكان فهو باقل قال الله عز وجل: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} وقياسه ملاقح لأن الريح تلقح السحاب فتستدره. وقد يجوز أن يكون على لقحت هي فإذا لقحت فزكت ألقحت السحاب فيكون هذا مما اكتفى فيه بالسبب من المسبب. وضده قول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ} أي فإذا أردت قراءة القرآن فاكتفي بالمسبب الذي هو القراءة من السبب الذي هو الإرادة. وقد جاء عنهم مبقل حكاها أبو زيد. وقال داود ابن أبي دواد لأبيه في خبر لهما وقد قال له أبوه ما أعاشك بعدي: أعاشني بعدك واد مبقل آكل من حوذانه وأنسل وقد جاء أيضاً حببته قال الشاعر: ووالله لو تمره ما حببته ولا كان أدنى من عبيد ومشرق ونظير مجيء اسم الفاعل والمفعول جميعاً على حذف الزيادة فيما مضى مجيء المصدر أيضاً على حذفها نحو قولهم جاء زيد وحده. فأصل هذا أوحدته بمروري إيحاداً ثم حذفت بمنجرد قيد الأوابد هيكل أي تقييد الأوابد ثم حذف زائدتيه وإن شئت قلت: وصف بالجوهر لما فيه من معنى الفعل نحو قوله: فلولا الله والمهر المفدى لرحت وأنت غربال الإهاب فوضع الغربال موضع مخرق. وعليه ما أنشدناه عن أبي عثمان: مئبرة العرقوب إشفى المرفق أي دقيقة المرفق وهو كثير. فأما قوله: وبعد عطائك المائة الرتاعا فليس على حذف الزيادة ألا ترى أن في عطاء ألف إفعال الزائدة. ولو كان على حذف الزيادة لقال: وبعد عطوك فيكون كوحده. وقد ذكرنا هذا فيما مضى. ولما كان الجمع مضارعاً للفعل بالفرعية فيهما جاءت فيه أيضاً ألفاظ على حذف الزيادة التي كانت في الواحد. وذلك نحو قولهم: كَرَوان وكِرْوان ووَرَشان ووِرْشان. فجاء هذا على حذف زائدتيه حتى كأنه صار إلى فَعَل فجرى مجرى خَرَبٍ وخِرْبان وبَرَقٍ وبِرْقان قال: وأنشدنا لذي الرمة: من آل أبي موسى ترى الناس حوله كأنهم الكِرْوان أبصرن بازيا ومنه تكسيرهم فَعَالا على أفعال حتى كأنه إنما كُسِّر فَعَل وذلك نحو جواد وأجواد وعياءٍ وأعياءٍ وحياء وأحياء وعراءٍ وأعراءٍ وأنشدنا: أو مُجْنَ عنه عَرِيت أعراؤه فيجوز أن يكون جمع عَراءٍ ويجوز أن يكون جمع عُرْى ويجوز أن يكون جمع عَراً من قولهم: نزل بِعَرَاه أي ناحيته. ومن ذلك قولهم: نِعمة وأَنْعُم وشِدّة وأشُدّ في قول سيبويه: جاء ذلك على حذف التاء كقولهم: ذئب وأَذْؤب وقِطْع وأقُطع وضِرْس وأَضْرُس قال: وقرعن نابك قَرْعة بالأضرِس وذلك كثير جداً. وما يجيء مخالفاً ومنتقضاً أوسع من ذلك إلا أن لكل شيء منه عذراً وطريقاً. وفصل للعرب طريف وهو إجماعهم على مجيء عين مضارع فعلته إذا كانت من فاعلني مضمومة البتة. وذلك نحو قولهم: ضاربني فضربته أضربه وعالمني فعلمته أعلمه وعاقلني من العقل فعقلته أعقله وكارمني فكرمته أكرمه وفاخرني ففخرته أفخره وشاعرني فشعرته أشعره. وحكى الكسائي: فاخرني ففخرته أفخَره بفتح الخاء وحكاها أبو زيد أفخُره بالضم على الباب. كل هذا إذا كنت أقوم بذلك الأمر منه. ووجه استغرابنا له أن خص مضارعه بالضم. وذلك أنا قد دللنا على أن قياس باب مضارع فَعَل أن يأتي بالكسر نحو ضرب يضرب وبابه وأرينا وجه دخول يفعُل على يفعِل فيه نحو قَتَل يقْتُل ونخل ينخُلُ فكان الأحجى به هنا إذ أريد الاقتصار به على أحد وجهيه أن يكون ذلك الوجه هو الذي كان القياس مقتضياً له في مضارع فَعَل وهو يفعل بكسر العين. وذلك أن العُرْف والعادة إذا أريد الاقتصار على أحد الجائزين أن يكون ذلك المقتصر عليه هو أقيسهما فيه ألا تراك تقول في تحقير أسود وجذول: أسيد وجديل بالقلب وتجيز من بعد الإظهار وأن تقول: أسيود وجديول فإذا صرت إلى باب مقام وعجوز اقتصرت على الإعلال البتة فقلت: مقيِّم وعجيِّز فأوجبت أقوى القياسين لا أضعفهما وكذل نظائره. فإن قلت: فقد تقول: فيها رجل قائم وتجيز فيه النصب فتقول: فيها رجل قائماً فإذا قدمت أوجبت أضعف الجائزين. فكذلك أيضاً تقتصر في هذه الأفعال نحو أكرمه وأشعُره على أضعف الجائزين وهو الضم. قيل: هذا إبعاد في التشبيه. وذلك أنك لم توجب النصب في قائماً من قولك: فيها رجل قائما و قائما هذا متأخر عن رجل في مكانه في حال الرفع وإما اقتصرت على النصب فيه لما لم يجز فيه الرفع أو لم يقو فجعلت أضعف الجائزين واجباً ضرورة لا اختياراً وليس كذلك كرمتته أكرمه لأنه لم ينقض شيء عن موضعه ولم يقدم ولم يؤخر. ولو قيل: كرمته أكرمه لكان كشتمته أشتمه وهزمته أهزمه. وكذلك القول في نحو قولنا: ما جاءني إلا زيداً أحد في إيجاب نصبه وقد كان النصب لو تأخر زيد أضعف الجائزين فيه إذا قلت: ما جاءني أحد إلا زيداً الحال فيهما واحدة و ذلك أنك لما لم تجد مع تقديم المستثنى ما تبدله منه عدلت به للضرورة إلى النصب الذي كان جائزاً فيه متأخراً. هذا كنصب فيها قائماً رجل البتة والجواب عنهما واحد. وإذا كان الأمر كذلك فقد وجب البحث عن علة مجيء هذا الباب في الصحيح كله بالضم نحو أكرمه وأضرُبه. وعلته عندي أن هذا موضع معناه الاعتلاء والغلبة فدخله بذلك معنى الطبيعة والنحيزة التي تغِلب ولا تُغلب و تلازم ولا تفارق. وتلك الأفعال بابها: فَعُل يفُعل نحو فقُه يفقُه إذا أجاد الفقه وعلُم يعلُم إذا أجاد العلم. وروينا عن أحمد ابن يحيى عن الكوفيين: ضَرُبتِ اليدُ يدهُ وكذلك نعتقد نحن أيضاً في الفعل المبني منه فعل التعجب أنه قد نقل عن فَعَل وفَعِل إلى فَعُلَ حتى صارت له صفة التمكن والتقدم ثم بني منه الفعل فقيل: ما أفعله نحو ما أشعره إنما هو من شَعُر وقد حكاها أيضاً أبو زيد. وكذلك ما أقتله وأكفره: هو عندنا من قَتُل وكَفُر تقديراً وإن لم يظهر في اللفظ استعمالاً. فلما كان قولهم: كارمني فكرمته أكرمه وبابه صائراً إلى معنى فَعُلت أفُعل أتاه الضمّ من هناك. فاعرفه. فإن قلت: فهلا لما دخله هذا المعنى تمموا فيه الشبه فقالوا: ضربته أضرُبه وفَخُرْتُه أفْخُرهُ ونحو ذلك قيل: منع من ذلك أن فَعُلْت لا يتعدى إلى المفعول به أبداً ويفعُل قد يكون في المتعدي كما يكون في غيره ألا ترى إلى قولهم: سلبه يسلُبه وجلبه يجلبه ونخله ينخُله فلم يمنع من المضارع ما منع من الماضي فأخذوا منهما ما ساغ واجتنبوا ما لم يسغ. فإن قلت: فقد قالوا: قاضاني فقضيته أقضيه وساعاني فسعيته أسعيه قيل: لم يكن من يفعله ههنا بد مخافة أن يأتي على يفُعل فينقلب الياء واواً وهذا مرفوض في هذا النحو من الكلام. وكما لم يكن من هذا بد ههنا لم يجئ أيضاً مضارع فَعَل منه مما فاؤه واو بالضم بل جاء بالكسر على الرسم وعادة العرب. فقالوا: واعدني فوعدته أعده وواجلني فوجلته أجِلُه وواضأني فوضأته أَضؤه. فهذا كوضعته من هذا الباب أضعهُ. ويدلك على أن لهذا الباب أثراً في تغييره باب فَعَل في مضارعه قولهم: ساعاني فسعيته أسعيه ولم يقولوا: أسعاه على قولهم: سعى يسعى لما كان مكاناً قد رتب وقرر وزوى عن نظيره في غير هذا الموضع. فإن قلت: فهلا غيروا ما فاؤه واو كما غيروا ما لامه ياء فيما ذكرت فقالوا: واعدني فووعدته أَوعُدُه لما دخله من المعنى المتجدد. قيل: فَعَل مما فاؤه واو لا يأتي مضارعه أبداً بالضمّ إنما هو بالكسر نحو وجد يجد ووزن يزن وبابه وما لامه ياء فقد يكون على يفعل كيرمى ويقضى وعلى يفعَل كيرعى ويسعى. فأمر الفاء إذا كانت واواً في أغلظ حكماً من أمر اللام إذا كانت ياء. فاعرف ذلك فرقاً.
باب في تدافع الظاهر
هذا نحو من اللغة له انقسام. فمن ذلك استحسانهم لتركيب ما تباعدت مخارجه من الحروف نحو الهمزة مع النون والحاء مع الباء نحو آن ونأى وحب وبحّ واستقباحهم لتركيب ما تقارب من الحروف وذلك نحو صس وسص وطث وثط. ثم إنا من بعد نراهم يؤثرون في الحرفين المتباعدين أن يقربوا أحدهما من صاحبه ويدنوه إليه وذلك نحو قولهم في سويق: صَوِيق وفي مساليخ: مصاليخ وفي السوق: الصوق وفي اصتبر: اصطبر وفي ازتان: ازدان ونحو ذلك ما أدنى فيه الصوتان أحدهما من الآخر مع ما قدمناه: من إيثارهم لتباعد الأصوات إذ كان الصوت مع نقيضه أظهر منه مع قرينه ولصيقه ولذلك كانت الكتابة بالسواد في السواد خفية وكذلك سائر الألوان. والجواب عن ذلك أنهم قد علموا أن إدغام الحرف في الحرف أخف عليهم من إظهار الحرفين ألا ترى أن اللسان ينبو عنهما معاً نبوة واحدة نحو قولك: شد وقطع وسلم ولذلك ما حققت الهمزتان إذ كانتا عينين نحو سآل ورآس ولم تصحا في الكلمة الواحدة غير عينين ألا ترى إلى قولهم: آمن وآدم وجاء وشاء ونحو ذلك. فلأجل هذا ما قال يونس في الإضافة إلى مُثَنَّى: مُثَنَّوِيّ فأجرى المدغم مجرى الحرف الواحد نحو نون مَثْنَّى إذا قلت: مَثْنِوَيّ قال الشاعر: حلفتُ يميناً غير ذي مَثْنَوِيَّةٍ ولأجل ذلك كان من قال: هم قالوا فاستخف بحذف الواو ولم يقل في هن قلن إلا بالإتمام. ولذلك كان الحرف المشدد إذا وقع روياً في الشعر المقيد خفف كما يسكن المتحرك إذا وقع روياً فيه. فالمشدد نحو قوله: أصحوت اليوم أم شاقتك هر ومن الحب جنون مستعر فقابل براء هر راء مستعر وهي خفيفة أصلاً. وكذلك قوله: ففداء لبني قيس على ما أصاب الناس من سوء وضر ما أقلت قدمي إنهم نعم الساعون في الأمر المبر وأمثاله كثيرة. والمتحرك نحو قول رؤبة: وقاتم الأعماق خاوي المخترق ونحو ذلك مما كان مفرداً محركاً فأسكنه تقييد الروى. ومن ذلك أن تبنى مما عينه واو مثل فِعَّ فتصح العين للإدغام نحو قِوَّل وقِوَّم فتصح العين فلما كان في إدغامهم الحرف في الحرف ما أريناه من استخفافهم إياه صار تقريبهم الحرف من الحرف ضرباً من التطاول إلى الإدغام. وإن لم يصلوا إلى ذلك فقد حاولوه واشرأبوا نحوه إلا أنهم مع هذا لا يبلغون بالحرف المقرب من الآخر أن يصيروه إلى أن يكون من مخرجه لئلا يحصلوا من ذلك بين أمرين كلاهما مكروه. أما أحدهما فأن يدغموا مع بعد الأصلين وهذا بعيد. وأما الآخر فأن يقربوه منه حتى يجعلوه من مخرجه ثم لا يدغموه وهذا كأنه انتكاث وتراجع لأنه إذا بلغ من قربه إلى أن يصير من مخرجه وجب إدغامه فإن لم يدغموه حرموه المطلب المروم فيه ألا ترى أنك إذ قربت السين في سويق من القاف بأن تقلبها صاداً فإنك لم تخرج السين من مخرجها ولا بلغت بها مخرج القاف فيلزم إدغامها فيها. فأنت إذاً قد رمت تقريب الإدغام المستخف لكنك لم تبلغ الغاية التي توجبه عليك وتنوط أسبابه بك. وكذلك إذا قلت في اضتبر: اصطبر فأنت قد قربت التاء من الصاد بأن قلبتها إلى أختها في الإطباق والاستعلاء والطاء مع ذلك من جملة مخرج التاء. وكذلك إذا قلت في مصدر: مزدر فأخلصت الصاد زايا: قد قربتها من الدال بما في الزاي من الجهر ولم تختلجها عن مخرج الصاد. وهذه أيضاً صورتك إذا أشممتها رائحة الزاي فقلت: فإن كان الحرفان جميعاً من مخرج واحد فسلكت هذه الطريق فليس إلا أن تقلب أحدهما إلى لفظ الآخر البتة ثم تدغم لا غير. وذلك نحو اطعن القوم أبدلت تاء أطتعن طاء البتة ثم أدغمتها فيها لا غير. وذلك أن الحروف إذا كانت من مخرج واجد ضاقت مساحتها أنت تدنى بالتقريب منها لأنها إذا كانت معها من مخرجها فهي الغاية في قربها فإن زدت على ذلك شيئاً فإنما هو أن تخلص الحرف إلى لفظ أخيه البتة فتدغمه فيه لا محالة. فهذا وجه التقريب مع إيثارهم الإبعاد. ومن تدافع الظاهر ما تعلمه من إيثارهم الياء على الواو. وذلك لويت ليا وطويت طياً وسيد وهين وطي وأغريت ودانيت واستقصيت ثم إنهم مع ذلك قالوا: الفتوى والتقوى والثنوى فأبدلوا الياء واواً عن غير قوة علة أكثر من الاستحسان والملاينة. والجواب عن هذا أيضاً أنهم مع ما أرادوه من الفرق بين الاسم والصفة على ما قدمناه أنهم أرادوا أن يعوضوا الواو من كثرة دخول الياء عليها. ومثله في التعويض لا الفرق قولهم: تقي وتقواء ومضى على مضوائه وهذا أمر ممضو عليه. ونحوه في الإغراب قولهم: عوى الكلب عوة وقياسه عيَّة. وقالوا في العلم للفرق بينه وبين الجنس: حَيْوة وأصله حيَّة فأبدلوا الياء واواً. وهذا مع إيثارهم خص العلمِ بما ليس للجنس فلا ترين من ذلك شيئاً ساذجاً عارياً من غرض وصنعة. ومن ذلك استثقالهم المثلين حتى قلبوا أحدهما في نحو أمليت وأصلها أمللت وفيما حكاه أحمد بن يحيى أخبرنا به أبو علي عنه من قولهم: لا وربك لا أفعل يريدون: لا وربك لا أفعل. نعم وقالوا في أشد من ذا: ينشب في المسعل واللهاء أنشب من مآشر حداء قالوا: يريد: حداد فأبدل الحرف الثاني وبينهما ألف حاجزة ثم قال مع هذا: لقد تعللت على أيانق صهب قليلات القراد اللازق فجمعوا بين ثلاثة أمثال مصححة وقالوا: تصببت عرقاً. وقال العجاج: إذا حجاجا مقلتيها هججا وأجازوا في مثل فرزدق من رددت رَدَدّد فجمعوا بين أربع دالات وكرهوا أيضاً حنيفي ثم جمعوا بين أربع ياءات فقال بعضهم: أمَيِّيّ وعًدٍِتِّيّ وكرهوا أيضاً أربع ياءات بينهما حرف صحيح حتى حذفوا الثانية منها. وذلك قولهم في الإضافة إلى أُسَيّدٍ: أُسَيْديّ. ثم إنهم جمعوا بين خمس ياءات مفصولاً بينهما بالحرف الواحد. وذلك قولهم في الإضافة إلى مُهيتم مُهَيّيمِىّ. والجواب عن كل فصل من هذا حاضر. أما أمليت فلا إنكار لتخفيفه بإبداله. وأما تعللت وهججا ونحو ذلك مما اجتمعت فيه ثلاثة أمثال فخارج على أصله وليس من حروف العلة فيجب تغييره. والذي فعلوه في أمليت ولاوربيك لا أفعل وأنشب من مآشر حداء لم يكن واجباً فيجب هذا أيضاً وإنما غير استحساناً فساغ ذلك فيه ولم يكن موجباً لتغيير كل ما اجتمعت فيه أمثال ألا ترى أنهم لما قلبوا ياء طيء ألفا في الإضافة فقالوا: طائي لم يكن ذلك واجباً في نظيره لما كان الأول مستحسناً. وأما حنفي فإنهم لما حذفوا التاء شجعوا أيضاً على حذف الياء فقالوا: حنفي. وليس كذلك عديي وأميي فيمن أجازهما ألا ترى عدياً لما جرى مجرى الصحيح في اعتقاب حركات الإعراب عليه نحو عديِّ وعديَّا وعديِّ جرى مجرى حنيف فقالوا: عديِّيِّ كما قالوا: حنيفيّ. وكذلك أُمَيِّيّ أجروه مجرى نميريّ وعقيليّ. ومع هذا فليس أميّيّ وعدييّ بأكثر في كلامهم. وإنما يقولها بعضهم. وأما جمعهم في مهييمي بين خمس ياءات وكراهيتهم في أسيدي أربعاً فلأن الثانية من أسيديّ لما كانت متحركة وبعدها حرف متحرك قلقت لذلك وجفت. ولما تبعتها في مهييميّ ياء المد لانت ونعمت. وذلك من شأن المدات. ولذلك استعملن في الأرداف والوصول والتأسيس والخروج وفيهن يجري الصوت للغناء والحداء والترنم والتطويح. وبعد فإنهم إذا خففوا في موضع وتركوا آخر في نحوه كان أمثل من ألا يخففوا في أحدهما. وكذلك جميع ما يرد عليك مما ظاهره ظاهر التدافع يجب أن ترفق به ولا تعنف عليه ولا تسرع إلى إعطاء اليد بانتقاض بابه. والقياس الفياس.
باب في التطوع بما لا يلزم
هذا أمر قد جاء في الشعر القديم والمولد جميعاً مجيئاً واسعاً. وهو أن يلتزم الشاعر ما لا يجب عليه ليدل بذلك على غزره وسعة ما عنده. فمن ذلك ما أنشده الأصمعي لبعض الرجاز: وحسدٍ أوشلت من حظاظها على أحاسي الغيظ واكتظاظها حتى ترى الجواظ من فظاظها مذلوليا بعد شدا أفظاظها وخطة لا روح كظاظها أنشطت عني عروتي شظاظها بعد احتكاء أربتي أشظاظها بعزمة جلت غشا إلظاظها بجك كرش الناب لافتظاظها فالتزم في جميعها ما تراه من الظاء الأولى مع كون الروي ظاء على عزة ذلك مفرداً من الظاء الأول فكيف به إذا انضم إليه ظاء قبله. وقلما رأيت في قوة الشاعر مثل هذا. وأنشد الأصمعي أيضاً من مشطور السريع رائية طويلة التزم قائلها تصغير قوافيها في أكثر الأمر عز على ليلى بذي سدير سوء مبيتي ليلة الغمير مقبضاً نفسي في طمير تجمع القنفذ في الحجير تنتهض الرعدة في ظهيري يهفو إلى الزور من صديري مثل هرير الهر للهرير ظمآن في ريح وفي مطير وأرز قر ليس بالقرير من لدما ظهر إلى سحير حتى بدت لي جبهة القمير لأربع غبرن من شهير ثم غدوت غرضاً من فوري وقطقط البلة في شعيري يقذفني مور إلى ذي مور حتى إذا وركت من أييرى سواد ضيفيه إلى القصير رأت شحوبي وبذاذ شوري وجردبت في سمل عفير راهبة تكنى بأم الخير جافية معوى ملاث الكور تتحزم فوق الثوب بالزنير تقسم أستياً لها بنير وتضرب الناقوس وسط الدير كلهم أمعط كالنغير وأرملات ينتظرن ميرى قالت ألا أبشر بكل خير ودهنت وسرحت ضفيري وأدمت خبزي من صيير من صير مصرين أو البحير وبزييت نمس مرير وعدس قشر من قشير وقبصات من فغى تمير وأتأرتني نظرة الشفير وجعلت تقذف بالحجير شطرى وما شطري وما شطيري حتى إذا ما استنتفدت خبيري قامت إلى جنبي تمس أيري فزف رألى واستطير طيري وقلت: حاجات عند غيري حقرت ألا يوم قد سيري إذ أنا مثل الفلتان العير حمساً ولا إضت كالنسير وحين أقعيت على قبيري أنتظر المحتوم من قديري كلا ومن منفعتي وخيري بكفه ومبدئي وحوري وكذلك ما أنشده الأصمعي من قول الآخر: قالوا ارتحل فاخطب فقلت هلاَّ إذ روقاي معاً ما انفلاَ وإذ أؤل المشي ألاَّ ألاَّ وإذ أنا أرى ثوب الصبا رفلاَ علي أحوى ندياً مخضلاَّ حتى إذا ثوب الشباب ولَّى وانضم بدن الشيخ واسمألاَّ وانشنج العلباء فاقفعلاّ مثل نضي السقم حين بلاّ وحر صدر الشيخ حتى صلاّ على حبيب بان إذ تولَّى غادر شغلاً شاغلاً وولَّى قلت تعلق فيلقاً هوجلاّ عجاجة هجاجة تألَّى لأصبحن الأحقر الأذلاَّ وأن أعل الرغم علاَّ علاَّ فإن أقل يا ظبي حلاً حلاَّ تقلق وتعقد حبلها المنحلاّ وحملقت حولي حتى احولاَّ مأقاأ كرهان لها واقبلاّ إذا أتت جارتها تفلَّى تريك أشغى قلحاً أفلاّ منتوفة الوجه كأن ملاّ يمل وجه العرس فيه ملاّ كأن صاباً آل حتى امطلاّ تسفه وشبرما وخلاّ إن حل يوماً رحله محلاّ حمو لها أزجت إليه صلاّ وعقرباً تمتل ملاً ملاَّ ذاك وإن ذو رحمها استقلاّ من عثرة ماتت جوى وسلاّ أو كثر الشيء له أو قلاّ قالت لقد أثرى فلا تملَّى وإن تقل يا ليته استبلاّ من مرض أحرضه وبلاّ تقل: لأنفيه ولا تعلَّى تسر إن يلق البلاد فلاّ مجروزة نفاسة وغلاّ وإن وصلت الأقرب الأخلاّ جنت جنوناً واستخفت قلاّ وأجللت من ناقع أفكلاّ إذا ظبي الكنسات انغلاّ تحت الإران سلبته الظلاَّ وإن رأت صوت السباب علَّى سحابة ترعد أو قسطلاّ أجت إليه عنقاً مئلاّ تقول لأبنيها إذا ما سلاّ سليلة من سرق أو غلاّ أو فجعا جيرتها فشلاّ وسيقة فكرشا وملاّ أحسنتما الصنع فلا تشلاّ لا تعدما أخرى ولا تكلاّ يا رب رب الحج إذ أهلاّ محرمه ملبياً وصلَّى وحل حَبْلَى رحله إذ حلاّ بالله قد أنضى وقد أكلاّ وأنقب الأشعر والأظلاّ من نافه قد انضوى واختلاّ يحمل بلو سفر قد بلَّى أجلاده صيامه وألاّ يزال نضو غزوة مملاّ وصال أرحام إذا ما ولَّى ذو رحم وصله وبلاّ سقاء رحم منه كان صلاّ وينفق الأكثر والأقلاّ من كسب ما طاب وما قد حلاّ إذا الشحيح غل كفاً غلاّ بسط كفيه معاً وبلاّ وحل زاد الرحل حلاً حلاَّ يرقب قرن الشمس إذ تدلَّى حتى إذا أوفى بلالاً بلاّ بدمعه لحيته وانغلاّ بها وفاض شرقاً فابتلاّ جيب الرداء منه فارمعلاّ وحفز الشأنين فاستهلاَّ كما رأيت الوشلين انهلاّ حتى إذا حبل الدعاء انحلاَّ وانقاض زبرا جاله فابتلاّ أثنى على الله علا وجلاّ ثم انثنى من بعد ذا فصلَّى على النبي نهلاً وعلاَّ وعم في دعائه وخلاّ ليس كمن فارق واستحلاّ دماء أهل دينه وولَّى وجهته سوى الهدى مولَّى مجتنباً كبرى الذنوب الجلّى مستغفراً إذا أصاب القلَّى لما أتى المزدلفات صلَّى سبعاً تباعاً حلهن حلاّ حتى إذا أنف الفجير جلَّى برقعه ولم يسر الجلاّ هب إلى نضيه فعلَّى رحيله عليه فاستقلاّ إني امرؤ أصفي الخلي الخله أمنحه ودي وأرعى إلَّه وأبغض الزيارة المملَّه وأقطع المهامه المضلَّه لست بها لركبها تعلَّه إلا نجاء الناجيات الجلّهْ على هبلِّ أو على هِبِلَّهْ ذات هباب جسرة شملّه ناجية في الخرق مشمعلّهْ تنسلُّ بعد العقب المكلّه مثل انسلال العضب من ذي الخلَّه وكاشح رقيت منه صلّه بالصفح عن هفوته والزلَّه حتى استللت ضغنه وغلّه وطامح ذي مخوة مدلّه حملته على شباة ألّه ولم أملَّ الشر حتى ملَّه وشنج الراحة مقفعلَّه ما إن تبض كفه ببلّه أفاد دثراً بعد طول خلّه وصار رب إبل وثلَّه لما ذممت دقه وجلّه ترى عليهم للندى أدلّه سماؤهم بالخير مستهلّه وغادروني بعدهم ذا غلَّه أبكيهم بعبرة منهلّه ثم صبرت واعتصمت بالله نفساً بحمل العبء مستقلَّه ودول الأيام مضمحله يشعبها ما يشعب الجبلّه تتابع الأيام والأهلًّه وأنشدنا أبو علي: شلَّت يدا قارية فرتها وفقئت عين التي أرتها مسك شبوب ثم وفرتها لو خافت النزع لأصغرتها فلزم التاء والراء وليست واحدة منهما بلازمة. والقطعة هائية لسكون ما قبل الهاء والساكن لا وصل له. ويجوز مع هذه القوافي ذرها ودعها. وأنشد ابن الأعرابي ليزيد بن الأعور الشني وكان أكرى بعيراً له فحمل عليه محملان أول ما علمت المحامل. وهو قوله: لما رأيت محمليه أنا مخدرين كدت أن أجنا قربت مثل العلم المبنى لا فاني السن وقد أسنا ضخم الملاط سبطاً عبنا يطرح بالطرف هُنَا وهَنّا وافتن من شأو النشاط فنا يدق حنو القتب المحنى إذا علا صوانة أرنا يرمعها والجندل الأغنا ضخم الجفور سهبلاً رفنا وفي الهباب سدماً معنى كأنما صريفه إذ طنا في الضالتين أخطبانٌ غنى مستحملاً أعرف قد تبنى كالصدع الأعصم لما اقتنا يقطع بعد الفيف مهوأنا وهو حديد القلب ما ارفأنا كأن شناً هزما وشنا قعقعه مهزج تعغنى تحت لبان لم يكن أدنا ألتزم النون المشددة في جميعها على ما تقدم ذكره وقال آخر: إليك أشكو مشيها تدافيا مشي العجوز تنقل الأثافيا فالتزم الفاء ولست واجبة. وقال آخر: التزم الألف والحاء والياء وليست واحدة منهن لازمة لأنه قد يجوز مع هذه القوافي نحو يحدوه ويقفوه وما كان مثله. وأنشد أبو الحسن: ارفعن أذيال الحقيّ وأربعن مشي حييات كأن لم يفزعن إن تمنع اليوم نساء تمنعن فالتزم العين وليست بواجبة. وقال آخر: يا رب بكر بالردافي واسج اضطره الليل إلى عواسج عواسج كالعجز النواسج التزم الواو والسين وليست واحدة منهما بلازمة. وقال آخر: أعيني ساء الله من كان سره بكاؤكما ومن يحب أذاكما ولو أن منظوراً وحبة أسلما لنزع القذى لم يبرئا لي قذاكما التزم الذال والكاف. وقالوا: حبة امرأة هويها رجل من الجن يقال له منظور وكانت حبة لتطبب بما يعلمها منظور. هل تعرف الدار بنعف الجرعاء بين رحا المثل وبين الميثاء كأنها باقي كتاب الإملاء غيرها بعدي مر الأنواء نوء الثريا أو ذراع الجوزاء قد أغتدى والطير فوق الأصواء مرتبئات فوق أعلى العلياء بمكرب الخلق سليم الأنقاء طرف تنقيناه خير الأفلاء لأمهاتٍ نسبت وآباء ثمت قاظ مرفها في إدناء مداخلاً في طولٍ وأغماء وفي الشعير والقضيم الأجباء وما أراد من ضروب الأشياء دون العيال وصغار الأبناء مقفى على الحي قصير الأظماء أمبسوا فقادوهن نحو الميطاء بمائتين بغلاء الغلاء أوفيته الزرع وفوق الإيفاء قد فزعوا غلمانها بالإيصاء مخافة السبق وجد الأنباء فلحقت أكبادهم بالأحشاء بالت وباتوا كبلايا الأبلاء مطلنفئين عندها كالأطلاء مستويات كنعال الحذاء فهن يعبطن جديد البيداء ما لا يسوى عبطه بالرفاء يتبعن وقعاً عند رجع الأهواء بسلبات كمساحي البناء يتركن في متن أديم الصحراء مساحبا مثل احتفار الكماء وأسهلوهن دقاق البطحاء يثرن من أكدارها بالدقعاء منتصباً مثل حريق القصباء كأنها لما رآها الرآء وأنشزتهن علاة البيداء ورفع اللامع ثوب الإلواء عقبان دجن في ندى وأسداء كل أغر محك وغراء شادخة غرتها أو قرحاء قد لحقت عصمتها بالأطباء من شدة الركض وخلج الأنساء كأنما صوت حفيف المعزاء معزول شذان حصاها الأقصاء صوت نشيش اللحم عند القلاء اطرد جميع قوافيها على جر واضعها إلا بيتاً واحداً وهو قوله: وذلك أن لمَّا مضافة إلى قوله: رآها الرآء والفعل لذلك مجرور الموضع بإضافة الظرف الذي هو لمّا إليه كما أن قول الله تعالى: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} الفعل الذي هو جاءَ في موضع جر بإضافة الظرف الذي هو إذا إليه. وإذا كان كذلك وكان صاحب الجملة التي هي الفعل والفاعل إنما هو الفاعل وإنما جيء بالفعل له ومن أجله وكان أشرف جزءيها وأنبههما صارت الإضافة كأنها إليه فكأن الفاعل لذلك في موضع جر لا سيما وأنت لو لخصت الإضافة هنا وشرحتها لكان تقديرها: كأنها وقت رؤية الرآء لها. فالرآء إذاً مع الشرح مجرور لا محالة. نعم وقد ثبت أن الفعل مع الفاعل في كثير من الأحكام والأماكن كالشيء الواحد. وإذا كان الفعل مجرور الموضع والفاعل معه كالجزء منه دخل الفاعل منه في اعتقاد تلخيصه مجروراً في اللفظ موضعه كما أن النون من إذن لما كانت بعض حرف جرى عليها ما يجري على الحرف المفرد من إبداله في الوقف ألفاً وذلك قولهم: لأقومن إذاً كما تقول: ضربت زيداً ومع النون الخفيفة للواحد: اضرباً. فكما أجريت على بعض الحرف ما يجري على جميعه من القلب كذلك أجريت على بعض الفعل وهو الفاعل ما يجري على جميعه من الحكم. ومما أجرى فيه بعض الحرف مجرى جميعه قوله: فبات متصباً وما تكردسا فأجرى منتصباً مجرى فخذ فأسكن ثانيه وعليه حكاية الكتاب: أراك منتفخاً. ونحو من قوله: لما رآها الرآء في توهم جر الفاعل قول طرفة: وسديف حين هاج الصنبر كأنه أراد: الصنيبر ثم تصور معنى الإضافة فصار إلى أنه كأنه قال: حين هيج الصنبر ثم نقل الكسرة على حد مررت ببكر وأجرى صنَبِر من الصنّبر مجرى بكر على قوله: أراك منتفخاً. وأعلى من هذا أن مجيء هذا البيت في هذه القصيدة مخالفاً لجميع أبياتها يدل على قوة شاعرها وشرف صناعته وأن ما وجد من تتالي قوافيها على جر مواضعها ليس شيئاً سعى فيه ولا أكره طبعه عليه وإنما هو مذهب قاده إليه علو طبقته وجوهر فصاحته. وعلى ذلك ما أنشدناه أبو بكر محمد بن علي عن أبي إسحاق لعبيد من قوله: يا خليلي أربعاً واستخبرا ال منزل الدارس من أهل الحلال مثل سحق البرد عفى بعدك ال قطر مغناه وتأويب الشمال ولقد يغنى به جيرانك ال ممسكو منك بأسباب الوصال ثم أودى ودهم إذ أزمعوا ال بين والأيام حال بعد حال نحن قدنا من أهاضيب الملاال خيل في الأرسان أمثال السعالى شزبا يعسفن من مجهولة ال أرض وعثاً من سهول أو رمال فانتجعنا الحارث الأعرج في جحفل كالليل خطار العوالي يوم غادرنا عدياً بالقنا الن بل السمر صريعاً في المجال ثم عجناهن خوصاً كالقطا ال قاربات الماء من أين الكلال نحو قوص يوم جالت حوله ال خيل قباً عن يمين أو شمال كم رئيس يقدم الألف على السابح الأجرد ذي العقب الطوال قد أباحت جمعه أسيافنا ال بيض في البروعة من حي حلال ولنا دار ورثناها عن ال أقدم القدموس من ع وخال منزل دمنه آباؤنا ال مورثونا المجد في أولى الليالي ما لنا فيها حصون غير ما ال مقربات الخيل تعدو بالرجال في روابي عدملى شامخ ال أنف فيه إرث مجد وجمال فانتجعنا الحارث الأعرج في فصار هذا البيت الذي نقض القصيدة أن تمضى على ترتيب واحد هو أفخر ما فيها. وذلك أنه دل على أن هذا الشاعر إنما تساند إلى ما في طبعه ولم يتجشم إلا ما في نهضته ووسعه من غير اغتصاب له ولا استكراه أجاءه إليه إذ لو كان ذلك على خلاف ما حددناه وأنه إنما صنع الشعر صنعاً وقابله بها ترتيباً ووضعاً لكان قمنا ألا ينقض ذلك كله بيت واحد يوهيه ويقدح فيه. وهذا واضح. وأما قول الآخر: قد جعل النعاس يغرنديني أدفعه عني ويسرنديني فلك فيه وجهان: إن شئت جعلت رويه النون وهو الوجه. وإن شئت الياء وليس بالوجه. وإن أنت جعلت النون هي الروى فقد التزم الشاعر فيها أربعة أحرف غير واجبة وهي الراء والنون والدال والياء. ألا ترى أنه يجوز معها يعطيني ويرضيني ويدعوني ويغزوني ألا ترى أنك إذا جعلت الياء هي الروى فقد زالت الياء أن تكون ردفاً لبعدها عن الروى. نعم وكذلك لما كانت النون روياً كانت الياء غير لازمة. وإن أنت جعلت الياء الروى فقد التزم فيه خمسة أحرف غير لازمة وهي الراء والنون والدال والياء والنون لأن الواو يجوز معها ألا ترى أنه ومما يسأل عنه من هذا النحو قول الثقفي يزيد بن الحكم: وكم منزل لولاي طحت كما هوى بها بأجرامه من قلة النيق منهو التزم الواو والياء فيها كلها. والجواب أنها واوية لأمرين: أحدهما أنك إذا جعلتها واوية كانت مطلقة ولو جعلتها يائية كانت مقيدة والشعر المطلق أضعاف المقيد والحمل إنما يجب أن يكون على الأكثر لا على الأقل. والآخر أنه قد التزم الواو فإن جعلت القصيدة واوية فقد التزم واجباً وإن جعلتها يائية فقد التزم غير واجب واعتبرنا هذه اللغة وأحكامها ومقاييسها فإذا الملتزم أكثره واجب وأقله غير واجب والحمل على الأكثر دون الأقل. فإن قلت: فإن هذه القلة أفخر من الكثرة ألا ترى أنها دالة على قوة الشاعر. وإذا كانت أنبه وأشرف كان الآخذ يجب أن يكون بها ولم يحسن العدول عنها مع القدرة عليها. وكما أن الحمل على الأكثر فكذلك يجب أن يكون الحمل على الأقوى أولى من الحمل على الأدنى. قيل: كيف تضرفت الحال فينبغي أن يعمل على الأكثر لا على الأقل وإن كان الأقل أقوى قياساً ألا ترى إلى قوة قياس قول بني تميم في " ما " وأنها ينبغي أن تكون غير عاملة في أقوى القياسين عن سيبويه. ومع ذا فأكثر المسموع عنهم إنما هو لغة أهل الحجاز وبها نزل القرآن. وذلك أننا بكلامهم ننطق فينبغي أن يكون على ما استكثروا منه يحمل. هذا هو قياس مذهبهم وطريق اقتفائهم. ووجدت أكثر قافية رؤبة مجرورة الموضع. وإذا تأملت ذلك وجدته. أعني قوله: وقاتم الأعماق خاوي المخترق وقد التزم العجاج في رائيته: قد جبر الدين إلاله فجبر وذلك أنه التزم الفتح قبل رويها البتة. ولعمري إن هذا مشروط في القوافي غير أنك قلما تجد قافية مقيدة إلا وأتت الحركات قبل رويها مختلفة وإنما المستحسن من هذه الرائية سلامتها مما لا يكاد يسلم منه غيرها. فإن كانت المقيدة مؤسسة ازداد اختلاف الحركات قبل رويها قبحا. وذلك أنه ينضاف إلى قبح اختلافه أن هناك تأسيساً ألا ترى أنه يقبح اختلاف الإشباع إذا كان الروى مطلقاً نحو قوله: فالفوارع مع قوله: فالتدافع. فما ظنك إذا كان الروي مقيداً. وقد أحكمنا هذا في كتابنا المعرب في شرح قوافي أبي الحسن. وقد قال هميان بن قحافة: لما رأتني أم عمرو صدفت قد بلغت بي ذرأة فألحفت وهي تسعة وثلاثون بيتاً التزم في جميعها الفاء وليست واجبة وإن كانت قريبةً من صورة الوجوب. وذلك أن هذه التاء في الفعل إذا صارت إلى الاسم صارت في الوقف هاء في قولك: صادفة وملحفة ومحلنقفة فإذا صارت هاء لم يكن الروي إلا ما قبلها فكأنها لما سقط حكمها مع الاسم من ذلك الفعل صارت في الفعل نفسه قريبة من ذلك الحكم. وهذا الموضع لقطرب. وهو جيد. ومن ذلك تائية كثير: خليلي هذا ربع عزة فاعقلا لزم في جميعها اللام والتاء. ومنه قول منظور: من لي من هجران ليلى من لي لزم اللام المشدد إلى آخرها. وفي المحدثين من يسلك هذا الطريق وينبغي أن يكونوا إليه أقرب وبه أحجى إذ كانوا في صنعة الشعر أرحب ذراعاً وأوسع خناقاً لأنهم فيه متأنون وعليه متلومون و ليسوا بمرتجليه ولا مستكرهين فيه. وقد كان ابن الرومي رام ذلك لسعة حفظه وشدة مأخذه. فمن ذلك رائيته في وصف العنب وهي قوله: ورازقي مخطف الخصور كأنه مخازن البلور التزم فيها الواو البتة ولم يجاوزها غالباً. وكذلك تائيته: أترفتها وخطرقتها وسفسفتها التزم فيها الفاء وليست بواجبة وكذلك ميميته التي يرثي بها أمه: أفيضا دَماً إن الرزايا لها قيَم أوجب على نفسه الفتحة قبل الميم على حد رائية العجاج: قد جبر الدين الإله فجبر غير أني أظن أن في هذه الميمية بيتاً ليس من قبل رويه مفتوحاً. وأنشدني مرة بعض أحداثنا شيئاً سماه شعراً على رسم للمولدين في مثله غير أنه عندي أنا قوافٍ منسوقة غير محشوة في معنى قول سلم الخاسر: موسى القمر غيث بكر ثم انهمر وقول الآخر: قالت حيل شؤم الغزل هذا الرجل حين احتفل أهدى بصل والقوافي المنسوقة التي أنشدنيها صاحبنا هذا ميمية في وزن قوله: طيف ألم لا يحضرني الآن حفظها غير أنه التزم فيها الفتحة البتة إلا قافية واحدة وهو قوله: فاسلم ودم ورأيته قلقاً لاضطراره إلى مخالفة بقية القوافي بها فقلت له: لا عليك فلك أن تقول: فاسلم ودم أمرا من قولهم: دام يدام وهي لغة قال: يا مي لا غرو ولا ملاما في الحب إن الحب لن يداما فسر بذلك وقال: أسير بها إلى بلدي. وأفضينا إلى هذا القدر لاتصاله با كنا عليه قال: وعند سعيد غير أن لم أبح به ذكرتك إن الأمر يذكر للأمر وأكثر هذه الالتزامات في الشعر لأنه يخطر على نفسه ما تبيحه الصنعة إياه إدلالاً وتغطرفاً واقتداراً وتعالياً. وهو كثير. وفيما أوردناه منه كاف. فأما في غير الشعر فنحو قولك في جواب من سألك فقال لك: أي شيء عندك: زيد أو عمرو أو محمد الكريم أو علي العاقل. فإنما جوابه الذي لا يقتضي السؤال غيره أن يجيبه بنكرة في غاية شياع مثلها فيقول: جسم. ألا ترى أنه قد يجوز أن يكون في قوله: أي شيء عندك إنما أراد أن يستفصلك بين أن يكون عندك علم أو قراءة أو جود أو شجاعة وأن يكون عندك جسم ما. فإذا قلت: جسم فقد فصلت بين أمرين قد كان يجوز أن يريد منك فصلك بينهما. إلا أن جسماً وإن كان قد فصل بين المعنيين فإنه مبالغ في إبهامه. فإن تطوعت زيادة على هذا قلت: حيوان. وذلك أن حيواناً أخص من جسم كما أن جسماً أخض من شيء. فإن تطوع شيئاً آخر قال في جواب أي شيء عندك: إنسان لأنه أخص من حيوان ألا تراك تقول: كل إنسان حيوان وليس كل حيوان إنساناً كما تقول: كل إنسان جسم وليس كل جسم إنساناً. فإن تطوع بشيء آخر قال: رجل. فإن زاد في التطوع شيئاً آخر قال: رجل عاقل أو نحو ذلك. فإن تطوع شيئاً آخر قال: زيد أو عمرو أو نحو ذلك. فهذا كله تطوع بما لا يوجبه سؤال هذا السائل. ومنه قول أبي دواد: فقصرن الشتاء بعد عليه وهو للذود أن يقسمن جار فهذا جواب كم كأنه قال: كم قصرن عليه وكم ظرف ومنصوبة الموضع فكان قياسه أن يقول: ستة أشهر لأن كم سؤال عن قدر من العدد محصور فنكرة هذا كافية من معرفته ألا ترى أن قولك: عشرون والعشرون وعشروك ونحو ذلك فائدته في العدد واحدة لكن المعدود معرفة مرة ونكرة أخرى. فاستعمل الشتاء وهو معرفة في جواب كم. وهذا تطوع بما لا يلزم. وليس عيباً بل هو زائد على المراد. وإنما العيب أن يقصر في الجواب عن مقتضى السؤال فأما إذا زاد عليه فالفضل معه واليد له. وجاز أن يكون الشتاء جواباً لكم من حيث كان عددا في المعنى ألا تراه ستة أشهر. وافقنا أبو علي رحمه الله على هذا الموضع من الكتاب وفسره ونحن بحلب فقال: إلا في هذا البلد فإنه ثماية أشهر. يريد طول الشتاء بها. ومن ذلك قولك في جواب من قال لك: الحسن أو الحسين أفضل أم ابن الحنفية: الحسن أو قولك: الحسين. وهذا تطوع من المجيب بما لا يلزم. وذلك أن جوابه على ظاهر سؤاله أن يقول له: أحدهما ألا ترى أنه لما قال له: الحسن أو الحسين أفضل أم ابن الحنفية فكأنه قال: أ أحدهما أفضل أم ابن الحنفية فجوابه على ظاهر سؤاله أن يقول: أحدهما. فقوله: الحسن أو قوله: الحسين فيه زيادة تطوع بها لم ينطو السؤال على استعلامها. ونظير قوله في الجواب على اللفظ أن يقول: الحسن أو الحسين لأن قوله: أو الحسين بمنزلة أن يقول: أحدهما. والجواب المتطوع فيه أن يقول: الحسن ويمسك أو أن يقول: الحسين ويمسك. فأما إن كان كيسانياً فإنه يقول: ابن الحنفية هكذا كما ترى. فإن قال: الحسن أفضل أم الحسين أو ابن الحنفية فقال: الحسن فهو جواب لا تطوع فيه. فإن قال: أحدهما فهو جواب لا تطوع فيه أيضاً. فإن قال: الحسين ففيه تطوع. وكذلك إن قال: ابن الحنفية فقد تطوع أيضاً. فإن قال: الحسن أو ابن الحنفية أفضل أم الحسين فقال له المجيب: الحسين فهو جواب لا تطوع فيه. فإن قال: أحدهما فهو أيضاً جواب لا تطوع فيه. فإن قال: الحسن أو قال: ابن الحنفية ناصاً على أحدهما معيناً فهو جواب متطوع فيه على ما بينا فيما قبل. ومن التطوع المشام للتوكيد قول الله سبحانه: {إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ} {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} وقوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} وقولهم: مضى أمس الدابر وأمس المدبر. وهو كثير. وأنشد الأصمعي: وأبي الذي ترك الملوك وجمعهم بصهاب هامدةً كأمس الدابر وقال: خبلت غزالة قلبه بفوارسٍ تركت منازله كأمس الدابر ومن ذلك أيضاً الحال المؤكدة كقوله: كفى بالنأى من أسماء كاف لأنه إذا كفى فهو كاف لا محالة. ومنه قولهم: أخذته بدرهم فصاعداً هذه أيضاً حال مؤكدة ألا ترى أن تقديره: فزاد الثمن صاعداً ومعلوم أنه إذا زاد الثمن لم يكن إلا صاعداً. غير أن للحال هنا مزية عليها في قوله: كفى بالنأي من أسماء كاف لأن صاعدا ناب في اللفظ عن الفعل الذي هو زاد وكاف ليس بنائب في اللفظ عن شيء ألا ترى أن الفعل الناصب له ملفوظ به معه. ومن الحال المؤكدة قول الله تعالى: {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} وقول ابن دارة: أنا ابن دارة معروفاً بها نسبي وهو باب منقاد. فأما قوله سبحانه: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} فيكون من هذا. وقد يجوز أن يكون قوله سبحانه {بِجَنَاحَيْهِ} مفيداً. وذلك أنه قد يقال في المثل: طاروا علاهن فشل علاها وقال آخر: وطرت بالرحل إلى شملة إلى أمون رحلةٍ فذلت ومن أبيات الكتاب: وقال القطامي: ونفخوا عن مدائنهم فطاروا وقال العجاج: طرنا إلى كل طوال أعوجا وقال العنبري: طاروا إليه زرافاتٍ وأحدانا وقال النابغة الذبياني: يطير فضاضاً بينها كل قونسٍ فيكون قوله تعالى: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} على هذا مفيداً أي ليس الغرض تشبيهه بالطائر ذي الجناحين بل هو الطائر بجناحيه البتة. وكذلك قوله عز اسمه: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ} قد يكون قوله من فوقعهم مفيداً. وذلك أنه قد يستعمل في الأفعال الشاقة المستثقلة على قول من يقول: قد سرنا عشراً وبقيت علينا ليلتان وقد حفظت القرآن وبقيت علي منه سورتان وقد صمنا عشرين من الشهر وبقي علينا عشر. وكذلك يقال في الاعتداد على الإنسان بذنوبه وقبيح أفعاله: قد أخرب علي ضيعتي وموت علي عواملي وأبطل علي انتفاعي. فعلى هذا لو قيل: فخر عليهم السقف ولم يقل: من فوقهم لجاز أن يظن به أنه كقولك: قد خربت عليهم دارهم وقد أهلكت عليهم مواشيهم وغلاتهم وقد تلفت عليهم تجاراتهم. فإذا قال: من فوقهم زال ذلك المعنى المحتمل وصار معناه أنه سقط وهم من تحته. فهذا معنى غير الأول. وإنما اطردت على في الأفعال التي قدمنا ذكرها مثل خربت عليه ضيعته وموتت عليه عوامله ونحو ذلك من حيث كانت على في الأصل للاستعلاء. فلما كانت هذه الأحوال كلفاً ومشاق تخفض الإنسان وتضعه و تعلوه وتفرعه حتى يخضع لها ويخنع لما يتسداه منها كان ذلك من مواضع على ألا تراهم يقولون: هذا لك وهذا عليك فتستعمل اللام فيما تؤثره وعلى فيما تكرهه قالت: سأحمل نفسي على آلة فإما عليها وإما لها وقال ابن حلزة: فله هنا لك لا عليه إذا دنعت أنوف القوم للتعس فمن هنا دخلت على هذه في هذه الأفعال التي معناها إلى الإخضاع والإذلال. وما يتطوع به من غير وجوب كثير. وفيما مضى منه كاف ودال عليه بإذن الله.
باب في التام يزاد عليه فيعود ناقصا
هذا موضع ظاهره ظاهر التناقض ومحصوله صحيح واضح. وذلك قولك: قام زيد فهذا كلام تام فإن زدت عليه فقلت: إن قام زيد صار شرطاً واحتاج إلى جواب. وكذلك قولك: زيد منطلق فهذا كلام مستقل فإذا زاد عليه أن المفتوحة فقال أن زيداً منطلق احتاج إلى عامل يعمل في أن وصلتها فقال: بلغني أن زيداً منطلق ونحوه. وكذلك قولك: زيد أخوك فإن زدت عليه أعلمت لم تكتف بالاسمين فقلت: أعلمت بكراً زيداً أخاك. وجماع هذا أن كل كلام مستقل زدت عليه شيئاً غير معقود بغيره ولا مقتض أسواه فالكلام باق على تمامه قبل المزيد عليه. فإن زدت عليه شيئاً مقتضياً لغيره معقوداً به عاد الكلام ناقصاً لا لحاله الأولى بل لما دخل عليه معقوداً بغيره. فنظير الأول قولك: زيد قائم وما زيد قائم وقائماً على اللغتين وقولك: قام محمد وقد قام محمد وما قام محمد وهل قام محمد وزيد أخوك وإن زيداً أخوك وكان زيد أخاك ونظير الثاني ما تقدم من قولنا: قام زيد وإن قام زيد. فإن جعلت إن هنا نفياً بقي على تمامه ألا تراه بمعنى ما قام زيد. ومن الزائد العائد بالتمام إلى النقصان قولك: يقوم زيد فإن زدت اللام والنون فقلت: ليقومن زيد فهو محتاج إلى غيره وإن لم يظهر هنا في اللفظ ألا ترى أن تقديره عند الخليل أنه جواب قسم أي أقسم ليقومن أو نحو ذلك. فاعرف ذلك إلى ما يليه. باب في زيادة الحروف وحذفها وكلا ذينك ليس بقياس لما سنذكره. أخبرنا أبو علي رحمه الله قال قال أبو بكر: حذف الحروف ليس بالقياس. قال: وذلك أن الحروف إنما دخلت الكلام لضرب من الاختصار فلو ذهبت تحذفها لكنت مختصراً لها هي أيضاً واختصار المختصر إجحاف به. تمت الحكاية. تفسير قوله: إنما دخلت الكلام لضرب من الاختصار هو أنك إذا قلت: ما قام زيد فقد أغنت " ما " عن " أنفى " وهي جملة فعل وفاعل. وإذا قلت: قام القوم إلا زيداً فقد نابت " إلا " عن " أستثنى " وهي فعل وفاعل. وإذا قلت قام زيد وعمرو فقد نابت الواو عن أعطف. وإذا قلت: ليت لي مالاً فقد نابت ليت عن أتمنى. وإذا قلت: هل قام أخوك فقد نابت " هل " عن أستفهم. وإذا قلت: ليس زيد بقائم فقد نابت الباء عن حقاً والبتة وغير ذي شك. وإذا قلت فيما نقضهم ميثاقهم فكأنك قلت: فبنقضهم ميثاقهم فكأنك قلت: فبنقضهم ميثاقهم فعلنا كذا حقاً أو يقينا. وإذا قلت: أمسكت بالحبل فقد نابت الباء عن قولك: أمسكته مباشرا له وملاصقة يدي له. وإذا قلت: أكلت من الطعام فقد نابت " من " عن البعض أكلت بعض الطعام. وكذلك بقية ما لم نسمه. فإذا كانت هذه الحروف نوائب عما هو أكثر منها من الجمل وغيرها لم يجز من بعد ذا أن تتخرق عليها فتنتهكها وتجحف بها. ولأجل ما ذكرنا: من إرادة الاختصار بها لم يجز أن تعمل في شيء من الفضلات: الظرف والحال والتمييز والاستثناء وغير ذلك. وعلته أنهم قد أنابوها عن الكلام الطويل لضرب من الاختصار فلو ذهبوا يعملونها فيما بعد لنقضوا ما أجمعوه وتراجعوا عما اعتزموه. فلهذا لا يجوز ما زيد أخوك قائماً حالاً منك أي أنفى هذا في حال قيامي ولا حالا من زيد أي أنفى هذا عن زيد في حال قيامه. ولا هل زيد أخوك يوم الجمعة على أن تجعل يوم الجمعة ظرفاً لما دلت عليه هل من معنى الاستفهام. فإن قلت: فقد أجازوا ليت زيداً أخوك قائماً ونحو ذلك فنصبوه بما في ليت من معنى التمني وقال النابغة: كأنه خارجا من جنب صفحته سفود شرب نسوه عند مفتأد فنصب خارجاً على الحال بما في كأن من معنى التشبيه وأنشد أبو زيد: فأعمل معنى التشبيه في كأن في الظرف الزماني الذي هو لما التقينا. قيل: إنما جاز ذلك في " ليت " و " كأن " لما اجتمع فيهما: وهو أن كل واحدة منهما فيها معنى الفعل من التمني والتشبيه وأيضاً فكل واحدة منهما رافعة وناصبة كالفعل القوي المتعدي وكل واحدة منهما متجاوزة عدد الاثنين فأشبهت بزيادة عدتها الفعل وليس كذلك ما كان على حرف ولا ما كان على حرفين لأنه لم يجتمع فيه ما اجتمع في ليت ولعل. ولهذا كان ما ذهب إليه أبو العباس: من أن إلا في الاستثناء هي الناصبة لأنها نابت عن أستثنى ولا أعني مردوداً عندنا لما في ذلك من تدافع الأمرين: الإعمال المبقى حكم الفعل والانصراف عنه إلى الحرف المختصر به القول. نعم وإذا كانت هذه الحروف تضعف وتقل عن العمل في الظروف كانت من العمل في الأسماء الصريحة القوية التي ليست ظروفا ولا أحوالا ولا تمييزا لاحقاً بالحال اللاحقة بالظروف أبعد. فإن قلت: فقد قالوا: يا عبد الله ويا خيرا من زيد فأعملوا يا في الاسم الصريح وهي حرف فكيف القول في ذلك قيل: ليا في هذه خاصة في قيامها مقام الفعل ليست لسائر الحروف. وذلك أن هل تنوب عن أستفهم وما تنوب عن أنفى وإلا تنوب عن أستثنى وتلك الأفعال النائبة عنها هذه الحروف هي الناصبة في الأصل. فلما انصرفت عنها إلى الحروف طلباً للإيجاز ورغبة عن الإكثار أسقطت عمل تلك الأفعال ليتم لك ما انتحيته من الاختصار. وليس كذلك يا. وذلك أن يا نفسها هي العامل الواقع على زيد وحالها في ذلك حال أدعو وأنادي في كون كل واحد منهما هو العامل في المفعول وليس كذلك ضربت وقتلت ونحوه. وذلك أن قولك: ضربت زيداً وقلت عمرا الفعل الواصل إليهما المعبر بقولك: ضربت عنه ليس هو نفس " ض ر ب " إنما ثم أحدث هذه الحروف دلالة عليها وكذلك القتل والشتم والإكرام ونحو ذلك. وقولك: أنادي عبد الله وأدعو عبد الله ليس هنا فعل واقع على عبد الله غير هذا اللفظ و " يا " نفسها في المعنى كأدعو ألا ترى أنك إنما تذكر بعد يا اسماً واحداً كما تذكره بعد الفعل المستقل بفاعله إذا كان متعدياً إلى مفعول واحد كضربت زيداً ولقيت قاسماً وليس كذلك حرف الاستفهام وحرف النفي إنما تدخلهما على الجمل المستقلة فتقول: ما قام زيد وهل قام أخوك. فلما قويت " يا " في نفسها وأوغلت في شبه الفعل تولت بنفسها العمل. فإن قلت: فإنما تذكر بعد إلا اسماً واحداً أيضاً قيل: الجملة قبل إلا منعقدة بنفسها وإلا فضلة فيها. وليس كذلك يا لأنك إذا قلت: يا عبد الله تم الكلام بها وبمنصوب بعدها فوجب أن تكون هي كأنها الفعل المستقل بفاعله والمنصوب هو المفعول بعدها فهي في هذا الوجه كرويد ومن وجه آخر أن قولك: يا زيد لما اطرد فيه الضم وتم به القول جرى مجرى ما ارتفع بفعله أو بالابتداء فهذا أدون حالي يا أعنى أن يكون كأحد جزأي الجملة. وفي القول الأول هي جارية مجرى الفعل مع فاعله. فلهذا قوى حكمها وتجاوزت رتبة الحروف التي إنما هي ألحاق وزوائد على الجمل. فلذلك عملت يا ولم تعمل هل ولا ما ولا شيء من ذلك النصب بمعنى الفعل الذي دلت عليه ونابت عنه. ولذلك ما وصلت تارة بنفسها في قولك: يا عبد الله وأخرى بحرف الجر نحو قوله: يا لبكر فجرت في ذلك مجرى ما يصل من الفعل تارة بنفسه وأخرى بحرف الجر نحو قوله: خشنت صدره وبصدره وجئت زيداً وجئت إليه واخترت الرجال ومن الرجال وسميته زيداً وبزيد وكنيته أبا علي وبأبي علي. فإن قلت: فقد قال الله سبحانه { ألا يا اسجدوا } وقد قال غيلان: ألا يا أسلمي يا دارمي على البلى وقال: يا دار هند يا أسلمي ثم أسلمي فجاء بيا ولا منادى معها قيل: يا في هذه الأماكن قد جردت من معنى النداء وخلصت تنبيهاً. ونظيرها في الخلع من أحد المعنيين وإفراد الآخر: ألا لها في الكلام معنيان: افتتاح الكلام والتنبيه نحو قول الله سبحانه: {أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ} وقوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} وقول كثير: ألا إنما ليلى عصا خيزرانة فإذا دخلت على " يا " خلصت " ألا " افتتاحاً وخص التنبيه بيا. وذلك كقول نصيب: ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد فقد زادني مسراك وجدا على وجد فقد صح بما ذكرناه إلى أن قادنا إلى هنا أن حذف الحروف لا يسوغه القياس لما فيه من الانتهاك والإجحاف. وأما زيادتها فخارج عن القياس أيضاً. وذلك أنه إذا كانت إنما جيء بها اختصاراً وإيجازاً كانت زيادتها نقضا لهذا الأمر وأخذا له بالعكس والقلب ألا ترى أن الإيجاز ضد الإسهاب ولذلك لم يجز أبو الحسن توكيد الهاء المحذوفة من صلة الذي في نحو الذي ضربت زيد فأفسد أن تقول: الذي ضربت نفسه زيد. قال: لأن ذلك نقض من حيث كان التوكيد إسهاباً الحذف إيجازاً. وذلك أمر ظاهر التدافع. هذا هو القياس: ألا يجوز حذف الحروف ولا زيادتها. ومع ذلك فقد حذفت تارة وزيدت أما حذفها فكنحو ما حكاه أبو عثمان عن أبي زيد من حذف حرف العطف في نحو قولهم: أكلت لحماً سمكاً تمراً. وأنشدني أبو الحسن: كيف أصبحت كيف أمسيت مما يزرع الود في فؤاد الكريم يريد: كيف أصبحت وكيف أمسيت. وأنشد ابن الأعرابي: وكيف لا أبكي على علاتي صبائحي غبائقي قيلاتي أي صبائحي وغبائقي وقيلاتي. وقد يجوز أن يكون بدلاً أي كيف لا أبكي على علاتي التي هي صبائحي وهي غبائقي وهي قيلاتي فيكون هذا من بدل الكل. والمعنى الأول أن منها صبائحي ومنها غبائقي ومنها قيلاتي. ومن ذلك ما كان يعتاده رؤبة إذا قيل له: كيف أصبحت فيقول: خير عافاك أي بخير وحكى سيبويه: الله لا أفعل يريد والله. ومن أبيات الكتاب: من يفعل الحسنات الله يشكرها والشر بالشر عند الله مثلان أي فالله يشكرها. وحذفت همزة الاستفهام نحو قوله: فأصبحت فيهم آمنا لا كمعشر أتوني وقالوا: من ربيعة أو مضر طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب أراد: أو ذو الشيب يلعب. ومنه قول ابن أبي ربيعة: ثم قالوا تحبها قلت بهراً عدد القطر والحصى والتراب أظهر الأمرين فيه أن يكون أراد: أتحبها لأن البيت الذي قبله يدل عليه وهو قوله: أبرزوها مثل المهاة تهادى بين خمس كواعب أتراب ولهذا ونحوه نظائر. وقد كثرت. فأما تكريرها وزيادتها فكقوله: لددتهم النصيحة كل لد فمجوا النصح ثم ثنوا فقاءوا فلا والله لا يلفي لما بي ولا للمابهم أبدا دواء وقد كثرت زيادة ما توكيدا كقول الله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} وقوله سبحانه {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} وقوله عز قدره {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا}. وقال جل وعز: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} فالباء زائدة وأنشد أبو زيد: بحسبك في القوم أن يعلموا بأنك فقيهم غني مضر فزاد الباء في المبتدأ. وأنشد لأمية: فإن لتوكيد النفي كقول زهير: ما إن يكاد يخليهم لوجهتهم ولا من بعدها زائدة. وزيدت اللام في قوله رويناه عن أحمد بن يحيى: مروا عجالاً وقالوا كيف صاحبكم قال الذي سألوا أمسى لمجهودا وفي قراءة سعيد بن جبير {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} وقد تقدم ذكر ذلك. وزيدت لا قال أبو النجم: ولا ألوم البيض ألا تسخرا وقد رأين الشمط القفندرا وقال العجاج: بغير لا عصفٍ لا اصطراف وأنشدنا: أبي جوده لا البخل واستعجلت به نعم من فتى لا يمنع الجود قاتله فهذا على زيادة لا أي أبي جوده البخل. وقد يجوز أن تكون لا منصوبة الموضع بأبي والبخل وزيادة الحروف كثير وإن كانت على غير قياس كما أن حذف المضاف أوسع وأفشى وأعم وأوفى وإن كان أبو الحسن قد نص على ترك القياس عليه. فأما عذر حذف هذه الحروف فلقوة المعرفة بالموضع ألا ترى إلى قول امرئ القيس: فقلت: يمين الله أبرح قاعدا لأنه لو أراد الواجب لما جاز لأن أبرح هذه لا تستعمل في الواجب فلا بد من أن يكون أراد: لا أبرح. ويكفي من هذا قولهم: رب إشارة أبلغ من عبارة. وأما زيادتها فلإرادة التوكيد بها. وذلك أنه قد سبق أن الغرض في استعمالها إنما هو الإيجاز والاختصار والاكتفاء من الأفعال وفاعليها فإذا زيد ما هذه سبيله فهو تناه في التوكيد به. وذلك كابتذالك في ضيافة ضيفك أعز ما تقدر عليه وتصونه من أسبابك فذاك غاية إكرامك له وتناهيك في الحفل به.
باب في زيادة الحرف عوضاً من آخر محذوف
اعلم أن الحرف الذي يحذف فيجاء بآخر عوضاً منه على ضربين: أحدهما أصلى والآخر زائد. الأول من ذلك على ثلاثة أضرب: فاء عين لام. أما ما حذفت فاؤه وجيء بزائد عوضا منه فباب فعله في المصادر نحو عدة وزنة وشية وجهة. والأصل وعدة ووزنة ووشية ووجهة فحذفت الفاء لما ذكر في تصريف ذلك وجعلت التاء بدلاً من الفاء. ويدل على أن أصله ذلك قول الله سبحانه: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} وأنشد أبو زيد: ألم تر أنني ولكل شيء إذا لم تؤت وجهته تعاد أطعت الآمري بصرم ليلى ولم أسمع بها قول الأعادي وقد حذفت الفاء في أناس وجعلت ألف فعال بدلاً منها فقيل ناس ومثالها عال كما أن مثال عدة وزنة علة. وقد حذفت الفاء وجعلت تاء افتعل عوضاً منها وذلك قولهم: تقي يقتي والأصل اتقى يتقي فحذفت التاء فبقي تقي ومثاله تعل ويتقي: يتعل قال الشاعر: جلاها الصيقلون فأخلصوها خفافاً كلها يتقي بأثر وقال أوس: زيادتنا نعمان لا تنسينها تق الله فينا والكتاب الذي تتلو ومنه أيضاً قولهم تجه يتجه وأصله اتجه ومثال تجه على هذا تعل كتقى سواء. وروى أبو زيد أيضاً فيما حدثنا به أبو علي عنه: تجه يتجه فهذا من لفظ آخر وفاؤه تاء. وأنشدنا: قصرت له القبيلة اذتجهنا وما ضاقت بشدته ذراعي فهذا محذوف من اتجه كاتقى. فأما قولهم: اتخذت فليست تاؤه بدلاً من شيء بل هي فاء أصلية بمنزلة اتبعت من تبع. يدل على ذلك ما أنشده الأصمعي من قوله: وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها نسيفاً كأفحوص القطاة المطرق وعليه قول الله سبحانه {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} وذهب أبو إسحاق إلى أن اتخذت كاتقيت واتزنت وأن الهمزة أجريت في ذلك مجرى الواو. وهذا ضعيف إنما جاء منه شيء في داره تقسم الأزواد بينهم كأنما أهله منها الذي اتهلا وروى لها أبو علي عن أبي الحسن علي بن سليمان متمن. وأنشد: . . . . . . . . . بيض اتمن والذي يقطع على أبي إسحاق قول الله عز وجل {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا}. فكما أن تجه ليس من لفظ الوجه كذلك ليس تخذ من لفظ الأخذ. وعذر من قال: اتمن واتهل من الأهل أن لفظ هذا إذا لم يدغم يصير إلى صورة ما أصله حرف لين. وذلك قولهم في افتعل من الأكل: ايتكل ومن الإزرة: ايتزر. فأشبه حينئذ ايتعد في لغة من لم يبدل الفاء تاء فقال: اتهل واتمن لقول غيره: ايتهل وايتمن. وأجود اللغتين إقرار الهمز قال الأعشى: أبا ثبيتٍ أما تنفك تأتكل وكذلك ايتزر يأتزر. فأما اتكلت عليه فمن الواو على الباب لقولهم الوكالة والوكيل. وقد ذكرنا هذا الموضع في كتابنا في شرح تصريف أبي عثمان. وقد حذفت الفاء همزة وجعلت ألف فعال بدلاً منها وذلك قوله. وأما ما حذفت عينه وزيد هنا حرف عوضاً منها فأينق في أحد قولي سيبويه. وذلك أن أصلها أنوق فأحد قوليه فيها أن الواو التي هي عين حذفت وعوضت منها ياء فصارت: أنيق. ومثالها في هذا القول على اللفظ: أيفُل. والآخر أن العين قدمت على الفاء فأبدلت ياء. ومثالها على هذا أغفُل. وقد حذفت العين حرف علة وجعلت ألف فاعل عوضاً منها. وذلك رجل خاف ورجل مالٌ ورجل هاعٌ لاعٌ. فجوز أن يكون هذا فعلاً كفرق فهو فرق وبطر فهو بطر. ويجوز أن يكون فاعلاً حذفت عينه وصارت ألفه عوضاً منها كقوله: لاثٌ به الأشاء والعبرى ومما حذفت عينه وصار الزائد عوضاً منها قولهم: سيد وميت وهين ولين قال: هيْنون لينون أيسار دوو يسرٍ سواس مكرمةٍ أبناءُ أيسار وأصلها فيعِل: سيد وميت وهين ولين حذفت عينها وجعلت ياء فيعِل عوضاً منها. وكذلك باب قيدودة وصيرورة وكينونة وأصلها فيعلولة حذفت عينها وصارت ياء فيعلولة الزائدة عوضاً منها. فإن قلت: فهلا كانت لام فيعلولة الزائدة عوضاً منها قيل قد صح في فيعل من نحو سيد وبابه أن الياء الزائدة عوض من العين وكذلك الألف الزائدة في خاف وهاع لاع عوض من العين. وجوز سيبويه أيضاً ذلك في أينق فكذلك أيضاً ينبغي أن تحمل فيعلولة على ذلك. وأيضاً فإن الياء أشبه بالواو من الحرف الصحيح في باب قيدودة وكينونة. وأيضاً فقد جعلت تاء التفعيل عوضاً من عين الفعال. وذلك قولهم: قطعته تقطيعاً: وكسرته تكسيراً ألا ترى أن الأصل قطاع وكسار بدلالة قول الله سبحانه: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} وحكى الفراء قال: سالين أعرابي فقال: أحلاق أحب إليك أم قصار فكما أن التاء الزائدة في التفعيل عوض من العين فكذلك ينبغي أن تكون الياء في قيدودة عوضاً من العين لا الدال. فإن قلت: فإن اللام أشبه بالعين من الزائد فهلا كانت لام القيدودة عوضاً من عينها قيل: إن الحرف الأصلي القوي إذا حذف لحق بالمعتل الضعيف فساغ لذلك أن ينوب عنه الزائد الضعيف. وأيضاً فقد رأيت كيف كانت تاء التفعيل الزائدة عوضاً من عينه وكذلك ألف فاعل كيف كانت عوضاً من عينه في خاف وهاع ولاع ونحوه. وأيضاً فإن عين قيدودة وبابها وإن كانت أصلاً فإنها على الأحوال كلها حرف علة ما دامت موجودة ملفوظاً بها فكيف بها إذا حذفت فإنها حينئذ توغل في الاعتلال والضعف. ولو لم يعلم تمكن هذه الحروف في الضعف إلا بتسميتهم إياها حروف العلة لكان كافياً. وذلك أنها في أقوى أحوالها ضعيفة ألا ترى أن هذين الحرفين إذا قويا بالحركة فإنك حينئذ مع ذلك مؤنس فيهما ضعفاً. وذلك أن تحملهما للحركة أشق منه في غيرهما. ولم يكونا كذلك إلا لأن مبنى أمرهما على خلاف القوة. يؤكد ذلك عندك أن أذهب الثلاث في الضعف والاعتلال الألف. ولما كانت كذلك لم يمكن تحريكها البتة. فهذا أقوى دليل على أن الحركة إنما يحملها ويسوغ فيها من الحروف الأقوى لا الأضعف. ولذلك ما تجد أخف الحركات الثلاث وهي الفتحة مستثقلة فيهما حتى يجنح لذلك ويستروح إلى إسكانها نحو قوله: يا دار هند عفت إلا أثافيها وقوله: كأن أيديهن بالقاع القرق ونحو من ذلك قوله: وأن يعرين إن كسى الجواري فتنبو العين عن كرم عجاف نعم وإذا كان الحرف لا يتحامل بنفسه حتى يدعو إلى اخترامه وحذفه كان بأن يضعف عن تحمل الحركة الزائدة عليه فيه أحرى وأحجى. وذلك نحو قول الله تعالى {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} و {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} و {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} وقوله: وقال الأسود بن يعفر: فألحقت أخراهم طريق ألاهم يريد أولاهم و {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} و {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} كتبت في المصحف بلا واو للوقف عليها كذلك. وقد حذفت الألف في نحو ذلك قال رؤبة: وصاني العجاج فيما وصني يريد: فيما وصاني. وذهب أبو عثمان في قول الله عز اسمه: يا أبت إلى أنه أراد يا أبتاه وحذف الألف. ومن أبيات الكتاب قول لبيد: رهط مرجوم ورهط ابن المعل يريد المعلى. وحكى أبو عبيدة وأبو الحسن وقطرب وغيرهم رأيت فرج ونحو ذلك. فإذا كانت هذه الحروف تتساقط وتهي عن حفظ أنفسها وتحمل خواصها وعواني ذواتها فكيف بها إذا جشمت احتمال الحركات النيفات على مقصور صورها. نعم وقد أعرب بهذه الصور أنفسها كما يعرب بالحركات التي هي أبعاضها. وذلك في باب أخوك وأبوك وهناك وفاك وحميك وهنيك والزيدان والزيدون والزيدين. وأجريت هذه الحروف مجرى الحركات في زيد وزيدا وزيدٍ ومعلوم أن الحركات لا تحمل لضعفها الحركات. فأقرب ويؤكد عندك ضعف هذه الأحرف الثلاثة أنه إذا وجدت أقواهن وهما الواو والياء مفتوحاً ما قبلها فإنهما كأنهما تابعان لما هو منهما ألا ترى إلى ما جاء عنهم من نحو نوبة ونوب وجوبة وجوب ودولة ودول. فمجيء فَعْلة على فُعَل يريك أنها كأنها إنما جاءت عندهم من فُعْلة فكأن دَولة دُولة وجَوْبة جُوبة ونَوبة نُوبة. وإنما ذلك لأن الواو مما سبيله أن يأتي تابعاً للضمة. وكذلك ما جاء من فَعلة مما عينه ياء على فِعَل نحو ضَيْعة وضِيع وخيمة وخيم وعَيبة وعِيب كأنه إنما جاء على أن واحدته فِعلة نحو ضِيعة وخِيمة وعِيبة. أفلا تراهما مفتوحاً ما قبلهما مجراتين مجراهما مكسوراً ومضموماً ما قبلهما فهل هذا إلا لأن الصنعة مقتضية لشياع الاعتلال فيهما. فإن قلت: ما أنكرت ألا يكون ما جاء من نحو فَعْلة على فُعَل نحو نُوب وجُوَب ودُول لما ذكرته من تصور الضمة في الفاء ولا يكون ما جاء من فَعلة على فِعَل نحو ضِيع وخِيم وعِيب لما ذكرته من تصور الكسرة في الفاء بل لأن ذلك ضرب من التكسير ركبوه فيما عينه معتلة كما ركبوه فيما عينه صحيحة نحو لأمةٍ ولُؤَم وعَرْصة وعُرَص وقَرْية وقُرَّى وبروة وبُرا فيما ذكره أبو علي ونَزْوة ونُزِّا فيما ذكره أبو العباس وحَلْفة وحِلَق وفَلْكة وفَلك قيل: كيف تصرفت الحال فلا اعتراض شك في أن الياء والواو أين وقعتا وكيف تصرفتا معتدتان حرفي علة ومن أحكام الاعتلال أن يتبعا ما هو منهما. هذا ثم إنا رأيناهم قد كسروا فَعْلة مما هما عيناه على فُعَل وفِعَل نحو جُوَب ونُوَب وضِيَع وخِيَم فجاء تكسيرهما تكسير ما واحدة مضموم الفاء ومكسورها. فنحن الآن بين أمرين: إما أن نرتاح لذلك ونعلله وإما أن نتهالك فيه ونتقبله غُفْل الحال ساذَجاً من الاعتلال. فإن يقال: إن ذلك لما ذكرناه من اقتضاء الصورة فيهما أن يكونا في الحكم تابعين لما قبلهما أولى من أن ننقض الباب فيه ونعطي اليد عنوة به من غير نظر له ولا اشتمال من الصنعة عليه ألا ترى إلى قوله: وليس شيء مما يضطرون إليه إلا هم يحاولون له وجها. فإذا لم يخل مع الضرورة من وجه من القياس محاول فهم لذلك مع الفسحة في حال السعة أولى بأن يحاولوه وأحجى بأن يناهدوه فيتعللوا به ولا يهملوه. فإذا ثبت ذلك في باب ما عينه ياء أو واو جعلته الأصل في ذلك وجعلت ما عينه صحيحة فرعاً له ومحمولاً عليه نحو حِلَقٍ وفِلكٍ وعُرَص ولُؤَم وقرى وبرا كما أنهم لما أعربوا بالواو والياء والألف في الزيدون والزيدين والزيدان تجاوزوا ذلك إلى أن أعربوا بما ليس ذلك إلى أن أعربوا بما ليس من حروف اللين. وهو النون في يقومان وتقعدين وتذهبون. فهذا جنس من تدريج اللفة الذي تقدم بابه فيما مضى من كتابنا هذا. وأما ما حذفت لامه وصار الزائد عوضاً منها فكثير. منه باب سنة ومائة ورئة وفئة وعضة وضعة. فهذا ونحوه مما حذفت لامه وعوض منها تاء التأنيث ألا تراها كيف تعاقب اللام في نحو برة وبرا وثبة وثبا. وحكى أبو الحسن عنهم: رأيت مِئْيا بوزن مِعْياً. فلما حذفوا قالوا: مائة. فأما بنت وأخت فالتاء عندنا بدل من لام الفعل وليست عوضاً. وأما ما حذف فالتاء عندنا بدل من لام الفعل وليست عوضاً. وأما ما حذف لالتقاء الساكنين من هذا النحو فليس الساكن الثاني عندنا بدلا ولا عوضاً لأنه ليس لازماً. وذلك نحو هذه عصاً ورحاً وكلمت معلى فليس التنوين في الوصل ولا الألف التي هي بدل منها في الوقف نحو رأيت عصاً عند الجماعة وهذه عصا ومررت بعصا عند أبي عثمان والفراء بدلاً من لام الفعل ولا عوضاً ألا تراه غير لازم إذ كان التنوين يزيله الوقف والألف التي هي بدل منه يزيلها الوصل. وليست كذلك تاء مائة وعضة وسنة وفئة وشفة لأنها ثابتة في الوصل ومبدلة هاء في الوقف. فأما الحذف فلا حذف. وكذلك ما لحقه علم الجمع نحو القاضون والقاضين والأعلَون والأعلَين. فعلم الجمع ليس عوضاً ولا بدلاً لأنه ليس لازماً. فأما قولهم: هذان وهاتان واللذان واللتان والذين واللذون فلو قال قائل: إن علم التثنية والجمع فيها عوض من الألف والياء من حيث كانت هذه أسماء صيغت للتثنية والجمع لا على حد رجلان وفرسان وقائمون وقاعدون ولكن على حد قولك: هما وهم وهن لكان مذهباً ألا ترى أن " هذين " من " هذا " ليس على رجلين من رجل ولو كان كذلك لوجب أن تنكره البتة كما تنكر الأعلام نحو زيدان وزيدين وزيدون وزيدين والأمر في هذه الأسماء بخلاف ذلك ألا تراها تجري مثناة ومجموعة أوصافاً على المعارف كما تجري عليها مفردة. وذلك قولك مررت بالزيدين هذين وجاءني أخواك اللذان في الدار. وكذلك قد توصف هي أيضاً بالمعارف نحو قولك: جاءني ذانك الغلامان ورأيت اللذين في الدار الظريفين. وكذلك أيضاً تجدها في التثنية والجمع تعمل من نصب الحال ما كانت تعمله مفردة. وذلك نحو قولك: هذان قائمين الزيدان وهؤلاء منطلقين إخوتك. وقد تقصينا القول في ذلك في كتابنا في سر الصناعة. وقريب من هذان واللذان قولهم: هيهات مصروفة وغير مصروفة وذلك أنها جمع هيهاة وهيهاة عندنا رباعية مكررة فاؤها ولامها الأولى هاء وعينها ولامها الثانية ياء. فهي لذلك من باب صِيِصية. وعكسها باب يَلْيَل ويَهْيَاهٍ قال ذو الرمة: تلؤم يهياهٍ بياهٍ وقد مضى من الليل جَوْرٌ واسبطرتْ كواكبه وقال كثير: فهيهاةُ من مضعف الياء بمنزلة المرمرة والقرقرة. فكان قياسها إذا جمعت أن تقلب اللام ياء فيقال هيهيات كشوشيات وضوضيات إلا أنهم حذفوا اللام لأنها في آخر اسم غير متمكن ليخالف آخرها آخر الأسماء المتمكنة نحو رَحَيَان ومَوْليَان. فعلى هذا قد يمكن أن يقال: إن الألف التاء في هيهات عوض من لام الفعل في هيهاةٍ لأن هذا ينبغي أن يكون اسماً صيغ للجمع بمنزلة الذين وهؤلاء. فإن قيل: وكيف ذاك وقد يجوز تنكيره في قولهم: هيهات هيهات وهؤلاء والذين لا يمكن تنكيرهما فقد صار إذاً هيهات بمنزلة قصاع وجفان وكرام وظراف. قيل: ليس التنكير في هذا الاسم المبني على حده في غيره من المعرب ألا ترى أنه لو كانت هيهات من هيهاة بمنزلة أرطيات من أرطاة وسعليات من سعلاة لما كانت إلا نكرة كما أن سعليات وأرطيات لا تكونان إلا نكرتين. فإن قيل: ولم لا تكون سعليات معرفة إذا جعلتها علماً كرجل أو امرأة سميتها بسعليات وأرطيات. وكذلك أنت في هيهات إذا عرفتها فقد جعلتها علما على معنى البعد كما أن غاق فيمن لم ينون فقد جعل علماً لمعنى الفراق ومن نون فقال: غاقٍ غاقٍ وهيهاة هيهاة هيهاتٍ هيهاتٍ فكأنه قال: بعداً بعداً فجعل التنوين علماً لهذا المعنى كما جعل حذفه علماً لذلك قيل: أما على التحصيل فلا تصح هناك حقيقة معنى العلمية. وكيف يصح ذاك وإنما هذه أسماء سمى بها الفعل في الخبر نحو شتان وسرعان وأف وأوتاه وسنذكر ذلك في بابه. وإذا كانت أسماء للأفعال والأفعال أقعد شيء في التنكير وأبعده عن التعريف علمت أنه تعليق لفظ متأول فيه التعريف على معنى لا يضامه إلا التنكير. فلهذا قلنا: إن تعريف باب هيهات لا يعتد تعريفاً. وكذلك غاق وإن لم يكن اسم فعل فإنه على سمته ألا تراه صوتاً بمنزلة حاء وعاء وهاء وتعرف الأصوات من جنس تعرف الأسماء المسماة بها الأفعال. فإن قيل: ألا تعلم أن معك من الأسماء ما تكون فائدة معرفته كفائدة نكرته البتة. وذلك قولهم: غدوة هي في معنى غداة إلا أن غُدوة معرفة وغَداة نكرة. وكذلك أسَد وأُسامة وثعلب وثُعالة وذئب وذُؤالة وأبو جَعْدة وأبو مُعْطة. فقد تجد هذا التعريف المساوي لمعنى التنكير فاشياً في غير ما ذكرته ثم لم يمنع ذلك أسامة وثعالة وذؤالة وأبا جعدة وأبا معطة ونحو ذلك أن تُعدّ في الأعلام وإن لم يخص الواجد من جنسه فكذلك لم لا يكون هيهات كما ذكرنا. قيل: هذه الأعلام وإن كانت معنياتها نكرات فقد يمكن في كل واحد منها أن يكون معرفة صحيحة كقولك: فرقت ذلك الأسد الذي فرقته وتبركت بالثعلب الذي تبركت به وخسأت الذئب الذي خسأته. فأما الفعل فمما لا يمكن تعريفه على وجه فلذلك لم يعتد التعريف الوافع وأيضاً فإن هذه الأصوات عندنا في حكم الحروف فالفعل إذاً أقرب إليها ومعترض بين الأسماء وبينها أولا ترى أن البناء الذي سرى في باب صه ومه وحيهلا ورويدا وإيه وأيها وهلم ونحو ذلك من باب نزال ودراك ونظار ومناع إنما أتاها من قبل تضمن هذه الأسماء معنى لام الأمر لأن أصل ماصه أسم له وهو اسكت لتسكت كقراءة النبي صلى الله عليه وسلم {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} وكذلك مَهْ هو اسم اكفُفْ والأصل لتكفف. وكذلك نزال هو اسم انزل والأصل: لتنزل. فلما كان معنى اللام عائراً في هذا الشق وسائراً في أنحائه ومتصوراً في جميع جهاته دخله البناء من حيث تضمن هذا المعنى كما دخل أين وكيف لتضمنهما معنى حرف الاستفهام وأمس لتضمنه معنى حرف التعريف ومن لتضمنه معنى حرف الشرط وسوى ذلك. فأما أف وهيهات وبابهما مما هو اسم للفعل فمحمول في ذلك على أفعال الأمر. وكأن الموضع في ذلك إنما هو لصهْ ومه ورويد ونحو ذلك ثم حمل عليه باب أفّ وشتان ووشكان من حيث كان اسما سمي به الفعل. وإذا جاز لأحمد وهو اسم معرفة علم أن يشبه بأركب وهو فعل نكرة كان أن يشبه اسم سمي به الفعل في الخبر باسم سمي به الفعل في الأمر أولى ألا ترى أن كل واحد منهما اسم وأن المسمى به أيضاً فعل. ومع ذا فقد تجد لفظ الأمر في معنى الخبر نحو قول الله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} وقوله عز اسمه {قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} أي فليمدنَّ. ووقع أيضاً لفظ الخبر في معنى الأمر نحو قوله سبحانه {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} وقولهم: هذا الهلال. معناه: انظر إليه. ونظائره كثيرة. فلما كان أف كصه في كونه اسما للفعل كما أن صه كذلك ولم يكن بينهما إلا أن هذا اسم لفعل مأمور به وهذا اسم لفعل مخبر به وكان كل واحد من لفظ الأمر والخبر قد يقع موقع صاحبه صار كأن كل واحد منها هو صاحبه فكأن لا خلاف هناك في لفظ ولا معنى. وما كان على بعض هذه القربى والشبكة ألحق بحكم ما حمل عليه فكيف بما ثبتت فيه ووقت عليه واطمأنت به. فاعرف ذلك. ومما حذفت لامه وجعل الزائد عوضاً منها فرزدق وفريزيد وسفرجل وسفيريج. وهذا باب واسع. فهذا طرف من القول على ما زيد من الحروف عوضاً من حرف أصلي محذوف وأما الحرف الزائد عوضاً من حرف زائد فكثير. منه التاء في فرازنة وزنادقة وجحاجحة. لحقت عوضاً من ياء المد في زناديق وفرازين وجحاجيح. ومن ذلك ما لحقته ياء المد عوضاً من حرف زائد حذف منه نحو قولهم في تكسير مدحرج وتحقيره: دحاريج ودحيريج. فالياء عوض من ميمه. وكذلك جحافيل وجحيفيل: الياء عوض من نونه. وكذلك مغاسيل ومغيسيل: الياء عوض من تائه. وكذلك زعافير الياء عوض من ألفه ونونه. وكذلك الهاء في تَفْعِلة في المصادر عوض من ياء تفعيل أو ألف فعال. وذلك نحو سليته تسلية وربيته تربية: الهاء بدل من ياء تفعيل في تسلى وتربى أو ألف سلاء ورباء. أنشد أبو زيد: باتت تنزي دلوها تنزياً كما تنزى شهلة صبيا ومن ذلك تاء الفعللة في الرباعي نحو الهملجة السرهفة كأنها عوض من ألف فعلال نحو الهملاج والسرهاف قال العجاج: سرهفته ما شئت من سرهاف وكذلك ما لحق بالرباعي من نحو الحوقلة والبيطرة والجهورة والسلقاة. كأنها عوض من ألف حيقال وبيطار وجهوار وسلقاء. ومن ذلك قول التغلبي: متى كنا لأمك مقتوينا والواحد مقتوي. وهو منسوب إلى مقتى وهو مفعل من القتو وهو الخدمة قال: فكان قياسه إذا جمع أن يقال: مقتويون ومقتويين كما أنه إذا جمع بصرى وكوفي قيل: كوفيون وبصريون ونحو ذلك إلا إنه جعل علم الجمع معاقباً لياءي الإضافة فصحت اللام لنية الإضافة كما تصح معها. ولولا ذلك لوجب حذفها لالتقاء الساكنين وأن يقال: مقْتَوْن ومقْتَيْن كما يقال: هم الأعلَوْن وهم المصطَفَوْن قال الله سبحانه {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ} وقال عز اسمه {وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} فقد ترى إلى تعويض علم الجمع من ياءي الإضافة والجميع زائد. وقال سيبويه في ميم فاعلته مفاعلة: إنها عوض من ألف فاعلته. ولتبع ذلك محمد بن يزيد فقال: ألف فاعلت موجودة في المفاعلة فكيف يعوض من حرف هو موجود غير معدوم. وقد ذكرنا ما في هذا ووجه سقوطه عن سيبويه في موضع غير هذا. لكن الألف في المفاعل بلا هاء هي ألف فاعلته لا محالة وذلك نحو قاتلته مقاتلاً وضاربته مضارباً قال: أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلاً وأنجو إذا لم ينج إلا المكيس وقال: أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلاً وأنجو إذا غم الجبان من الكرب فأما أقمت إقامة وأردتن إرادة ونحو ذلك فإن الهاء فيه على مذهب الخليل وسيبويه عوض من ألف إفعال الزائدة. وهي في قول أبي الحسن عوض من عين إفعال على مذهبهما في باب مفعول من نحو مبيع ومقول. والخلاف في ذلك قد عرف وأحيط بحال المذهبين فيه فتركناه لذلك. ومن ذلك الألف في يمانٍ وتهامٍ وشئامٍ: هي عوض من إتنحدجى ياءي الإضافة في يمنى وتهامى وشأمى. وكذلك ألف ثمان. قلت لأبي علي: لم زعمتها للنسب فقال: لأنها ليست بجمع مكسر فتكون كصحارٍ. قلت له: نعم ولو لم تكن للنسب للزمتها الهاء البتة نحو عباقية وكراهية وسباهية. فقال: نعم هو كذلك. ومن ذلك أن ياء التفعيل بدل من ألف الفعال كما أن التاء في أوله عوض من إحدى عينيه. ففي هذا كاف بإذن الله. وقد أوقع هذا التعاوض في الحروف المنفصلة عن الكلم غير المصوغة فيها الممزوجة بأنفس صيغها. وذلك قول الراجز على مذهب الخليل: إن الكريم وأبيك يعتمل إن لم يجد يوماً على من يتكل أي من يتكل عليه. فحذف عليه هذه وزاد على متقدمة ألا ترى أنه: يعتمل إن لم يجد من يتكل عليه. وندع ذكر قول غيره ههنا. وكذلك قول الآخر: أولى فأولى يا امرأ القيس بعدما خصفن بآثار المطي الحوافرا أي خصفن بالحوافر آثار المطي يعني آثار أخفافها. فحذف الباء من الحوافر وزاد أخرى عوضاً منها في آثار المطي. هذا على قول من لم يعتقد القلب وهو أمثل فما وجدت مندوحة عن القلب لم ترتكبه. وقياس هذا الحذف والتعويض قولهم: بأيهم تضرب أمرر أي أيهم تضرب أمرر به.
باب في استعمال الحروف بعضها مكان بعض
هذا باب يتلقاه الناس مغسولاً ساذجاً من الصنعة. وما أبعد الصواب عنه وأوقفه دونه. وذلك أنهم يقولون: إن " إلى " تكون بمعنى مع. ويحتجون لذلك بقول الله سبحانه: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ} أي مع الله. ويقولون: إن " في " تكون بمعنى على ويحتجون بقوله عز اسمه: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أي عليها. ويقولون: تكون الباء بمعنى عن وعلى ويحتجون بقولهم: رميت بالقوس أي عنها وعليها كقوله: أرمى عليها وهي فرع أجمع وقال طفيل: رمت عن قسي الماسخي رجالهم بأحسن ما يبتاع من نبل يثرب أرمى علي شريانة قذاف تلحق ريش النبل بالأجواف وغير ذلك مما يوردونه. ولسنا ندفع أن يكون ذلك كما قالوا لكنا نقول: إنه يكون بمعناه في موضع دون موضع على حسب الأحوال الداعية إليه والمسوغة له فأما في كل موضع وعلى كل حال فلا ألا ترى أنك إن أخذت بظاهر هذا القول غفلاً هكذا لا مقيداً لزمك عليه أن تقول: سرت إلى زيد وأنت تريد: معه وأن تقول: زيد في الفرس وأنت تريد: عليه وزيد في عمرو وأنت تريد: عليه في العداوة وأن تقول: رويت الحديث بزيد وأنت تريد: عنه ونحو ذلك مما يطول ويتفاحش. ولكن سنضع في ذلك رسماً يعمل عليه ويؤمن التزام الشناعة لمكانه. اعلم أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر وكان أحدهما يتعدى بحرف والآخر بآخر فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه إيذاناً بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد مع ما هو في معناه. وذلك كقول الله عز اسمه: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ} وأنت لا تقول: رفثت إلى المرأة وإنما تقول: رفثت بها أو معها لكنه لما كان الرفث هنا في معنى الإفضاء وكنت تعدي أفضيت بإلى كقولك: أفضيت إلى المرأة جئت بإلى مع الرفث إيذاناً وإشعاراً أنه بمعناه كما صححوا عور وحول لما كانا في معنى اعور وإن شئتم تعاودونا عوادا لما كان التعاود أن يعاود بعضهم بعضاً. وعليه جاء قوله: وليس بأن تتبعه اتباعاً ومنه قول الهل سبحانه: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا}. وأصنع من هذا قول الهذلي: ما إن يمس الأرض إلا منكب منه وحرف الساق طي المحمل فهذا على فعل ليس من لفظ هذا الفعل الظاهر ألا ترى أن معناه: طوى طي المحمل فحمل المصدر على فعل دل أول الكلام عليه. وهذا ظاهر. وكذلك قول الله تعالى: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ} أي مع الله وأنت لا تقول: سرت إلى زيد أي معه لكنه إنما جاء من أنصاري إلى الله لما كان معناه: من ينضاف في نصرتي إلى الله فجاز لذلك أن تأتي هنا إلى. وكذلك قوله عز اسمه: {هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى} وأنت إنما تقول: هل لك في كذا لكنه لما كان على هذا دعاء منه صلى الله عليه وسلم صار تقديره أدعوك وأرشدك إلى أن تزكى. وعليه قول الفرزدق: كيف تراني قالياً مجنى أضرب أمري ظهره للبطن ووجدت في اللغة من هذا الفن شيئاً كثيراً لا يكاد يحاط به ولعه لو جمع أكثره لا جميعه لجاء كتاباً ضخماً وقد عرفت طريقه. فإذا مر بك شيء منه فتقبله وأنس به فإنه فصل من العربية لطيف حسن يدعو إلى الأنس بها والفقاهة فيها. وفيه أيضاً موضع يشهد على من أنكر أن يكون في اللغة لفظان بمعنى واحد حتى تكلف لذلك أن يوجد فرقاً بين قعد وجلس وبين ذراع وساعد ألا ترى أنه لما كان رفث بالمرأة في معنى أفضى إليها جاز أن يتبع الرفث الحرف الذي بابه الإفضاء وهو " إلى ". وكذلك لما كان هل لك في كذا بمعنى أدعوك إليه جاز أن يقال: هل لك إلى أن تزكى كما يقال أدعوك إلى أن تزكى وقد قال رؤبة ما قطع به العذر ههنا قال: بالٍ بأسماء البلى يسمى فجعل للبلى وهو معنى واحد أسماء. وقد قدمنا هذا فيما مضى من صدر كتابنا. ومما جاء من الحروف في موضع غيره على نحو مما ذكرنا قوله: إذا رضيت على بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاها أراد: عنى. ووجهه: أنها إذا رضيت عنه أحبته وأقبلت عليه. فلذلك استعمل على بمعنى عن وكان أبو علي يستحسن قول الكسائي في هذا لأنه قال: لما كان رضيت ضد سخطت عدى رضيت بعلى حملاً للشيء على نقيضه كما يحمل على نظيره. وقد سلك سيبويه هذه الطريق في المصادر كثيراً فقال: قالوا كذا كما قالوا كذا وأحدهما ضد الآخر. ونحو منه قول الآخر: إذا ما امرؤ ولى علي بوده وأدبر لم يصدر بإدباره ودي أي عني. ووجهه أنه إذا ولي عنه يوده فقد استهلكه عليه كقولك. أهلكت على مالي وأفسدت علي ضيعتي. وجاز أن يستعمل على ههنا لأنه أمر عليه لا له. وقد تقدم نحو هذا. وأما قول الآخر: شدوا المطي على دليل دائب من أهل كاظمةٍ بسيف الأبحر فقالوا معناه: بدليل. وهو عندي أنا على حذف المضاف أي شدوا المطي على دلالة دليل فحذف المضاف. وقوي حذفه هنا شيئاً لأن لفظ الدليل يدل على الدلالة. وهو كقولك: سر على اسم الله. و " على " هذه عندي حال من الضمير في سر وشدوا وليست موصلة لهذين الفعلين لكنها متعلقة بمحذوف حتى كأنه قال: سر معتمداً على اسم الله ففي الظرف إذاً ضمير لتعلقه بالمحذوف. وقال: أي على سرحة وجاز ذلك من حيث كان معلوماً أن ثيابه لا تكون في داخل سرحة لأن السرحة لا تنشق فتستودع الثياب ولا غيرها وهي بحالها سرحة. فهذا من طريق المعنى بمنزلة كون الفعلين أحدهما في معنى صاحبه على ما مضى. وليس كذلك قول الناس: فلان في الجبل لأنه قد يمكن أن يكون في غار من أغواره أو لصب من لصابه فلا يلزم أن يكون عليه أي عالياً فيه. وقال: وخضخضن فينا البحر حتى قطعنه على كل حال من غمارٍ ومن وحل قالوا أراد: بنا. وقد يكون عندي على حذف المضاف أي في سيرنا ومعناه: في سيرهن بنا. ومثل قوله كأن ثيابه في سرحة: قول امرأة من العرب: هم صلبوا العبدي في جذع نخلة فلا عطست شيبان إلا بأجدعا لأنه معلوم أنه لا يصلب في داخل جذع النخلة وقلبها. وأما قوله: وهل يعمن من كان أحدث عهده ثلاثين شهراً في ثلاثة أحوال فقالوا: أراد: مع ثلاثة أحوال. وطريقه عندي أنه على حذف المضاف يريد: ثلاثين شهراً في عقب ثلاثة أحوال قبلها. وتفسيره: بعد ثلاثة أحوال. فالحرف إذاً على بابه وإنما هنا حذف المضاف الذي قد شاع عند الخاص والعام. فأما قوله: يعثرن في حد الظبات كأنما كسيت برود بني تزيد الأذرع فإنه أراد: يعثر بالأرض في حد الظبات أي وهن في حد الظبات كقولك: خرج بثيابه أي وثيابه عليه وصلى في خفيه أي وخفاه عليه. وقال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} فالظرف إذاً متعلق بمحذوف لأنه حال من الضمير أي يعثرن كائنات في حد الظبات. وأما قول بعض الأعراب: نلوذ في أم لنا ما تغتصب من الغمام ترتدي وتنتقب فإنه يريد بأم: سلمى أحد جبلى طيئ. وسماها أما لاعتصامهم بها وأويهم إليها. واستعمل في موضع الباء أي نلوذ بها لأنهم إذا لاذوا بها فهم فيها لا محالة إذ لا يلوذون ويعصمون بها إلا وهم فيها لأنهم إن كانوا بعداء عنها فليسوا لائذين بها فكأنه قال: نسمك فيها ونتوقل فيها. فلأجل ذلك ما استعمل في مكان الباء. فقس على هذا فإنك لن تعدم إصابة بإذن الله
باب في مضارعة الحروف للحركات والحركات للحروف
وسبب ذلك أن الحركة حرف صغير ألا ترى أن من متقدمي القوم من كان يسمى الضمة الواو الصغيرة والكسرة الياء الصغيرة والفتحة الألف الصغيرة. ويؤكد ذلك عندك أنك متى أشبعت ومطلت الحركة أنشأت بعدها حرفاً من جنسها. وذلك قولك في إشباع حركات ضرب ونحوه: ضوريبا. ولهذا إذا احتاج الشاعر إلى إقامة الوزن مطل الحركة وأنشأ عنها حرفاً من جنسها. وذلك قوله: نفي الدراهيم تنقاد الصياريف وقوله أنشدناه لابن هرمة: وأنت من الغوائل حين ترمي ومن الرجال بمنتزاح يريد: يمنتزح وهو مفتعل من النزح وقوله: وأنني حيث ما يسري الهوى بصري من حيث ما سلكوا أدنو فأنظور فإذا ثبت أن هذه الحركات أبعاض للحروف ومن جنسها وكانت متى أشبعت ومطلت تمت ووفت جرت مجرى الحروف كما أن الحروف أنفسها قد تجد بعضها أتم صوتاً من بعض وإن ففما أجرى من الحروف مجرى الحركات الألف والياء والواو إذا أعرب بهن في تلك الأسماء الستة: أخوك وأبوك ونحوهما وفي التثنية والجمع على حد التثنية نحو الزيدان والزيدون والزيدين. ومنها النون إذا كانت علماً للرفع في الأفعال الخمسة وهي تفعلان ويفعلان وتفعلون ويفعلون وتفعلين. وقد حذفت أيضاً للجزم في لم يغزوا ولم يدع ولم يرم ولم يخش. وحذفت أيضاً استخفافاً كما تحذف الحركة لذلك. وذلك قوله: فألقحت أخراهم طريق ألاهم كما قيل نجم قد خوى متتابع يريد أولاهم ومضى ذكره. وقال رؤبة: وصاني العجاج فيما وصني يريد: فيما وصاني وقال اله عز اسمه: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} وقد تقدم نحو هذا. فنظير حذف هذه الحروف للتخفيف حذف الحركات أيضاً في نحو قوله: وقد بدا هنك من المئزر إذا اعوججن قلت صاحب قوم وقوله: ومن يتق فإن الله معه وقوله: أو يرتبط بعض النفوس حمامها وقوله: سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ونهر تيري ولا تعرفكم العرب أي ولا تعرفكم فأسكن مضطراً. ومن مضارعة الحرف للحركة أن الأحرف الثلاثة: الألف والياء والواو إذا أشبعن ومطلن أدين إلى حرف آخر غيرهن إلا أنه شبيه بهن وهو الهمزة ألا تراك إذا مطلت الألف أدتك إلى الهمزة فقلت آء وكذلك الياء في قولك: إيء وكذلك الواو في قولك: أوء. فهذا كالحركة إذا مطلتها أدتك إلى صورة أخرى غير صورتها. وهي الألف والياء الواو في: منتزاح والصياريف أنظور. وهذا غريب في موضعه. ومن ذلك أن تاء التأنيث في الواحد لا يكون ما قبلها إلا مفتوحاً نحو حمزة وطلحة وقائمة ولا يكون ساكناً. فإن كانت الألف وحدها من بين سائر الحروف جازت. وذلك نحو قطاة وحصاة وأرطاة وحبنطاة. أفلا ترى إلى مساواتهم بين الفتحة والألف حتى كأنها هي هي. وهذ يدل على أن أضعف الأحرف الثلاثة الألف دون أختيها لأنها قد خصت هنا بمساواة الحركة دونها. ومن ذلك قوله: ينشب في المسعل واللهاء أنشب من مآشر حداء قالوا: أراد: حدادا فلم يعدد الألف حاجزاً بين المثلين. كما لم يعدد الحركة في ذلك في نحو أمليت الكتاب في أمللت. ومن ذلك أنهم قد بينوا الحرف بالهاء كما بينوا الحركة بها وذلك نحو قولهم: وازيداه وواغلا مهماه وواغلامهوه وواغلامهموه وواغلامهيه ووانقطاع ظهرهيه. فهذا نحو من قولهم: أعطيتكه ومررت بكَهْ واغزُهْ ولا تدعُهْ. والهاء في كله لبيان الحركة لا ضمير. ومن ذلك اقعد الثلاثة في المد لا يسوغ تحريكه وهو الألف فجرت لذلك مجرى الحركة ألا ترى أن الحركة لا يمكن تحريكها. فهذا وجه أيضاً من المضارعة فيها. وأما شبه الحركة بالحرف ففي نحو تسميتك امرأة بهند وجُمْل. فلك فيهما مذهبان: الصرف وتركه. فإن تحرك الأوسط ثقل الاسم فقلت في اسم امرأة سميتها بقدم بترك الصرف معرفة البتة أفلا ترى كيف جرت الحركة مجرى الحرف في منع الصرف. وذلك كامرأة سميتها بسعاد وزينب. فجرت الحركة في قدم وكبد ونحوه مجرى ألف سعاد وياء زينب. ومن ذلك أنك إذا أضفت إلى الرباعي المقصور أجزت إقرار الألف وقلبها واوا نحو الإضافة إلى حُبْلَى: إن شئت قلت: حُبْلَى وهو الوجه. و إن شئت: حبلوىّ. فإذا صرت إلى الخمسة حذفت الألف البتة أصلاً كانت أو زائدة. وذلك نحو قولك في حُبَارَى: حُبَارِيّ وفي مصطفى: مصطفي. وكذلك إن تحرك الثاني من الرباعي حذفت ألفه البتة. وذلك قولك في جمزى: حمزىّ وفي بشكى بشكيّ ألا ترى إلى الحركة كيف أوجبت الحذف كما أوجبه الحرف الزائد على الأربعة فصارت حركة عين جَمَزَى في إيجابها الحذف بمنزلة ألف حُبَارَى وياء خَيْزَلى. ومن مشابهة الحركة للحرف أنك تفصل بها ولا تصل إلى الإدغام معها كما تفصل بالحرف ولا تصل إلى الإدغام معه. وذلك قولك: وتد ويطد. فحجزت الحركة بين المتقاربين كما يحجز الحرف بينهما نحو شميل وحبربر. ومنها أنهم قد أجروا الحرف المتحرك مجرى الحرف المشدد. وذلك أنه إذا وقع روياً في الشعر وقاتم الأعماق خاوي المخترق فأسكن القاف وهي مجرورة. والمشدد نحو قوله: أصحوت اليوم أم شاقتك هر فحذف إحدى الراءين كما حذف الحركة من قاف المخترق. وهذا إن شئت قلبته فقلت: إن الحرف أجري فيه مجرى الحركة وجعلت الموضع في الحذف للحركة ثم لحق بها فيه الحرف. وهو عندي أقيس. ومنها استكراههم اختلاف التوجيه: أن يجمع مع الفتحة غيرها من أختيها نحو جمعه بين المخترق وبين العقق والحمق. فكراهيتهم هذا نحو من امتناعهم من الجمع بين الألف مع الياء والواو ردفين. ومن ذلك عندي أن حرفي العلة: الياء والواو قد صحا في بعض المواضع للحركة بعدهما كما يصحان لوقوع حرف اللين ساكناً بعدهما. وذلك نحو القود والحوكة والخونة والغيب والصيد وحول وروع وإن بيوتنا عورة فيمن قرأ كذلك. فجرت الياء والواو هنا في الصحة لوقوع الحركة بعدهما مجراهما فيها لوقوع حرف الليلن ساكنا بعدهما نحو القواد والحواكة والخوانة والغياب والصياد وحويل ورويع وإن بيوتنا عويرة. وكذلك ما صح من نحو قولهم: ثيؤ الرجل من الهيئة هو جار مجرى صحة هيوء لو قيل. فاعرف ذلك مذهباً في صحة ما صح من هذا النحو لطيفاً غريباً. باب محل الحركات من الحروف أمعها أم قبلها أم بعدها أما مذهب سيبويه فإن الحركة تحدث بعد الحرف. وقال غيره: معه. وذهب غيرهما إلى أنها تحدث قبله. قال أبو علي: وسبب هذا الخلاف لطف الأمر وغموض الحال. فإذا كان هذا أمر يعرض للمحسوس الذي إليه تتحاكم النفوس فحسبك به لطفاً وبالتوقف فيه لبساً. فمما يشهد لسيبويه بأن الحركة حادثة بعد الحرف وجودنا إياها فاصلة بين المثلين مانعة من إدغام الأول في الآخر نحو الملل والضعف والمشش كما تفصل الألف بعدها بينهما نحو الملال والضفاف والمشاش. وهذا مفهوم. وكذلك شددت ومددت فلن تخلو حركة الأول من أن تكنون قبله أو معه أو بعده. قلو كانت في الرتبة قبله لما حجزت عن الإدغم ألا ترى أن الحرف المحرك بها كان يكون على ذلك بعدها حاجزاً بينها وبين ما بعده من الحرف الآخر. ونحو من ذلك قولهم: ميزان وميعاد فقلب الواو ياء يدل على أن الكسرة لم تحدث قبل الميم لأنها لو كانت حادثة قبلها لم تل الواو فكان يحب أن يقال: موزان وموعاد. وذلك أنك إنما تقلب الواو ياء للكسرة التي تجاورها من قبلها فإذا كان بينها وبينها حرف حاجز لم تلها وإذا لم تلها لم يجب أن نقلبها للحرف الحاجز بينهما. وأيضاً فلو كانت قبل حرفها لبطل الإدغام في الكلام لأن حركة الثاني كانت تكون قبله حاجزة بين المثلين. وهذا واضح. فإذا بطل أن تكون الحركة حادثة قبل الحرف المتحرك بها من حيث أرينا وعلى ما أوضحنا وشرحنا بقي سوى مذهب سيبويه أن يظن بها أنها تحدث مع الحرف نفسه لا قبله ولا بعده. وإذا فسد هذا لم يبق إلا ما ذهب إليه سيبويه. والذي يفسد كونها حادثة مع الحرف البتة هو أنا لو أمرنا مذكرا من الطي ثم أتبعناه أمراً آخر له من الوجل من غير حرف عطف لا بل بمجيء الثاني تابعاً للأول البتة لقلنا: اطو أيجل. والأصل فيه: اطو اوجل فقلبت الواو التي هي فاء الفعل من الوجل ياء لسكونها وانكسار ما قبلها. فلولا أن كسرة واو اطو في الرتبة بعدها لما قلبت ياء واو اوجل. وذلك أن الكسرة إنما تقلب الواو لخالفتها إياها في جنس الصوت فتجتذبها إلى ما هي بعضه ومن جنسه وهو الياء وكما أن هناك كسرة في الواو فهناك أيضاً الواو وهي وفق الواو الثانية لفظاً وحساً وليست الكسرة على قول المخالف أدنى إلى الواو الثانية من الواو الأولى لأنه يروم أن يثبتهما جميعاً في زمان واحد ومعلوم أن الحرف أوفى صوتاً وأقوى جرساً من الحركة فإذا لم يقل لك: إنها أقوى من الكسرة التي فيها فلا أقل من أن تكون في القوة والصوت مثلها. فإذا كان كذلك لزم ألا تنقلب الواو الثانية للكسرة قبلها لأن بإزاء الكسرة المخالفة للواو الثانية الواو الأولى الموافقة للفظ الثانية. فإذا تأدى الأمر في المعادلة إلى هنا ترافعت الواو والكسرة أحكامهما فكأن لا كسرة قبلها ولا واو. وإذا كان كذلك لم تجد أمراً تقلب له الواو الثانية ياء فكان يجب على هذا أن تخرج الواو الثانية من اطو أوجل ياء حتى صارت اطو أيجل على أن الكسرة أدنى إليها من الواو قبلها. وإذا كانت أدنى إليها كانت بعد الواو المحركة بها لا محالة. فهذا إسقاط قول من ذهب إلى أنها تحدث مع الحرف وقول من ذهب إلى أنها تحدث قبله ألا تراها لو كانت الكسرة في باب اطو قبل الواو لكانت الواو الأولى حاجزة بينها وبين الثانية كما كانت ميم ميزان تكون أيضاً حاجزة بينهما على ما قدمنا فإذا بطل هذان ثبت قول صاحب الكتاب وسقطت عنه فضول المقال. قال أبو علي: يقوي قول من قال: إن الحركة تحدث مع الحرف أن النون الساكنة مخرجها مع حروف الفم من الأنف والمتحركة مخرجها من الفم فلو كانت حركة الحرف تحدث من بعده لوجب أن تكون النون المتحركة أيضاً من الأنف. وذلك أن الحركة إنما تحدث بعدها فكان كذا قال رحمه الله ورأيته معيناً بهذا الدليل. وهو عندي ساقط عن سيبويه وغير لازم له. وذلك أنه لا ينكر أن يؤثر الشيء فيما قبله من قبل وجوده لأنه قد علم أن سيرد فيما بعد. وذلك كثير. فمنه أن النون الساكنة إذا وقعت بعدها الباء قلبت النون ميماً في اللفظ. وذلك نحو عمبر وشمباء في غنبر وشنباء فكما لا يشك في أن الباء في ذلك بعد النون وقد قلبت النون قبلها فكذلك لا ينكر أن تكون حركة النون الحادثة بعدها تزيلها عن الأنف إلى الفم. بل إذا كانت الباء أبعد من النون قبلها من حركة النون فيها وقد أثرت على بعدها ما أثرته كانت حركة النون التي هي أقرب إليها وأشد التباساً بها أولى بان تجذبها وتنقلها من الأنف إلى الفم. وهذا كما تراه واضح. ومما غير متقدماً لتوقع ما يرد من بعده متأخراً ضمهم همزة الوصل لتوقعهم الضمة بعدها نحو: اقُتل ادُخل اسُتضعف اخُرج اسُتخرج. ومما يقوي عندي قول من قال: إن الحركة تحدث قبل الحرف إجماع النحويين على قولهم إن الواو في يعدو يزن ونحو ذلك إنما حذفت لوقوعها بين ياء وكسرة. يعنون: في يوعد ويوزن ونحوه لو خرج على أصله. فقولهم: بين ياء وكسرة يدل على أن الحركة عندهم قبل حرفها المحرك بها ألا ترى أنه لو كانت الحركة بعد الحرف كانت الواو في يوعد بين فتحة وعين وفي يوزن بين فتحة وزاي. فقولهم: بين ياء وكسرة يدل على أن الواو في نحو يوعد عندهم بين الياء التي هي أدنى إليها من فتحتها وكسرة العين التي هي أدنى إليها من العين بعدها. فتأمل ذلك. وهذا وإن كان من الوضوح على ما تراه فإنه لا يلزم من موضعين: أحدهما أنه لا يجب أن تكون فيه دلالة على اعتقاد القوم فيما نسبه هذا السائل إلى أنهم مريدوه ومعتقدوه ألا ترى أن من يقول: إن الحركة تحدث بعد الحرف ومن يقول: إنها تحدث مع الحرف قد أطلقوا جميعاً هذا القول الذي هو قولهم: إن الواو حذفت من يعد ونحوه لوقوعها بين ياء وكسرة فلو كانوا يريدون ما غزوته إليهم وحملته عليهم لكانوا مناقضين وموافقين لمخالفهم وهم لا يعلمون. وهذا أمر مثله لا ينسب إليهم ولا يظن بهم. فإذا كان كذلك علمت أن غرض القوم فيه ليس ما قدرته ولا ما تصورته وإنما هو أن قبلها ياء وبعدها كسرة وهما مستثقلتان. فأما أن تماساً الواو وتباشراها على ما فرضته وادعيته فلا. وهذا كثير في الكلام والاستعمال ألا ترى أنك تقول: خرجنا فسرنا فلما حصلنا بين بغداد والبصرة كان كذا. فهذا كما تراه قول صحيح معتاد إلا أنه قد يقوله من حصل بدير العاقول فهو لعمري بين بغداد والبصرة وإن كان أيضاً بين جرجرايا والمدائن وهما أقرب إليه من بغداد والبصرة. وكذلك الواو في يوعد هي لعمري بين ياء وكسرة وإن كان أقرب إليها منهما فتحة الياء والعين. وكذلك يقال أيضاً: هو من عمره ما بين الخمسين إلى الستين فيقال ذلك فيمن له خمس وخمسون سنة فهي لعمري بين الخمسين والستين إلا أن الأدنى إليها الأربع والخمسون والست والخمسون. وهذا جلى غير مشكل. فهذا أحد الموضعين. وأما الآخر فإن أكثر ما في هذا أن يكون حقيقة عند القوم وأن يكونوا مريديه ومعتقديه. ولو أرادوه واعتقدوه وذهبوا إليه لما كان دليلاً على موضع الخلاف. وذلك أن هذا موضع إنما يتحاكم فيه إلى النفس والحس ولا يرجع فيه إلى إجماع ولا إلى سابق سنة ولا قديم ملة ألا ترى أن إجماع النحويين في هذا ونحوه لا يكون حجة لأن كل واحد منهم إنما يردك ويرجع بك فيه إلى التأمل والطبع لا إلى التبعية والشرع. هذا لو كان لا بد من أن يكونوا قد أرادوا ما عزاه السائل إليهم واعتقده لهم. فهذا كله يشهد بصحة مذهب سيبويه في أن الحركة حادثة بعد حرفها المحرك بها. وقد كنا قلنا فيه قديماً قولاً آخر مستقيماً. وهو أن الحركة قد ثبت أنها بعض حرف. فالفتحة بعض الألف والكسرة بعض الياء والضمة بعض الواو. فكما أن الحرف لا يجامع حرفاً آخر فينشآن معاً في وقت واحد فكذلك بعض الحرف لا يجوز أن ينشأ مع حرف آخر في وقت واحد لأن حكم البعض في هذا جار مجرى حكم الكل. ولا يجوز أن يتصور أن حرفاً من الحروف حدث بعضه مضاما لحرف وبقيته من بعده في غير ذلك الحرف لا في زمان واحد ولا في زمانين. فهذا يفسد قول من قال: إن الحركة تحدث مع حرفها المتحرك بها أو قبله أيضاً ألا ترى أن الحرف الناشئ عن الحركة لو ظهر لم يظهر إلا بعد الحرف المحرك بتلك الحركة وإلا فلو كانت قبله لكانت الألف في نحو ضارب ليست تابعة للفتحة لاعتراض الضاد بينهما والحس يمنعك ويحظر عليك أن تنسب إليه قبوله اعتراض معترض بين الفتحة والألف التابعة لها في نحو ضارب وقائم ونحو ذلك. وكذلك القول في الكسرة والياء والضمة والواو إذا تبعتاهما. وهذا تناه في البيان. والبروز إلى حكم العيان. فاعرفه. وفي بعض ما أوردناه من هذا كاف بمشيئة الله.
باب الساكن والمتحرك
أما إمام ذلك فإن أول الكلمة لا يكون إلا متحركاً وينبغي لآخرها أن يكون ساكناً. فأما الإشمام فإنه للعين دون الأذن. لكن روم الحركة يكاد الحرف يكون به متحركاً ألا تراك تفصل به بين المذكر والمؤنث في قولك في الوقف: أنتَ وأنتِ. فلولا أن هناك صوتاً لما وجدت فصلاً. فإن قلت: فقد نجد من الحروف ما يتبعه في الوقف صوت وهو مع ذلك ساكن. وهو الفاء والثاء والسين والصاد ونحو ذلك تقول في الوقف: اِفْ: اِثْ اِسْ اِضْ. قيل: هذا القدر من الصوت إنما هو متمم للحرف وموف له في الوقف. فإذا وصلت ذهب أو كاد. وإنما لحقه في الوقف لأن الوقف يضعف الحرف ألا تراك تحتاج إلى بيانه فيه بالهاء نحو واغلاماه ووازيداه وواغلامهوه وواغلامهيهْ. وذلك أنك لما أردت تمكين الصوت وتوفيته ليمتد ويقوى في السمع وكان الوقف يضعف الحرف ألحقت الهاء ليقع الحرف قبلها حشوا فيبين ولا يخفى. ومع ذلك فإن هذا الصوت اللاحق للفاء والسين ونحوهما إنما هو بمنزلة الإطباق في الطاء والتكرير في الراء والتفشي في الشين وقوة الاعتماد الذي في اللام. فكما أن سواكن هذه الأحرف إنما تكال في ميزان العروض الذي هو عيار الحس وحاكم القسمة والوضع بما تكال به الحروف السواكن غيرها فكذلك هي أيضاً سواكن. بل إذا كانت الراء لما فيها من التكرير تجري مجرى الحرفين في الإمالة ثم مع ذلك لا تعد في وزن الشعر إلا حرفاً واحداً كانت هذه الأحرف التي إنما فيها تمام وتوفية لهذا أحجى بأن تعد حرفاً لا غير. ولأبي علي رحمه الله مسألتان: طويلة قديمة وقصيرة حديثة كلتاهما في الكلام على الحرف المبتدأ أيمكن أن يكون ساكناً أم لا. فقد غنينا بهما أن نتكلف نحن شيئاً من هذا الشرح في معناهما. ثم من بعد ذلك أن المتحرك على ضربين: حرف متحرك بحركة لازمة وحرف متحرك بحركة غير لازمة. أما المتحرك بحركة لازمة فعلى ضربين أيضاً: مبتدأن وغير مبتدأ. فالمبتدأ ما دام مبتدأ فهو متحرك لا محالة نحو ضاد ضرب وميم مهدد. فإن اتصل أول الكلمة بشيء غيره فعلى قسمين: أحدهما أن يكون الأول معه كالجزء منه والآخر أن يكون على أحكام المنفصل عنه. الأول من هذين القسمين أيضاً على ضربين: أحدهما أن يقر الأول على ما كان عليه من تحريكه. والآخر أن يخلط في اللفظ به فيسكن على حد التخفيف في أمثاله من المتصل. فالحرف الذي ينزل مع ما بعده كالجزء منه فاء العطف وواوه ولام الابتداء وهمزة الاستفهام. الأول من هذين كقولك: وَهُو الله وقول: فهُوَ ما ترى ولَهُو أفضل من عمرو وأهِى عندك. فهذا الباقي على تحريكه كأن لا شيء قبله. والقسم الثاني منهما قولك: وهْو الله وقولك: فهْوَ يوم القيامة من المحضَرين ولهْو أفضل من وقمت للطيف مرتاعاً وأرقني فقلت أًهْي سَرَتْ أم عادني حُلُم ووجه هذا أن هذه الأحرف لما كن على حرف واحد وضعفن عن انفصالها وكان ما بعدها على حرفين الأول منهما مضموم أو مكسور أشبهت في اللفظ ما كان على فَعُل أو فَعِل فخفف أوائل هذه كما يخفف ثواني هذه فصارت وَهُو كعَضُد وصار وَهْو كعَضْد كما صارت أهِي كَعِلم وصار أَهْي بمنزلة عَلْم. وأما قراءة أهل الكوفة ثم ليقطع فقبيح عندنا لأن ثُمَّ منفصلة يمكن الوقوف عليها فلا تخلط بما بعدها فتصير معه كالجزء الواحد. لكن قوله: فلينظر حسن جميل لأن الفاء حرف واحد فيلطف عن انفصاله وقيامه برأسه. وتقول على هذا: مررت برجل بطنه كَحْضَجْر تريد: كحِضَجْر ثم تسكن الحاء الأولى لأن كَحِضَ بوزن عَلِم فيجري هذا الصدر مجرى كلمة ثلاثية. وأما أو الكلمة إذا لم يخلط بما قبله فمتحرك لا محالة على ما كان عليه قبل اتصاله به. وذلك قولك: أحمد ضرب وأخوك دخل وغلامك خرج. فهذا حكم الحرف المبتدأ. وأما المتحرك غير المبتدأ فعلى ضربين: حشو وطرف. فالحشو كراء ضرب وتاء قتل وجيم رجل وميم جمل ولام علم. وأما الطرف فنحو ميم إبراهيم ودال أحمد وباء يضرب وقاف يغرق. فإن قلت: قد قدمت أن هذا مما تلزم حركته وأنت تقول في الوقف: إبراهيم وأحمد ويضرب ويغرق فلا تلزم الحركة قيل: اعتراض الوقف لا يحفل به ولا يقع العمل عليه وإنما المعتبر بحال الوصل ألا تراك تقول في بعض الوقف: هذا بكر ومررت ببكر فتنقل حركة الإعراب إلى حشو الكلمة ولولا أن هذا عارض جاء به الوقف لكنت ممن يدعى أن حركة الإعراب تقع قبل الآخر وهذا خطأ بإجماع. ولذلك أيضاً كانت الهاء في قائمه بدلاً عندنا من التاء في قائمة لما كانت إنما تكون هاء في الوفق دون الوصل. فإن قلت: ولم جرت الأشياء في الوصل على حقائقها دون الوقف قيل: لأن حال الوصل أعلى رتبة من حال الوقف. وذلك أن الكلام إنما وضع للفائدة والفائدة لا تجني من الكلمة الواحدة وإنما تجني من الجمل ومدارج القول فلذلك كان حال الوصل عندهم أشرف وأقوم وأعدل من حال الوقف. ويدلك على أن حركة الآخر قد تعتد لازمة وإن كانت في الوقف مستهلكة أنك تقلب حرف اللين لها وللحركة قبله فتقول: عصا وقفا وفتى ودعا وغزا ورمى كما تقلبه وسطاً لحركته وحركة ما قبله نحو دار ونار وعاب وقال وقام وباع. فإن قلت: فإن الجزم قد يدرك الفعل فيسكن في الوصل نحو لم يضرب أمس واضرب غدا وما كان كذلك. قيل: إن الجزم لما كان ثانياً للرفع وإعراباً كالنصب في ذينك جرى الانتقال إليه عن الرفع مجرى الانتقال عن الرفع إلى النصب وحمل الجزم في ذلك على النصب كما حمل النصب على الجزم في الحرف نحو لن يقوما وأريد أن تذهبوا وتنطلقى. قال أبو علي: وقد كان ينبغي أن تثبت النون مع النصب لثبات الحركة في الواحد. فهذا فرق وعذر. فهذه أحكام الحركة اللازمة. وأما غير اللازمة فعلى أضرب. منها حركة التقاء الساكنين نحو قم الليل واشدد الحبل. ومنها حركة الإعراب المنقولة إلى الساكن قبلها نحو هذا بَكُرْ وهذا عَمُرْو ومررت ببِكَرْ ونظرت إلى عَمِرْو. وذلك أن هذا أحد أحداث الوقف فلم يكن به حفل. ومنها الحركة المنقولة لتخفيف الهمزة نحو قولك في مسئلة: مَسَلة وقولك في يلؤم: يَلُم وفي يزئر: يَزِر وقوله ولم يكن له كفاَ أحد فيمن سكن وخفف. وعلى ذلك قول الله تعالى {لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} أصله: لكن أنا ثم خفف فصار لكنَ نَا ثم أجرى غير اللازم مجرى اللازم فأسكن الأول وأدغم في الثاني فصار لكنا. وذي ولد لم يلده أبوان لأنه أراد: لم يلده فأسكن اللام استثقالاً للكسرة وكانت الدال ساكنة فحركها لالتقاء الساكنين. وعليه قولك الآخر: ولكنني لم أجْدَ من ذلك بدا أي لم أجِدْ فأسكن الجيم وحرك الدال على ما مضى. ومن ذلك حركات الإتباع نحو قوله: ضرباً أليما بِسبْت يَلْعَجُ الجلدا وقوله: مشتبه الأعلام لمَّاع الخَفَقْ وقوله: . . . . . . . . . لم يُنْظَرْ به الحشكُ وقوله: ماء بشرقي سلمى فَيْدُ أو رَكَكُ وقوله: وقوله: وحامل المينَ بعد المِينَ والألَفِ وأما قول الآخر: علمنا أخوالنا بنو عِجِلْ الشغزبي اعتقالا بالرجِلْ فيكون إتباعاً ويكون نقلاً. وقول طرفة: . . . . . . . . . ورادا وشقر ينبغي أن يكون إتباعاً يدلك على ذلك أنه تكسير أشقر وشقراء وهذا قد يجيء فيه المعتل اللام نحو قُنْو وعُشْو وظُمْى وعُمْى ولو كان أصله فُعُلا لما جاء في المعتل ألا ترى أن ما كان من تكسير فَعِيل وفَعُول وفَعالِ وفِعالٍ مما لامه معتلة لا يأتي على فُعُل. فلذلك لم يقولوا في كِساءِ: كُسْوٌ ولا في رِداء: رُدْيٌ ولا في صبيّ: صُبْوٌ ولا نحو ذلك لأن أصله فُعُل. وهي اللغة الحجازية القوية. وقد جاء شيء من ذلك شاذاً. وهو ما حكاه من قولهم: ثنى وثُنٍ. وأنشد الفراء: فلو ترى فيهن سر العتق بين كماتي وحوبلق فهذا جمع فلو وكلا ذينك شاذ: أسلمتموها فباتت غير طاهرة مني الرجال على الفخذين كالموم فكسر منِيّا على مُنْى ولا يقاس عليه. وإنما ذكرناه لئلا يجيء به جاءٍ فترى أنه كسر للباب. ومن حركات الإتباع قولهم: أنا أجوءك وانبؤك وهو مُنْحُدُر من الجبل ومِنْتن ومِغِيرة ونحو من ذلك باب شِعير ورِغيف وبِعير والزِئير والجنة لمن خاف وعيد اللهز وشبهت القاف بالخاء لقربها منها فيما حكاه أبو الحسن من قولهم: النِقِيذ كا شبهت الخاء والغين بحروف الفم حتى أخفيت النون معهما في بعض اللغات كما تخفى مع حروف الفم. وهذا في فَعيل مما عينه حلقية مطرد. وكذلك فَعِل نحو نَغِر ومِحك جئز وضحك و {إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ}. وقريب من ذلك الحمدِ للهِ والحمد للهِ وقِتِّلوا وفِتِّحوا وقوله: تدافُعَ الشِيبِ ولم تِقِتّل وقوله: لا حِطِّبَ القومَ ولا القوم سقى ومن غير اللازم ما أحدثته همزة التذكر نحو ألى وقدى. فإذا صلت سقطت نحو الخليل وقد قام. ومن قرأ اشتروا الضلالة قال في التذكير: اشترووا ومن قرأ: اشتروا الضلالة قال في التذكر: اشتروى ومن قال اشتروا الضلالة قال في التذكر: اشتروا. وأما الساكن فعلى ضربين: ساكن يمكن تحريكه وساكن لا يمكن تحريكه. الأول منهما جميع الحروف إلا الألف الساكنة المدة. والثاني هو هذه الألف نحو ألف كتاب وحساب وباع وقام. والحرف الساكن الممكن تحريكه على ضربين: أحدهما ما يبنى على السكون. والآخر ما كان متحركاً ثم أسكن. الأول منها يجيء أولاً وحشوا وطرفاً. فالأول ما لحقته في الابتداء همزة الوصل. وتكون في الفعل نحو انطلق واستخرج واغدودن وفي الأسماء العشرة: ابن وابنة وامرئ وامرأة واثنين واثنتين واسم واست وابنم وايمن. وفي المصادر نحو انطلاق واستخراج واغديدان وما كان مثله. وفي الحروف في لام التعريف نحو الغلام والخليل. فهذا حال الحرف الساكن إذا كان أولا. وأما كونه حشوا فككاف بكر وعين جعفر ودال يدلف. وكونه أخرا في نحو دال قد ولام هل. فهذه الحروف الممكن تحريكها إلا أنها مبنية على السكون. وأما ما كان متحركاً ثم أسكن فعلى ضربين: متصل ومنفصل. فالمتصل: ما كان ثلاثياً مضموم الثاني أو مكسوره فلك فيه الإسكان تخفيفاً. وذلك كقولك في عَلم: قد عَلْمَ وفي ظُرف: قد ظَرْف وفي رَجُل رَجْل وفي كِبد: كبْد. وسمعت الشجري وذكر طعنة في كتف فقال: رَجْلان من ضَبَّة أخبرانا إنا رأينا رجلا عُريانا وقد جاء هذا فيما كان على أكثر من ثلاثة أحرف قال العجاج: فبات منتصباً وما تكردسا وحكى صاحب الكتاب: أراك منتفخاً وقالوا في قول العجاج: بسَبْحل الدفين عيسجور أراد: سِبَحْل فأسكن الباء وحرك الحاء وغير حركة السين. وقال أبو عثمان في قول الشاعر: هل عرفت الدار أم أنكرتها بين تبراك فشسى عَبَقُرْ أراد: عبْقَر فغير كما ترى إلا أنه حرك الساكن وقال غيره: أراد: عَبَيقُر فحذف الياء كما حذفت من عَرَنْقُضان حتى صارت عَرَقُصانا. وكذلك قوله: لم يلده أبوان قد جاء فيه التحريك والتسكين جميعاً. وكذلك قوله: ولكنني لم أجد من ذلكم بدا وقد مضيا آنفا. وأما المنفصل فإنه شبه بالمتصل وذلك قراءة بعضهم {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} { فلا تناجوا } فهذا مشبه بدابة وخدل. وعليه قراءة بعضهم {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ} وذلك أن قوله " تَقِ وَ " ومن يَتَّقْ فإن الله معه ورزق الله مؤتاب وغاد لأن " يَتقِ ف " بوزن عَلِم. وأنشد أبو زيد: قالت سليمى اشتر لنا سويقا لأن " تَراَ " كعلم. ومنها: فاحذَرْ ولا تكتَرْ كرِيّا أعوجا وأما { إن الله يأمُرْكم } و { فتوبوا إلى بارئْكم } فرواها القراء عن أبي عمرو بالإسكان ورواها سيبويه بالاختلاس وإن لم يكن كان أزكى فقد كان أذكى ولا كان بحمد الله مُزَنّا برِيبة ولا مغموزاً في رواية. لكن قوله: فاليوم أشربْ غير مستحْقِب وقوله: وقد بدا هَنْكِ من المئزر وقوله: سيروا بني العم فالأهوازُ منزلُكم ونهر تيرى ولا تعرفكم العربُ فمسكن كله. والوزن شاهد ومصدقه. وأما دفع أبي العباس ذلك فمدفوع وغير ذي مرجوع إليه. وقد قال أبو علي في ذلك في عدة أماكن من كلامه وقلنا نحن معه ما أيده وشد منه. وكذلك قراءة من قرأ { بلى ورُسْلنا لديهم يكتبون } وعلى ذلك قال الراعي: تأبى قضاعة أن تعرف لكم نسبا وابنا نزار فأنتم بَيْضة البلد فإنه أسكن المفتوح وقد روى لا تعرف لكم فإذا كان كذلك فهو أسهل لاستثقال الضمة. وأما قوله: تراك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها فقد قيل فيه: إنه يريد: أو يربط على معنى لألزمنه أو يعطيني حقي وقد يكمن عندي أن يكون يرتبط معطوفاً على أرضها أي ما دمت حياً فإني لا أقيم والأول أقوى معنى. وأما قول أبي دواد: فأبلوني بليَّتَكم لعلي أُصالُحكم وأستدرِجْ نَوَيّا فقد يمكن أن يكون أسكن المضموم تخفيفاً واضطراراً. ويمكن أيضاً أن يكون معطوفاً على موضع لعل لأنه مجزوم جواب الأمر كقولك: زرني فلن أضيعك حقك وأعطك ألفا أي زرني أعرف حقك وأعطِك ألفا. وقد كثر إسكان الياء في موضع النصب كقوله: وهو كثير جداً وشبهتت الواو في ذلك بالياء كما شبهت الياء بالألف قال الأخطل: إذا شئت أن تلهو ببعض حديثها نزلن وأنزلن القطين المولدا وقال الآخر: فمما سودتني عامر عن وراثة أبى الله أن أسمو بأم ولا أب وقول الآخر: وأن يعرين إن كسى الجواري فتنبو العين عن كرم عجاف باب في مراجعة الأصل الأقرب دون الأبعد هذا موضع قلما وقع تفصيله. وهو معنى يجب أن ينبه عليه ويحرر القول فيه. ومن ذلك قولهم في ضمة الذال من قولك: ما رأيته مذ اليوم لأنهم يقولون في ذلك: إنهم لما حركوها لالتقاء الساكنين لم يكسروها لكنهم ضموها لأن أصلها الضم في منذ. وهو هكذا لعمري لكنه الأصل الأقرب ألا ترى أن أول حال هذه الذال أن تكون ساكنة وأنها إنما ضمت لالتقاء الساكنين إتباعاً لضمه الميم. فهذا على الحقيقة هو الأصل الأول. فأما ضم ذال منذ فإنما هو في الرتبة بعد سكونها الأول المقدر. ويدلك على أن حركتها إنما هي لالتقاء الساكنين أنه لما زال التقاؤهما سكنت الذال فلي مذ. وهذا واضح. فضمتك الذال إذاً من قولهم: مذُ اليوم ومذُ الليلة إنما هو رد إلى الأصل الأقرب الذي هو مُنْذُ دون الأبعد المقدر الذي هو سكون الذال في مُنْذُ قبل أن يحرك فيما بعده. ولا يستنكر الاعتداد بما لم يخرج إلى اللفظ لأن الدليل إذا قام على شيء كان في حكم الملفوظ به وإن لم يجر على ألسنتهم استعماله ألا ترى إلى قول سيبويه في سودد: إنه إنما ظهر تضعيفه لأنه ملحق بما لم يجئ. هذا وقد علمنا أن الإلحاق إنما هو صناعة لفظية ومع هذا فلم يظهر ذاك الذي قدره ملحقاً هذا به. فلولا أن ما يقوم الدليل عليه مما لم يظهر إلى النطق به بمنزلة الملفوظ به لما ألحقوا سُرْدَدا وسُودَدا بما لم يفوهوا به ولا تجشموا استعماله. ومن ذلك قولهم بعت وقلت فهذه معاملة على الأصل الأقرب دون الأبعد ألا ترى أن أصلهما فعل بفتح العين: بَيعَ وقَوَل ثم نقلا من فَعَل إلى فِعل وفَعُل ثم قلبت الواو والياء في فعلت ألفاً فالتقى ساكنان: العين المعتلة المقلوبة ألفاً ولام الفعل فحذفت العين لالتقائهما فصار التقدير: قَلْت وبَعْت ثم نقلت الضمة والكسرة إلى الفاء لأن أصلهما قبل القلب فَعُلت وفَعِلت فصار بِعت وقُلْت. فهذا لعمري مراجعة أصل إلا أنه ذلك الأصل الأقرب لا الأبعد ألا ترى أن أول أحوال هذه العين في صيغة المثال إنما هو فتحة العين التي أبدلت منها الضمة والكسرة. وهذا ومن ذلك قولهم في مطايا وعطايا: إنهما لما أصارتهما الصنعة إلى مطاءا وعطاءا أبدلوا الهمزة على أصل ما في الواحد من اللام وهو الياء في مِطيّة وعطيّة ولعمري إن لاميها ياءان إلا أنك تعلم أن أصل هاتين الياءين واوان كأنهما في الأصل مِطيَوة وعَطيَوة لأنهما من مطوت وعطوت أفلا تراك لم تراجع أصل الياء فيهما وإنما لاحظت ما معك في مطية وعطية من الياءت دون أصلهما الذي هو الواو. أفلا ترى إلى هذه المعاملة كيف هي مع الظاهر الأقرب إليك دون الأول الأبعد عنك. ففي هذا تقوية لإعمال الثاني من الفعلين لأنه هو الأقرب إليك دون الأبعد عنك. فاعرف هذا. وليس كذلك صرف ما لا ينصرف ولا إظهار التضعيف لأن هذا هو الأصل الأول على الحقيقة وليس وراءه أصل هذا أدنى إليك منه كما كان فيما أريته قبل. فاعرف بهذا ونحوه حال ما يرد عليك مما هو مردود إلى أول وراءه ما هو أسبق رتبة منه وبين ما يرد إلى أول ليست وراءه رتبة متقدمة له.
باب في مراجعة أصل واستئناف فرع
اعلم أن كل حرف غير منقلب احتجت إلى قلبه فإنك حينئذ ترتجل له فرعً ولست تراجع به من ذلك الألفات غير المنقلبة الواقعة أطرافاً للإلحاق أو للتأنيث أو لغيرهما من الصيغة لا غير. فالتي للإلحاق كألف أرطى فيمن قال: مأروط وحبنطي ودَلَنظى. والتي للتأنيث كألف سكرى وغَضْبَى وجُمَادى. والتي للصيغة لا غير كألف ضَبَغْطَرى وقَبَعْثَرى وزِبَعْرًى. فمتى احتجت إلى تحريك واحدة من هذه الألفات للتثنية أو الجمع قلبتها ياء فقلت: أَرطَيانٍ وحَبَنْطَيانٍ وسكريان وجُمَادَيات وحُبَارَيات وضَبَغْطَرَيان وقبعثريان. فهذه الياء فرع مرتجل وليست مراجعاً بها أصل ألا ترى أنه ليس واحدة منها منقلبة أصلاً لا عن ياء ولا غيرها. وليست كذلك الألف المنقلبة كألف مغزى ومدعى لأن هذه منقلبة عن ياء منقلبة عن واو في غزوت ودعوت وأصلهما مَغْزَوٌ ومدْعَوٌ فلما وقعت الواو رابعة هكذا قلبت ياء فصارت مَغْزَيٌ ومَدْعَيٌ ثم قلبت الياء ألفاً فصارت مَدْعًى ومَغْزًى فلما احتجت إلى تحريك هذه الألف راجعت بها الأصل الأقرب وهو الياء فصارتا ياء في قولك: مغزيان ومدعيان. وقد يكون الحرف منقلباً فيضطر إلى قلبه فلا ترده إلى أصله الذي كان منقلباً عنه. وذلك قولك في حمراء: حمراوي وحمراوات. وكذلك صفراوي وصفراوات. فتقلب الهمزة واواً وإن كانت منقلبة عن ألف التأنيث كالتي في نحو بشرى وسكرى. وكذلك أيضاً إذا نسبت إلى شقاوة فقلت: شقاوي. فهذه الواو في شقاوي بدل من همزة مقدرة كأنك لما حذفت الهاء فصارت الواو طرفاً أبدلتها همزة فصارت في التقدير إلى شقاء فأبدلت الهمزة واواً فصار شقاوي قالوا إذاً في شقاوي غير الواو في شقاوة. ولهذا نظائر في العربية كثيرة. ومنها قولهم في الإضافة إلى عدوة: عدوي. وذلك أنك لما حذفت الهاء حذفت له واو فَعُولة كما حذفت لحذف تاء حنيفة ياءها فصارت في التقدير إلى عَدُوٍ فأبدلت من الضمة كسرة ومن الواو ياء فصارت إلى عَدِيٍ فجرت في ذلك مجرى عَمٍ فأبدلت من الكسرة فتحة ومن الياء ألفاً فصارت إلى عَداً كهُدًى فأبدلت من الألف واوا لوقوع ياءي الإضافة بعدها فصارت إلى عَدَوِيّ كهُدَويّ. فالواو إذاً في عَدَوِيّ ليست بالواو في عدُوَّة وإنما هي بدل من ألف بدلٍ من ياء بدلٍ من الواو الثانية في عَدُوّة.فاعرفه.
باب فيما يراجع من الأصول مما لا يراجع
اعلم أن الأصول المنصرف عنها إلى الفروع على ضربين: أحدهما ما إذا احتيج إليه جاز أن يراجع. والآخر ما لا تمكن مراجعته لأن العرب انصرفت عنه فلم تستعمله. الأول منهما: الصرف الذي يفارق الاسم لمشابهته الفعل من وجهين. فمتى احتجت إلى صرفه فلتأتينكَ قصائدٌ وليدفعاً جيشاً إليك قوادم الأكوار وهو باب واسع. ومنه إجراء المعتل مجرى الصحيح نحو قوله: لا بارك الله في الغواني هل يصبحن إلا لهن مطلب وبقية الباب. ومنه إظهار التضعيف كلححت عينه وضبب البلد وألِلَ السقاء وقوله: الحمد لله العليّ الأجلل وبقية الباب. ومنه قوله: سماء الإله فوق سبع سمائيا ومنه قوله: أهبني التراب فوقه إهبابا وهو كثير. الثاني: منهما وهو ما لا يراجع من الأصول عند الضرورة. وذلك كالثلاثي المعتل العين نحو قام وباع وخاف وهاب وطال. فهذا مما لا يراجع أصله أبداً ألا ترى أنه لم يأت عنهم في نثر ولا نظم شيء منه مصححاً نحو قوم ولا بيع ولا خوف ولا هيب ولا طول. وكذلك مضارعه نحو يقوم ويبيع ويخاف ويهاب ويطول. فأما ما حكاه بعض الكوفيين من قولهم: هيؤ الرجل من الهيئة فوجهه أنه خرج مخرج المبالغة فلحق بباب قولهم: قضوا الرجل إذا جاد قضاؤه. ورمو إذا جاد رميه. فكما بني فَعُل مما لامه ياء كذلك خرج هذا على أصله في فَعُلَ مما عينه ياء. وعلتهما جميعاً أن هذا بناء لا يتصرف لمضارعته بما فيه من المبالغة لباب التعجب ولنعم وبئس. فلما لم يتصرف احتملوا فيه خروجه في هذا الموضع مخالفاً للباب ألا تراهم إنما تحاموا أن يبنوا فَعُل مما عينه ياء مخافة انتقالهم من الأثقل إلى ما هو أثقل منه لأنه كان يلزمهم أن يقولوا: بُعْتُ أبوع وهو يبوع ونحن نبوع وأنت أو هي تبوع وبوعا وبوعوا وبوعى وهما يبوعان وهم يبوعون ونحو ذلك. وكذلك لو جاء فَعُل مما لامه ياء متصرفاً للزم أن يقولوا: رمُوتُ ورَمُوتَ وأنا أرمو ونحن نرمو وأنت ترمو وهو يرمو وهم يرمون وأنتما ترموان وهن يرمون ونحو ذلك فيكثر قلب الياء واواً وهو أثقل من الياء. فأما قولهم: لرمُوَ الرجل فإنه لا يصرف ولا يفارق موضعه هذا كما لا يتصرف نعم وبئس فاحتمل ذلك فيه لجموده عليه وأمنهم تعديه إلى غيره. وكذلك احتمل هيؤ الرجل ولم يعل لأنه لا يتصرف لمضارعته بالمبالغة فيه باب التعجب ونعم وبئس ولو صرف للزم إعلاله وأن يقال: هاء يهوء وأهوء وتهوء ونهوء وهما يهوءان وهم يهوءون ونحو ذلك فلما لم يتصرف لحق بصحة الأسماء فكما صح نحو القود والحوكة والصيد والغيب كذلك صح هيؤ الرجل فاعرفه كما صح ما أطوله وما أبيعه ونحو ذلك. ومما لا يراجع من الأصول باب افتعل إذا كانت فاؤه صاداً أو ضاداً أو طاء أو ظاء فإن تاءه تبدل طاء نحو اصطبر واضطرب واطرد واظطلم. وكذلك إن كانت فاؤه دالاً أو ذالاً أو زاياً فإن تاءه تبدل دالاً. وذلك نحو قولك أدلج وادكر وازدان. فلا يجوز خروج هذه التاء على أصلها. ولم يأت ذلك في نثر ولا نظم. فأما ما حكاه خلف فيما أخبرنا به أبو علي من قول بعضهم: التقطت النوى واشتقطته واضتقطته فقد يجوز أن تكون الضاد بدلاً من الشين في اشتقطته. نعم ويجوز أن تكون بدلاً من اللام في التقطته فيترك إبدال التاء طاء مع الضاد ليكون ذلك إيذاناً بأنها بدل من اللام أو الشين فتصح التاء مع الضاد كما صحت مع ما الضاد بدل منه. ونظير ذلك قول بعضهم: يا رب أباز من العفر صدع تقبض الذئب إليه واجتمع لما رأى أن لادعه ولا شبع مال إلى أرطاة حقف فالطجع فأبدل لام الطجع من الضاد وأقر الطاء بحالها مع اللام ليكون ذلك دليلاً على أنها بدل من الضاد. وهذا كصحة عور لأنه بمعنى ما تجب صحته وهو اعور. وقد مضى ذلك. ومن ذلك امتناعهم من تصحيح الواو الساكنة بعد الكسرة ومن تصحيح الياء الساكنة بعد الضمة. فأما قراءة أبي عمرو: { يا صالح آيتنا } بتصحيح الياء بعد ضمة الحاء فلا يلزمه عليها أن يقول: يا غلام اوجل. والفرق بينهما أن صحة الياء في { يا صالح آيتنا } بعد الضمة له نظير وهو قولهم: قيل وبيع فحمل المنفصل: على المتصل وليس في كلامهم واو ساكنة صحت بعد كسرة فيجوز قياساً عليه يا غلام اوجل. فإن قلت: فإن الضمة في نحو قيل وبيع لا تصح لأنها إشمام ضم للكسرة والكسرة في يا غلام اوجل كسرة صريحة. فهذا فرق. قيل: الضمة في حاء يا صالحُ ضمة بناء فأشبهت ضمة قيل من حيث كانت بناء وليس لقولك: يا غلام اوجل شبيه فيحمل هذا عليه لا كسرة صريحة ولا كسرة مشوبة. فأما تفاوت ما بين الحركتين في كون إحداهما ضمة صريحة والأخرى ضمة غير صريحة فأمر تغتفر العرب ما هو أعلى وأظهر منه. وذلك أنهم قد اغتفروا اختلاف الحرفين مع اختلاف الحركتين في نحو جمعهم في القافية بين سالم وعالم مع قادم وظالم فإذا تسمحوا بخلاف الحرفين مع الحركتين كان تسمحهم بخلاف الحركتين وحدهما في يا صالح آيتنا وقيل وبيع أجدر بالجواز. فإن قلت: فقد صحت الواو الساكنة بعد الكسرة نحو اجلواذ واخرواط قيل: الساكنة هنا لما أدغمت في المتحركة فنبا اللسان عنهما جميعاً نبوة واحدة جرتا لذلك مجرى الواو المتحركة بعد الكسرة نحو طول وحول. وعلى أن بعضهم قد قال: اجليواذا فأعل مراعاة لأصل ما كان عليه الحرف ولم يبدل الواو بعدها لمكان الياء إذ كانت هذه الياء غير لازمة فجرى ذلك في الصحة مجرى ديوان فيها. ومن قال: ثيرة وطيال فقياس قولهم هنا أن يقول: اجلياذا فيقلبهما جميعاً إذ كانا قد جريا مجرى الواو الواحدة المتحركة. فإن قيل: فالحركتان قبل الألفين في سالم وقادم كلتاهما فتحة وإنما شيبت إحداهما بشيء من الكسرة وليست كذلك الحركات في حاء يا صالح وقاف قيل من حيث كانت الحركة في حاء يا صالحُ ضمة البتة وحركة قاف قيل كسرة مشوبة بالضم فقد ترى الأصلين هنا مختلفين وهما هناك أعني في سالم وقادم متفقان. قيل: كيف تصرفت الحال فالضمة في قيل مشوبة غير مخلصة كما أن الفتحة في سالم مشوبة مخلصة نعم ولو تطمعت الحركة في قاف قيل لوجدت حصة الضم فيها أكثر من حصة الكسر أو أدون حالها أن تكون في الذوق مثلها ثم من بعد ذلك ما قدمناه من اختلاف الألفين في سالم وقادم لاختلاف الحركتين قبلهما الناشئة هما عنهما وليست الياء في قيل كذلك بل هي ياء مخلصة وإن كانت الحركة قبلها مشوبة غير مخلصة. وسبب ذلك أن الياء الساكنة سائع غير مستحيل فيها أن تصح بعد الضمة المخلصة فضلاً عن الكسرة المشوبة بالضم ألا تراك لا يتعذر عليك صحة الياء وإن خلصت قبلها الضمة في نحو ميسر في اسم الفاعل من أيسر لو تجشمت إخراجه على الصحة وكذلك لو تجشمت تصحيح واو موزان قبل القلب وإنما ذلك تجشم الكلفة لإخراج الحرفين مصححين غير معلين. فأما الألف فحديث غير هذا ألا ترى أنه ليس في الطوق ولا من تحت القدرة صحة الألف بعد الضمة ولا الكسرة بل إنما هي تابعة للفتحة قبلها فإن صحت الفتحة قبلها صحت بعدها وإن شيبت الفتحة بالكسرة نحي بالألف نحو الياء نحو سالم وعالم وإن شيبت بالضمة نحى بالألف نحو الواو في الصلاة والزكاة وهي ألف التفخيم. فقد بان لك بلك فرق ما بين الألف وبين الياء والواو. فهذا طرف من القول على ما يراجع من الأصول للضرورة مما يرفض فلا يراجع. فاعرفه وتنبه على أمثاله فإنه كثيرة.
باب في مراعاتهم الأصول للضرورة تارة وإهمالهم إياها أخرى
فمن الأول قولهم: صغت الخاتم وحكت الثوب ونحو ذلك. وذلك أن فعلت هنا عديت فلولا أن أصل هذا فعلت بفتح العين لما جاز أن تعمل فعلت. ومن ذلك بيت الكتاب: ألا ترى أن أول البيت مبني على اطراح ذكر الفاعل وأن آخره قد عوود فيه الحديث عن الفاعل لأن تقديره فيما بعد: ليبكه مختبط مما تطيح الطوائح. فدل قوله: ليبك على ما أراده من قوله: ليبكه. ونحوه قوله الله تعالى: {إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} هذا مع قوله سبحانه: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} وقوله عز وجل: { خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} وأمثاله كثيرة. ونحو من البيت قول الله تعالى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ} أي يسبح له فيها رجال. ومن الأصول المراعاة قولهم: مررت برجل ضارب زيد وعمرا وليس زيد بقائم ولا قاعدا و {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} وإذا جاز أن تراعى الفروع نحو قوله: بدا لي أني لست مدرك ما مضى ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائيا وقوله: مشائيم ليسوا مصلحين عشيرةً ولا ناعبٍ إلا ببينٍ غرابها كانت مراجعة الأصول أولى وأجدر. ومن ضد ذلك: هذان ضارباك ألا ترى أنك لو اعتددت بالنون المحذوفة لكنت كأنك قد جمعت بين الزيادتين المعتقبتين في آخر الاسم. وعلى هذا القياس أكثر الكلام: أن يعامل الحاضر فيغلب حكمه لحضوره على الغائب لمغيبه. وهو شاهد لقوة إعمال الثاني من الفعلين لقوته وغلبته على إعمال الأول لبعده. ومن ذلك قوله: وما كل من وافى منى أنا عارف فيمن نون أو أطلق مع رفع كل. ووجه ذلك أنه إذا رفع كلاّ فلا بد من تقديره الهاء ليعود على المبتدأ من خبره ضمير وكل واحد من التنوين في عارف ومدة الإطلاق في عارفو ينافي اجتماعه مع الهاء المرادة المقدرة ألا ترى أنك لو جمعت بينهما فقلت: عارفنه أو عارفوه لم يجز شيء من ذينك. وإنما هذا لمعاملة الحاضر واطراح حكم الغائب. فاعرفه وقسه فإنه باب واسع.
باب في حمل الأصول على الفروع
قال أبو عثمان: لا يضاف ضارب إلى فاعله لأنك لا تضيفه إليه مضمراً فكذلك لا تضيفه إليه مظهراً. قال: وجازت إضافة المصدر إلى الفاعل لما جازت إضافته إليه مضمراً. كأن أبا عثمان إنما اعتبر في هذا الباب المضمر فقدمه وحمل عليه المظهر من قبل أن المضمر أقوى حكماً في باب الإضافة من المظهر. وذلك أن المضمر أشبه بما تحذفه الإضافة وهو التنوين من المظهر. ولذلك لا يجتمعان في نحو ضاربانك وقاتلونه من حيث كان المضمر بلطفه وقوة اتصاله مشابهاً للتنوين بلطفه وقوة اتصاله وليس كذلك المظهر لقوته ووفور صورته ألا تراك تثبت معه التنوين فتنصبه نحو ضاربان زيداً وقاتلون عمراً. فلما كان المضمر مما تقوى معه مراعاة الإضافة حمل المظهر وإن كان هو الأصل عليه وأصاره لما ذكرناه إليه. ومن ذلك قولهم: إنما استوى النصب والجر في المظهر في نحو رأيت الزيدين ومررت بالزيدين لاستوائهما في المضمر نحو رأيتك ومررت بك. وإنما كان هذا الموضع للمضمر حتى حمل عليه حكم المظهر من حيث كان المضمر عارياً من الإعراب فإذا عرى منه جاز أن يأتي منصوبه بلفظ مجروره وليس كذلك المظهر لأن باب الإظهار أن يكون موسوماً بالإعراب فلذلك حملوا الظاهر على المضمر في التثنية وإن كان المظهر هو الأصل إذ كان المراعى هنا أمراً غير الفرعية والأصلية وإنما هو أمر الإعراب والبناء. وإذا تأملت ذلك علمت أنك في الحقيقة إنما حملت فرعاً على أصل لا أصلاً على فرع ألا ترى أن المضمر أصل في عدم الإعراب فحملت المظهر عليه لأنه فرع في البناء كما حملت المظهر على المضمر في باب الإضافة من حيث كان المضمر هو الأصل في مشابهته التنوين والمظهر فرع عليه في ذلك لأنه إنما يتأصل في الإعراب لا في البناء. فإذا بدهتك هذه المواضع فتعاظمتك فلا تخنع لها ولا تعط باليد مع أول ورودها وتأت لها ولاطف بالصنعة ما يورده الخصم منها مناظراً كان أو خاطراً. وبالله التوفيق.
باب في الحكم يقف بين الحكمين
هذا فصل موجود في العربية لفظاً وقد أعطته مقاداً عليه وقياساً. وذلك نحو كسرة ما قبل ياء المتكلم في نحو غلامي وصاحبي. فهذه الحركة لا إعراب ولا بناء. أما كونها غير إعراب فلأن الاسم يكون مرفوعاً ومنصوباً وهي فيه نحو هذا غلامي ورأيت صاحبي وليس بين الكسر وبين الرفع والنصب في هذا ونحوه نسبة ولا مقاربة. وأما كونها غير بناء فلأن الكلمة معربة متمكنة فليست الحركة إذن في آخرها ببناء ألا ترى أن غلامي في التمكن واستحقاق الإعراب كغلامك وغلامهم وغلامنا. فإن قلت: فما الكسرة في نحو مررت بغلامي ونظرت إلى صاحبي أإعراب هي أم من جنس الكسرة في الرفع والنصب قيل: بل هي من جنس ما قبلها وليست إعراباً ألا تراها ثابتة في الرفع والنصب. فعلمت بذلك أن هذه الكسرة يكره الحرف عليها فيكون في الحالات ملازماً لها. وإنما يستدل بالمعلوم على المجهول. فكما لا يشك أن هذه الكسرة في الرفع والنصب ليست بإعراب فكذلك يجب أن يحكم عليها في باب الجر إذ الاسم واحد فالحكم عليه إذاً في الحلات واحد. إلا أن لفظ هذه الحركة في حال الجر وإن لم تكن إعراباً لفظها لو كانت إعراباً كما أن كسرة الصاد في صِنْو غير كسرة الصاد في صِنْوان حكماً وإن كانت إياها لفظاً. وقد مضى ذلك وسنفرد لما يتصل به باباً. ومن ذلك ما كانت فيه اللام أو الإضافة نحو الرجل وغلامك وصاحب الرجل. فهذه الأسماء كلها وما كان نحوها لا منصرفة ولا غير منصرفة. وذلك أنها ليست بمنونة فتكون منصرفة ولا مما يجوز للتنوين حلوله للصرف فإذا لم يوجد فيه كان عدمه منه أمارة لكونه غير منصرف كأحمد وعمر وإبراهيم ونحو ذلك. وكذلك التثنية والجمع على حدها نحو الزيدان والعمرين والمحمدون وليس شيء من ذلك منصرفاً ولا غير منصرف معرفة كان أو نكرة من حيث كانت هذه الأسماء ليس مما ينون مثلها فإذا لم يوجد فيها التنوين كان ذهابه عنها أمارة لترك صرفها. ومن ذلك بيت الكتاب: له زجل كأنه صوت حاد فحذف الواو من قوله كأنه لا على حد الوقف ولا على حد الوصل. أما الوقف فيقضى بالسكون: كأنْه. وأما الوصل فيقضى بالمَطْل وتمكين الواو: كأنهو فقوله إذاً كأنهُ منزلة بين الوصل والوقف. وكذلك أيضاً سواءً قوله: يا مرحباه بحمار ناجيه إذا أتى قربته للسانيه فثبات الهاء في مرحباه ليس على حد الوقف ولا على حد الوصل: أما الوقف فيؤذن بأنها ساكنة: يا مرحباهْ. وأما الوصل فيؤذن بحذفها أصلاً: يامرحبا بحماز ناجية. فثباتها إذاً في الوصل متحركة منزلة بين المنزلتين. وكذلك سواء قوله: ببازلٍ وجناءً أو عًيْهلِّ فإثبات الياء مع التضعيف طريف. وذلك أن التثقيل من أمارة الوقف والياء من أمارة الإطلاق. فظاهر هذا الجمع بين الضدين فهو إذاً منزلة بين المنزلتين. وسبب جواز الجمع بينهما أن كل واحد منهما قد كان جائزاً على انفراده فإذا جمع بينهما فإنه على كل حال لم يكلف إلا بما من عادته أن يأتي به مفرداً وليس على النظر بحقيقة الضدين كالسواد والبياض والحركة والسكون فيستحيل اجتماعهما. فتضادهما إذاً إنما هو في الصناعة لا في الطبيعة. والطريق متلئبة منقادة والتأمل يوضحها ويمكنك منها. باب في شجاعة العربية اعلم أن معظم ذلك إنما هو الحذف والزيادة والتقديم والتأخير والحمل على المعنى والتحريف. الحذف قد حذفت العرب الجملة والمفرد والحرف والحركة. وليس شيء من ذلك إلا عن دليل عليه. وإلا كان فيه ضرب من تكليف علم الغيب في معرفته. فأما الجملة فنحو قولهم في القسم: والله لا فعلت وتالله لقد فعلت. وأصله: أقسم بالله فحذف الفعل والفاعل وبقيت الحال من الجار والجواب دليلاً على الجملة المحذوفة. وكذلك الأفعال في الأمر والنهي والتحضيض نحو قولك: زيداً إذا أردت: اضرب زيداً أو نحوه. ومنه إياك إذا حذرته أي احفظ نفسك ولا تضعها والطريق الطريق وهلا خيرا من ذلك. وقد حذفت الجملة من الخبر نحو قولك: القرطاس والله أي أصاب القرطاس. وخير مقدم أي قدمت خير مقدم. وكذلك الشرط في نحو قوله: الناس مجزيون بأفعالهم إن خيراً فخيراً وإن شراً فشراً أي إن فعل المرء خيراً جزى خيراً وإن فعل شراً جزي شراً. ومنه قول التغلبي: إذا ما الماء خالطها سخينا أي فشربنا سخيناً وعليه قول الله سبحانه: {فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} أي فضرب فانفجرت وقوله عز اسمه: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} أي فحلق فعليه فدية. ومن ه قولهم: ألا تا بلى فا أي ألا تفعل بلى فافعل وقول الآخر: قلنا لها قفي لنا قالت قاف أي وقفت وقوله: . . . . . . . . . . . . . . . وكأن قد أي كأنها قد زالت. فأما قوله: إذا قيل مهلاً قال حاجزه قد فيكون على هذا أي قد قطع وأغنى. ويجوز أن يكون معناه: قَدْك! أي حسبك كأنه قد فرغ ما قد أريد منه فلا معنى لردعك وزجرك. وإنما تحذف الجملة من الفعل الفاعل لمشابهتها المفرد بكون الفاعل في كثير من الأمر بمنزلة الجزء من الفعل نحو ضربت ويضربان وقامت هند و {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ} وحبذا زيد وما أشبه ذلك مما يدل على شدة اتصال الفعل بالفاعل وكونه معه كالجزء الواحد. وليس كذلك المبتدأ والخبر. وأما حذف المفرد فعلى ثلاثة أضرب: اسم وفعل وحرف. حذف الاسم على أضرب قد حذف المبتدأ تارة نحو هل لك في كذا وكذا أي هل لك فيه حاجة أو أرب. وكذلك قوله عز وجل: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ} أي ذلك أو هذا بلاغ. وهو كثير. وقد حذف الخبر نحو قولهم في جواب من عندك: زيد أي زيد عندي. وكذا قوله تعالى: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} وإن شئت كان على: طاعة وقول معروف أمثل من غيرهما وإن شئت كان على: أمرنا طاعة وقول معروف. وعليه قوله: فقالت: على اسم الله أمرك طاعة وإن كنت قد كلفت ما لم أعود وقد حذف المضاف وذلك كثير واسع وإن كان أبو الحسن لا يرى القياس عليه نحو قول الله سبحانه: {وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} أي بر من اتقى. وإن شئت كان تقديره: ولكن ذا البر من اتقى. والأول أجود لأن حذف المضاف ضرب من الاتساع والخبر أولى بذلك من المبتدأ لأن الاتساع بالأعجاز أولى منه بالصدور. ومنه قوله عز اسمه: { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } أي أهلها. وقد حذف المضاف مكرراً نحو قوله تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} أي من تراب أثر حافر فرس الرسول. ومثله مسئلة الكتاب: أنت منى فرسخان أي ذو مسافة فرسخين. وكذلك قوله جل اسمه: {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} أي كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت. وقد حذف المضاف إليه نحو قوله تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} أي من قبل ذلك ومن بعده. وقولهم: ابدأ بهذا أول أي أول ما تفعل. وإن شئت كان تقديره: أول من غيره ثم شبه الجار والمجرور هنا بالمضاف إليه لمعاقبة المضاف إليه إياهما. وكذلك قولهم: جئت من عل أي من أعلى كذا وقوله: فملك بالليط الذي تحت قشرها كغرقئ بيضٍ كنه القيض من علُ فأما قوله: فلا حذف فيه لأنه نكرة ولذلك أعربه فكأنه قال: حطه السيل من مكان عالٍ لكن قول العجلي: أقب من تحت عريض من عل هو محذوف المضاف إليه لأنه معرفة وفي موضع المبني على الضم ألا تراه قابل به ما هذه حاله وهو قوله: من تحت. وينبغي أن يكتب " علي " في هذا بالياء. وهو فعل في معنى فاعل أي أقب من تحته عريض من عاليه بمعنى أعلاه. والسافل والعالي بمنزلة الأسفل والأعلى. قال: ما هو إلا الموت يغلي غاليه مختلطاً سافله بعاليه لا بد يوماً أنني ملاقيه ونظير عالٍ وعلٍ هنا قوله: وقد علتني ذرأة بادي بدي أي باديَ باديَ. وإن شئت كان ظرفاً غير مركب أي في بادى بدي كقوله: عز اسمه: {بَادِيَ الرَّأْيِ} أي في بادي الرأي إلا أنه أسكن الياء في موضع النصب مضطراً كقوله: يا دار هند عفت إلا أثافيها وإن شئت كان مركباً على حد قوله: إلا أنه أسكن لطول الاسم بالتركيب كمعدي كرب. ومثل فاعل وفعل في هذا المعنى قوله: أصبح قلبي صردا لا يشتهي أن يردا إلا عراداً عردا وصلياناً بردا وعنكثاً ملتبدا أراد: الإعراد عارداً وصليانا باردا. وعليه قوله: كأن في الفرش القتاد العاردا فأما قولهم: عرد الشتاء فيجوز أن يكون مخففاً من عرد هذا. ويجوز أن يكون مثالاً في الصفة على فعل كصعب وندب. ومنه يومئذ وحينئذ ونحو ذلك أي إذ ذاك كذلك فحذفت الجملة المضاف إليها. وعليه قول ذي الرمة: فلما لبسن الليل أو حين نصبت له من خذا آذانها وهو جانح أي: أو حين أقبل. وحكى الكسائي: أفوق تنام أم أسفل حذف المضاف ولم يبن. وسمع أيضاً: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} فحذف ولم يبن. وقد حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وأكثر ذلك في الشعر. وإنما كانت كثرته فيه دون النثر من حيث كان القياس يكاد يحظره. وذلك أن الصفة في الكلام على ضربين: إما للتخليص والتخصيص وإما للمدح الثناء. وكلاهما من مقامات الإسهاب والإطناب لا من مظان الإيجاز والاختصار. وإذا كان كذلك لم يلق الحذف به ولا تخفيف اللفظ منه. هذا مع ما ينضاف إلى ذلك من الإلباس وضد البيان. ألا ترى أنك إذا قلت: مررت بطويل لم يستبن من ظاهر هذا اللفظ أن الممرور به إنسان دون رمح أو ثوب أو نحو ذلك. وإذا كان كذلك كان حذف الموصوف إنما هو متى قام الدليل عليه أو شهدت الحال به. وكلما استبهم الموصوف كان حذفه غير لائق بالحديث. ومما يؤكد عندك ضعف حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه أنك تجد من الصفات ما لا يمكن حذف موصوفه. وذلك أن تكون الصفة جملة نحو مررت برجل قام أخوه ولقيت غلاماً وجهه حسن. ألا تراك لو قلت: مررت بقام أخوه أو لقيت وجهه حسن لم يحسن. فأما قوله: والله ما زيد بنام صاحبه ولا مخالط الليان جانبه فقد قيل فيه: إن نام صاحبه علم اسم لرجل وإذا كان كذلك جرى مجرى قوله: بني شاب قرناها. . . . . . ولا مخالط الليان جانبه ليس علماً وإنما هو صفة وهو معطوف على نام صاحبه صفة أيضاً. قيل: قد يكون في الجمل إذا سمى بها معاني الأفعال فيها. ألا ترى أن شاب قرناها تصر وتحلب هو اسم علم وفيه مع ذلك معنى الذم. وإذا كان كذلك جاز أن يكون قوله: ولا مخالط الليان جانبه معطوفاً على ما في قوله ما زيد بنام صاحبه من معنى الفعل. فأما قوله: مالك عندي غير سهم وحجر وغير كبداء شديدة الوتر جادت بكفي كان من أرمى البشر أي بكفي رجل أو إنسان كان من أرمى البشر فقد روى غير هذه الرواية. روى: بكفى كان من أرمى البشر بفتح ميم من أي بكفى من هو أرمى البشر وكان على هذا زائدة. ولو لم تكن فيه إلا هذه الرواية لما جاز القياس عليه لفروده وشذوذه عما عليه عقد هذا الموضع. ألا تراك لا تقول: مررت بوجهه حسن ولا نظرت إلى غلامه سعيد. فأما قولهم بدأت بالحمد لله وانتهيت من القرآن إلى {أَتَى أَمْرُ اللّهِ} ونحو ذلك فلا يدخل على هذا القول من قبل أن هذه طريق الحكاية وما كان كذلك فالخطب فيه أيسر والشناعة فيه أوهى وأسقط. وليس منا كنا عليه مذهباً له تعلق بحديث الحكاية. وكذاك إن كانت الصفة جملة لم يجز أ تقع فاعلة ولا مقامة مقام الفاعل ألا تراك لا تجيز قام وجهه حسن ولا ضرب قام غلامه وأنت تريد: قام رجل وجهه حسن ولا ضرب إنسان قام غلامه. وكذاك إن كانت الصفة حرف جر أو ظرفاً لا يستعمل استعمال الأسماء. فلو قلت: جاءني من الكرام أي رجل من الكرام. أو حضرني سواك أي إنسان سواك لم يجسن لأن الفاعل لا يحذف. فأما قوله: أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط كالطعن يهلك فيه الزيت والفتل فليست الكاف هنا حرف جر بل هي اسم بمنزلة مثل كالتي في قوله: على كالقطا الجوني أفزعه الزجر وكالكاف الثانية من قوله: وصاليات ككما يؤثفين أي كمثل ما يؤثفين وعليه قول ذي الرمة: أبيت على مي كئيباً وبعلها على كالنقا من عالج يتبطح فأما قول الهذلي: فلم يبق منها سوى هامد وغير الثمام وغير النؤى ففيه قولان: أحدهما أن يكون في يبق ضمير فاعل من بعض ما تقدم كذا قال أبو علي رحمه الله. والآخر أن يكون استعمل سوى للضرورة اسماً فرفعه. وكأن هذا أقوى لأن بعده: وغير الثمام وغير النؤى فكأنه قال: لم يبق منها غير هامد. ومثله ما أنشدناه للفرزدق من قوله: أئته بمجلوم كأن جبينه صلاءة ورس وسطها قد تفلقا وعليه قول الآخر: في وسط جمع بني قريط بعدما هتفت ربيعة يا بني جواب وقد أقيمت الصفة الجملة مقام الموصوف المبتدأ نحو قوله: لو قلت ما في قومها لم تيثم يفضلها في حسب وميسم أي ما في قومها أجد يفضلها وقال الله سبحانه: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي قوم دون ذلك. وأما قوله تعالى: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} فيمن قرأه بالنصب فيحتمل أمرين: أحدهما أن يكون الفاعل مضمراً أي لقد تقطع الأمر أو العقد أو الود ونحو ذلك بينكم. والآخر أن يكون ما كان يراه أبو الحسن من أن يكون " بينكم " وإن كان منصوب اللفظ مرفوع الموضع بفعله غير أنه أقرت نصبة الظرف وإن كان مرفوع الموضع لاطراد استعمالهم إياه ظرفاً. إلا أن استعمال الجملة التي هي صفة للمبتدأ مكانه أسهل من استعمالها فاعلة لأنه ليس يلزم أن يكون المبتدأ اسماً محضاً. كلزوم ذلك في الفاعل ألا ترى إلى قولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه أي سماعك به خير من رؤيته. وقد تقصينا ذلك في غير موضع. وقد حذفت الصفة ودلت الحال عليها. وذلك فيما حكاه صاحب الكتاب من قولهم: سير عليه ليل وهم يريدون: ليل طويل. وكأن هذا إنما حذفت فيه الصفة لما دل من الحال على موضعها. وذلك أنك تحس في كلام القائل لذلك من التطويح والتطريح والتفخيم والتعظيم ما يقوم مقام قوله: طويل أو نحو ذلك. وأنت تحس هذا من نفسك إذا تأملته. وذلك أن تكون في مدح إنسان والثناء عليه فتقول: كان والله رجلاً فتزيد في قوة اللفظ بالله هذه الكلمة وتتمكن في تمطيط اللام وإطالة الصوت بها وعليها أي رجلاً فاضلاً أو شجاعاً أو كريماً أو نحو ذلك. وكذلك تقول: سألناه فوجدناه إنساناً وتمكن الصوت بإنسان وتفخمه فتستغني بذلك عن وصفه بقولك: إنساناً سمحاً أو جواداً أو نحو ذلك. وكذلك إن ذممته ووصفته بالضيق قلت: سألناه وكان إنساناً وتزوى وجهك وتقطبه فيغنى ذلك عن قولك: إنساناً لئيما أو لحزا أو مبخلا أو نحو ذلك. فعلى هذا وما يجري مجراه تحذف الصفة. فأما إن عريت من الدلالة عليها من اللفظ أو من الحال فإن حذفها لا يجوز ألا تراك لو قلت: وردنا البصرة فاجتزنا بالأبلة على رجل أو رأينا بستاناً وسكت لم تفد بذلك شيئاً لأن هذا ونحوه مما لا يعرى منه ذلك المكان وإنما المتوقع أن تصف من ذكرت أو ما ذكرت فإن لم تفعل كلفت علم ما لم تدلل عليه وهذا لغو من الحديث وجور في التكليف. ومن ذلك ما يروى في الحديث: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد أي لا صلاة كاملة أو فاضلة ونحو ذلك. وقد خالف في ذلك من لا يعد خلافه خلافاً. وقد حذف المفعول به نحو قول الله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} أي أوتيت منه شيئاً. وعليه قول الله سبحانه: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} أي غشاها إياه. فحذف المفعولين جميعاً. وقال الحطيئة: منعمة تصون إليك منها كصونك من رداء شرعبي أي تصون الحديث منها. وله نظائر. وقد حذف الظرف نحو قوله: فإن مت فانعيني بما أنا أهله وشقي على الجيب يا ابنة معبد أي إن مت قبلك هذا يريد لا محالة. ألا ترى أنه لا يجوز أن يشرط الإنسان موته لأنه يعلم أهيم بدعدٍ ما حييت فإن أمت أوكل بدعدٍ من يهيم بها بعدي أي فإن أمت قبلها لا بد أن يريد هذا. وعلى هذا قول الله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أي من شهد الشهر منكم صحيحاً بالغاً في مصرٍ فليصمه. وكان أبو علي رحمه الله يرى أن نصب الشهر هنا إنما هو على الظرف ويذهب إلى أن المفعول محذوف أي فمن شهد منكم المصر في هذا الشهر فليصمه. وكيف تصرفت الحال فلا بد من حذف. وقد حذف المعطوف تارة والمعطوف عليه أخرى. روينا عن أحمد بن يحيى أنهم يقولون: راكب الناقة طليحان أي راكب الناقة والناقة طليحان. وقد مضى ذكر هذا. وتقول: الذي ضربت وزيداً جعفر تريد الذي ضربته وزيداً فتحذف المفعول من الصلة. وقد حذف المستثنى نحو قولهم: جاءني زيد ليس إلا وليس غير أي ليس إلا إياه وليس غيره. وقد حذف خبر إن مع النكرة خاصة نحو قول الأعشى: إن محلا وإن مرتحلا وإن في السفر إذ مضوا مهلا أي إن لنا محلا وإن لنا مرتحلا. وأصحا بنا يجيزون حذف خبر إن مع المعرفة ويحكون عنهم أنهم إذ قيل لهم إن الناس ألب عليكم فمن لكم قالوا: إن زيداً وإن عمرا أي إن لنا زيداً وإن لنا عمرا. والكوفيون يأبون حذف خبرها إلا مع النكرة. فأما احتجاج أبي العباس عليهم بقوله: خلا أن حيا من قريش تفضلوا على الناس أو أن الأكارم نهشلا أي أو أن الأكارم نهشلا تفضلوا. قال أبو علي: وهذا لا يلزمهم لأن لهم أن يقولوا: إنما منعنا حذف خبر المعرفة مع إن المكسورة فأما مع أن المفتوحة فلن نمنعه. قال: ووجه فصلهم فيه بين المكسورة والمفتوحة أن المكسورة حذف خبرها كما حذف خبر نقيضها. وهو قولهم لا بأسَ ولا شكّ أي عليك وفيه. فكما أن لا تختص هنا بالنكرات فكذلك إنما تشبهها نقيضتها في حذف الخبر مع النكرة أيضاً. وقد حذف أحد مفعولي ظننت. وذلك نحو قولهم: أزيدا ظننته منطلقاً ألا ترى أن تقديره: أظننت زيداً منطلقاً ظننته منطلقاً فلما أضمرت الفعل فسرته بقولك: ظننته وحذفت المفعول الثاني من الفعل الأول المقدر اكتفاء بالمفعول الثاني الظاهر في الفعل الآخر. وكذلك بقية أخوات ظننت. وقد حذف خبر كان أيضاً في نحو قوله: أسكرانُ كان ابنَ المراغة إذ هجا تميما ببطن الشأم أم متساكر ألا ترى أن تقديره: أكان سكرانُ ابن المراغة فلما حذف الفعل الرافع فسره بالثاني فقال: كان ابن المراغة. وابن المراغة هذا الظاهر خبر " كان " الظاهرة وخبر " كان " المضمر محذوف معها لأن " كان " الثانية دلت على الأولى. وكذلك الخبر الثاني الظاهر دل على الخبر الأول المحذوف. وقد حذف المنادى فيما أنشده أبو زيد من قوله: فخير نحن عند الناس منكم إذا الداعي المثوب قال يالا أراد: يا لبني فلان ونحو ذلك. فإن قلت: فكيف جاز تعليق حرف الحر قيل: لما خلط بيا صار كالجزء منها. ولذلك شبه أبو علي ألفه التي قبل اللام بألف باب ودار فحكم عليها حينئذ بالانقلاب. وقد ذكرنا ذلك. وحسن الحال أيضاً شيء آخر وهو تشبث اللام الجارة بألف الإطلاق فصارت كأنها معاقبة للمجرور. ألا ترى أنك لو أظهرت ذلك المضاف إليه فقلت: يا لبني فلان لم يجز إلحاق الألف هنا وجرت ألف الإطلاق في منابها هنا عما كان ينبغي أن يكون بمكانها مجرى ألف الإطلاق في منابها عن تاء التأنيث في نحو قوله: ولاعب بالعشيِّ بني بنيه كفعل الهِرِّ يحترش العَظَايا وكذلك نابت أيضاً واو الإطلاق في قوله: وما كل من وافى مني أنا عارف فيمن رفع كلا عن الضمير الذي يزاد في عارفه وكما ناب التنوين في نحو حينئذ ويومئذ عن المضاف إليه إذْ. وعليه قوله: نهيتك عن طلابك أم عمرو بعاقبة وأنت إذٍ صحيح فأما قوله تعالى: { ألا يا اسجدوا } فقد تقدم القول عليه: أنه ليس المنادى هنا محذوفاً ولا مراداً كما ذهب إليه محمد بن يزيد وأن " يا " هنا أخلصت للتنبيه مجرداً من النداء كما أن " ها " من قول الله تعالى: {هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ} للتنبيه من غير أن تكون للنداء. وتأول أبو العباس قول الشاعر: طلبوا صلحنا ولات أوانٍ فأجبنا أن ليس حين بقاء قول الجماعة في تنوين إذْ. وهذا ليس بالسهل. وذلك أن التنوين في نحو هذا إنما دخل فيما لا يضاف إلى الواحد وهو إذ. فأما " أوان " فمعرب ويضاف إلى الواحد كقوله: فهذا أوان العرض حي ذبابه زنابيره والأزرق المتلمس وقد كسروه على آونة وتكسيرهم إياه يبعده عن البناء لأنه أخذ به في شق التصريف قال: أبو حنشٍ يؤرقنا وطلقٌ وعبادٌ وآونةً أثالا وقد حذف المميز. وذلك إذا علم من الحال حكم ما كان يعلم منها به. وذلك قولك: عندي عشرون واشتريت ثلاثين وملكت خمسة وأربعين. فإن لم يعلم المراد لزم التمييز إذا قصد المتكلم الإبانة. فإن لم يرد ذلك وأراد الإلغاز وحذف جانب البيان لم يوجب على نفسه ذكر التمييز. وهذا إنما يصلحه ويفسده غرض المتكلم وعليه مدار الكلام. فاعرفه. وحذف الحال لا يحسن. وذلك أن الغرض فيها إنما هو توكيد الخبر بها وما طريقه طريق التوكيد غير لائق به الحذف لأنه ضد الغرض ونقيضه ولأجل ذلك لم يجز أبو الحسن توكيد الهاء المحذوفة من الصلة نحو الذي ضربت نفسه زيد على أن يكون نفسه توكيداً للهاء المحذوفة من ضربت وهذا مما يترك مثله كما يترك إدغام الملحق إشفاقاً من انتقاض الغرض بإدغامه. فأما ما أجزناه من حذف الحال في قول الله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أي فمن شهده صحيحاً بالغاً فطريقه أنه لما دلت الدلالة عليه من الإجمع والسنة جاز حذفه تخفيفاً. وأما لو عريت الحال من هذه القرينة وتجرد الأمر دونها لما جاز حذف الحال على وجه. ولم أعلم المصدر حذف في موضع. وذلك أن الغرض فيه إذا تجرد من الصفة أو التعريف أو عدد المرات فإنما هو لتوكيد الفعل وحذف المؤكد لا يجوز. وإنما كلامنا على حذف ما يحذف وهو مراد. فأما حذفه إذا لم يرد فسائغ لا سؤال فيه. وذلك كقولنا: انطلق زيد ألا ترى هذا كلاماً تاماً وإن لم تذكر معه شيئاً من الفضلات مصدراً ولا ظرفاً ولا حالاً ولا مفعولاً له ولا مفعولاً معه ولا غيره. وذلك أنك لم ترد الزيادة في الفائدة بأكثر من الإخبار عنه بانطلاقه دون غيره. حذف الفعل حذف الفعل على ضربين: أحدهما أن تحذفه والفاعل فيه. فإذا وقع ذلك فهو حذف جملة. وذلك نحو زيداً ضربته لأنك أردت: ضربت زيداً فلما أضمرت ضربت فسرته بقولك: ضربته. وكذلك قولك: أزيدا مررت به وقولهم: المرء مقتول بما قَتَل به إن سيفاً فسيف وإن خنجراً فخنجر أي إن كان الذي قَتَل به سيفاً فالذي يُقتل به سيف. فكان واسمها وإن لم تكن مستقلة فإنها تعتد اعتداد الجملة. وذلك أن يكون الفاعل مفصولا عنه مرفوعاً به. وذلك نحو قولك: أزيد قام. فزيد مرفوع بفعل مضمر محذوف خال من الفاعل لأنك تريد: أقام زيد فلما أضمرته فسرته بقولك: قام. وكذلك {إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ} و {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} و {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} و {لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} ونحوه الفعل فيه مضمر وحده أي إذا انشقت السماء وإذا كورت الشمس وإن هلك امرؤ ولو تملكون. وعليه قوله: إذا ابنُ أبي موسى بلالٌ بلغته فقام بفأس بين وصليك جازر أي إذا بلغ ابن أبي موسى. وعبرة هذا أن الفعل المضمر إذا كان بعده اسم منصوب به ففيه فاعله مضمراً. وإن كان بعده المرفوع به فهو مضمر مجرداً من الفاعل ألا ترى أنه لا يرتفع فاعلان به. وربما جاء بعده المرفوع والمنصوب جميعاً نحو قولهم: أما أنت منطلقاً انطلقتُ معك تقديره: لأن كنت منطلقاً انطلقتُ معك فحذف الفعل فصار تقديره: لأن أنت منطلقاً وكرهت مباشرة " أن " الاسم فزيدت " ما " فصارت عوضاً من الفعل ومصلحة للفظ لنزول مباشرة أن الاسم. وعليه بيت الكتاب: أبا خراشسة أما أنت ذا نفر فإن قومي لم تأكلهم الضبع أي لأن كنت ذا نفر قويت وشددت والضبع هنا السنة الشديدة. قيل: بما لأنها عاقبت الفعل الرافع الناصب فعملت عمله من الرفع والنصب. وهذه طريقة أبي علي وجلة أصحابنا من قبله في أن الشيء إذا عاقب الشيء ولي من الأمر ما كان المحذوف يليه. من ذلك الظرف إذا تعلق بالمحذوف فإنه يتضمن الضمير الذي كان فيه ويعمل ما كان يعمله: من نصبه الحال والظرف. وعلى ذلك صار قوله: فاه إلى في من قوله: كلمته فاه إلى في ضامناً للضمير الذي كان في جاعلا لما عاقبه. والطريق واضحة فيه متلئبة. حذف الحرف قد حذف الحرف في الكلام على ضربين: أحدهما حرف زائد على الكلمة مما يجيء لمعنى. والآخر حرف من نفس الكلمة. وقد تقدم فيما مضى ذكر حذف هذين الضربين بما أغنى عن إعادته. ومضت الزيادة في الحروف وغيرها.
فصل في التقديم والتأخير.
وذلك على ضربين: أحدهما ما يقبله القياس. والآخر ما يسهله الاضطرار. الأول كتقديم المفعول على الفاعل تارة وعلى الفعل الناصبة أخرى كضرب زيداً عمرو وزيداً ضرب عمرو. وكذلك الظرف نحو قام عندك زيد وعندك قام زيد وسار يوم الجمعة جعفر ويوم الجمعة سار جعفر. وكذلك الحال نحو جا ضاحكاً زيد وضاحكاً جاء زيد. وكذلك الاستثناء نحو ما قام إلا زيداً أحد. ولا يجوز تقديم المستثنى على الفعل الناصب له. لو قلت: إلا زيداً قام القوم لم يجز لمضارعة الاستثناء البدل ألا تراك تقول: ما قام أحد إلا زيداً وإلا زيد والمعنى واحد. فما جارى الاستثناء البدل امتنع تقديمه. فإن قلت: فكيف جاز تقديمه على المستثنى منه والبدل لا يصح تقديمه على المبدل منه. قيل: لما تجاذب المستثنى شبهان: أحدهما كونه مفعولا والآخر كونه بدلاً خليت له منزلة وسيطة فقدم على المستثنى منه وأخر البتة عن الفعل الناصبة. فأما قولهم: ما مررت إلا زيداً بأحد فإنما تقدم على الباء لأنها ليست هي الناصبة له إنما الناصب له على كل حال نفس مررت. وما يصح ويجوز تقديمه خبر المبتدأ نحو قائم أخوك وفي الدار صاحبك. وكذلك خبر كان وأخواتها على أسمائها وعليها أنفسها. وكذلك خبر ليس نحو زيدا ليس أخوك ومنطلقين ليس أخواك. وامتناع أبي العباس من ذلك خلاف للفرقين: البصريين والكوفيين وترك لموجب القياس عند النظار والمتكلمين وقد ذكرنا ذلك في غير مكان. ويجوز تقديم المفعول له على الفعل الناصبة نحو قولك: طمعاً في برك زرتك ورغبة في ولا يجوز تقديم المفعول معه على الفعل نحو قولك: والطيالسة جاء البرد من حيث كانت صورة هذه الواو صورة العاطفة ألا تراك لا تستعملها إلا في الموضع الذي لو شئت لا استعملت العاطفة فيه نحو جاء البرد والطيالسة. ولو شئت لرفت الطيالسة عطفاً على البرد. وكذلك لو تركت والأسد لأكلك يجوز أن ترفع الأسد عطفاً على التاء. ولهذا لم يجز أبو الحسن جئتك وطلوع الشمس أي مع طلوع الشمس لأنك لو أردت أن تعطف بها هنا فتقول: أتيتك وطلوع الشمس لم يجز لأن طلوع الشمس لا يصح إتيانه لك. فلما ساوقت حرف المعطف قبح والطيلالسة جاء البرد كما قبح وزيد قام عمرو لكنه يجوز جاء والطيالسة البردُ كما تقول: ضربت وزيداً عمرا قال: جمعتَ وفحشا غيبة ونميمة ثلاث خصال لست عنها بمرعو ومما يقبح تقديمه الاسم المميز وإن كان الناصبة فعلاً متصرفاً. فلا نجيز شحما تفقأت ولا عرقا تصببت. فأما ما أنشده أبو عثمان وتلاه فيه أبو العباس من قول المخبل أتهجر ليلى للفراق حبيها وما كان نفساً بالفراق يطيب فتقابله برواية الزجاجي وإسماعيل بن نصر وأبي إسحاق أيضاً: وما كان نفسي بالفراق تطيب فرواية برواية والقياس من بعد حاكم. وذلك أن هذا المميز هو الفاعل في المعنى ألا ترى أن أصل الكلام تصبب عرقي وتفقأ شحمي ثم نقل الفعل فصار في اللفظ لي فخرج الفاعل في الفاصل مميزاً فكما لا يجوز تقديم الفاعل على الفعل فكذلك لا يجوز تقديم المميز إّ كان هو الفاعل في المعنى على الفعل. فإن قلت: فقد تقدم الحال على العامل فيها وإن كانت الحال هي صاحبة الحال في المعنى نحو قولك: راكباً جئت و { خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ}. قيل: الفرق أن الحال لم تكن في الأصل هي الفاعلة كما كان المميز كذلك ألا ترى أنه ليس التقدير والأصل: جاء راكبي كما أن أصل طبت به نفسا طابت به نفسي وإنما الحال مفعول فيها كالظرف ولم تكن قط فاعلة فنقل الفعل عنها. فأما كونها هي الفاعل في المعنى فككون خبر كان هو اسمها الجاري مجرى الفاعل في المعنى وأنت تقدمه على كان فتقول: قائماً كان زيد ولا تجيز تقديم اسمها عليها. فهذا فرق. وكما لا يجوز تقديم الفاعل على الفعل فكذلك لا يجوز تقديم ما أقيم مقام الفاعل كضرب زيد. وبعد فليس في الدنيا مرفوع يجوز تقديمه على رافعه. فأما خبر المبتدأ فلم يتقدم عند على رافعه لأن رافعه ليس المبتدأ وحده إنما الرافع له المبتدأ والابتداء جميعاً فلم يتقدم الخبر عليهما معاً وإنما تقدم على أحدهما وهو المبتدأ. فهذا لا ينتقض. لكنه على قول أبي الحسن مرفوع بالمبتدأ وحده ولو كان كذلك لم يجز تقديمه على المبتدأ. ولا يجوز تقديم الصلة ولا شيء منها على الموصول ولا الصفة على الموصوف ولا المبدل على المبدل منه ولا عطف البيان على المعطوف عليه ولا العطف الذي هو نسق على المعطوف عليه إلا في الواو وحدها وعلى قلته أيضاً نحو قام وعمرو زيد. وأسهل منه ضربت وعمرا زيدا لأن الفعل في هذا قد استقل بفاعله وفي قولك: قام وعمرو زيد اتسعت في الكلام قبل الاستقلال والتمام. فأما قوله: ألا يا نخلةً من ذات عرق عليك ورحمةُ الله السلام فحملته الجماعة على هذا حتى كأنه عندها: عليك السلام ورحمة الله. وهذا وجه إلا أن عندي فيه وجهاً لا تقديم فيه ولا تأخير من قبل العطف. وهو أن يكون رحمة الله معطوفاً على الضمير في عليك. وذلك أن السلام مرفوع بالابتداء وخبره مقدم عليه وهو عليك ففيه إذاً ضمير منه مرفوع بالظرف فإذا عطفت رحمة الله عليه ذهب عنك مكروه التقديم. لكن فيه العطف على المضمر المرفوع المتصل من غير توكيد له وهذا أسهل عندي من تقديم قلت إذ أقبلت وزهرٌ تهادى كنعاج الملا تعسفن رملا وذهب بعضهم في قول الله تعالى: {فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} إلى أن هو معطوف على الضمير في استوى. ومما يضعف تقديم المعطوف على المعطوف عليه من جهة القياس أنك إذا قلت: قام وزيد عمرو فقد جمعت أمام زيد بين عاملين: أحدهما قام والآخر الواو ألا تراها قائمة مقام العامل قبلها وإذا صرت إلى ذلك صرت كأنك قد أعملت فيه عاملين وليس هذا كإعمال الأول أو الثاني في نحو قام وقعد زيد لأنك في هذا مخير: إن شئت أعملت الأول وإن شئت أعملت الآخر. وليس ذلك في نحو قام زيد وعمرو لأنك لا ترفع عمرا في هذا إلا بالأول. فإن قلت: فقد تقول في الفعلين جميعاً بإعمال أحدهما البتة كقوله: كفاني ولم أطلب قليلٌ من المال قيل: لم يجب هذا في هذا البيت لشيء يرجع إلى العمل اللفظي وإنما هو شيء راجع إلى المعنى وليس كذلك قام وزيد عمرو لأن هذا كذا حاله ومعناه واحد تقدم أو تأخر. فقد عرفت ما في هذا الحديث. ولا يجوز تقديم المضاف إليه على المضاف ولا شيء ما اتصل به. ولا يجوز تقديم الجواب على المجاب شرطاً كان أو قسماً أو غيرهما ألا تراك لا تقول: أقُمْ إن تَقُمْ. فأما قولك أقوم إن قمت فإن قولك: أقوم ليس جواباً للشرط ولكنه دال على الجواب أي إن قمت قمت ودلت أقوم على قمت. ومثله أنت ظالم إن فعلت أي إن فعلت ظلمت فحذفت ظلمت ودل قولك: أنت ظالم عليه. فأما قوله: فلم أرقه إن ينج منها وإن يمت فطعنة لاغس ولا بمغمر فذهب أبو زيد إلى أنه أراد: إن ينج منها فلم أرقه وقدم الجواب. وهذا عند كافة أصحابنا غير جائز. والقياس له دافع وعنه حاجز. وذلك أن جواب الشرط مجزوم بنفس الشرط ومحال تقدم المجزوم على جازمه بل إذا كان الجار وهو أقوى من الجازم لأن عوامل الأسماء أقوى من عوامل الأفعال لا يجوز تقديم ما انجر به عليه كان ألا يجوز تقديم المجزوم على جازمه أحرى وأجدر. وإذا كان كذلك فقد وجب النظر في البيت. ووجه القول عليه أن الفاء في قوله: فلم أرقه لا يخلو أن تكون معلقة بما قبلها أو زائدة وأيهما كان فكأنه قال: لم أرقه إن ينج منها وقد علم أن لم أفعل نفي فعلت وقد أنابوا فعلت عن جواب الشرط وجعلوه دليلاً عليه في قوله: أي إن لم تحب أوديت. فجعل أوديت دليلاً على أوديت هذه المؤخرة. فكما جاز أن تجعل فعلت دليلاً على جواب الشرط المحذوف كذلك جعل نفيها الذي هو لم أفعل دليلاً على جوابه. والعرب قد تجري الشيء مجرى نقيضه كما تجريه مجرى نظيره ألا تراهم قالوا: جوعان كما قالوا: شبعان وقالوا: علم كما قالوا: جهل وقالوا: كثر ما تقومن كما قالوا: قلما تقومن. وذهب الكسائي في قوله: إذا رضيت على بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاها إلى أنه عدى رضيت بعلى لما كان ضد سخطت وسخطت مما يعدي بعلى وهذا واضح. وكان أبو علي يستحسنه من الكسائي. فكأنه قال: إن ينج منها ينج غير مرقي منها وصار قوله: لم أرقه بدلاً من الجواب ودليلاً عليه. فهذه وجوه التقديم والتأخير في كلام العرب. وإن كنا تركنا منها شيئاً فإنه معلوم الحال ولاحق بما قدمناه. وأما الفروق والفصول فمعلومة المواقع أيضاً. فمن قبيح الفرق بين المضاف والمضاف إليه والفصل بين الفعل والفاعل بالأجنبي وهو دون الأول ألا ترى إلى جواز الفصل بينهما بالظرف نحو قولك: كان فيك زيد راغباً وقبح الفصل فلما للصلاة دعا المنادي نهضت وكنت منها في غرور وسترى ذلك. ويلحق بالفعل والفاعل في ذل المبتدأ والخبر في قبح الفصل بينهما. وعلى الجملة فكلما ازداد الجزءان اتصالاً قوي قبح الفصل بينهما. فمن الفصول والتقديم والتأخير قوله: فقد والشك بين لي عناء بوشك فراقهم صرد يصيح أراد: فقد بين لي صرد يصيح بوشك فراقهم ولاشك عناء. ففيه من الفصول ما أذكره. وهو الفصل بين قد والفعل الذي هو بين. وهذا قبيح لقوة اتصال قد بما تدخل عليه من الأفعال ألا تراها تعتد مع الفعل كالجزء منه. ولذلك دخلت اللام المراد بها توكيد الفعل على قد في نحو قول الله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ} وقوله: ولقد أجمع رجالي بها حذر الموت وإني لفرور فصل بين المبتدأ الذي هو الشك وبين الخبر الذي هو عناء بقوله: بين لي وفصل بين الفعل الذي هو بين وبين فاعله الذي هو صرد بخبر المبتدأ الذي هو عناء وقدم قوله: بوشك فراقهم وهو معمول يصيح ويصيح صفة لصرد على صرد وتقديم الصفة أو ما يتعلق بها على موصوفها قبيح ألا ترى أنك لا تجيز هذا اليوم رجل ورد من موضع كذا لأنك تريد: هذا رجل ورد اليوم من موضع كذا. وإنما يجوز وقوع المعمول فيه بحيث يجوز وقوع العامل فكما لا يجوز تقديم الصفة على موصوفها كذلك لا يجوز تقديم ما اتصل بها على موصوفها كما لا يجوز تقديم معمول المضاف إليه على نفس المضاف لما لم يجز تقديم المضاف إليه عليه. ولذلك لم يجز قولك: القتال زيدا حين تأتي وأنت تريد: القتال حين تأتي زيدا. فمتى رأيت الشاعر قد ارتكب مثل هذه الضرورات على قبحها وانخراق الأصول بها فاعلم أن ذلك على ما جشمه منه وإن دل من وجه على جوره وتعسفه فإنه من وجه آخر مؤذن بصياله وتخمطه وليس بقاطع دليل على ضعف لغته ولا قصوره عن اختياره الوجه الناطق بفصاحته. بل مثله في ذلك عندي مث لمجرى الجموح بلا لجام ووارد الحرب الضروس حاسراً من غير احتشام. فهو وإن كان ملوماً في عنفه وتهالكه فإنه مشهود له بشجاعته وفيض منته ألا تراه لا يجهل أن لو تكفر في سلاحه أو أعصم بلجام جواده لكان أقرب إلى النجاة وأبعد عن الملحاة لكنه جشم ما جشمه على علمه بما يعقب اقتحام مثله إدلالاً بقوة طبعه ودلالة على شهامة نفسه. ومثله سواء ما يحكى عن بعض الأجواد أنه قال: أيرى البخلاء أننا لا نجد بأموالنا ما يجدون بأموالهم لكنا نرى أن في الثناء بإنفاقها عوضا من حفظها بإمساكها. ونحو منه قولهم: تجوع الحرة ولا تأكل بثييها وقول الآخر: لا خير في طمع يدني إلى طبع وغفة من قوام العيش تكفيني فاعرف بما ذكرناه حال ما يرد في معناه وأن الشاعر إذا أورد منه شيئاً فكأنه لأنسه بعلم غرضه وسفور مراده لم يرتكب صعباً ولا جشم إلا أمما وافق بذلك قابلاً له أو صادف غير آنس به إلا أنه هو قد استرسل واثقاً وبنى الأمر على أن ليس ملتبساً. ومن ذلك قوله: فأصبحت بعد خط بهجتها كأن قفرا رسومها قلما أراد: فأصبحت بعد بهجتها قفراً كأن قلما خط رسومها. ففصل بين المضاف الذي هو بعد والمضاف إليه الذي هو بهجتها بالفعل الذي هو خط وفصل أيضاً بخط بين أصبحت وخبرها الذي هو قفرا وفصل بين كأن واسمها الذي هو قلما بأجنبيين: أحدهما قفرا والآخر: رسومها ألا ترى أن رسومها مفعول خط الذي هو خبر كأن وأنت لا تجيز كأن خبزا زيداً آكل. بل إذا لم تجز الفصل بين الفعل والفاعل على قوة الفعل في نحو كانت زيداً الحمى تأخذ كان ألا تجيز الفصل بين كأن واسمها بمفعول فاعلها أجدر. نعم وأغلظ من ذا أنه قدم خبر كأن عليها وهو قوله: خط. فهذا ونحوه مما لا يجوز لأحد قياس عليه. غير أن فيه ما قدمناه ذكره من سمو الشاعر وتغطرفه وبأوه وتعجرفه. فاعرفه واجتنبه. ومن ذلك بيت الكتاب: وما مثله في الناس إلا مملكا أبو أمه حي أبوه يقاربه وأما قول الفرزدق: إلى ملك ما أمه من محارب أبوه ولا كانتكليب تصاهره فإنه مستقيم ولا خبط فيه. وذلك أنه أراد: إلى ملك أبوه ما أمه من محارب أي ما أم أبيه من محارب فقدم خبر الأب عليه وهو جملة كقولك: قام أخوها هند ومررت بغلامهما أخواك. وتقول على هذا: فضته محرقة سرجها فرسك تريد: فرسك سرجها فضته محرقة ثم تقدم خبر السرج أيضاً عليه فتقول: فضته محرقة سرجها فرسك. فإن زدت على هذا شيئاً قلت: أكثرها محرق فضته سرجها فرسك أردت: فرسك سرجها فضته أكثرها محرق فقدمت الجملة التي هي خبر عن الفضة عليها ونقلت الجمل عن مواضعها شيئاً فشيئاً. وطريق تجاوز فأما قوله: معاوي لم ترع الأمانة فارعها وكن حافظاً لله والدين شاكر فإن شاكر هذه قبيلة. أراد: لم ترع الأمانة شاكر فارعها وكن حافظاً لله والدين. فهذا شيء من الاعتراض. وقد قدمنا ذكره وعلة حسنه ووجه جوازه. وأما قوله: يوماً تراها كمثل أردية العص ب ويوماً أديمها نغلا فإنه أراد: تراها يوماً كمثل أردية العصب وأديمها يوماً آخر نغلا. ففصل بالظرف بين حرف العطف والمعطوف به على المنصوب من قبله وهو " ها " من تراها. وهذا أسهل من قراءة من قرأ {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} إذا جعلت يعقوب في موضع جر وعليه تلقاه القوم من أنه مجرور الموضع. وإنما كانت الآية أصعب مأخذاً من قبل أن حرف العطف منها الذي هو الواو ناب عن الجار الذي هو الباء في قوله بإسحاق وأقوى أحوال حرف العطف أن يكون في قوة العامل قبله وأن يلي من العمل ما كان الأول يليه والجار لا يجوز فصله من مجروره وهو في الآية قد فصل بين الواو ويعقوب بقوله {وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ}. والفصل بين الجار ومجروره لا يجوز وهو أقبح منه بين المضاف والمضاف إليه. وربما فرد الحرف منه فجاء منفوراً عنه قال: ففصل بين حرف الجر ومجروره بالظرف الذي هو منها وليس كذلك حرف العطف في قوله: . . . ويوماً أديمها نغلا لأنه عطف على الناصب الذي هو ترى فكأن الواو أيضاً ناصبة والفصل بين الناصب ومنصوبه ليس كالفصل بين الجار ومجروره. وليس كذلك قوله: فصلقنا في مراد صلقة وصداء ألحقتهم بالثلل فليس منه لأنه لم يفصل بين حرف العطف وما عطفه وإنما فيه الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالمصدر الذي هو صلقة وفيه أيضاً الفصل بين الموصوف الذي هو صلقة وصفته التي هي قوله ألحقتهم بالثلل بالمعطوف والحرف العاطفة أعني قوله: وصداء وقد جاء مثله أنشدنا: أمرت من الكتان خيطاً وأرسلت رسولاً إلى أخرى جرياً يعينها أراد: وأرسلت إلى أخرى رسولاً جرياً. والأحسن عندي في يعقوب من قوله عز اسمه: {وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} فيمن فتح أن يكون في موضع نصب بفعل مضمر دل عليه قوله {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} أي وآتيناها يعقوب. فإذا فعلت ذلك لم يكن فيه فصل بين الجار والمجرور. فاعرفه. فليست خراسان التي كان خالد بها أسد إذ كان سيفاً أميرها فحديثه طريف. وذلك أنه فيما ذكر يمدح خالد بن الوليد ويهجو أسداً وكان أسد وليها بعد خالد قالوا فكأنه قال: وليست خراسان بالبلدة التي كان خالد بها سيفاً إذ كان أسد أميرها ففي كان على هذا ضمير الشأن والحديث والجملة بعدها التي هي أسد أميرها خبر عنها. ففي هذا التنزيل أشياء: منها الفصل بين اسم كان الأولى وهو خالد وبين خبرها الذي هو سيفاً بقوله بها أسد إذ كان فهذا واحد. وثان: أنه قدم بعضص ما إذ مضافة إليه وهو أسد عليها. وفي تقديم المضاف إليه أو شيء منه على المضاف من القبح والفساد ما لا خفاء به ولا ارتياب. وفيه أيضاً أن أسد أحد جزأي الجملة المفسرة للضمير على شريطة التفسير أعني ما في كان منه. وهذا الضمير لا يكون تفسيره إلا من بعده. ولو تقدم تفسيره قبله لما احتاج إلى تفسير ولما سماه الكوفيون الضمير المجهول. فإن قلت: فقد قال الله تعالى: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقدم إذا وهي منصوبة بشاخصة وإنما يجوز وقعوع المعمول بحيث يجوز وقوع العامل فكأنه على هذا قال: فإذا هي شاخصة هي أبصار الذين كفروا وهي ضمير القصة وقد ترى كيف قدرت تقديم أحد الجزأين اللذين يفسرانها عليها فكما جاز هذا فكذلك يجوز أيضاً أن يقدم أسد على الضمير قيل: الفرق أن الآية إنما تقدم فيها الظرف المتعلق عندك بأحد جزأي تفسير الضمير وهو شاخصة والظرف مما يتسع الأمر فيه ولا تضيق مساحة التعذر له بأن تعلقه بمحذوف يدل عليه شاخصة أو شاخصة أبصار الذين كفروا كما تقول في أشياء كثيرة نحو قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ} وقوله: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} وقول الشاعر: وكنت أرى زيداً كما قيل سيدا إذا إنه عبد الفقا واللهازم فيمن كسر إن. وأما البيت فإنه قدم فيه أحد الجزأين البتة وهو أسد. وهذا ما لا يسمح به ولا يطوي كشح عليه. وعلى أنه أيضاً قد يمكن أن تكون كان زائدة فيصير تقديره: إذ أسد أميرها. فليس في هذا أكثر من شيء واحد وهو ما قدمنا ذكره من تقديم ما بعد إذ عليها وهي مضافة إليه. وهذا أشبه من الأول ألا ترى أنه إنما نعى على خراسان إذ أسد أميرها لأنه إنما فضل أيام خالد المنقضية بها على أيام أسد المشاهدة فيها. فلا حاجة به إذاً إلى كان لأنه أمر حاضر مشاهد. فأما إذ هذه فمتعلقة بأحد شيئين: إما بليس وحدها وإما بما دلت عليه من غيرها حتى كأنه قال: خالفت خراسان إذ أسد أميرها حالتها التي كانت عليه لها أيام ولاية خالد لها على حد ما تقول فيما يضم للظروف لتتناولها وتصل إليها. فإن قلت: فكيف يجوز لليس أن تعمل في الظرف وليس فيها تقدير حدث. قيل: جاز ذلك فيها من حيث جاز أن ترفع وتنصب وكانت على مثال الفعل فكما عملت الرفع والنصب وإن عريت من معنى الحدث كذلك أيضاً تنصب الظرف لفظاً كما عملت الرفع والنصب لفظاً ولأنها على وزن الفعل. وعلى ذلك وجه أبو علي قول الله سبحانه: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} لأنه أجاز في نصب يوم ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون متعلقاً بنفس ليس من حيث ذكرنا من الشبه اللفظي. وقال لي أبو علي رحمه الله يوماً: الظرف يتعلق بالوهم مثلا. فأما قول الآخر: نظرت وشخصي مطلع الشمس ظله إلى الغرب حتى ظله الشمس قد عقل فقيل فيه: أراد نظرت مطلع الشمس وشخصي ظله إلى الغرب حتى عقل الشمس ظله أي حاذاها فعلى هذا التفسير قد فصل بمطلع الشمس بين المبتدأ وخبره وقد يجوز ألا يكون فصل لكن على أن يتعلق مطلع الشمس بقوله: إلى الغرب حتى كأنه قال: شخصي ظله إلى الغرب وقت طلوع الشمس فيعلق الظرف بحرف الجر الجاري خبراً عن الظل كقولك: زيد من الكرام يوم الجمعة فيعلق الظرف بحرف الجر ثم قدم الظرف لجواز تقديم ما تعلق به إلى موضعه ألا تراك تجيز أن تقول: شخصي إلى الغرب ظله وأنت تريد: شخصي ظله إلى الغرب. فعلى هذا تقول: زيد يوم الجمعة أخوه من الكرام ثم تقدم فتقول: زيد من الكرام يوم الجمعة أخوه. فاعرفه. وقال الآخر: أيا بن أناس هل يمينك مطلق نداها إذا عد الفعال شمالها أراد: هل يمينك شمالها مطلق نداها. فها من نداها عائد إلى الشمال لا اليمين والجملة خبر عن يمينها. وقال الفرزدق: ملوك يبتنون توارثوها سرادقها المقاول والقبابا أراد: ملوك يبتنون المقاول والقباب توارثوها سرادقها. فقوله: " يبتنون المقاول والقباب " صفة لموك. وقوله: توارثوها سرادقها صفة ثانية لملوك موضعها التأخير فقدمها وهو يريد بها موضعها كقولك: مررت برجل مكلمها مار بهند أي مار بهند مكلمها فقدم الصفة الثانية وهو معتقد تأخيرها. ومعنى يبتنون المقاول أي أنهم يصطنعون المقاول ويبتنونهم كقول المولد: يبني الرجال وغيره يبني القرى شتان بين قرى وبين رجال وقوله: توارثوها أي توارثوا الرجال والقباب. ويجوز أن تكون الهاء ضمير المصدر أي توارثوا فأما ما أنشده أبو الحسن من قوله: لسنا كمن حلت إياد دارها تكريت ترقب حبها أن تحصدا فمعناه: لسنا كمن حلت دارها ثم أبدل إياد من " من حلت دارها " فإن حملته على هذا كان لحناً لفصلك بالبدل بين بعض الصلة وبعض فجرى ذلك في فساده مجرى قولك: مررت بالضارب زيد جعفرا. وذلك أن البدل إذا جرى على المبدل منه آذن بتمامه وانقضاء أجزائه فكيف يسوغ لك أن تبدل منه وقد بقيت منه بقية هذا خطأ في الصناعة. وإذا كان كذلك والمعنى عليه أضمرت ما يدل عليه حلت فنصبت به الدار فصار تقديره: لسنا كمن حلت إياد أي كإياد التي حلت ثم قلت من بعده: حلت دارها. فدل حلت في الصلة على حلت هذه التي نصبت دارها. ومثله قول الله سبحانه: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} أي يرجعه يومن تبلى السرائر فدل رجعه على يرجعه. ولا يجوز أن تعلق يوم بقوله لقادر لئلا يصغر المعنى لأن الله تعالى قادر يوم تبلى السرائر وغيره في كل وقت وعلى كل حال على رجع البشر وغيرهم. وكذلك قول الآخر.ولا تحسبن القتل محضاً شربته نزارا ولا أن النفوس استقرت ومعناه: لا تحسبن قتلك نزاراً محضاً شربته إلا أنه وإن كان هذا معناه فإن إعرابه على غيره وسواه ألا ترى أنك إن حملته على هذا جعلت نزارا في صلة المصدر الذي هو القتل وقد فصلت بينهما بالمفعول الثاني الذي هو محضاً وأنت لا تقول: حسبت ضربك جميلاً زيداً وأنت تقدره على: حسبت ضربك زيداً جميلاً لما فيه من الفصل بين الصلة والموصول بالأجنبي. فلا بد إذاً من أن تضمر لنزار ناصباً يتناوله يدل عليه قوله: القتل أي قتلت نزارا. وإذا جاز أن يقوم الحال مقام اللفظ بالفعل كان اللفظ بأن يقوم مقام اللفظ أولى وأجدر. وذاكرت المتنبيء شاعرنا نحوا من هذا وطالبته به في شيء من شعره فقال: لا أدري ما هو إلا أن الشاعر قد قال: لسنا كمن حلت إياد دارها البيت. فعجبت من ذكائه وحضوره مع قوة المطالبة له حتى أورد ما هو في معنى البيت الذي تعقبته عليه من شعره. واستكثرت ذلك منه. والبيت قوله: وفاؤكما كالربع ِأشجاه طاسمه بإن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه وذكرنا ذلك لاتصاله بما نحن عليه فإن الأمر يذكر للأمر. وأنشدنا أبو علي للكميت: أي وكالناظرات ما يرى المسحل صواحبها. فإن حملته على هذا ركبت قبح الفصل. فلا بد إذاً أن يكون ما يرى المسحل محمولاً على مضمر يدل عليه قوله الناظرات أي نظرن ما يرى المسحل. وهذا الفصل الذي نحن عليه ضرب من الحمل على المعنى إلا أنا أوصلناه بما تقدمه لما فيه من التقديم والتأخير في ظاهره. وسنفرد للحمل على المعنى فصلا بإذن الله. وأنشدوا: كأن برذون أبا عصام زيد حمار دق باللجام أي كأن برذون زيد يا أبا عصام حمار دق باللجام. والفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف وحرف الجر قبيح كثير لكنه من ضرورة الشاعر. فمن ذلك قول ذي الرمة: كأن أصوات من إبغالهن بنا أواخر الميس أصوات الفراريج أي كأن أصوات أواخر الميس من إيغالهن بنا أصوات الفراريج. وقوله: ما خط الكتاب بكف يوما يهودي يقارب أو يزيل أي بكف يهودي. هما أخوا في الحرب من لا أخاله إذا خاف يوماً نبوة فدعاهما أي هما أخوا منلا أخا له في الحرب فعلق الظرف بما في أخوا من معنى الفعل لأن معناه: هما ينصرانه ويعاونانه. وقوله: هما خطتا إما إسارٍ ومنةٍ وإما دمٍ والقتل بالحر أجدر ففصل بين خطتا وإسارٍ بقوله إما ونظيره هو غلام إما زيد وإما عمرو. وقد ذكرت هذا البيت في جملة كتابي في تفسير أبيات الحماسة وشرحت حال الرفع في إسار ومنة. ومن ذلك قوله: فزججتها بمزجة زج القلوص أبي مزاده أي زج أبي مزادة القلوص. ففصل بينهما بالمفعول به. هذا مع قدرته على أن يقول: زج القلوص أبو مزادة كقولك: سرني أكل الخبز زيد. وفي هذا البيت عندي دليل على قوة إضافة المصدر إلى الفاعل عندهم وأنه في نفوسهم أقوى من إضافته إلى المفعول ألا تراه ارتكب ههنا الضرورة مع تمكنه من ترك ارتكابها لا لشيء غير الرغبة في إضافة المصدر إلى الفاعل دون المفعول. يطفن بحوزي المراتع لم يرع بواديه من قرع القسي الكنائن فلم نجد فيه بداً من الفصل لأن القوافي مجرورة. ومن ذلك قراءة ابن عامر: { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم } وهذا في النثر وحال السعة صعب جداً ولا سيما والمفصول به مفعول لا ظرف. ومنه بيت الأعشى: إلا بداهة أو علا لة قارح نهد الجزاره ومذهب سيبويه فيه الفصل بين بداهة وقارح وهذا أمثل عندنا من مذهب غيره فيه لما قدمنا في غير هذا الموضع. وحكى الفراء عنهم: برئت إليك من خمسة وعشري النخاسين وحكى أيضاً: قطع الله الغداة يد ورجل من قاله ومنه قولهم: هو خير وأفضل من ثم وقوله: يا من رأى عارضاً أرقت له بين ذراعي وجبهة الأسد فإن قيل: لو كان الآخر مجروراً بالأول لكنت بين أمرين. أما أن تقول: إلا علالة أو بداهته قارحٍ وبرئت إليك من خمسة وعشريهم النخاسين وقطع الله يد ورجله من قاله ومررت بخير وأفضله مَنْ ثَمَّ وبين ذراعي وجبهته الأسدِ لأنك إنما تعمل الأول فجرى ذلك مجرى: ضربت فأوجعته زيداً إذا أعملت الأول. وإما أن تقدر حذف المجرور من الثاني وهو مضمر ومجرور كما ترى والمضمر إذا كان مجروراً قبح حذفه لأنه يضعف أن ينفصل فيقوم برأسه. فإذا لم تخل عند جرك الآخر بالأول من واحد من هذين وكل واحد منهما متروك وجب أن يكون المجرور إنما انجر بالمضاف الثاني الذي وليه لا بالأول الذي بَعُد عنه. قيل: أما تركهم إظهار الضمير في الثاني وأن يقولوا: بين ذراعي وجبهته الأسد ونحو ذلك فإنهم لو فعلوه لبقي المجرور لفظاً لا جار له في اللفظ يجاوره لكنهم لما قالوا: بين ذراعي وجبهة الأسد صار كأن الأسد في اللفظ مجرور بنفس الجبهة وإن كان في الحقيقة مجروراً بنفس الذراعين. وكأنهم في ذلك إنما أرادوا إصلاح اللفظ. وأما قبح حذف الضمير مجروراً لضعفه ع الانفصال فساقط عنا أيضاً. وذلك أنه إنما يقبح فصل الضمير المجرور متى خرج إلى اللفظ نحو مررت بزيدٍ وك ونزلت على زيد وه لضعفه أن يفارق ما جره. فأما إذا لم يظهر إلى اللفظ وكان إنما هو مقدر في النفس غير مستكره عليه اللفظ فإنه لا يقبح ألا ترى أن هنا أشياء مقدرة لو ظهرت إلى اللفظ قبحت ولأنها غير خارجة إليه ما حسنت. من ذلك قولهم: اختصم زيد وعمرو ألا ترى أن العامل في المعطوف غير العامل في المعطوف عليه فلا بد إذاً من تقديره على: اختصم زيد واختصم عمرو وأت لو قلت ذلك لم يجز لأن اختصم ونحوه من الأفعال مثل اقتتل واستب واصطرع لا يكون فاعله أفل من اثنين. وكذلك قولهم: رب رجل وأخيه ولو قلت: ورب أخيه لم يجز وإن كانت رب مرادة هناك ومقدرة. فقد علمت بهذا وغيره أن ما تقدره وهماً ليس كما تلفظ به لفظا. فلهذا يسقط عندنا إلزام سيبويه هذه الزيادة. والفصل بين المضاف والمضاف إليه كثير وفما أوردناه منه كاف بإذن الله. وقد جاء الطائي الكبير بالتقديم والتأخير فقال: وإن الغنى لي لو لحظت مطالبي من الشعر إلا في مديحك أطوع وتقديره: وإن الغنى لي لو لحظت مطالبي أطوع من الشعر إلا في مديحك أي فإنه يطيعني في مدحك ويسارع إلي. وهذا كقوله أيضاً معنى لا لفظاً: تغاير الشعر فيه إذ سهرت له حتى ظننت قوافيه ستقتتل وكقول الآخر: ولقد أردت نظامها فتواردت فيها القوافي جحفلا عن حجفل وذهب أبو الحسن في قول الله سبحانه: { مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ} إلى أنه أراد: من شر الوسواس الخناس من الجنة والناس الذي يوسوس ومنه قول الله عز اسمه: {اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} أي اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم. وقيل في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} إن تقديره: والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة ثم يعودون لما قالوا. ونحو من هذا ا قدمنا ذكره من الاعتراض في نحو قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} تقديره والله أعلم فلا أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم وإنه لقسم عظيم لو تعلمون. وقد شبه الجازم بالجار ففصل بينهما كما فصل بين الجار والمجرور وأنشدنا لذي الرمة: فأضحت مغانيها قفارا رسومها كأن لم سوى أهل من الوحش تؤهل وجاء هذا في ناصب الفعل. أخبرنا محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى بقول الشاعر: لما رايت أبا يزيد مقاتلاً أدع القتال. . . . . . أي لن أدع القتال ما رأيت أبا يزيد مقاتلا كما أراد في الأول: كأن لم تؤهل سوى أهل من الوحش. وكأنه شبه لن بان فكما جاز الفصل بين أن واسمها بالظرف في نحو قولك: بلغني أن في الدار زيداً كذلك شبه لن مع الضرورة بها ففصل بينها وبين منصوبها بالظرف الذي هو ما رأيت أبا يزيد أي مدة رؤيتي. اعلم أن هذا الشَرْج غور من العربية بعيد ومذهب نازح فسيح. قد ورد به القرآن وفصيح الكلام منثوراً ومنظوماً كتأنيث المذكر وتذكير المؤنيث وتصوير معنى الواحد في الجماعة والجماعة في الواحد وفي حمل الثاني على لفظ قد يكون عليه الأول أصلا كان ذلك اللفظ أو فرعاً وغير ذلك مما تراه بإذن الله. فمن تذكير المؤنث قوله: فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها ذهب بالأرض إلى الموضع والمكان. ومنه قول الله عز وجل: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي} أي هذا الشخص أو هذا المرئي ونحوه. وكذلك قوله تعالى: {فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ} لأن الموعظة والوعظ واحد. وقالوا في قوله سبحانه: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} إنه أراد بالرحمة هنا المطر. ويجوز أن يكون التذكير هنا إنما هو لأجل فَعِيل على قوله: بأعينٍ أعداءٍ وهن صديق وقوله: #. . . ولا عفراء منك قريب وعليه قول الحطيئة: ثلاثة أنفس وثلاث ذود لقد جار الزمان على عيالي وأما بيت الحكمى: ككمون النار في حجره فيكون على هذا لأنه ذهب إلى النور والضياء ويجوز أن تكون الهاء عائدة على الكمون أي في حجر الكمون. والأول أسبق في اصنعه إلى النفس وقال الهذلي: بعيد الغزاة فما إن يزا ل مضطمرا طرتاه طليحا ذهب بالطرتين إلى اشعر. ويجوز أن يكون طرتاه بدلاً من الضمير إذا جعلته في مضطمر كقول الله سبحانه: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ} إذا جعلت في مفتحة ضميراً وجعلت الأبواب بدلاً من ذلك الضمير ولم يكن تقديره: الأبواب منها على أن نخلى مفتحة من الضمير. نعم وإذا كان في مفتحة ضمير والأبواب بدل منه فلا بد أيضاً من أن يكون تقديره مفتحة لهم الأبواب منها. وليس منها وفي مفتحة ضمير مثلها إذا أخليتها من ضمير. وذلك أنها إذا خلت مفتحة من ضمير فالضمير في منها عائد الحال إذا كانت مشتقة كقولك: مررت بزيد واقفاً الغلام معه وإذا كان في مفتحة ضمير فإن الضمير في منها هو الضمير الذي يرد به المبدل عائداً على المبدل منه كقولك: ضربت زيداً رأسه أو الرأس منه وكلمت قومك نصفهم أو النصف منهم وضرب زيد الظهر والبطن أي الظهر منه والبطن منه. فاعرف ذلك فرقاً بين الموضعين. إن امرأ غره منكن واحدة بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور لما فصل بين الفعل وفاعله حذف علامة التأنيث وإن كان تأنيثه حقيقياً. وعليه قولهم: حضر القاضي امرأة وقوله: لقد ولد الأخيطل أم سوء على باب استها صلب وشام وأما قول جران العود: ألا لا يغرن امرأ نوفلية على الرأس بعدي أو ترائب وضح فليست النوفلية هنا امرأة وإنما هي مشطة تعرف بالنوفلية فتذكير الفعل معها أحسن. وتذكير المؤنث واسع جداً لأنه رد فرع إلى أصل. لكن تأنيث المذكر أذهب في التناكر والإغراب. وسنذكره. وأما تأنيث المذكر فكقراءة من قرأ { تلتقطه بعض السيارة } وكقولهم: ما جاءت حاجتك وكقولهم: ذهبت بعض أصابعه. أنث ذلك لما كان بعض السيارة سيارة في المعنى وبعض الأصابع إصبعاً ولما كانت " ما " هي الحاجة في المعنى. وأنشدوا: أتهجر بيتاً بالحجاز تلفعت به الخوف والأعداء من كل جانب ذهب بالخوف إلى المخافة. وقال لبيد: إن شئت قلت: أنث الإقدام لما كان في معنى التقدمة. وإن شئت قلت: ذهب إلى تأنيث العادة كما ذهب إلى تأنيث الحاجة في قوله: ما جاءت حاجتك وقال: يأيها الراكب المزجى مطيته سائل بني أسد ما هذه الصوت ذهب إلى تأنيث الاستغاثة. وحكى الأصمعي عن أبي عمرو أنه سمع رجلاً من أهل اليمن يقول: فلان لغوب جاءته كتابي فاحتقرها! فقلت له: أتقول: جاءته كتابي! فقال نعم أليس بصحيفة! قلت: فما اللغوب قال: الأحمق. وهذا في النثر كما ترى وقد علله. وهذا مما قد ذكرناه فيما مضى من كتابنا هذا غير أنا أعدناه لقوته في معناه. وقال: لو كان في قلبي كقدر قلامةٍ حبا لغيرك قد أتاها أرسلي كسر رسولا وهو مذكر على أَرْسُل وهو من تكسير المؤنث كأتان وآتُن وعناق وأعنق وعُقاب وأعُقب لما كان الرسول هنا إنما يراد به المرأة لأنها في غالب الأمر مما يستخدم في هذا الباب. وكذلك ما جاء عنهم من جناح واجنح. قالوا: ذهب في التأنيث إلى الريشة. وعليه قول عمر: فكان مجيء دون من كنت ألقى ثلاث شخوص: كأعيان ومعصر أنث الشخص لأنه أراد به المرأة. وقال الآخر: فإن كلانا هذه شرُ ابطُن وأنت بريء من قبائلها العشر وأما قوله: كما شرقت صدر القناة من الدم فإن شئت قلت: أنث لأنه أراد القناة وإن شئت قلت: إن صدر القناة قناة. وعليه قوله: مشين كما اهتزت رماحٌ تسفهت أعاليها مرُّ الرياح النواسم وقول الآخر: لما أتى خبر الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع وقوله: طول الليالي أسرعت في نقضي وقوله: على قبضة موجوءة ظهر كفه وقول الآخر: قد صرح السير عن كتمان وابتذلت وقع المحاجن بالمهرية الذقن وأما قول بعضهم: صرعتني بعير لي فليس عن ضرورة لأن البعير يقع على الجمل والناقة وقال عز اسمه: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} لأنه أراد: امرأة. ومن باب الواجد والجماعة قولهم: هو أحسن الفتيان وأجمله وأفرد الضمير لأن هذا موضع يكثر فيه الواحد كقولك: هو أحسن فتى في الناس قال ذو الرمة: ومية أحسن الثقلين وجها وسالفة وأحسنه قذالا فأفرد الضمير مع قدرته على جمعه. وهذا يدلك على قوة اعتقادهم أحوال المواضع وكيف ما يقع فيها ألا ترى أن الموضع موضع جمع وقد تقدم في الأول لفظ الجمع فترك اللفظ وموجب الموضع إلى الإفراد لأنه يؤلف في هذا المكان. وقال سبحانه: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ} فحمل على المعنى وقال: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} فأفرد على لفظ من ثم جمع من بعد وقال عبيد: فالقطبيات فالذنوب وإنما القُطيبية ماء واحد معروف. وقال الفرزدق: فيا ليت داري بالمدينة أصبحت بأجفار فلج أو بسيف الكواظم يريد الجفر وكظمة. وقال جرير: وإنما رامة أرض واحدة معروفة. واعم أن العرب إذا حملت على المعنى لم تكد تراجع اللفظ كقولك: شكرت من أحسنوا إلي على فعله ولو: قلت شكرت من أحسن إلي على فعلهم جاز. فلهذا ضعف عندنا أن يكون هما من مصطلاهما في قوله: كميتاً الأسمالي جوبتا مصطلاهما عائدا على الأعالي في المعنى إذ كانا أعليين اثنين لأنه موضع قد ترك فيه لفظ التثنية حملا على المعنى لأنه جعل كل جهة منهما أعلى كقولهم: شابت مفارقه وهذا بعير ذو عثانين ونحو ذلك أو لأن الأعليين شيئان من شيئين. فإذا كان قد انصرف عن اللفظ إلى غيره ضعفت معاوته إياه لأنه انتكاث وتراجع فجرى ذلك مجرى إدغام الملحق وتوكيد ما حذف. على أنه قد جاء منه شيء قال: رءوس كبيريهن ينتطحان وأما قوله: كلاهما حين جد الحرب بينهما قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي فليس من هذا الباب وإن كان قد عاد من بعد التثنية إلى الإفراد. وذلك أنه لم يقل: كلاهما قد أقلعا وأنفه راب فيكون ما أنكرناه لكنه قد أعاد كلا أخرى غير الأولى فعاملها على لفظها. ولم يقبح ذلك لأنه قد فرغ من حديث الأولى ثم استأنف من بعدها أخرى ولم يجعل الضمير عائدين إلى كلا واحدة. وهذا كقولك: من يقومون أكرمهم ومن يقعد أضربه. فتأتي بمن الثانية فتعاملها على ما تختار مما يجوز مثله. وهذا واضح فاعرفه. ولا يحسن ومنهم من يستمعون إليك حتى إذا خرج من عندك لما ذكرنا. وأما قول الفرزدق: وإذا ذكرت أباك أو أيامه أخزاك حيث تقبل الأحجار يريد الحجر فإنه جعل كل ناحية حجراً ألا ترى أنك لو مسست كل ناحية منه لجاز أن تقول: مسست الحجر. وعليه شابت مفارقه وهو كثير العثانين. وهذا عندي هو سبب إيقع لفظ الجماعة على معنى الواحد. وأما قوله: فقلنا أسلموا إنا أخوكم فقد برئت من الإحن الصدور فيجوز أن يكون جمع أخ قد حذفت نونه للإضافة ويجوز أن يكون واحداً وقع موقع الجماعة كقوله: وقد توضع من للتثنية وذلك قليل قال: نكن مثل مًنْ يا ذئبُ يصطحبان وأنشدوا: أخو الذئب يعوي والغراب ومن يكن شريكيه تطمع نفسه كل مطمع أودع ضمير من في يكن على لفظ الإفراد وهو اسمها وجاء بشريكيه خبراً ليكن على معنى التثنية فكأنه قال: وأي اثنين كانا شريكيه طمعت أنفسهما كل مطمع. على هذا اللفظ أنشدناه أبو علي وحكى المذهب فيه عن الكسائي أعني عود التثنية على لفظ من إلا أنه عاود لفظ الواحد بعد أن حمل على معنى التثنية بقوله: تطمع نفسه ولم يقل: تطمع أنفسهما. ولو ذهب فيه ذاهب إلى أنه من المقلوب لم أر به بأساً حتى كأنه قال: ومن يكن شريكهما تطمع نفسه كل مطمع. وحسن ذلك شيئاً العلم بأنه إذا كان شريكهما كانا أيضاً شريكيه فشجع بهذا القدر على ما ركبه من القلب. فاعرف ذلك. والحمل على المعنى واسع في هذه اللغة جداً. ومنه قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ} ثم قال {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} قيل فيه: إنه محمول على المعنى حتى كأنه قال: أرأيت كالذي حاج إبراهيم في ربه أو كالذي مَرَّ على قرية فجاء بالثاني على أن الأول ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي بنصب يحسن والظاهر أن يرفع لأنه معطوف على أن الثقيلة إلا أنه نصب أن هذا موضع قد كان يجوز أن تكون فيه أن الخفيفة حتى كأنه قال: ألا زعمت بسباسة أن يكبر فلان كقوله تعالى: {وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} بالنصب. ومن ذلك قوله: بدا لي أني لستُ مدرك ما مضى ولا سابق شيئاً إذا كان جائيا لأن هذا موضع يحسن فيه لست بمدرك تما مضى. ومنه قوله سبحانه: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن} وقوله: فأبلوني بليتكم لعلي أصالحكم وأستدرج نويا حتى كأنه قال: أصالحكم وأستدرج نوايا. ومن ذلك قول الآخر: ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح لأنه لما قال: ليبك يزيد فكأنه قال: ليبكه ضارع لخصومة. وعلى هذا تقولك أكل الخبز زيد وركب الفرس محمد فترفع زيداً ومحمداً بفعل ثان يدل عليه الأول وقوله: لأنه لما قال: هيجني دل على ذَكَّرني فنصبها به. فاكتفى بالمسبب الذي هو التهييج من السبب الذي هو التذكير ونحوه قول الآخر: أسقي الإله عدوات الوادي وجوزه كل ملثٍّ غاد كل أجشٍّ حالك السواد لأنه إذا أسقاها الله كل ملثٍّ فقد سقاها ذلك الأجشُّ. وكذلك قول الآخر: تواهق رجلاها يداها ورأسه لها قتب خلف الحقيبة رادف أراد: تواهق رجلاها يديها فحذف المفعول وقد علم أن المواهقة لا تكون من الرجلين دون اليدين وأن اليدين مواهقتان كما أنهما مواهقتان. فأضمر لليدين فعلا دل عليه الأول. فكأنه قال: تواهق يداها رجليها ثم حذف المفعول في هذا كما حذفه في الأول فصار على ما ترى: تواهق رجلاها يداها. فعلى هذه الصنعة التي وصفت لك تقول: ضارب زيد عمرو على أن ترفع عمرا بفعل غير هذا الظاهر ولا يجوز أن يرتفعا جميعاً بهذا الظاهر: فأما قولهم: اختصم زيد وعمرو ففيه نظر. وهو أن عمرا مرفوع بفعل آخر غير هذا الظاهر على حد قولنا في المعطوف: إن العامل فيه غير العامل في المعطوف عليه فكأنه قال: اختصم زيد واختصم عمرو وأنت مع هذا لو نطقت بهذا الذي تقدره لم يصلح الكلام معه لأن الاختصام لا يكون من أقل من اثنين. وعلة جوازه أنه لما لم يظهر الفعل الثاني المقدر إلى اللفظ لم يجب تقديره وإعماله كأشياء تكون في التقدير فتحسن فإذا أنت أبرزتها إلى اللفظ قبحت. وقد ذكرنا ذلك فيما مضى. ومن ذلك قول الآخر: فكرت تبتغيه فوافقته على دمه ومصرعه السباعا وذلك أنه إذا وافقته والسباع معه فقد دخلت السباع في الموافقة فكأنه قال فيما بعد: وافقت السباع. وهو عندنا على حذف المضاف أي وافقت آثار السباع. قال أبو علي: لأنها لو وافقت السباع هناك لأكلتها معه. فعلى الآن هذه الظرف منصوبة بالفعل المحذوف الذي نصب السباع في التقدير. ولو رفعت السباع لكانت على هذه مرفوعة الموضع لكونها خبراً عن السباع مقدماً وكانت تكون متعلقة بالمحذوف كقولنا في قولهم: في الدار زيد. وعلى هذا قال الآخر: تذكرت أرضاً بها أهلها أخوالها فيها وأعمامها لك فيها وجهان: إن شئت قلت: إنه أضمر فعلاً للأخوال والأعمام على ما تقدم فنصبهما به كأنه قال فيما بعد: تذكرت أخوالها فيها وأعمامها. ودل على هذا الفعل المقدر قوله: تذكرت أرضاً بها أهلها لأنه إذا تذكر هذه الأرض فقد علم أن التذكر قد أحاط بالأخوال والأعمام لأنهم فيها على ما مضى من الأبيات. وإن شئت جعلت أخوالها وأعمامها بدلاً من الأرض بدل الاشتمال على قول الله سبحانه: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ}. فإن قلت: فإن البدل العامل عندك فيه هو غير العامل في المبدل منه وإذا كان الأمر كذلك فقد آل الحديث إلى موضع واحد وهو إضمار الفعل فلم قسمت الأمر فيهما إلى موضعين قيل: الفرق قائم. ووجهه أن اتصال المبدل منه أشد من اتصال ما حمل على المعنى بما قبله وإنما يأتي بعد استقرار الكلام الأول ورسوخه وليس كذلك البدل لأنه وإن كان العامل فيه غير الأول عندنا فإنه مع ذلك مشابه للصفة وجار مجراها. نعم وقد خالف فيه أقوام فذهبوا إلى أن العامل في الثاني هو العامل في الأول. وحدثنا أبو علي أن الزيادي سأل أبا الحسن عن قولهم: مررت برجل قائمٌ زيدٌ أبوه أأبوه بدل أم صفة قال فقال أبو الحسن: لا أبالي بأيهما أجبتُ. أفلا ترى إلى تداخل الوصف والبدل. وهذا يدل على ضعف العامل المقدر مع البدل. وسألت أبا علي رحمه الله عن مسئلة الكتاب: رأيتك إياك قائماً الحال لمن هي فقال: لإياك. قلت: فالعامل فيها ما هو قال: رأيت هذه الظاهرة. قلت: أفلا تعلم أن إياك معمول فعل آخر غير الأول وهذا يقود إلى أن الناصب للحال هو الناصب لصاحبها أعني الفعل المقدر فقال: لما لم يظهر ذلك العامل ضعف حكمه وصارت المعاملة مع هذا الظاهر. فهذا يدلك على ضعف العامل في البدل واضطراب حاله وليس كذلك العامل إذا دل عليه غيره نحو قوله: تواهق رجلاها يداها. . . وقوله: وول تعزيت عنها أم عمار ونحو ذلك لأن هذا فعل مثبت وليس محل ما يعمل فيه المعنى محل البدل. فلما اختلف هذان الوجهان من هذين الموضعين اعتددناهما قسمين اثنين. ومن ذلك قوله: لن تراها ولو تأملت إلا ولها في مفارق الرأس طيبا وهذا هو الغريب من هذه الأبيات. ولعمي إن الرؤية إذا لحقتها فقد لحقت ما هو متصل بها. ففي ذلك شيئان: أحدهما أن الرؤية وإن كانت مشتملة عليها فليس لها طريق إلى الطيب في مفارقها اللهم إلا أن تكون حاسرة غير مقنعة وهذه بذلة وتطرح لا توصف به الخفرات ولا المعشقات ألا ترى إلى قول كثير: ومن كانت من النساء هذه حالها فليست رذلة ولا مبتذلة. وبه وردت الأشعار القديمة والمولدة قال الطائي: عالي الهوى مما يعذب مهجتي أروية الشعف التي لم تسهل وهي طريق مهيع. وإذا كان كذلك وكانت الرؤية لها ليس مما يلزم معه رؤية طيب مفارقها وجب أن يكون الفعل المقدر لنصب الطيب مما يصحب الرؤية لا الرؤية نفسها فكأنه قال: لن تراها إلا وتعلم لها أو تتحقق لها في مفارق الرأس طيباً غير أن سيبويه حمله على الرؤية. وينبغي أن يكون أراد: ما تدل عليه الرؤية من الفعل الذي قدرناه. والآخر أن هذه الواو في قوله: ولها كذا هي واو الحال وصارفة للكلام إلى معنى الابتداء فقج وجب أن يكون تقديره: لن تراها إلا وأنت تعلم أو تتحقق أو تشم فتأتي بالمبتدأ وتجعل ذلك الفعل المقدر خبراً عنه. فاعرف ذلك. ومنه قوله: قد سلم الحيات منه القدما الأفعوان والشجاع الشجعما وذات قرنين ضموزا ضرزما هو من هذا لأنه قد علم أن الحيات مسالمة كما علم أنها مسالمة ورواها الكوفيون بنصب لنا أعنز لبنٌ ثلاث فبعضها لأولادها ثنتا وما بيننا عنز وينشدون قول الآخر: كأن أذنيه إذا تشوفا قادمتتا أو قلما محرفا على أنه أراد: قادمتان أو قلمان محرفان. ورووه أيضاً: تخال أذنيه. . . قادمة أو قلما للحرفا. فهذا على أنه يريد: كل واحدة من أذنيه ومما ينسبونه إلى كلام الطير قول الحجلة للقطاة اقطي قطا فبيضك ثنتا وبيض مائتا أي ثنتان ومائتان. ومن ذلك قوله: يا ليت زوجك قد غدا متقلدا سيفا ورمحا أي وحاملا رمحا. فهذا محمول على معنى الأول لا لفظه. وعليه: علفتها تبنا وماء بارداً حتى شتت همالة عيناها أي وسقيتها ماء باردا وقوله: تراه كأن الله يجدع أنفه وعينيه إن مولاه ثاب له وفر أي ويفقأ عينيه وقوله: تسمع للأجواف منه صردا وفي اليدين جسأة وبددا أي وترى في اليدين جسأة وبددا وقوله: أي وأفرخت نعامها وقوله: إذا ما الغانيات برزن يوما وزججن الحواجب والعيونا أي وكحلن العيون. ومن المحمول على المعنى قوله: طافت أمامة بالركبان آونة يا حسنه من قوام ما وممتقباً لأن الأول في معنى: يا سحنه قواماً وقول الآخر: يذهبن في نجد وغورا غائرا أي ويأتين غورا. وقول الآخر: فاذهب فأي فتى في الناس أحرزه من يومه ظلم دعج ولا جبل حتى كأنه قال: ما أحد أحرزه ظلم ولا جبل. ومنه قوله: فإن كان لا يرضيك حتى تردني إلى قطري لا إخالك راضيا حمله الفراء على المعنى قال: لأن معناه: لا يرضيك إلا أن تردني فجعل الفاعل متعلقاً على المعنى. وكان أبو علي يغلظ في هذا ويكبره ويتناكره ويقول: الفاعل لا يحذف. ثم إنه فيما بعد لان له وخفض من جناح تناكره. وعلى كل حال فإذا كان الكلام إنما يصلحه أو يفسده معناه وكان هذا معنى صحيحاً مستقيما لم أر به بأساً. وعلى أن المسامحة في الفاعل ليست بالمرضية لأنه أصعب حالاً من المبتدأ. وهو في المفعول أحسن أنشد أبو زيد: وقالوا: ما تشاء فقلت: ألهو إلى الإصباح آثر ذي أثير أراد: اللهو فوضع ألهو موضعه لدلالة الفعل على مصدره. ومثله قولك لمن قال لك: ما يصنع زيد: يصلي أو يقرأ أي الصلاة أو القراءة. ومما جاء في المبتدأ من هذا قولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه أي سماعك به خير من رؤيتك له. وقال عز وجل: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي منا قوم دون ذلك فحذف المبتدأ وأقام الصفة التي هي الظرف مقامه. وقال جرير: نفاك الأغر ابن عبد العزيز وحقك تنفي عن المسجد فحذف أن من خبر المبتدأ وهي: حقك أن تنفي عن المسجد. وقد جاء ذلك في الفاعل على عزته. وأنشدنا: وما راعني إلا يسير بشرطة وعهدي به فينا يفش بكير كذا أنشدناه فينا وإنما هو قَيْنا أراد بقوله: وما راعني إلا يسير أي مسيره على هذا وجهه. ومنه بيت جميل: جرعت حذار البين يوم تحملوا وحق لمثلي يا بثينة يجزع أي وحق لمثلي أن يجزع. وأجاز هشام يسرني تقوم وينبغي أن يكون ذلك جائزاً عنده في الشعر لا في النثر. هذا أولى عندي من أن يكون يرتكبه من غير ضرورة. وباب الحمل على المعنى بحر لا يُنْكَش ن ولا يُفْثَج ولا يؤبى ولا يُغَرَّض ولا يُغضغض. وقد رأينا وجهه ووكلنا الحال إلى قوة النظر وملاطفة التأول. ومنه باب من هذه اللغة واسع لطيف طريف وهو اتصال الفعل بحرف ليس مما يتعدى به لأنه في معنى فعل يتعدى به. من ذلك قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ} لما كان في معنى الإفضاء عداة بإلى. ومثله بيت الفرزدق: قد قتل الله زيادا عني لما كان ذلك في معنى: صرفه عني. وقد ذكرناه فيما مضى. وكان أبو علي يستحسنه وينبه عليه. ومنه قول الأعشى: سبحان من علقمة الفاخر
فصل في التحريف
قد جاء هذا الموضع في ثلاثة أضرب: الاسم والفعل والحرف. فالاسم يأتي تحريفه على ضربين: أحدهما مقيس والآخر مسموع غير مقيس. الأول ما غيره النسب قياساً. وذلك قولك في الإضافة إلى نَمِر: نَمَريّ وإلى شقِرة: شَقَرِيّ وإلى قاض: قاضَوِيّ وإلى حنيفة: حَنفيّ وإلى عدِيّ: عَدَويّ ونحو ذلك. وكذلك التحقير وجمع التكسير نحو رجل ورُجَيل ورجال. الثاني على أضرب: منه ما غيرته الإضافة على غير قياس كقولهم في بني الحُبْلَى حُبَلِيّ وفي بني عَبِيدة وجَذِيمة: عُبَدِيّ وجُذَمِيّ وفي زَبِينة: زَبانيّ وفي أَمس: إمسيّ وفي الأفُق: أَفَقيّ وفي جَلولاء: جَلوليّ وفي خرسان: خُرْسٍيّ وفي دَسْتواء: دستوانيّ. ومنه ما جاء في غير الإضافة. وهو نحو قوله: من نسج داود أبي سلام يريد: أبي سليمان وقول الآخر: وسائلة بثعلبة بن سير وقد علقت بثعلبة العلوق أبوك عطاء ألأم الناس كلهم يريد عطية بن الخطفي وقال العبد: وما دمية من دمى ميسنا ن معجبة نظراً واتصافاً أراد: ميسان فغير الكلمة بأن زاد فيها نوناً فقال: ميسنان وقال لبيد: درس المنا بمتالع فأبان أراد: المنازل وقال علقمة: كأن إبريقهم ظبي على شرف مفدم بسبا الكتان ملثوم وقال: واستحر القتل في عبد الأشل يريد الأشهل. وقال: بسبحل الدفين عيسجور أي بسبحل. وقال: يريد: في حجاج حاجب. وقد مضى من التحريف في الاسم ما فيه كاف بإذن الله. تحريف الفعل من ذلك ما جاء من المضاف مشبهاً بالمعتل. وهو قولهم في ظللت: ظلت وفي مسست: مِسَتْ وفي أحسست: أحَسْت قال: خلا أن العتاق من المطايا أحسن به فهن إليه شوس وهذا مشبه بخفت وأردت. وحكى ابن الأعرابي في ظننت ظنت. وهذا كله لا يقاس عليه لا تقول في شمعت: شمت والشمت ولا في أقضضت: أقضت. فأما قول أبي الحسن في مثال اطمأن من الضرب: اضربب وقول النحويين فيه: اضربب فليس تحريفاً وإنما هذا عند كل واحد من القبليلين هو الصواب. ومن تحريف الفعل ما جاء منه مقلوباً كقولهم في اضمحل: امضحلن وفي أطيب: أيطب وفي اكفهر: اكرهف وما كان مثله. فأما جذب وجبذ فأصلان لأن كل واحد منهما متصرف وذو مصدر كقولك: جذب يجذب جذباً وهو جاذب وجبذ يجبذ جبذا وهو جابذ وفلان مجبوذ ومجذوب فإذا تصرفا لم يكن أحدهما بأن يكون أصلاً لصاحبه أولى من أن يكون وأما قولهم: أيس فمقلوب من يئس. ودليل ذلك من وجهين. أحدهما أن لا مصدر لقولهم: أيس. فأما الإياس فمصدر أست. قال أبو علي: وسموا الرجل إياساً كما سموه عطاء لان أست: أعطيت. ومثله عندي تسميتهم إياه عياضاً فلما لم يكن لأيس مصدر علمت انه لا أصل له وإنما المصدر اليأس. فهذا من يئست. والآخر صحة العين في أيس ولو لم يكن مقلوبا لوجب فيه إعلالها وأن يقال: آس وإست كهاب وهبت وكان يلزم في مضارع أواس كأهاب فتلقب الفاء لتحركها وانفتاحها واواً كقولك في هذا أفعل من هذا من أممت: هذا أوم من هذا هذا قول أبي الحسن وهو القياس. وعلى قياس قول أبي عثمان أياس كقوله: هذا أيم من هذا. فصارت صحة الياء في أيس دليلاً على أنها مقلوبة من يئس كما صارت صحة الواو في عور دليلاً على أنها في معنى ما لا بد من صحته وهو اعور. وهو باب. وكذلك قولهم: لم أبله. وقد شرحناه في غير هذا. تحريف الحرف قالوا: لا بَلْ ولابَنْ وقالوا: قام زيد فُمَّ عمرو كقولك: ثم عمرو. وهذا وإن كان بدلا فإنه ضرب من التحريف. وقالوا في سوف أفعل: سوأ فعل وسَفْ أفعل. حذفوا تارة الواو رُبَ هَيْضَلٍ لجب لففتُ بهيضل وقال: أن هالكٌ كلُّ منْ يحفى ونتعل وقال الله سبحانه: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}. وقال: سقته الرواعد من صيف وإن من خريف فلن يعدما مذهب صاحب الكتاب أنه أراد: وإما من خريف. وقد خولف فيه.
باب في فرق بين الحقيقة والمجاز
الحقيقة: ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة. والمجاز: ما كان بضد ذلك. وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلاثة وهي: الاتساع والتوكيد والتشبيه. فإن عدم هذه الأوصاف كانت الحقيقة البتة. فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الفرس: هو بحر. فالمعاني الثلاثة موجودة فيه. أما الاتساع فلأنه زاد في أسماء الفرس التي هي فرس وطرف وجواد ونحوها البحر حتى إنه إن احتيج إليه في شعر أو سجع أو اتساع استعمل استعمال بقية تلك الأسماء لكن لا يفضى علوت مطا جوادك يوم يوم وقد ثمد الجياد فكان بحرا وكأن يقول الساجع: فرسك هذا إذا سما بغرته كان فجراً وإذا جرى إلى غايته كان بحراً ونحو ذلك. ولو عَرِى الكلام من دليل يوضح الحال لم يقع عليه بحر لما فيه من التعجرف في المقال من غير إيضاح ولا بيان. ألا ترى أن لو قال رأيت بحراً وهو يريد الفرس لم يعلم بذلك غرضه فلم يجز قوله لأنه إلباس وإلغاز على الناس. وأما التشبيه فلأن جريه يجر ي في الكثرة مجرى مائه. أما التوكيد فأنه شبه العرض بالجوهر وهو أثبت في النفوس منه والشبه في العرض منتفية عنه ألا ترى أن من الناس من دفع الأعراض وليس أحد دفع الجواهر. وكذلك قول الله سبحانه: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا} هذا هو مجاز. وفيه الأوصاف الثلاثة. أما السعة فلأنه كأنه زاد في أسماء الجهات والمحال اسماً هو الرحمة. وأما التشبيه فلأنه شبه الرحمة وإن لم يصح دخولها بما يجوز دخوله. فلذلك وضعها موضعه. وأما التوكيد فلأنه أخبر عن العرض بما يخبر به عن الجوهر. وهذا تعال بالغرض وتفخيم منه إذ صير إلى حيز ما يشاهد ويلمس ويعاين ألا ترى إلى قول بعضهم في الترغيب في الجميل: ولو رأيتم المعروف رجلاً لرأيتموه حسنا جميلاً وإنما يرغب فيه بأن ينبه عليه ويعظم من قدره بأن يصوره في النفوس على أشرف أحواله وأنوه صفاته. وذلك بأن يتخيل شخصاً متجسماً لا عرضاً متوهماً. وعليه قوله: تغلغل حب عثمة في فؤادي فباديه مع الخافي يسير أي فباديه إلى الخافي يسير أي فباديه مضموماً إلى خافيه يسير. وذلك أنه لما وصف الحب بالتغلغل فقد اتسع به ألا ترى أنه يجوز على هذا أن تقول: شكوت إليها حبها المتغلغلا فما زادها شكواي إلا تدللا فيصف بالمتغلغل ما ليس في أصل اللغة أن يوصف بالتغلغل إنما وصف يخص الجواهر لا الأحداث ألا ترى أن المتغلغل في الشيء لا بد أن يتجاوز مكاناً إلى آخر. وذلك تغريغ مكان وشغل مكان. وهذه أوصاف تخص في الحقيقة الأعيان لا الأحداث. فهذا وج الاتساع. وأما التشبيه فلأنه شبه ما لا ينتقل ولا يزول بما يزول وينتقل. وأما المبالغة والتوكيد فلأنه أخرجه عن ضعف إلى قوة الجوهرية. وعليه قول الآخر: قرعت ظنابيب الهوى يوم عالج ويوم النقا حتى قسرت الهوى قسرا ذهوب بأعناق المئين عطاؤه عزوم على الأمر الذي هو فاعله وقول الآخر: عمر الرداء إذا تبسم ضاحكا غلقت لضحكته رقاب المال وقوله: ووجه كأن الشمس حلت رداءها عليه نقي اللون لم يتخدد جعل للشمس رداء وهو جوهر لأنه أبلغ في النور الذي هو العرض. وهذه الاستعارات كلها داخلة تحت المجاز. فأما قولهم: ملكتُ عبداً ودخلت داراً وبنيت حماماً فحقيقي هو ونحوه لا استعارة فيه ولا مجاز في هذه المفعولات لكن في الأفعال الواصلة إليها مجاز. وسنذكره. ولكن لو قال: بنيت لك في قلبي بيتاً أو ملكت من الجود عبداً خالصاً أو أحللتك من رأيي وثقتي دار صدرق لكان ذلك مجازاً واستعارة لما فيه من الاتساع والتوكيد والتشبيه على ما مضى. ومن المجاز كثير من باب الشجاعة في اللغة: من الحذوف والزيادات والتقديم والتأخير: والحمل على المعنى والتحريف. ألا ترى أنك إذا قلت: بنو فلان يطؤهم الطريق ففيه من السعة إخبارك عما لا يصح وطؤه بما صح وطؤه. فتقول على هذا: أخذنا على الطريق الواطئ لبني فلان ومررنا بقوم موطوئين بالطريق و يا طريق طأ بنا بني فلان أي أدنا إليهم. وتقول: بني فلان بيته على سنن المارة رغبة في طئة الطريق بأضيافه له. أفلا ترى إلى وجه الاتساع عن هذا المجاز. ووجه التشبيه إخبارك عن الطريق بما تخبر به عن سالكيه. فشبهته بهم إذ كان هو المؤدي لهم فكأنه هم. وأما التوكيد فلأنك إذا أخبرت عنه بوطئه إياهم كان أبلغ من وطء سالكيه لهم. وذلك أن الطريق مقيم ملازم فأفعاله مقيمة معه وثابتة بثباته. وليس كذلك أهل الطريق لأنهم قد يحضرون فيه ويغيبون عنه فأفعالهم أيضاً كذلك حاضرة وقتاً وغائبة آخر. فأين هذا مما أفعاله ثابتة مستمرة. ولما كان هذا كلاماً الغرض فيه المدح والثناء اختاروا له أقوى اللفظين لأنه يفيد أقوى المعنيين. وكذلك قوله سبحانه {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} فيه المعاني الثلاثة. أما الاتساع فلأنه استعمل لفظ السؤال مع ما لا يصح في الحقيقة سؤاله. وهذا نحو ما مضى ألا تراك تقول: وكم من قرية مسؤولة. وتقول: القرى وتسآلك كقولك: أنت وشأنك. فهذا ونحوه اتساع. وأما التشبيه فلأنها شبهت بما يصح سؤاله لما كان بها ومؤلفاً لها. وأما التوكيد فلأنه في ظاهر اللفظ إحالة بالسؤال على من ليس من عادته الإجابة. فكأنهم تضمنوا لأبيهم عله السلام أنه إن سأل الجمادات والجبال أنبأته بصحة قولهم. وهذا تناه في تاصحيح الخبر. أي لو سألتها لأنطقها الله بصدقنا فكيف لو سألت مَن مِن عادته الجواب. وكيف تصرفت الحال فالاتساع فاش في جميع أجناس شجاعة العربية. باب في أن المجاز إذا كثر لحق بالحقيقة اعلم أن أكثر اللغة مع تأمله مجاز لا حقيقة. وذلك عامة الأفعال نحو قام زيد وقعد عمرو وانطلق بشر وجاء الصيف وانهزم الشتاء. ألا ترى أن الفعل يفاد منه معنى الجنسية فقولك: قام زيد معناه: كان منه القيام أي هذا الجنس من الفعل ومعلوم أنه لم يكن منه جميع القيام وكيف يكون ذلك وهو جنس والجنس يطبق جميع الماضي وجميع الحاضر وجميع الآتي الكائنات من كل من وجد منه القيام. ومعلوم أنه لا يجتمع لإنسان واحد في وقت واحد ولا في مائة ألف سنة مضاعفة القيام كله الداخل تحت الوهم هذا محال عند كل ذي لب. فإذا كان كذلك علمت أن قام زيد مجاز لا حقيقة وإنما هو على وضع الكل موضع البعض للاتساع والمبالغة وتشبيه القليل بالكثير. ويدل على انتظام ذلك لجميع جنسه أنك تعلمه في جميع أجزاء ذلك الفعل فتقول: ِ قمت قومة وقومتين ومائة قومة وقياماً حسناً وقياماً قبيحاً. فأعمالك إياه في جميع أجزائه يدل على أنه موضوع عندهم على صلاحه لتناول جميعها. وإنما يعمل الفعل من المصدر فيما فيه عليه دليل ألا تراك لا تقول: قمت جلوساً ولا ذهبت مجيئاً ولا نحو ذلك لما لم تكن فيه دلالة عليه ألا ترى إلى قوله: لعمري لقد أحببتك الحب كله وزدتك حباً لم يكن قبل يعرف فانتظامه لجميعه يدل على وضعه على اغتراقه واستيعابه وكذلك قول الآخر: فقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا فقوله كل الظن يدل على صحة ما ذهبنا إليه. قال لي أبو علي: قولنا: قام زيد بمنزلة قولنا خرجت فإذا الأسد ومعناه أن قولهم: خرجت فإذا الأسد تعريفه هنا تعريف الجنس كقولك: الأسد تعريفه هنا تعريف الجنس كقولك: الأسد أشد من الذئب وأنت لا تريد أنك خرجت وجميع الأسد التي يتناولها الوهم على الباب. هذا محال واعتقاده اختلال. وإنما أردت: خرجت فإذا واحد من هذا الجنس بالباب. فوضعت لفظ الجماعة على الواحد مجازاً لما فيه من الاتساع والتوكيد والتشبيه. أما الاتساع فإنك وضعت اللفظ المعتاد للجماعة على الواحد. وأما التوكيد فلأنك عظمت قدر ذلك الواحد بأن جئت بلفظه على اللفظ المعتاد للجماعة. وإذا كان كذلك فمثله قعد جعفر وانطلق محمد وجاء الليل وانصرم النهار. وكذلك أفعال القديم سبحانه نحو خلق الله السماء والأرض وما كان مثله ألا ترى أنه عز اسمه لم يكن منه بذلك خلق أفعالنا ولو كان حقيقة لا مجازا لكان خالقاً للكفر والعدوان وغيرهما من أفعالنا عز وعلا. وكذلك علم الله قيام زيد مجاز أيضاً لأنه لست الحال التي علم عليها قيام زيد هي الحال التي علم عليها قعود عمرو. ولسنا نثبت له سبحانه علما لأنه عالم بنفسه إلا أنا مع ذلك نعلم أنه ليست حال علمه بقيام زيد هي حال علمه بجلوس عمرو ونحو ذلك. وكذلك قولك: ضربت عمرا مجاز أيضاً من غير جهة التجوز في الفعل وذلك أنك إنما فعلت بعض الضرب لا جميعه ولكن من جهة أخرى وهو أنك إنما ضربت بعضه لا جميعه ألا تراك تقول: ضربت زيداً ولعلك إنما ضربت يده أو إصبعه أو ناحية من نواحي جسده ولهذا إذا احتاط الإنسان واستظهر جاء ببدل البعض فقال: ضربت زيداً وجهه أو رأسه. نعم ثم إنه مع ذلك متجوز ألا تراه قد يقول: ضربت زيداً رأسه فيبدل للاحتياط وهو إنما ضرب ناحية من رأسه لا رأسه كله. ولهذا مات يحتاط بعضهم في نحو هذا فيقول: ضربت زيداً جانب وجهه الأيمن أو ضربته أعلى رأسه الأسمق لأن أعلى رأسه قد تختلف أحواله فيكون بعضه أرفع من بعض. وبعد فإذا عرف التوكيد لم وقع في الكلام نحو نفسه وعينه وأجمع وكله وكلهم وكليهما وما أشبه ذلك عرفت منه حال سعة المجاز في هذا الكلام ألا تراك قد تقول: قطع الأمير اللص ويكون القطع له بأمره لا بيده فإذا قلت: قطع الأمير نفسه اللص رفعت المجاز من جهة الفعل وصرت إلى الحقيقة لكن يبقى عليك التجوز من مكان آخر وهو قولك: اللص وإنما لعله قطع يده أو رجله فإذا احتطت قلت: قطع الأمير نفسه يد اللص أو رجله. وكذلك جاء الجيش أجمع ولولا أنه قد كان يمكن أن يكون إنما جاء بعضه وإن أطلقت المجيء على جميعه لما كان لقولك: أجمع معنى. فوقوع التوكيد في هذه اللغة أقوى دليل على شياع المجاز فيها واشتماله عليها حتى إن أهل العربية أفردوا له باباً لعنايتهم به وكونه مما لا يضاع ولا يهمل مثله كما أفردوا لكل معنى أهمهم باباً كالصفة والعطف والإضافة والنداء والندبة والقسم والجزاء ونحو ذلك. وبينت منذ قريب لبعض منتحلي هذه الصناعة هذا الموضع أعني ما في ضربت زيداً وخلق الله ونحو ذلك فلم يفهمه إلا بعد أن بات عليه وراض نفسه فيه واطلع في الموضع الذي أومأت له إليه فحينئذ ما تصوره وجرى على مذهبه في أن لم يشكره. واعلم أن جميع ما أوردناه في سعة المجاز عندهم واستمراره على ألسنتهم يدفع دفع أبي الحسن القياس على حذف المضاف وإن لم يكن حقيقة. أولا يعلم أبو الحسن كثرة المجاز غيره وسعة استعماله وانتشار مواقعه كقام أخوك وجاء الجيش وضربت زيداً ونحو ذلك وكل ذلك مجاز لا حقيقة وهو على غاية الانقياد والاطراد. وكذلك أيضاً حذف المضاف مجاز لا حقيقة وهو مع ذلك مستعمل. فإن احتج أبو الحسن بكثرة هذه المواضع نحو قام زيد وانطلق محمد وجاء القوم ونحو ذلك قيل له: وكذلك حذف المضاف قد كثر حتى إن في القرآن وهو أفصح الكلام منه أكثر من مائة موضع بل ثلاثمائة موضع وفي الشعر منه ما لا أحصيه. فإن قيل: يجيء من هذا أن تقول: ضربت زيداً وإنما ضربت غلامه وولده. قيل: هذا الذي شنعت به بعينه جائز ألا تراك تقول: إنما ضربت زيداً بضربك غلامه وأهنته بإهانتك ولده. وهذا باب إنما يصلحه ويفسده المعرفة به. فإن فهم عنك في قولك: ضربت زيداً أنك إنما أردت بذلك: ضربت غلامه أو أخاه أو نحو ذلك جاز وإن لم يفهم عنك لم يجز كما أنك إن فهم عنك بقولك: أكلت الطعام أنك أكلت بعضه لم تحتج إلى البدل وإن لم يفهم عنك وأردت إفهام المخاطب إياه لم تجد بداً من البيان وأن تقول: بعضه أو نصفه أو نحو ذلك. ألا ترى أن الشاعر لما فهم عنه ما أراد بقوله قال: وإنما أراد: عبد الله بن عباس ولو لم يكن على الثقة بفهم ذلك لم يجد بداً من البيان. وعلى ذلك قول الآخر: عليم بما أعيا النطاسي حذيما أراد: ابن حذيم. ويدلك على لحاق المجاز بالحقيقة عندهم وسلوكه طريقته في أنفسهم أن العرب قد وكدته كما وكحدت الحقيقة. وذلك قول الفرزدق: عشية سال المربدان كلاهما سحابة موت بالسيوف الصوارم وإنما هو مربد واحد فثناه مجازاً لما يتصل به من مجاوره ثم إنه مع ذلك وكده وإن كان مجازاً. وقد يجوز أن يكون سمى كل واحد من جانبيه مربداً. وقال الآخر: إذا البيضة الصماء عضت صفيحة بحربائها صاحت صياحاً وصلت فأكد صاحت وهو مجاز بقوله: صياحا. وأما قول الله عز وجل: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} فليس من باب المجاز في الكلام بل هو حقيقة قال أبو الحسن: خلق الله لموسى كلاماً في الشجرة فكلم به موسى وإذا أحثه كان متكلماً به. فأما أن يحدثه في شجرة أو فم أو غيرهما فهو شيء آخر لكن الكلام واقع ألا ترى أن المتكلم منا إنما يستحق هذه الصفة بكونه متكلماً لا غير لا لأنه أحدثه في آلة نظقه وإن كان لا يكون متكلماً حتى يحرك به آلات نطقه. فإن قلت: أرأيت لو أن أحدنا عمل آلة مصوتة وحركها واحتذى بأصواتها أصوات الحروف المقطعة المسموعة في كلامنا أكنت تسميه متكلماً وتسمي تلك الأصوات كلاماً. فجوابه ألا تكون تلك الأصوات كلاماً ولا ذلك المصوت لها متكلماً. وذلك أنه ليس في قوة البشر أن يوردوه بالآلات التي يصنعونها على سمت الحروف المنطوق بها وصورتها في النفس لعجزهم عن ذلك. وإنما يأتون بأصوات فيها الشبه اليسير من حروفنا فلا يستحق لذلك أن تكون كلاماً ولا أن يكون الناطق بها متكلماً كما أن الذي يصور الحيوان تجسيماً أو ترقيماً لا يسمى خالقاً للحيوان وإنما يقال مصور وحاك ومشبه. وأما القديم سبحانه فإنه قادر على أحداث الكلام على صورته الحقيقية وأصواته الحيوانية في الشجرة والهواء وما أحب سبحانه وشاء. فهذا فرق. فإن قلت: فقد أحال سيبويه قولنا: أشرب ماء البحر وهذا منه حظر للمجاز الذي أنت مدع شياعه وانتشاره. قيل: إنما أحال ذلك على أن المتكلم يريد به الحقيقة وهذا مستقيم إذ الإنسان الواحد لا يشرب جميع ماء البحر. فأما إن أراد به بضعه ثم أطلق هناك اللفظ يريد به جميعه فلا محالة من جوازه ألا ترى إلى قول الأسود بن يعفر نزلوا بأنقرة يسيل عليهم ماء الفرات يجيء من أطواد فلم يحصل هنا جميعه لأنه قد يمكن أن يكون بعض مائه مختلجاً قبل وصوله إلى أرضهم بشرب أو بسقي زرع ونحوه. فسيبويه إذاً إنما وضع هذه اللفظة في هذا الموضع على أصل وضعها في اللغة من العموم واجتنب المستعمل فيه من الخصوص. ومثل توكيد المجاز فيما مضى قولنا: قام زيد قياماً وجلس عمرو جلوساً وذهب سعيد ذهاباً وهو ذلك لأن قولنا: قام زيد ونحو ذلك قد قدمنا الدليل على أنه مجاز. وهو مع ذلك مؤكد بالمصدر. فهذا توكيد المجاز كما ترى. وكذلك أيضاً يكون قوله سبحانه: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} ومن هذا الوجه مجازاً على ما مضى. ومن التوكيد في المجاز قوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} ولم تؤت لحية ولا ذكراً. ووجه هذا عندي أن يكون مما حذفت صفته حتى كأنه قال: وأوتيت من كل شيء تؤتاه المرأة الملكة ألا ترى أنها لو أوتيت لحية وذكرا لم تكن امرأة أصلاً ولما قيل فيها: أوتيت ولقيل أوتى. ومثله قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وهو سبحانه شيء. وهذا مما يستثنيه العقل ببديهته ولا يحوج إلى التشاغل باستثنائه ألا ترى أن الشيء كائناً ما كان لا يخلق نفسه كما أن المرأة لا تؤتي لحية ولا ذكرا. فأما قوله سبحانه: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} فحقيقة لا مجاز. وذلك أنه سبحانه ليس عالماً بعلم فهو إذاً العليم الذي فوق ذوي العلوم أجمعين. ولذلك لم يقل: وفوق كل عالم عليم لأنه عز اسمه عالم ولا عالم فوقه. فإن قلت: فليس في شيء مما أوردته من قولك: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} و {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} اللفظ المعتاد للتوكيد. قيل: هو وإن لم يأت تابعاً على سمت التوكيد فإنه بمعنى التوكيد البتة ألا ترى أنك إذا قلت: عممت بالضرب جميع القوم ففائدته فائدة قولك: ضربت القوم كلهم. فإذا كان المعنيان واحداً كان ما وراء ذلك غير معتد به ولغواً.
باب في إقرار الألفاظ على أوضاعها
الأول ما لم يدع داع إلى الترك والتحول من ذلك أو إنما أصل وضعها أن تكون لأحد الشيئين أين كانت وكيف تصرفت. فهي عندنا على ذلك وإن كان بعضهم قد خفى عليه هذا من حالها في بعض الأحوال حتى دعاه إلى أن نقلها عن أصل بابها. وذلك أن الفراء قال: إنها قد تأتي بعمنى بل وأنشد بيت ذي الرمة: بدت مثل قري الشمس في رونق الضحى وصورتها أو أنت في العين أملح وقال: معناه: بل أنت في العين أملح. وإذا أرينا أنها في موضعها وعلى بابها بل إذا كانت هنا على بابها كانت أحسن معنى وأعلى مذهباً فقد وفينا ما علينا. وذلك أنها على بابها من الشك ألا ترى أنه لو أراد بها معنى بل فقال: بل أنت في العين أملح لم يف بمعنى أو في الشك لأنه إذا قطع بيقين أنها في العين أملح كان في ذلك سرف منه ودعاء إلى التهمة في الإفراط له وإذا أخرج الكلام مخرج الشك كان في صورة المقتصد غير المتحامل ولا المتعجرف. فكان أعذب للفظة وأقرب إلى تقبل قوله ألا تراه نفسه أيضاً قال: أيا ظبية الوعساء بين جلاجل وبين النقا آأنت أَمْ أُمّ سالم فكما لا يشك في أن كلامه ههنا خرج مخرج الشك لما فيه من عذوبته وظرف مذهبه فكذلك ينبغي أن يكون قوله: أو أنت في العين أملح أو فيه باقية في موضعها وعلى شكلها. وبعد فهذا مذهب الشعراء: أن يظهروا في هذا ونحوه شكاً وتخالجا ليروا قوة الشبه واستتكام الشبهة ولا يقطعوا قطع اليقين البتة فينسبوا بذلك إلى الإفراط وغلو الأشطاط وإن كانوا هم ومن بحضرتهم ومن يقرأ من بعد أشعارهم يعلمون أن لا حيرة هناك ولا شبهة ولكن كذا خرج الكلام على الإحاطة بمحصول الحال. وقال أيضاً: ذكرتك أن مرت بنا أم شادن أمام المطايا تشرئب وتسنح وقال الآخر: أقول لظبي يرتعي وسط روضة أأنت أخو ليلى فقال: يقال وما أحسن ما جاء به الطائي الصغير في قوله: عارضننا أصلاً فقلنا الربرب حتى أضاء الأقحوان الأشنب وقال الآخر: فعيناك عيناها وجيدك جيدها سوى أن عظم الساق منك دقيق وذهب قطربي إلى أن أو قد تكون بمعنى الواو وأنشد بيت النابغة: قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد فقال: معناه: ونصفه. ولعمري إن كذا معناه. وكيف لا يكون كذلك ولا بد منه وقد كثرت فيه الرواية أيضاً بالواو: ونصفه. لكن هناك مذهب يمكن معه أن يبقى الحرف على أصل وضعه: من كون لاشك فيه وهو أن يكون تقديره: ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو هو ونصفه. فحذف المعطوف عليها وحرف العطف على ما قدمناه في قوله عز وجل {فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} أي فضرب فانفجرت. وعليه قول الآخر: ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث إلى ذا كما ما غيبتني غيابيا أي شهرين أو شهرين ونصف ثالث ألا تراك لا تقول مبتدئاً: لبثت نصف ثالث لأن ثالثاً من الأسماء المضمنة بما معها. ودعانا إلى هذا التأول السعي في إقرار هذه اللفظة على أول أحوالها. فأما قول الله سبحانه {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} فلا يكون فيه أو على مذهب الفراء بمعنى بل ولا على مذهب قطرب في أنها بمعنى الواو. لكنها عندنا على بابها في كونها شكاً. وذلك أن هذا كلام خرج حكاية من الله عز وجل لقول المخلوقين. وتأويله عند أهل النظر: وأرسلناه إلى جمع لو رأيتموهم لقلتم أنتم فيهم: هؤلاء مائة ألف أو يزيدون. ومثله مما مخرجه منه تعالى على الحكاية قوله {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} وإنما هو في الحقيقة الذليل المهان لكن معناه: ذق إنك أنت الذي كان يقال له: العزيز الكريم. ومثله قوله عز وجل {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} أي يا أيها الساحر عندهم لا عندنا وكيف يكون ساحراً عندهم وهم به مهتدون. وكذلك قوله {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} أي شركائي عندكم. وأنشدنا أبو علي لبعض اليمانية يهجو جريرا: أبلغ كليباً وأبلغ عنك شاعرها أني الأغر وأني زهرة اليمن قال: فأجابه جرير فقال: ألم تكن في وسوم قد وسمت بها من حان موعظة يا زهرة اليمن! فسماه زهرة اليمن متابعة له وحكاية للفظه. وقد تقدم القول على هذا الموضع. ومن ذلك ما يدعيه الكوفيون من زيادة واو العطف نحو قول الله عز وجل {حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} قالوا: هنا زائدة مخرجة عن العطف. والتقدير عندهم فيها: حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها. وزيادة الواو أمر لا يثبته البصريون. لكنه عندنا على حذف الجواب أي حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها كذا وكذا صدقوا وعدهم وطابت نفوسهم ونحو ذلك مما يقال في مثل هذا. وأجاز أبو الحسن زيادة الواو في خبر كان نحو قولهم: كان ولا مال له أي كان لا مال له. ووجه جوازه عندي شبه خبر كان بالحال فجرى مجرى قولهم: جاءني ولا ثوب عليه أي جاءني عارياً. فأما " هل " فقد أخرجت عن بابها إلى معنى قد نحو قول الله سبحانه {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْر} قالوا: معناه: قد أتى عليه ذلك. وقد يمكن عندي أن تكون مبقاة في هذا الموضع على بابها من الاستفهام فكأنه قال والله أعلم: هل أتى على الإنسان هذا فلا بد في جوابه من نعم ملفوظاً بها أو مقدرة أي فكما أن ذلك كذلك فينبغي للإنسان أن يحتقر نفسه ولا يبأى بما فتح له. وهذا كقولك لمن تريد الاحتجاج عليه: بالله هل سألتني فأعطيتك! أم هل زرتني فأكرمتك!. أي فكما أن ذلك كذلك فيجب أن تعرف حقي عليك وإحساني إليك. ويؤكد هذا عندك قوله تعالى {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} أفلا تراه عز اسمه كيف عدد عليه أياديه وألطافه له. فإن قلت: فما تصنع بقول الشاعر: سائل فوارس يربوع بشدتنا أهل رأونا بسفح القف ذي الأكم ألا ترى إلى دخول همزة الاستفهام على هل ولو كانت على ما فيها من الاستفهام لم تلاق همزته لاستحالة اجتماع حرفين لمعنى واحد. وهذا يدل على خروجها عن الاستفهام إلى معنى الخبر. قيل: هذا قول يمكن أن يقوله صاحب هذا المذهب. ومثله خروج الهمزة عن الاستفهام إلى التقرير ألا ترى أن التقرير ضرب من الخبر وذلك ضد الاستفهام. ويدل على أنه قد فارق الاستفهام امتناع النصب بالفاء في جوابه والجزم بغير الفاء في جوابه ألا تراك لا تقول: ألست صاحبنا فنكرمك كما تقول لست صاحبنا فنكرمك. ولا تقول في التقرير: أأنت في الجيش أثبت اسمك كما تقول ما اسمك أذكرك أي إن أعرفه أذكرك. ولأجل ما ذكرنا من حديث همزة التقرير ما صارت تنقل النفي إلى الإثبات والإثبات إلى النفي وذلك كقوله: ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح أي أنتم كذاكم وكقول الله عز وجل {آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ} و {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} أي لم يأذن لكم ولم تقل للناس: اتخذوني وأمي إلهين ولو كانت استفهاماً محضاً لأقرت الإثبات على إثباته والنفي على نفيه. فإذا دخلت على الموجب نفته وإذا دخلت على النفي نفته ونفي النفي عائد به إلى الإثبات. ولذلك لم يجيزوا ما زال زيد إلا قائماً لما آل به المعنى من النفي إلى: ثبت زيد إلا قائماً. فكما لا يقال هذا فكذلك لا يقال ذلك. فاعرفه. ويدل على صحة معنى التناكر في همزة التقرير أنها قد أخلصت للإنكار في نحو قولهم في جواب قوله ضربت عمر: أعمراه! ومررت بإبراهيم: أإبراهيماه. ورأيت جعفرا: أجعفرنيه واعلم أنه ليس شيء يخرج عن بابه إلى غيره إلا لأمر قد كان وهو على بابه ملاحظاً له وعلى صدد من الهجوم عليه. وذلك أن المستفهم عن الشي قد يكون عارفاً به مع استفهامه في الظاهر عنه لكن غرضه في الاستفهام عنه أشياء. منها أن يرى المسئول أنه خفي عليه ليسمع جوابه عنه. ومنها أن يتعرف حال المسئول هل هو عارف بما السائل عارف به. ومنها أن يرى الحاضر غيرهما أنه بصورة السائل المسترشد لما له في ذلك من الغرض. ومنها أن يعد ذلك لما بعده مما يتوقعه حتى إن حلف بعد أنه قد سأله عنه حلف صادقاً فأوضح بذلك عذراً. ولغير ذلك من المعاني التي يسأل السائل عما يعرفه لأجلها وبسببها. فلما كان السائل في جميع هذه الأحوال قد يسأل عما هو عارفه أخذ بذلك طرفاً من الإيجاب لا السؤال عن مجهول الحال. وإذا كان ذلك كذلك جاز لأجه أن يجرد في بعض الأحوال ذلك الحرف لصريح ذلك المعنى. فمن هنا جاز أن تقع هل في بعض الأحوال موضع قد كما جاز لأو أن تقع في بعض الأحوال موقع الواو نحو قوله: وكان سيان ألا يسرحوا نعما أو يسرحوه بها واغبرت السوح جاز لك لما كنت تقول: جالس الحسن أو ابن سيرين فيكون مع ذلك متى جالسهما جميعاً وكل حرف فيما بعد يأتيك قد أخرج عن بابه إلى باب آخر فلا بد أن يكون قبل إخراجه إليه قد كان يرائيه ويلتفت إلى الشق الذي هو فيه. فاعرف ذلك وقسه فإنك إذا فعلته لم تجد الأمر إلا كما ذكرته وعلى ما شرحته.
باب في إيراد المعنى المراد بغير اللفظ المعتاد
اعلم أن هذا موضع قد استعملته العرب واتبعتها فيه العلماء. والسبب في هذا الاتساع أن المعنى المراد مفاد من الموضعين جميعاً فلما آذنا به وأديا إليه سامحوا أنفسهم في العبارة عنه إذ المعاني عندهم أشرف من الألفاظ. وسنفرد لذلك باباً. فمن ذلك ما حكاه أبو الحسن: أنه سأل أعرابياً عن تحقير الحباري فقال: حبرور. وهذا جواب من قصد الغرض ولم يحفل باللفظ إذ لم يفهم غرض أبي الحسن فجاء بالحبرور لأنه فرخ الحباري. وذلك أن هذا الأعرابي تلقى سؤال أبي الحسن بما هو الغرض عند الكافة في مثله ولم يحفل بصناعة الإعراب التي إنما هي لفظية ولقوم مخصوصين من بين أهل الدنيا أجمعين. ونحو من ذلك أني سألت الشجري فقلت: كيف تجمع المحر نجم فقال: وأيش فرقه حتى أجمعه! وسألته يوماً فقلت: كيف تحقر الدمكمك فقال: شخيت. فجاء بالمعنى الذي يعرفه ونحو من هذا ما يحكى عن أبي السمال أنه كان يقرأ: فحاسوا خلال الديار فيقال له: إنما هو فجاسوا فيقول: جاسوا وحاسوا واحد. وكان أبو مهدية إذا أراد الأذان قال: الله أكبر مرتين أشهد أن لا إله ِإلا الله مرتين ثم كذلك إلى آخره. فإذا قيل له: ليست السنة كذلك إنما هي: الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله إلى آخره فيقول: قد عرفتم أن المعنى واحد والتكرار عي. وحكى عيسى بن عمر قال: سمعت ذا الرمة ينشد: وظاهر لها من يابس الشخت واستعن عليها الصبا واجعل يديك لها سترا فقلت: أنشدتني: من بائس فقال يابس وبائس واحد. وأخبرنا أبو بكر محمد ابن الحسن عن العباس أحمد بن يحيى قال أنشدني ابن الأعرابي: وموضع زَبْن لا أريد مبيته كأني به من شدة الروع آنس فقال له شيخ من أصحابه: ليس هكذا أنشدتنا إنما أنشدتنا: وموضع ضيق. فقال: سبحان الله! تصحبنا منذ كذا وكذا ولا تعلم أن الزبن والضيق واحد وقد قال الله سبحانه وهو أكرم قيلا: {قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: )نزل القرآن على سبع لغات كلها شاف كاف(. وهذا ونحوه عندنا هو الذي أدى إلينا أشعارهم وحكاياتهم بألفاظ مختلفة على معان متفقة. وكان أحدهم إذا أورد المعنى المقصود بغير لفظه المعهود كأنه لم يأت إلا به ولا عدل عنه إلى غيره إذ الغرض فيهما واحد وكل واحد منهما لصاحبه مرافد. وكان أبو علي رحمه الله إذا عبر عن معنى بلفظ ما فلم يفهمه القارئ عليه وأعاد ذلك المعنى عينه بلفظ غيره ففهمه يقول: هذا إذا رأى ابنه في قميص أحمر عرفه فإن رآه في قميص كحلي لم يعرفه. فأما الحكاية عن الحسن رضي الله عنه وقد سأله رجل عن مسئلة ثم أعاد السؤال فقال له الحسن: لبكت علي أي خلطت فتأويله عندنا أنه أفسد المعنى الأول بشيء جاء به في القول الثاني. فأما أن يكون الحسن تناكر الأمر لاختلاف اللفظين مع اتفاق المعنيين فمعاذ الله وحاشى أبا سعيد. ويشبه أن يكون الرجل لما أعاد سؤاله بلفظ ثان قدر أنه بمعنى اللفظ الأول ولم يحسن ما فهمه الحسن رضي الله عنه كالذي يعترف عند القاضي بما يدعي عليه وعنده أنه مقيم على إنكاره إياه. ولهذا نظائر. ويحكى أن قوماً ترافعوا إلى الشعبي في رجل بخص عين رجل فشرقت بالدم فأفتى في ذلك بأن أنشد بيت الراعي: لها أمرها حتى إذا ما تبوأت بأخفافها مأوى تبوأ مضجعا لم يزدهم على هذا. وتفسيره أن هذه العين ينتظر بها أن يستقر أمرها على صورة معروفة محصلة ثم حينئذ يحكم في بابها بما توجبه الحال من أمرها. فانصرف القوم بالفتوى وهم وأما اتباع العلماء العرب في هذا النحو فكقول سيبويه: ومن العرب من يقول: لب فيجره كجر أمس وغاق ألا ترى أنه ليس في واحد من الثلاثة جر إذ الجر إعراب لا بناء وهذا الكلم كلها مبنية لا معربة فاستعمل لفظ الجر على معنى الكسر كما يقولون في المنادى المفرد المضموم: إنه مرفوع وكما يعبرون بالفتح عن النصب وبالنصب عن الفتح وبالجزم عن الوقف وبالوقف عن الجزم كل ذلك لأنه أمر قد عرف غرضه والمعنى المعني به. وإذا جاز أن يكون في أصول هذه اللغة المقررة اختلاف اللفظين والمعنى واحد كان جميع ما نحن فيه جائزاً سائغاً ومأنوساً به متقبلاً.
باب في ملاطفة الصنعة
وذلك أن ترى العرب قد غيرت شيئاً من كلامها من صورة إلى صورة فيجب حينئذ أن تتأتى لذلك وتلاطفه لا أن تخبطه وتتعسفه. وذلك كقولنا في قولهم في تكسير جَرْ ودَلْوِ أَجرٍ وأَدلٍ: إن أصله أجرُوٌ وأدلُوٌ فقلبوا الواو ياء. وهو لعمري كذلك إلا أنه يجب عليك أن تلاين الصنعة ولا تعازها فتقول: إنهم أبدلوا من ضمة العين كسرة فصار تقديره: أجرِوٌ وأدلِوٌ. فلما انكسر ما قبل الواو وهي لام قلبت ياء فصارت أجرِيٌ وأدْلِيٌ وإنما وجب أن يرتب هذا العمل هذا الترتيب من قبل أنك لما كرهت الواو هنا لما تتعرض له من الكسرة والياء في أدْلُوَ وأدلُوِيّ لو سميت رجلاً بأدلُو ثم أضفت إليه فلما ثقل ذلك بدءوا بتغيير الحركة الضعيفة تغييراً عَبْطا وارتجالاً. فلما صارت كسرة تطرقوا بذلك إلى قلب الواو ياء تطرقاً صناعياً. ولو بدأت فقلبت الواو ياء بغير آلة القلب من الكسرة قبلها لكنت قد استكرهت الحرف على نفسه تهالكاً وتعجرفاً لا رفقاً وتلطفاً. ولما فعلت ذلك في الضمة كان أسهل منه في الواو والحرف لأن ابتذالك الضعيف أقرب مأخذاً من إنحائك على القوى. فاعرف ذلك أصلاً في هذا الباب. وكذلك بقاب فُعُول مما لامه واو وكدَلْوٍ ودِلِيّ وحَقْوٍ وحِقِيّ أصله دُلُوّ وحُقُوّ. فلك في إعلال هذا إلى حِقِيّ ودِلِيّ طريقان. إن شئت شبهت واو فُعُول المدغمة بضمة عين أفعُل في أدلوٍ وأحقُوٍ فأبدلت منها ياء كما أبدلت من تلك الضمة كسرة فصارت: حُقِيُّو. ثم أبدلت الواو التي هي لام ياء لوقوع الياء ساكنة قبلها فصارت حُقِيّ ثم أتبعت فقلت: حِقِيّ. وهذا أيضاً مما أبدلت من ضمة عينه كسرة فتنقلب واو فعول بعدها ياء كالباب الأول. فصارت أول: حُقُوّ ثم حقِيو قم حُقِيّ ثم حِقِيّ. فهذا وجه. وإن شئت قلت: بدأت بدُلُوٍّ فأبدلت لامها لضعفها بالتطرف وثقلها ياء فصارت دُلُويٌ. ثم أبدلت الواو ياء لوقوع الياء بعدها فصارت حُثُيّ ثم أبدلت من الضمة في العين كسرة لتصح الياء بعدها فصارت: حُقِيّ ثم أتبعت فقلت: حِقِيّ ودِلِيّ. ومن ذلك قولهم: إن أصل قام قَوَمَ فأبدلت الواو ألفاً. وكذلك باع أصله بَيَعَ ثم أبدلت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها. وهو لعمري كذلك إلا أنك لم تقلب واحداً من الحرفين إلا بعد أن أسكنته استثقالاً لحركته فصار إلى قَوْمَ وبَيْعَ ثم انقلبا لتحركهما في الأصل وانفتاح ما قبلهما الآن. ففارقا بذلك باب ثوب وشيخ لأن هذين ساكنا العينين ولم يسكنا عن حركة. ولو رمت قلب الواو والياء من نحو قوم وبيع وهما متحركتان لاحتمتا بحركتيهما فعزتا فلم تنقلب. فهذا واضح. ومن ذلك ست أصلها سدس فلما كثرت في الكلام أبدلوا السين تاء كقولهم. النات في الناس ونحوه فصارت سِدْت. فما تقارب الحرفان في مخرجيهما أبدلت الدال تاء وأدغمت في التاء فصارت ستّ. ولو بدأت هذا الإبدال عارياً من تلك الصنعة لكان استطالة على الحرفين وهتكا للحرمتين. فاعرف بهذا النحو هذه الطريق ولا تقدمن على أمر من التغيير إلا لعذر فيه وتأت له ما استطعت. فإن لم تجن على الأقوى كانت جنايتك على الأضعف لتتطرق به إلى إعلال الأقوى فأما قوله: أو إلفاً مكة من ورق الحمى فلم تكن الكسرة لتقلب الميم ياء ألا تراك تقولك تظنيت وتقصيت والفتحة هناك لكنه كسر للقافية. ومن ذلك مذهب أبي الحسن في قول الله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} لأنه ذهب إلى أنه حذف حرف الجر فصار تجزيه ثم حذف الضمير فصار تجزى. فهذا ملاطفة من الصنعة. ومذهب سيبويه أنه حذف فيه دفعة واحدة.
باب في التجريد
اعلم أن هذا فصل من فصول العربية طريف حسن. ورأيت أبا علي رحمه الله به غرياً معنياً ولم يفرد له باباً لكنه وسمه في بعض ألفاظه بهذه السمة فاستقر يتها منه وأنقت لها. ومعناه أن العرب قد تعتقد أن في الشيء من نفسه معنى آخر كأنه حقيقته ومحصوله. وقد يجري ذلك إلى ألفاظها لما عقدت عليه معانيها. وذلك نحو قولهم: لئن لقيت زيداً لتلقين منه الأسد ولئن سألته لتسئلن منه البحر. فظاهر هذا أن فيه من نفسه أسداً وبحراً وهو عينه هو الأسد وعلى هذا يخاطب الإنسان منهم نفسه حتى كأنها تقابله أو تخاطبه. ومنه قول الأعشى: وهل تطيق وداعاً أيها الرجل وهو الرجل نفسه لا غيره. وعليه قراءة من قرأ {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي اعلم أيها الإنسان وهو نفسه الإنسان وقال تعالى {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} وهي نفسها دار الخلد. وقال الأعشى: لات هنا ذكرى جبيرة أم من جاء منها بطائف الأهوال وهي نفسها الجائية بطائف الأهوال. وقد تستعمل الباء هنا فتقول: لقيت به الأسد وجاورت به البحر أي لقيت بلقائي إياه الأسد. ومنه مسئلة الكتاب: أما أبوك فلك أب أي لك منه أو به بمكانه أب. وأنشدنا: أفاءت بنو مروان ظلماً دماءنا وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل وهذا غاية البيان والكشف ألا ترى أنه لا يجوز أن يعتقد أن الله سبحانه ظرف لشيء ولا متضمن له فهو إذاً على حذف المضاف أي في عدل الله عدل حكم عدل. وأنشدنا: ومصعب نفسه هو الأشعث. وأنشدنا: جازت البيد إلى أرحلنا آخر الليل بيعفور خدر وهي نفسها اليعفور. ولعيه جاء قوله: يا نفس صبراً كل حي لاق وكل اثنين إلى افتراق وقول الآخر: قالت له النفس إني لا أرى طمعا وإن مولاك لم يسلم ولم يصد وقول الآخر: أقول للنفس تأساءً وتعزية إحدى يدي أصابتني ولم ترد وأما قوله عز اسمه {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} فليس من ذا بل النفس هنا جنس وهو كقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} ونحوه. وقد دعا تردد هذا الموضع على الأسماع ومحادثته الأفهام أن ذهب قوم إلى أن الإنسان هو معنى ملتبس بهذا الهيكل الذي يراه ملاق له وهذا الظاهر مماس لذلك الباطن كل جزء منه منطو عليه ومحيط به.
باب في غلبة الزائد للأصلي
أما إذا كان الزائد ذا معنى فلا نظر في اسبقائه وحذف الأصلي لمكانه نحو قولهم هذا قاضٍ ومعطٍ ألا تراك حذفت الياء التي هي لام للتنوين إذ كان ذا معنى أعني الصرف. ومثل ذلك قوله: لاث به الأشاء والعبريّ حذفت عين فاعل وأقررت ألفه إذ كانت دليلاً على اسم الفاعل. ومثله قوله: شاك السلاح بطل مجرب وهذا أحد ما يقوى قول أبي الحسن في أن المحذوف من باب مقول ومبيع إنما هو العين من حيث كانت الواو دليلاً على اسم المفعول. وقال ابن الأعرابي في قوله: في بئر لا حور سرى وما شعر أراد: حؤور أي في بئر لا حوور لا رجوع. قال: فأسكنت الواو الأولى وحذفت لسكونها وسكون الثانية بعدها. وكذلك حذفت لام الفعل لياءي الإضافة في نحو مصطفى وقاضي ومرامي في مرامى. وكذلك باب يعد ويزن حذفت فاؤه لحرق المضارعة الزائدة كل ذلك لما كان الزائد ذا معنى. وهذا أحد ما يدل على شرف المعاني عندهم ورسوخها في أنفسهم. نعم وقد حذفوا الأصل عند الخليل للزائد وإن كانا متساويي المعنيين. وإذا كان ذلك جائزاً بني عقيل ماذه الخنافق! المال هدى والنساء طالق فالخنافق جمع خنفقين والنون زائدة والقاف الأولى عند الخليل هي الزائدة والثانية هي الأصل وهي المحذوفة وقد قدمنا دليل ذلك والنون والقاف جميعاً لمعنى واحد وهو الإلحاق. فإذا كانوا قد حذفوا الأصل للزائد وهما في طبقة واحدة أعني اجتماعهما على كونهما للإلحاق فكيف ليت شعري تكون الحال إذا كان الزائد لمعنى والأصل المحذوف لغير معنى! وهذا واضح. وفي قولهم: خنافق تقوية لقول سيبويه في تحقير مقعنسس وتكسيره مقاعس ومقيعس فاعرفه فإنه قويّ في بابه. بل إذا كانوا قد حذقوا الملحق للملحق فحذف الملحق لذي المعنى وهو الميم أقوى وأحجى. وكأنهم إنما أسرعوا إلى حذف الأصل للزائد تنويهاً به وإعلاء له وتثبيتاً لقدمه في أنفسهم وليعلموا بذلك قدره عندهم وحرمته في تصورهم ولحاقه بأصول الكلم في معتقدهم ألا تراهم قد يقرونه في الاشتقاق مما هو فيه إقرارهم الأصول. وذلك قولهم: قرنيت السقاء إذا دبغته بالقَرْنُوة فاشتق الفعل منها وأقرت الواو الزائدة فيها حتى أبدلت ياء في قرنيت. ومثله قولهم: قَلْسيت الرجل فالياء هنا بدل من واو قلنسُوة الزائدة ومن قال قلنسته فقد أثبت أيضاً النون فنظير تقويتهم أمر الزائد وحذف الأصل له قول الشاعر: أميل مع الذمام على ابن عمي واحمل للصديق على الشقيق وجميع ما ذكرناه من قوة الزائد عندهم وتمكنه في أنفسهم يضعف قول من حقر تحقير الترخيم ومن كسر على حذف الزيادة. وقد ذكرنا هذا. إلا أن وجه جواز ذلك قول الآخر: كيما أعدهم لأبعد منهم ولقد يجاء إلى ذوي الأحقاد وقول المولد: وأنف الفتى من وجهه وهو أجدع وقول الآخر: أخاك أخاك إن من لا أخا له كساع إلى الهيجا بغير سلاح وهو باب واسع.
باب في أن ما لا يكون للأمر وحده
قد يكون له إذا ضام غيره من ذلك الحرف الزائد لا يكون للإلحاق أولاً كهمزة أفعَل وأَفْعُل وإفعْلَ وأَفعِل وإفِعِلٍ ونحو ذلك وكذلك ميم مفعل ونحوه. فإذا انضم إلى الزيادة أولا زيادة أخرى صارت للإلحاق. وذلك نحو ألندد وألنجج الهمزة والنون للإلحاق. وكذلك يلندد ويلنجح فإن زالت النون لم تكن الهمزة ولا الياء وحدهما للإلحاق. وذلك نحو ألد ويلج. وعلة ذلك أن الزيادة في أول الكلة إنما بيابها معنى المضارعة وحرف المضارعة إنما يكون مفرداً أبداً فإذا انضم إليه غيره خرج بمضامته إياه عن أن يكون للمضارعة فإذا خرج عنها وفارق الدلالة على المعنى جعل للإلحاق لأنه قد أمن بما انضم إليه أن يصلح للمعنى. وكذلك ميم مفعول جعلت واو مفعول وإن كانت للمد دليلة على معنى اسم المفعول ولولا الميم لم تكن إلا للمد كفعول وفعيل وفعال ونحو ذلك إلا أنها وإن كانت قد أفادت هذا المعنى فإن ما فيها من المد والاستطالة معتد فيها مراعي من حكمها. ويدلك على بقاء المد فيها واعتقادها مع ما أفادته من معنى اسم المفعول له أن العرب لا تلقى عليها حركة الهمزة بعدها إذا آثرت تخفيفها بل تجريها مجراها وهي للمد خالصة ألا تراهم يقولون في تخفيف مشنوءة بالإدغام البتة كما يقولون في تخفيف شنوءة. وذلك قولهم: مَشْنُوَّة كشَنُوَّة فلا يحركون واو مفعول كما لا يحركون واو فعول وإن كانت واو مفعول تفيد مع مدها اسم المفعول وواو فعول خلصة للمد البتة. فإن قلت: فما تقول في أفعول نحو أسكوب هل هو ملحق بجر موق قيل: لان ليس ملحقاً به بل الهمزة فيه للبناء والواو فيه للمد البتة لأن حرف المد إذا جاور الطرف لا يكون للإلحاق أبداً لأنه كأنه إشباع للحركة كالصيارف ونحوه ولا يكون أفعول إلا للمد ألا ترى أنك لا تستفيد بهمزة أفعول وواوه معنى مخصوصاً كما تستفيد بميم مفعول وواوه معنى مخصوصاً وهو إفادة اسم المفعول. فهذا من طريق التأمل واضح. وإذا كان كذلك إفعيل لا يكون ملحقاً. وأبين منه باب إفعال لأنه موضع للمعنى وهو المصدر نحو الإسلام والإكرام. والمعنى أغلب على المثال من الإلحاق. وكذلك باب أفعال لأنه موضوع للتكسير كأقتاب وأرسان. فإن قلت: فقد جاء عنهم نحو إمخاض وإسنام وإصحاب وإطنابة قيل: هذا في الأسماء قيل جداً وإنما بابه المصادر البتة. وكذلك ما جاء عنهم من وصف الواحد بمثال أفعال نحو برمة أعشار وجفنة أكسار وثوب أكباش وتلك الأحرف المحفوظة في هذا. إنما هي على أن جعل كل جزء منها عشراً وكسرا وكبشا. وكذلك كبد أفلاذ وثوب أهباب وأخباب وحَبْل أرمام وأرماث وأقطاع وأحذاق وثوب أسماط كل هذا متأول فيه معنى الجمع. وكذلك مفعيل ومفعول ومفعال ومَفْعَل: ليس شيء من ذلك ملحقاً لأن أصل زيادة الميم في الأول إنما هي لمعنى وهذه غير طريق الإلحاق. ولهذا ادغموه فقالوا: مِصَكَ ومِتلّ ونحوهما. وأما أُفاعِل كأُحامِر وأجارِد وأباتر فلا تكون الهمزة فيه والألف للإلحاق بباب قُذَعْمِل. ومن أدل الدليل على ذلك أنك لا تصرف شيئاً من ذلك علماً. وذلك لما فيه من التعريف ومثال الفعل لأن أجارد وأباترا جار مجرى أضارب وأفاتل. وإذا جرى مجراه فقد لحق في المثال به والهمزة في ذلك إما هي في أصل هذا المثال للمضارعة والألف هي ألف فاعل في جارد وباتر لو نطقوا به وهي كما تعلم للمعنى كألف ضارب وقاتل. فكل واحد من الحرفين إذاً إنما هو للمعنى وكونه للمعنى أشد شيء إبعادا لها عن الإلحاق لتضاد القضيتين عليه من حيث كان الإلحاق طريقاً صناعياً لفظياً والمعنى طريقاً مفيداً معنوياً. وهاتان طريقتان متعاديتان. وقد فرغنا منهما فيما قبل. وأيضاً فإن الألف لا تكون للإلحاق حشو أبداً إنما تكون له إذا وقعت طرفاً لا غير كأرطًى ومعزي وحَبَنْطى. وقد تقدم ذلك أيضاً. ولا يكون أجارد أيضاً ملحقاً بعذافر لما قدمناه: من أن الزيادة في الأول لا تكون للإلحاق إلا أن يقترن بها حرف غير مدّ كنون ألندد وواو إزْمَول وإسْحَوفٍ وإدْرَون لكن دُوَاسر ملحق بعُذافر. ومثله عُيَاهِم. وكذلك كَوَأْلَل ملحق بسهبلل الملحق بهمرجل. وأدل دليل على ألحاقه ظهور تضعيفه أعني كوأللاً. ومثله سبهلل. فاعرفه. ومثل طومار عندنا ديماس فيمن قال: دياميس وديباج فيمن قال: ديابيج هو ملحق بقرطاس كما أن طومارا ملحق بفسطاط. وساغ أن تكون الواو الساكنة المضموم ما قبلها والياء الساكنة المكسور ما قبلها للإلحاق من حيث كانتا لا تجاوران الطرف بحيث يتمكن المد. وذلك أنك لو بنيت مثل طومار أو ديماس من سألت لقلت: سوآل وسيئال فإن خففت حركت كل واحد من الحرفين بحركة الهمزة التي بعده فقلت: سوال وسيال ولم تقلب الهمزة وتدغم فيها الحرف كمقرو والنسي لأن الحرفين تقدما عن الموضع الذي يقوي فيه حكم المد وهو جواره الطرف. وقد تقدم ذلك. فتأمل هذه المواضع التي أريتكها فإن أحداً من أصحابنا لم يذكر شيئاً منها.
باب في أضعف المعتلين وهو اللام لأنها أضعف من العين.
يدل على ذلك قولهم في تكسير فاعل مما اعتلت لامه: إنه يأتي على فُعّلة نحو قاض وقضاة وغاز وغزاة وساع وسعاة. فجاء ذلك مخالفاً للتصحيح الذي يأتي على فَعَلة نحو كافر وكفرة وبار وبررة. هذا ما دام المعتل من فاعل لامه. فإن كان معتله العين فإنه يأتي مأتى الصحيح على فَعَلة. وذلك نحو حائك وحَوَكة وخائن وخوَنة وخانة وبائع وباعةٍ وسائِد وسادة أفلا ترى كيف اعتد اعتلال اللام فجاء مخالفاً للصحيح ولم يحفلوا باعتلال العين لأنها لقوتها بالتقدم لحقت وجاء عنهم سرى وسراة مخالفاً. وحكى النضر سراة. فسراة في تكسير سرى عليه بمنزلة شعراء من شاعر. وذلك أنهم كما كسروا فعلاً على فُعلا وإنما فعلاء لباب فعِيل كظريف وظُرفاء وكريم وكرماء وكذلك كسروا أيضاً فعيلاً على فَعَلة وإنما هي لفاعل. فإن قلت: فقد قالوا: فَيْعِل مما عينه معتلة نحو سيد وميت فبنوه على فيِعل فجاء مخالفاً للصحيح الذي إنما بابه فيعل نحو صيرف وخيفق وإنما اعتلاله من قبل عينه وجاءت أيضاً الفيعلولة في مصادر ما اعتلت عينه نحو الكينونة والقيدودة فقد أجروا العين في الاعتلال أيضاً مجرى اللام في أن خصوها بالبناء الذي لا يجود في الصحيح. قيل: على كل حال اعتلال اللام أقعد في معناه من اعتلال العين ألا ترى أنه قد جاء فيما عينه معتلة فيعل مفتوحة العين في قوله: ما بال عيني كالشعيب العين وقالوا أيضاً: هَيَّبان وتيَّحان بفتح عينهما ولم يأت في باب ما اعتلت لامه فاعل مكسراً على فَعَلة. فالاعتلال المعتد إذاً إنما هو للام ثم حملت العين عليها فيما ذكرت لك. ويؤكد عندك قوة العين على اللام أنهما إذا كانتا حرفي علة صحت العين واعتلت اللام وذلك نحو نواة وحياة والجوى والطوى. ومثله الضواة والحواة. فأما آية وغاية وبابهما فشاذ. وكأن فيه ويدلك على ضعف اللام عندهم أنهم إذا كسروا كلمة على فعائل وقد كانت الياء ظاهرة في واحدها لا ما فإنهم مما يظهرون في الجمع ياء. وذلك نحو مطية ومطايا وسبية وسبايا وسوية وسوايا فهذه اللام. وكذلك إن ظهرت الياء في الواحد زائدة فإنهم أيضاً مما يظهرونها في الجمع. وذلك نحو خطيئة وخطايا ورزية ورزايا أفلا ترى إلى مشابهة اللام للزائد. وكذلك أيضاً لو كسرت نحو عظاية وصلاية لقلت: عظايا وصلايا. وأيضاً فإنك تحذفها كما تحذف الحركة. وذلك في نحو لم يَدْعُ ولم يرم ولم يَخش. فهذا كقولك: لم يضرب ولم يقعد وإن تقعد أقعد. ومنها أيضاً حذفهم إياها وهي صحيحة للترخيم في نحو يا حار ويا مال. فهذا نحو حذفهم الحركات الزوائد في كثير من المواضع. ولو لم يكن من ضعف اللام إلا اختلاف أحوالها باختلاف الحركات عليها نعم وكنها في الوقف على حال يخالف حالها في الوصل نحو مررت بزيد يا فتى ومررت بزيدْ وهذه قائمة يا فتى وهذه قائمهْ لكان كافياً أو لا ترى إلى كثرة حذف اللام نحو يد ودم وغد وأب وأخ وذلك الباب وقلة حذف العين في سهٍ ومُذْ. فبهذا ونحوه يعلم أن حرف العلة في نحو قام وباع أقوى منه في باب غزوت ورميت. فاعرفه.
باب في الغرض في مسائل التصريف
وذلك عندنا على ضربين: أحدهما الإدخال لما تبنيه في كلام العرب والإلحاق له به. والآخر التماسك الرياضة به والتدرب بالصنعة فيه. الأول نحو قولك في مثل جعفر من ضرب: ضَرْبَب ومثل حُبْرُج: ضُرْبُب ومثل صِفْرٍد: ضِرْبِب ومثل سِبَطْر: ضِرَبّ ومثل فرزدق من جعفر: جَعَفْرَر. فهذا عندنا كله إذا بنيت شيئاً منه فقد ألحقته بكلام العرب وأدعيت بذلك أنه منه. وقد تقدم ذكر ما هذه سبيله فيما مضى. الثاني: وهو نحو قولك في مثل فيعول من شويت: شَيْوِيّ وفي فعول منه: شُووٍيّ وفي مثل عَضْرفُوط من الآءة: أَوْ أَيُوء ومنها مثل صُفُرُّق: أُوُؤْيُؤ ومن يوم مثل مَرْمَريس: يَوْيَوِيم ومثل ألندد أيَنْوَم ومثل قولك في نحو افعوعلت من وأيت: ايأوْأيت. فهذا ونحوه إنما الغرض فيه التأنس به وإعمال الفكرة فيه لاقتناء النفس القوة على ما يرد مما فيه نحو مما فيه. ويدلك على ذلك أنهم قالوا في مثال إوزة من أويت: إياة والأصل فيه على الصنعة إيَويَة فأعلت فيه الفاء والعين واللام جميعاً. وهذا مما لم يأت عن العرب مثلهُ. نعم وهم لا يوالون بين إعلالين إلا لمحاً شاذاً ومحفوظاً نادراً فكيف بأن يجمعوا بني ثلاثة إعلالات! هذا مما لا ريب فيه ولا تخالج شك في شيء منه.
باب في اللفظ يرد محتملاً
لأمرين أحدهما أقوى من صاحبه أيجازان جميعاً فيه أم يقتصر على الأقوى منهما دون صاحبه اعلم أن المذهب في هذا ونحوه أن يعتقد الأقوى منهما مذهباً. ولا يمتنع مع ذلك أن يكون الآخر مراداً وقولاً. من ذلك قوله: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا فالقول أن يكون ناهياً اسم الفاعل من نهيت كساع من سعيت وسار من سريت. وقد يجوز مع هذا أن يكون ناهياً هنا مصدراً كالفالج والباطل والعائر والباغز ونحو ذلك مما جاء فيه المصدر على فاعل حتى كأنه قال: كفى الشيب والإسلام للمرء نهياً وردعاً أي ذا نهي فحذف المضاف وعلقت اللام بما يدل عليه الكلام. ولا تكون على هذا معلقة بنفس الناهي لأن المصدر لا يتقدم شيء من صلته عليه. فهذا وإن كان عسفاً فإنه جائز للعرب لأن العرب قد حملت عليه فيما لا يشك فيه فإذا أنت أجزته هنا فلم تجز إلا جائزاً مثله ولم تأت إلا ما أتوا بنحوه. وكذلك قوله: فظاهر هذا أن يكون جوازيه جمع جاز أي لا يعدم شاكراً عليه ويجوز أن يكون جمع جزاء أي لا يعدم جزاء عليه. وجاز أن يجمع جزاء على جواز لمشسابهة المصدر اسم الفاعل فكما جمع سيل على سوائل نحو قوله: وكنت لقًى تجري عليك السوائل أي السيول كذلك يجوز أن يكون جوازيه جمع جزاء. ومثله قوله: وتترك أموال عليها الخواتم يجوز أن يكون جمع خاتم أي آثار الخواتم ويجوز أن يكون جمع ختم على ما مضى. ومن ذلك قوله: ومن الرجال أسنة مذروبة ومزندون شهودهم كالغائب يجوز أن يكون شهودهم جمع شاهد وأراد: كالغياب فوضع الواحد موضع الجمع على قوله: على رءوس كرءوس الطائر يريد الطير ويجوز أن يكون شهودهم مصدراً فيكون الغائب هنا مصدراً أيضاً كأنه قال: شهودهم كالغيبة أو المغيب ويجوز أيضاً أن يكون على حذف المضاف أي شهودهم كغيبة ومن ذلك قوله: إلا يكن مال يثاب فإنه سيأتي ثنائي زيدا ابن مهلهل فالوجه أن يكون أني مهلهل بدلاً من زيد لا وصفاً له لأنه لو كان وصفاً لحذف تنوينه فقيل: زيد بن مهلهل. ويجوز أيضاً أن يكون وصفاً أخرج على أصله ككثير من الأشياء تخرج على أصولها تنبيهاً على أوائل أحوالها كقول الله سبحانه: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} ونحوه. ومثله قول الآخر: جارية من قيس ابن ثعلبه القول في البيتين سواء. والقول في هذا واضح ألا ترى أن العالم الواجد قد يجيب في الشيء الواحد أجوبة وإن كان بعضها أقوى من بعض ولاتمنعه قوة القوى من إجازة الوجه الآخر إذ كان من مذاهبهم وعلى سمت كلامهم كرجل له عدة أولاد فكلهم ولد له ولاحق به وإن تفاوتت أحوالهم في نفسه. فإذا رأيت العالم قد أفتى في شيء من ذلك بأحد الأجوبة الجائزة فيه فلأنه وضع يده على أظهرها عنده فأفتى به وإن كان مجيزاً للآخر وقائلاً به ألا ترى إلى قول سيبويه في قولهم: لفه مائة بيضاً: إنه حال من النكرة وإن كان جائزاً أن يكون بيضا حالاً من الضمير المعرفة المرفوع في لعزة موحشا طلل فقال فيه: إنه حال من النكرة ولم يحمله على الضمير في الظرف. أفيحسن بأحد أنيدعى على أحد متوسطينا أن يخفى هذا الموضع عليه فضلاً عن المشهود له بالفضل: سيبويه. نعم وربما أفتى بالوجه الأضعف عنده لأنه على الحالات وجه صحيح. وقد فعلت العرب ذلك عينه ألا ترى إلى قول عمارة لأبي العباس وقد سأله عما أراد بقراءته: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} فقال له: ما أردت فقال أردت: سابق النهار فقال له أبو العباس: فهلا قلته فقال لو قلته لكان أوزن أي أقوى. وهذا واضح. فاعرف ذلك ونحوه مذهباً يقتاس به ويفزع إليه.
باب فيما يحكم به القياس مما لا يسوغ به النطق
وجماع ذلك التقاء الساكنين المعتلين في الحشو. وذلك كمفعول مما عينه حرف علة نحو مقول ومبيع ألا ترى أنك لما نقلت حركة العين من مقوول ومبيوع إلى الفاء فصارت في التقدير إلى مقُوْوْل ومَبُوْع تصورت حالاً لا يمكنك النطق بها فاضطررت حينئذ إلى حذف أحد الحرفين على اختلاف المذهبين. وعلى ذلك قال أبو إسحاق لإنسان ادعى له أنه يجمع في كلامه بين ألفين وطول الرجل وكذلك فاعل مما اعتلت عينه نحو قائم وبائع ألا تراك لما جمعت بين العين وألف فاعل ولم تجد إلى النطق بهما على ذلك سبيلاً حركت العين فانقلبت همزة. ومنهم من يحذف فيقول: شاك السلاح بطل مجرب ويقول أيضا: لاث به الأشاء والعبري وعلى ذلك أجازوا في يوم راح ورجل خاف أن يكون فعلاً وأن يكون فاعلاً محذوف العين لالتقاء الساكنين. فإن اختلف الحرفان المعتلان جاز تكلف جمعهما حشوا نحو قاوْت وقايْت وقْيوت. فإن تأخرت الألف في نحو هذا لم يمكن النطق بها كأن تتكلف النطق بقوات أو بقيات. وسبب امتناع ذلك لفظاً أن الألف لا سبيل إلى أن تكون ما قبلها إلا مفتوحاً وليست كذلك الياء والواو. فأنت إذا تكلفت نحو قاوْتٍ وقايْتٍ فكأنك إنما مطلت الفتحة فجاءت الواو والياء كأنهما بعد فتحتين وذلك جائز نحو ثوب وبيت ولو رمت مثل ذلك في نحو قيات أو قُوْات لم تخل من أحد أمرين كل واحد منهما غير جائز: أحدهما أن تثبت حكم الياء والواو حرفين ساكنين فتجيء الألف بعد الساكن و هذا ممتنع غير جائز. والآخر أن تسقط حكمهما لسكونهما وضعفهما فتكون الألف كأنها تالية للكسرة والضمة و هذا خطأ بل فإن قلت: فهلا جاز على هذا أن تجمع بين الألفين وتكون الثانية كأنها إنما هي تابعة للفتحة قبل الأولى لأن الفتحة مما تأتي قبل الألف لا محالة وأنت الآن آنفاً تحكي عن أبي إسحاق أنه قال: لو مددتها إلى العصر لما كانت إلا ألفاً واحدة قيل: وجه امتناع ذلك أنك لو تكلفت ما هذه حاله للزمك للجمع بين الساكنين اللذين هما الألفان اللتان نحن في حديثهما أن تمطل الصوت بالأولى تطاولاً به إلى اللفظ بالثانية ولو تجشمت ذلك لتناهيت في مد الأولى فإذا صارت إلى ذلك تمت ووفت فوقفت بك بين أمرين كلاهما ناقض عليك ما أعلقت به يديك: أحدهما: أنها لما طالت وتمادت ذهب ضعفها وفقد خفاؤها فلحقت لذلك بالحروف الصحاح وبعدت عن شبه الفتاحة الصغيرة القصيرة الذي رمته. والآخر: أنها تزيد صوتاً على ما كانت عليه وقد كانت قبل أن تشبع مطلها أكثر من الفتحة قبلها أفتشبهها بها من بعد أن صارت للمد أضعافها. هذا جور في القسمة وإفحاش في الصنعة واعتداء على محتمل الطبيعة والمنة. ولذلك لم يأت عنهم شيء من مقول ومبيع على الجمع بين ساكنيهما وهما مقوول ومبيوع لأنك إنما تعتقد أن الساكن الأول منهما كالحركة ما لم تتناه في مطله وإطالته وأما والجمع بينهما ساكنين حشو يقتادك إلى تمكين الحرف الأول وتوفيته حقه ليؤديك إلى الثاني والنطق به فلا يجوز حينئذ وقد أشبعت الحرف وتماديت فيه أن تشبهه بالحركة لأن في ذلك إضعافاً له بعد أن حكمت بطوله وقوته ألا ترى أنك إنما شبهت باب عصي بباب أدْلٍ وأحْقٍ لما خفيت واو فعول بإدغامها فحينئذ جاز أن تشبهها بضمة أفعل. فأما وهي على غاية جملة البيان والتمام فلا. وإذا لم يجز هذا التكلف في الواو والياء وهما أحمل له كان مثله في الألف للطفها وقلة احتمالها ما تحتمله الياء والواو أحرى وأحجى. وكذلك الحرفان الصحيان يقعان حشوا وذلك غير جائز نحو فصْبْل ومرطل هذا خطأ بل ممتنع. فإن كان الساكنان المحشو بهما الأول منهما حرف معتل والثاني حرف صحيح تحامل النطق بهما. وذلك نحو قالب وقولب وقيلبٍ. إلا أنه وإن كان سائغاً ممكناً فإن العرب قد عدته وتخطته عزوفاً عنه وتحاميا لتجشم الكلفة فيه ألا ترى أنهم لما سكنت عين فَعَلتْ ولامه حذفوا العين البتة فقالوا: قلت وبعت وخفت ولم يقولوا: قُولْت ولا بيعْت ولا خِيفْت ولا نحو ذلك مما يوجبه القياس. وإذا كانوا قد يتنكبون ما دون هذا في الاستثقال نحو قول عمارة {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} مع أن إثبات التنوين هنا ليس بالمستثقلف استثقال قُولْت وبيعت وخِيفت كان ترك هذا البتة واجباً. فإن كان الثاني الصحيح مدغماً كان النطق به جائزاً حسناً وذلك نحو شابة ودابة وتمود الثوب وقوصّ بما عليه. وذلك أن الإدغام أنبى اللسان عن المثلين نبوة واحدة فصارا لذلك كالحرف الواحد. فإن تقدم الصحيح على المعتل لم يلتقيا حشواً ساكنين نحو ضَرْوْب وضَرْيْب. وأما الألف فقد كفينا التعب بها إذ كان لا يكون ما قبلها أبداً ساكناً. وذلك أن الواو والياء إذا سكنتا قويتا شبها بالألف. وإنما جاز أن يجيء ما قبلهما من الحركة ليس منهما نحو بيت وحوض لأنهما على كل حال محرك ما قبلهما وإنما النظر في تلك الحركة ما هي أمنهما أم من غير جنسهما. فاما أن يسكن ما قبلهما وهما ساكنتان حشواً فلا كما أن سكون ما قبل الألف خطأ. فإن سكن ما قبلهما وهما ساكنان طرفاً جاز نحو عَدْوْ وظَبْىْ. وذلك أن آخر الكلمة أحمل لهذا النحو من حشوها ألا تراك تجمع فيه بين الساكنين وهما صحيحان نحو بَكْرْ وحَجْرْ وحِلْسْ. وذلك أن الطرف ليس سكونه بالواجب ألا تراه في غالب الأمر محركاً في الوصل وكثيراً ما يعرض له روم الحركة في الوقف. فلما كان الوفق مظنة من السكون وكان له من اعتقاب الحركات عليه في الوصل ورومها فيه عند الوقف ما قدمناه تحامل الطبع به وتساند إلى تلك التعلة فيه. نعم وقد تجد في بعض الكلام التقاء الساكنين الصحيحين في الوقف وقيل الأول منهما حرف مد وذلك في لغة العجم نحو قولهم: آردْ وماسْت. وذلك أنه في لغتهم مشبه بدابّة وشابة في لغتنا. وعلى ما نحن عليه فلو أردت تمثيل أهرقت على لفظه لجاز فقلت: أهفلت. فإن أردت تمثيله على أصله لم يجز من قبل أنك تحتاج إلى أن تسكن فاء أفعلت وتوقع قبلها هاء أهرقت وهي ساكنة فيلزمك على هذا إن تجمع حشوا بين ساكنين صحيحين. وهذا على ما قدمناه وشرحناه فاسد غير مستقيم. فاعرف مما ذكرناه حال الساكنين حشوا فإنه موضع مغفول عنه وإنما يسفر ويضح مع الاستقراء له والفحص عن حديثه. ومن ذلك أنك لما حذفت حرف المضارعة من يضرب ونحوه وقعت الفاء ساكنة مبتدأة. وهذا ما لا سبيل إلى النطق به فاحتجت إلى همزة الوصل تسبباً على النطق به.