الفقه
جمال الدين الأفغاني
المقدمة .إن الأمم الشرقية جمعاء مدينة بنهضتها السياسية والفكرية غلي الزعيم الكبير ، والفيلسوف الشهير ، السيد جمال الدين الأفغاني. ظل الشرق قروناً عديدة رازحاً تحت نير الجمود الفكري ، والتأخر العلمي ، والاستعباد السياسي ، وبقي في سبات عميق ، إلي أن قيض الله له الحكيم الأفغاني " جمال الدين " ، فنفخ فيه روح اليقظة والحياة ، وأهاب بالنفوس أن تنهض وتتحرك ن وبالعقول ان تستيقظ ، وبالأمم والجماعات أن تتطلع إلي الحرية ، فكانت رسالته إلي الشرق مبعث نهضته الحديثة وإذا أردنا أن نتبين في كلمة عامة فضل جمال الدين ، ومدى الرسالة التي أداها ، فلنذكر أنه كان في حياته مصلحاً دينياً ، وفيلسوفاً حكيماً ، وزعيماً سياسياً ، فجمع بين الزعامات الروحية والفكرية ، والسياسية ، واضطلع بها معاً ، فأدى من الناحية الدينية مهمة الإصلاح والتجديد التي أدى مثلها مارتن لوثر للمسيحية ، وأهاب بالأمم الإسلامية أن تفهم الإسلام على حقيقته وترجع به إلي مبادئه الصحيحة ، وفطرته الأولى ، وتطهره من الأوهام والخرافات التي افضت إلي تأخر المسلمين. ومن الناحية الفكرية ، أدى المهمة التي قام بها في أوربا فلاسفة الفكر ، أمثال جان جاك روسو ومونتسكيو وغيرهما ، فعمل على إنارة البصائر ، وتوجيه الأفكار إلي البحث عن الحقائق ، وتحرير العقول من قيود الجمود والتقليد. ومن الوجهة السياسية استنهض الهمم، واستثار في النفوس روح العزة والكرامة والتطلع إلي الحرية ، وغرس بذور الحركات الوطنية في مختلف البلاد الشرقية وقام بمثل العمل الذي اضطلع به زعماء النهضات السياسية في الغرب، كواشنطون ، وجاريبالدي ، ومازيني ، وكوشوت وغيرهم. فالذي يجمع بين هذه المهام الجليلة ، ويضطلع بها معاً ، في عهد اشتد فيه ظلام الجهالة ، وتفرقت الكلمة ، وعز النصير ، وتشعبت الأهواء ، يجب أن يتسامى في قوة النفس والفكر والوجدان إلي مراتب العبقرية ، ويقيناً أن الأمم الشرقية لم تقدر حتى الآن حكيم الشرق حق قدره ، ولا أدت له حقه من الوفاء والتكريم ، وسيظهر فضله على مر السنين. وإذا كانت النهضة الفكرية والسياسية على عهد إسماعيل يرجع جانب كبير من ظهورها إلي السيد جمال الدين ، رأينا واجباً علينا أن نترجم له في سياق الحديث ، وقد جعلنا معظم اعتمادنا في " وقائع " الترجمة على ما كتبه تلميذة الأكبر الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده.
منشؤه ولد المترجم سنة 1838 ( 1254 هـ ) ، في " أسعد آباد " إحدي القرى التابعة لخطة ( كونار ) من أعمال ( كابل ) عاصمة الأفغان ، ووالده السيد صفدر من سادات ( كنر ) الحسينية ، ويتصل نسبه بالسيد على الترمزي المحدث المشهور ويرتقي إلي سيدنا الحسين ابن على بن أبي طالب كرم الله وجهة ، ومن هنا جاء التعريف عنه بالسيد جمال الدين الحسيني الأفغاني. ولاسرته منزلة عالية في بلاد الأفغان ، لنسبها الشريف ، ولمقامها الاجتماعي والسياسي إذ كانت لها الإمارة والسيادة على جزء من البلاد الأفغانية ، تستقل بالحكم فيه ، إلي أن نزع الإمارة منها " دوست محمد خان " أمير الأفغان وقتئذ ، وأمر بنقل أبي السيد جمال الدين وبعض اعمامه إلي مدينة كابل ، وانتقل المترجم بانتقال أبيه إليها ، وهو بعد في الثامنة من عمره ، فعنى ابوه بتربيته وتعليمه ، على ما جرت به عادة الأمراء والعلماء في بلاده. وكانت مخايل الذكاء ، وقوة الفطرة ، وتوقد القريحة تبدو عليه منذ صباه ، فتعلم اللغة العربية ، والأفغانية ، وتلقى علوم الدين ، والتاريخ ، والنطق ، والفلسفة ، والرياضيات ، فاستوفى حظه من هذه العلوم ، على أيدي أساتذة من اهل تلك البلاد ، على الطريقة المألوفة في الكتب الإسلامية المشهورة ، واستكمل الغاية من دروسه وهو بعد في الثامنة عشرة من عمره ، ثم سافر إلي الهند ، وأقام بها سنة وبضعة اشهر يدرس العلوم الحديثة على الطريقة الأوربية ، فنضج فكره ، واتسعت مداركه ، وكان بطبعه ميلاً إلي الرحلات ، واستطلاع أحوال الأمم والجماعات ، فعرض له وهو في الهند أن يؤدي فريضة الحج ، فاغتنم هذا الفرصة وقضى سنة ينتقل في البلاد ، ويتعرف احوالها ، وعادة أهلها ، حتى وافى مكة المكرمة ن سنة 1273 هـ ( 1857 م ) ، وأدي الفريضة.
بدء حياته العملية ثم عاد إلي بلاد الأفغان ، وانتظم في خدمة الحكومة على عهد الأمير " دوست محمد خان " المتقدم ذكره وكان اول عمل له مرافقته إياه في حملة حربية جردها لفتح ( هراة ) ، إحدى مدن الافغان ، وليس يخفى أن النشأة الحربية تعود صاحبها الشجاعة ، واقتحام المخاطر ، ومن هنا تبدو صفة من الصفات العالية ، التي امتاز بها جمال الدين ، وهي الشجاعة ، فإن من يخوض غمار القتال في بداء حياته تألف نفسه الجرأة والإقدام ، وخاصة إذا كان بفطرته شجاعاً. ففي نشأة المترجم الأولى ، وفي الدور الأول من حياته ، تستطيع ان تتعرف أخلاقه ، والعناصر التي تكونت منها شخصيته ، فقد نشأ كما رأيت من بيت مجيد ، ازدان بالشرف واعتز بالإمارة ، والسيادة ، والحكم ، زمناً ما ، وتربى في مهاد العز ، في كنف أبيه ورعايته ، فكان للوراثة والنشأة الأولى ن أثرهما فيما طبع عليه من عزة النفس ، التي كانت من أخص صفاته ، ولازمته طوال حياته ن وكان للحرب التي خاضها اثرها ايضاً فيما اكتسبه من الأخلاق الحربية ، فالوراثة ن والنشأة ، والتربية ، والمرحلة الأولى في الحياة العملية ، ترسم لنا جانباً من شخصية جمال الدين الأفغاني. سار المترجم إذن في جيش " دوست محمد خان " لفتح " هراة " ، ولازمه مدة الحصار إلي أن توفي الامير ، وفتحت المدينة بعد حصار طويل ، وتقلد الإمارة من بعده ولى عهده ( شير على خان ) سنة 1864 م ( 1280 هـ ). ثم وقع الخلاف بين الأمير الجديد وأخوته، إذ اراد ان يكيد لهم ويعتقلهم ، فانضم السيد جمال الدين إلي " محمد أعظم " أحد الأخو’ الثلاثة ، لما توسمه فيه من الخير ، واستعرت نار الحرب الداخلية ، فكانت الغلبة لمحمد أعظم ، وانتهت إليه إمارة الأفغان ، فعظمت منزلة المترجم عنده ، وأحله محل الوزير الأول ، وكان بحسن تدبيره يستتب الامر للامير ، ولكن الحرب الداخلية ، ما لبثت ان تجددت ن إذ كان ( شير على ) لا يفتأ يسعى لاسترجاع سلطته ، وكان الإنجليز يعضدونه بأموالهم ودسائسهم ، فأيدوه ونصروه ، ليجعلوه من أوليائهم وصنائعهم ، واغدق ( شير على ) الأموال على الرؤساء الذين كانوا يناصرون الأمير محمد اعظم ، " فبيعت أمانات ونقضت عهود وجددت خيانات " ، كما يقول الأستاذ الغمام الشيخ محمد عبده وانتهت الحرب بهزيمة محمد أعظم، وغلبه شير على ، وخلص له الملك. بقي السيد جمال الدين في كابل لم يمسسه الأمير بسوء ، " احتراماً لعشيرته وخوف انتفاض العامة عليه حمية لآل البيت النبوي " ، وهنا أيضاً تبدو لك مكانة المترجم ، ومنزلته بين قومه ن وهو بعد في المرحلة الأولى من حياته العامة ، ويتجلى استعداده للاضطلاع بعظائم المهام ، والتطلع إلي جلائل الأعمال ، فهو يناصر أميراً يتوسم فيه الخير ، ويعمل على تثبيته في الإمارة ، ويشيد دولة يكون له فيها مقام الوزير الأول ، ثم لا تلبث اعاصير السياسة والدسائس الغنجليزية أن تعصف بالعرش الذي اقامه ، فيدال من أميره ، ويغلب على أمره ، ويلوذ بإيران لكي لا يقع في قبضة عدوه ، ثم يموت بها ، أما المترجم فيبقى في عاصمة الإمارة ، ولا يهاب بطش الأمير المنتصر ، ولا يتملقه أو يسعى إلي نيل رضاه ، ولا ينقلب على عقبيه كما يفعل الكثيرون من طلاب المنافع ، بل بقي عظيماً في محنته ، ثابتاً في هزيمته ، وتلك لعمري ظواهر عظمة النفس ، ورباطة الجأش ، وقوة الجنان. وهذه المرحلة كان لها أثرها في الاتجاه السياسي للسيد جمال الدين ن فقد رأيت ما بذلته السياسة ال‘نجليزية لتفريق الكلمة ، ودس الدسائس في بلاد الأفغان ، وإشعال نار الفتن الداخلية بها ، واصطناعها الاولياء من بين أمرائها ، ولا مراء في أن هذه الأحداث قد كشفت للمترجم عن مطامع الإنجليز ، وأساليبهم في الدس والتفريق ، وغرست في فؤاده روح العداء للسياسة البريطانية خاصة ، والمطامع الاستعمارية الأوربية عامة ، وقد لازمه هذا الكره طوال حياته ، وكان له مبدأ راسخاً يصدر عنه في أعماله وآرائه وحركاته السياسية. أثره العلمي والأدبي أقام المترجم في مصر ، وأخذ يبث تعاليمه في نفوس تلاميذه ، فظهرت على يده بيئة ، استضاءت بأنوار العلم والعرفان ، وارتوت من ينابيع الأدب والحكمة ، وتحررت عقولها من قيود الجمود والأوهام ، وبفضله خطا فن الكتابة والخطابة في مصر خطوات واسعة ، ولم تقتصر حلقات دروسه ومجالسه على طلبة العلم ، بل كان يؤمها كثير من العلماء والموظفين والأعيان وغيرهم ، وهو في كل أحاديثه " لا يسأم " كما يقول عنه الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ، من الكلام فيما ينير العقل ، أو يطهر العقيدة أو يذهب بالنفس إلي معالي الأمور ، أو يستلفت الفكر إلي النظر في الشئون العامة مما يمس مصلحة البلاد وسكانها ، وكان طلبة العلم ينتقلون بما يكتبونه من تلك المعارف إلي بلادهم أيام البطالة ، والزائرون يذهبون بما ينالونه إلي أحيائهم ، فاستيقظت مشاعر وتنبهت عقول ، وخف حجاب الغفلة في أطراف متعددة من البلاد خصوصاً في القاهرة ". وقال الأستاذ الإمام في موطن آخر يصف تطور الكتابة على يد المترجم : " كان أرباب القلم في الديار المصرية القادرون على الإجادة في المواضيع المختلفة منحصرين في عدد قليل ، وما كنا نعرف منهم إلا عبد الله باشا فكري ، وخيري باشا ، ومحمد باشا سيد أحمد على ضعف فيه ، ومصطفى باشا وهبي على اختصاص فيه ، ومن عدا هؤلاء فإما ساجعون في المراسلات الخاصة ، وإما مصنفون في بعض الفنون العربية أو الفقهية وما شاكلها ، ومن عشر سنوات ترى كتبة في القطر المصري ، لا يشق غبارهم ولا يوطأ مضمارهم ، وأغلبهم أحداث في السن ، شيوخ في الصناعة ، وما منهم إلا من أخذ عنه ، أو عن احد تلاميذه ، أو قلد المتصلين به " انتهى كلام الإمام. فروح جمال الدين كان لها الأثر البالغ في نهضة العلوم والآداب في مصر ، ولا يفوتنا القول بأن البيئة التي كانت مستعدة للرقي ، صالحة لغرس بذور هذه النهضة، وظهور ثمارها ، أو بعبارة أخرى ن ان مصر بما فيها الأزهر ، والمعاهد العلمية الحديثة ، والتقدم العلمي الذي ابتدأ منذ عهد محمد على ، كانت على استعداد لتقبل دعوة الحكيم الأفغاني ، ولولا هذا الاستعداد لقضي على هذه الدعوة في مهدها ، ولأخفق هو في مصر كما أخفق في الأستانة ، حيث وجد ابواب العمل موصدة أمامه ، وهذا يبين لنا جانباً من مكانة مصر ، وسبقها الأقطار الشرقية في التقدم العلمي والفكري والسياسي ، ويزيد هذه الحقيقة وضوحاً أنك إذا استعرضت حياة جمال الدين العامة ، وما تركه من الأثر في مختلف الأقطار الشرقية التي بث فيها دعوته ، وجدت اثره في مصر أقوى وأعظم منه في اي بلد من البلدان الأخرى ، وفي هذا ما يدلك على مبلغ استعداد مصر للنهضة والتقدم ، إذا تهيأت لها اسباب العمل ووجدت القادة والحكماء. أثره الأخلاقي والسياسي جاء المترجم إلي مصر يحمل بين جنبيه روحاص كبيرة ، ونفساً قوية ، تزينها صفات وأخلاق عالية ، أنبتتها الوراثة والتربية الأولى ، وهذبتها الحكمة والمعرفة ، ومحصتها الحياة الحربية التي خاض غمارها في بلاد الأفغان ، والتجارب التي مارسها ، والشدائد التي عاناها جاء وفيه من الشمم والإباء ما صدفه عن أن يطأ طأ الرأس أو يقيم على الضيم ، جاء وفيه من الثبات ما جعله يتغلب على العقبات التي اعترضته في أدوار حياته ، فقد رأيت كيف بقي على ولائه للأمير محمد أعظم ، رغم ما أصابه من الهزيمة ولم يخضع لخصمه ( شير على ) ، ورحل إلي الهند ، فلم تطق السياسة الاستعمارية بقاءه فيها وأقصته عنها ، وذهب إلي الأستانة ، فلم يعرف التملق والدهان ، وجهر بالحق ، واستهدف لعداوة شيخ الإسلام ، فلم يتراجع ولم ينكص على عقبيه ، وانتهى الخلاف بإقصائه عن الأستانة. فهذه الأخلاق التي جاء بها جمال الدين كانت بلا مراء أقوى مما عرف عن المجتمع المصري ، في ذلك العهد ، من خفض الجناح ، والصبرعلى الضيم ، والخضوع للحكام ، وليس يخفى ما للشخصيات الكبيرة من سلطان أدبي على النفوس وما تؤثر فيها من طريق القدوة ، فالسيد جمال الدين بما اتصف به من الأخلاق العالية ، أخذ يبث في النفوس روح العزة والشهامة ، ويحارب روح الذلة والاستكانة ، فكان بنفسيته ودروسه وأحاديثه ،ومناهجه في الحياة ، مدرسة أخلاقية ، رفعت من مستوى النفوس في مصر ، وكانت على الزمن من العوامل الفعالة للتحول الذي بدا على الأمة ن وانتقالها من حالة الخضوع والاستكانة إلي التطلع للحرية والتبرم بنظام الحكم القديم ومساوئه ، والسخط على تدخل الدول في شؤون البلاد. اسرفت حكومة إسماعيل في القروض ، وبدأت عواقب هذا الإسراف تظهر للعيان رغم ما بذلته الحكومة لإخفائها بمختلف الوسائل ، وأخذت النفوس تتطلع إلي إصلاح نظام الحكم بعد إذا أحست مرارة الاستبداد وهالتها فداحة القروض التي كبلت البلاد بقيود تدخل الدول. ويمكننا أن نحدد أواخر سنة 1875 ، وأوائل سنة 1876 كمبدأ للتدخل الأوربي ن إذ حدث من مظاهره وقتئذ شراء إنجلترا أسهم مصر في القناة ثم قدوم بعثة المستر " كيف " الإنجليزية لفحص مالية مصر ، ثم توقف الحكومة عن اداء أقساط ديونها ن وما اعقب ذلك كم غنشاء صندوق الدين في مايو سنة 1876 0 فهذا التدخل كان من الأسباب الجوهرية التي حفزت النفوس إلي التبرم بنظام الحكم ، والتخلص من مساوئه ، لأن سياسة الحكومة هي التي أفضت إلي تدخل الدول في شؤون مصر وامتهانها كرامة البلاد واستقلالها 0 ومن هنا جاءت النهضة الوطنية والسياسية ، ووجدت مبادئ حكيم الشرق وتعاليمه سبيلاً إلي النفوس ، فكانت من العوامل الهامة في ظهور هذه النهضة التي شغلت السنوات الأخيرة من عهد إسماعيل وكانت من أعظم أدوار الحركة القومية. كان من مظاهر هذه النهضة نشاط الصحف السياسية ، وإقبال الناس عليها ، وتحدثهم في شؤون البلاد العامة ، وتبرمهم بحالتها السياسية والمالية ، ثم ظهور روح المعارضة والبيقظة في مجلس الشورى ، على يد نواب نفخ فيهم جمال الدين من روحه ، وعلى رأسهم عبد السلام بك المويلحي ( باشا ) ، الذي يعد من تلاميذه الأفذاذ ، وإنك لتلمس الصلة الروحية بينهما ، من الكلمات والعبارات الرائعة التي كان المويلحي يجهر بها في جلسات مجلس شورى النواب ن مما سنذكره في موضعه ، فإن هذه العبارات هي قبس من روح الحكيم الأفغاني. وقد جاء ذكر النائب المويلحى ضمن تلاميذ جمال الدين ومريديه على لسان سليم بك العنجوري أحد أدباء سورية حين زار مصر ووصف مكانة السيد بقوله : " في خلال سنة 1878 زاد مركزه خطراً وسما مقامه ، لأنه تدخل في السياسات وتولى رئاسة جمعية ( الماسون ) العربية وصار له أصدقاء وأولياء من أصحاب المناصب العالية ، مثل محمود سامي البارودي الذي نفي اخيراً مع عرابي إلي جزيرة سيلان ، وعبد السلام بك المويلحي النائب المصري في دار الندوة ، وأخيه إبراهيم ( المويلحي ) كاتب الضابطة ، وكثر سواد الذين يخدمون افكاره ، ويعلون بين الناس مناره ، من أرباب الأقلام ، مثل الشيخ محمد عبده ، وإبراهيم اللقاني ، وعلى بك مظهر ، والشاعر الزرقاني ، وأبي الوفاء القوني في مصر ، وسليم النقاش ، وأديب إسحق ، وعبد الله النديم في الإسكندرية". جمال الدين والثورة العرابية لم يكن جمال الدين الأفغاني مناصراً لإسماعيل ، بل كان ينقم منه استبداده وإسرافه، وتمكينه الدول الاستعمارية من مرافق البلاد وحقوقها ، وكان يتوسم الخير في توفيق ، إذ رآه وهو ولي للعهد ميالاً إلي الشورى ، ينتقد سياسة أبيه وإسرافه ، وقد اجتمعا في محفل الماسونية ، وتعاهدا على إقامة دعائم الشورى. ولكن توفيق لم يف بعهده بعد أن تولى الحكم ، فقد بدا عليه الانحراف عن الشورى واستمع لوشايات رسل الاستعمار الأوربي ، وفي مقدمتهم قنصل إنجلترا العام في مصر ، إذ كانوا ينقمون من السيد روح الثورة والدعوة إلي الحرية والدستور ، فغيروا عليه قلب الخديوي ، وأوعزوا إليه بإخراجه من القطر المصري ، فأصدر أمره بنفيه ن وكان ذلك بقرار من مجلس النظار منعقداً برآسة الخديوي ، وكان نفيه غاية في القسوة والغدر ، إذ قبض عليه ليلة الأحد سادس رمضان سنة 1296 - 24 أغسطس سنة 1879 ، وهو ذاهب إلي بيته هو وخادمه الأمين ( أبو تراب ) ، وحجز في الضبطية ، ولم يمكن حتى من أخذ ثيابه ، وحمل في الصباح في عربة مقفلة إلي محطة السكة الحديدية ، ومنها نقل تحت المراقبة الشديدة إلي السويس ، وانزل منها إلي باخرة اقلته إلي الهند ، وسارت به إلي بومباي ، ولم تتورع الحكومة عن نشر بلاغ رسمي من غدارة المطبوعات بتاريخ 8 رمضان سنة 1296 ( 26 أغسطس سنة 1879 م ) ذكرت فيه نفي السيد بعبارات جارحة ملؤها الكذب والأفتراء، مما لا يجدر بحكومة تشعر بشيء من الكرامة والحياء أن تسف إليه ، فهي قد نسبت إليه السعي في الأرض بالفساد ، ويعلم الله أنه لم يكن يسعى إلا إلي يقظة الأمة ، وتحريرها من ربقة الذل والعبودية ، وذكرت عنه أنه " رئيس جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش مجتمعة على فساد الدين والدنيا " ، وحذرت الناس من الاتصال بهذه الجمعية ، ومن المؤلم حقاً أن يتقرر النفي ويصدر مثل هذا البلاغ من حكومة يرأسها الخديوي توفيق باشا وهو على ما تعلم من سابق تقديره للسيد ، ومن وزرائها محمود باشا سامي البارودي ناظر الأوقاف وقتئذ ، وقد كان من اصدق مريديه وانصاره ، فتأمل كيف يتنكر الأنصار والأصدقاء لأستاذهم ، وإلي أي حد يضيع الوفاء بين الناس !! ، ولا ندري كيف أساغ البارودي نفي السيد جمال الدين واشترك في احتماله تبعته ، وإذغ لم يكن موافقاص على هذا العمل المنكر فَلِمَ لم يستقيل من الوزارة احتجاجاً واستنكاراً ؟ لا شك أن موقف البارودي في هذه الحادثة لا يمكن تسويغه أو الدفاع عنه بأي حال. نفي جمال الدين من مصر ، على أن روحه ومبادئه وتعاليمه تركت أثرها في المجتمع المصري وبقيت النفوس ثائرة تتطلع إلي نظام الحكم ، وإقامته على دعائم الحرية والشورى ن فجمال الدين هو من الوجهة الروحية والفكرية أبو الثورة العرابية ، وكثير من أقطابها هم من تلاميذه أو مريديه ، والثورة في ذاتها هي استمرار للحركة السياسية التي كان لجمال الدين الفضل الكبير في ظهورها على عهد إسماعيل ، ولو بقي في مصر حين نشوب الثورة لكان جائزاً أن يمدها بآرائه الحكيمة ، وتجاربه الرشيدة ، فلا يغلب عليها الخطل والشطط ، ولكن شاءت الأقدار ، والدسائس الإنجليزية ، أن ينفى السيد من مصر ، وهي أحوج ما تكون إلي الانتفاع بحكمته وصدق نظره في الأمور. وأقام المترجم بحيدر أباد الدكن ، وهناك كتب رسالته في الرد على الدهريين ، وألزمته الحكومة البريطانية بالبقاء في الهند حتى انقضى أمر الثورة العرابية. مرضه ووفاته تواترت الروايات بأن جمال الدين مات شبه مقتول ، وتدل الملابسات والقرائن على ترجيح هذه الرواية ، فإن اتهامه بالتحريض على قتل الشاه ، وتغيير السلطان عليه ، وحبسه في قصره ، ووشايات أبي الهدى الصيادي ، مما يقرب إلي الذهن فكرة التخلص منه باية وسيلة ، هذا إلي أن الغدر والأغتيال كانا من الأمور المألوفة في الأستانة. واصدق الروايات واحقها بالثقة فيما نعتقد ، وما ذكره الأمير شكيب أرسلان في كتاب ( حاضر العالم الإسلامي ) ، قال ما خلاصته : أنه لما اشتد التضييق على السيد جمال الدين أرسل إلي مستشار السفارة الإنجليزية يطلب منه إيصاله إلي باخرة يخرج بها من الأستانة ، فجاءه المستشار وتعهد له بذلك ، فلما بلغ السلطان الخبر أرسل إليه أحد حجابه يستعطفه أن لا يمس كرامته إلي هذا الحد ولا يتلمس حماية أجنبية فثارت في نفسه الحمية والأنفة ، وأخبر مستشار السفارة بأنه عدل عن السفر ، ومهما كان فليكن ، ولكن الرقابة عليه بقيت كما كانت ، وبعد أشهر من هذه الحادثة ظهر في فمه مرض السرطان ، فصدرت الإرادة السلطانية باجراء عملية جراحية يتولاها الدكتور قمبور زادة إسكندر باشا كبير جراحي القصر السلطاني ، فأجرى له العملية الجراحية فلم تنجح ، وما لبث إلا أياماً قلائل حتى فاضت روحه ، ومن هنا تقول الناس في قصة هذا السرطان ، وهذه العملية الجراحية ، لقرب عهد المرض بتغير السلطان على السيد ، وما كان معروفاً من وساوس عبد الحميد ، فقيل أن العملية الجراحية لم تعمل على الوجه اللازم لها عمداً ، وقيل لم تلحق بالتطهيرات الواجبة فنياً ، بحيث انتهت بموت المريض. وذكر الأمير شكيب أن المستشرق المعروف الكونت ( لاون استروروج ) حدثه أن المترجم كان صديقة ، فدعاه إليه بعد إجراء العملية الجراحية وقال له إن السلطان أبى أن يتولى العملية إلا جراحه الخاص ، وإنه هو رأي حال المريض إذدادت شدة بعد العملية ، ورجا منه أن يرسل إليه جراحاً فرنساوياً مستقل الفكر طاهر الذمة ، لينظر في عقبى العملية ، فأرسل إليه الدكتور ( لاردي ) فوجد أن العملية لم تجر على وجهها الصحيح ، ولم تعقبها التطهيرات اللزمة ، وأن المريض قد أشفى بسبب ذلك ، وعاد إلي استروروج ، وأنبأه بهذا الأمر المحزن ، ولم تمض أيام حتى فارق جمال الدين الحياة. وذكر وأحد ممن كانوا في خدمة عبد الحميد ، بعد أن روى له الأمير هذه القصة أن قمبور زاده إسكندر باشا كان أطهر وأشرف من أن يرتكب مثل تلك الجريمة ، وحقيقة الواقعة أنه كان بالأستانة طبيب اسنان عراقي أسمه ( جارح ) يتردد كثيراً على جمال الدين ، ويعالج اسنانه ، وكانت نظارة الضابطة ( إدارة الأمن العام ) قد استمالت ( جارح ) هذا بالمال ، وجعلته جاسوس على السيد ، وصار له عدواص في ثياب صديق ، وقال صاحب هذه الرواية أنه أراد مرة أن يمنع الطبيب المذكور من الاختلاط بجمال الدين ، فأشار إليه ناظر الضابطة إشارة خفية بان يتركه ، وفهم من الإشارة أن يذهب إلي السيد ويعالج اسنانه ، بعلم من النظارة ، والسيد لا يعلم بشيء من ذلك ، ويطمئن إلي ( جارح ) ويثق به ، ولم تمض عدة أشهر على حادثة الشاه حتى ظهر السرطان في فك السيد من الداخل ، وأجريت له عملية جراحية فلم تنجح ، وجارح هذا ملازم للمريض ، وبعد موته كانوا يرونه دائماً حزيناً، يبدو على وجهه الوجوم والخزى ، مما جعلهم يشتبهون أن يكون له يد في إفساد الجرح بعد العملية ، أو في توليد المرض نفسه من قبل بوسيلة من الوسائل ، ولما مات السيد بدا الندم على الطبيب الأثيم ، وشعر بوغز الضمير يؤنبه على خيانته هذا الرجل العظيم. وكانت وفاته صبيحة الثلاثاء 9 مارس سنة 1897 ، وما أن بلغ الحكومة العثمانية نعيه حتى أمرت بضبط أوراقه وكل ما كان باقياً عنده ، وأمرت بدفنه من غير رعاية أو احتفال في مقبرة المشايخ بالقرب من نشان طاش فدفن كما يدفن اقل الناس شأنا في تركيا ، ولا يزال قبره هناك.