المسيحية البدائية
لن يكون هناك تركيز على الجانب التاريخي للمسيحية وجانبها الديني بالمعنى الدقيق للكلمة وكذلك ما يتعلق بشخصية المسيح بالذات ... الذى لم يشأ بعض المفكرين من "بايل" إلى فولتير وإلى "رينان" , وفي العصر الحاضر "ريناك" اعتباره إلا "ديموقراطي مثالي" أو حتى "اسطورة جماعية" – كما هو رأي "كوشو" مثلا – ترمز إلى تطلعات اخلاقية معينة في العهد القديم ( عورضت هذه الآراء برأي مخالف هو صعوبة تفسير النجاح التاريخي الذى حققته المسيحية فيما لو لم تكن مبنية إلا على اسطورة بسيطة فحسب . فهو نجاح "يستعصي على الإدراك إذ ذاك كما هو شأن الإسلام مثلا لو جردناه عن شخصية الرسول " وقد رد "بنوا" على "بايل" في حينه عام 1712 قائلا انه لو اقتصرنا البراهين التاريخية المطلقة فحسب فإن وجود "بايل" ذاته كما يورده معاصروه سيبدو اسطورة صعبة التصديق ) . وسنركز على المظهر الأخلاقي للمذهب الإنجيلي , هذا المظهر الذى يميز فيه الكثيرون اتجاهين لا يخلوان من التناقض الأول هو اتجاه تشاؤم نسبي ذلك أن الله "آب ضابط الكل خالق السماء والأرض" يلازم اعتقادا آخر بالشيطان المخلوق المتمرد الذى سقط وجر معه في سقوطه آدم وحواء ... وهذا مصدر فكرة "الخطيئة الأصلية" التي نُهجت – بل وتكاد أن تكون اخترعت – من قبل القديس بولس ( ذلك أن الأناجيل لا تتضمن ذكرا لها) , وأدت إلا انه "لا سعادة في هذا العالم" كما جعلت من العالم منفى و"واديا للدموع " .. ولذا فإن الشاغل الوحيد للمسيحي يجب أن يكون "خزن الكنوز في السماء حيث الديدان والصدأ لا تُفسد شيئا " ... [ لا تكنزوا كنوزا لكم على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ] " انجيل متى ". وهذا ما ينتج عنه اخيرا احتقار كل ما يربطنا بالحياة , واحتقار الأهواء والحب الشهواني وكذلك احتقار الذكاء المتكبر [ طوبى للمساكين بالروح] .. بل ولعل الخلاص ذاته كما ارتآه القديس بولس –ايضا- غير ممكن إلا باللطف الإلهي , لا بالأعمال الأرضية . وحين يقول يوحنا ] أنا هو الطريق والحق والحياةأو يقول ايضا انه هو القيامة والحياة , فإن ما يقصده بذلك المناداة بأن التقبل الشامل للإيمان , دون أي نقاش , من قبل قلب طار وخاضع هو الذى يقود إلى "الحياة" الأصيلة الوحيدة .. أي الحياة في ملكوت الله . غير أن المذهب الإنجيلي مذهب متفائل ايضا لأن "البشارة" المسيحية هي أن الله قبل كل شيء أب لا متناهي الحب والناس اطفاله .. ويتلخص اصحاح الناموس والأنبياء بالقاعدتين التاليتين : محبة الله ( احبب الرب إلهك من كل قلبك) ... ثم لكي نقدم له خير دليل على هذا الحب محبة الغير ( واحبب قريبك كنفسك) ... وهذا ما يبرر – كما تجدر ملاحظته – ادانه كل ما قد يضلنا عن هذا الحب ( كالأهواء والثراء ... ) وادانه الذكاء المتكبر الذى لا فائده منه لأن مملكة السماوات لا تفتح ابوابها إلا لمن عاغد إلى طهارة الطفل وبساطته ( الحق اقول لكم إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد لن تدخلوا ملكوت السماوات ). ويمتزج وجها المسيحية المتشائم والمتفائل هذان في الأخلاقية التي ألهمت ( إن لم تكن قادت العالم الغربي) منذ ما يقرب من عشرين قرنا والتي لخصها القديس بولس قائلا :( لو كنت انطق بألسنة الناس والملائكة ولم تكن فيٌ المحبة فإنما انا نحاس يطن أو صنج يرف , ولو كانت لي النبوة وكنت اعلم جميع الأسرار والعلم كله , ولو كان لي الإيمان كله حتى انقل الجبال ولم تكن فيٌ المحبة فلست بشيء , ولو بذلت جميع امواي لإطعام المساكين واسلمت جسدي لأحرمه ولم تكن فيٌ المحبة فلا انتفع شيئا ) - رسالة القديس بولس الأولى إلى اهل كورنثوس .... (وفي الحقيقة والذى يثبت الآن هو الإيمان والرجاء والمحبة هذه الثلاثة واعظمهن المحبة ) . تقوم الخلاق إذن على الإخاء وعلى الإحسان وعلى المغفرة التي يجب ألا تقف دون الطوائف أو الحدود "السامري الطيب" أو دون " من لطمك على خدك الأيمن" أو دون " المرأة الزانية " ... فمن الأكيد بالتالي انها اخلاق ترفعها طبيعتها الكلية الفعالة فوق المذاهب الأخلاقية الشرقية بما فيها المذهب البوذي حيث يظل "حب" الحكيم من بعض جوانبه وسيلة للخلاص الشخصي . هذه هي الأخلاق التي استلهمتها المسيحية البدائية التي بدأت ك "جمعية فقراء" أو " أسرة من اخوة بسطاء ومتحدين" – كما تحدث عنها" رينان" – ولكن عودة المسيح واقامة ملكوت الله تأخرا فإضطرت هذه الجماعة لتنظيم نفسها حتى تطورت إلى كنيسة عالمية ( أو كاثوليكية) تبناها المجتمع المثقف في العالم اليوناني – اللاتيني شيئا فشيئا .. وتم اندماج المذهب جزئيا بالفلسفات القديمة الكبرى . حتى حين كان يبدو وكأنه يدين هذه الفلسفات بفم " ترتوليان" على سبيل المثال ) , فكان ذلك عملا تعقيليا ضخما جرى على مراحل متعددة ( الوحي الأفلاطوني خلال القرون الخمسة للميلاد "القديس اوغسطين" ثم الإتجاهات الصوفية الأفلاطونية الجديدة من القرن التاسع حتى القرن الثاني عشر " القديس أنسلم " واخيرا هيمنة ارسطو بواسطة "القديس توماس" منذ القرن الثالث عشر ) . وادى في خاتمة المطاف إلى المسيحية الحديثة ... وهو مسيحية يمكن أن يقال عنها من وجهة نظر اخلاقية بأنها حققت تركيبا من الإتجاه المسيحي المحض الذى يعتبر الإله أبا تنبغي محبته ومن الفكرة ( العبرانية بالحرى) التي تنظر إليه كسيد يجب خشيته ومن المفهوم اليوناني الذى يعتبر الإله الذكاء الأعلى الذى يجب عقلانيا احترام قوانينه .