المسيحية الحديثة

من كتب

لم تحول المسيحية من اصولها الأولى إلى "كنيسة" بطرائق متنوعة إلا انها تلتقي جميعا في الواقع : ففي البدء ولادة "لاهوت" يزداد تعقيدا شيئا فشيئا ويهدف إلى "البرهان" على وجود الله وتحديد خصائصه ( هذا مصدر نشوء العقائد ومنها عقيدة الثالوث التي قد تكون صدى إستلهام المسيحية الثلاثي ... حيث الله القدرو والحب والذكاء) .. ثم التنظيم الذى لم يلبث طابعه التسلسلي أن شرع يتوضح بالتدريج .. ثم التأثير الزمني ( الإجتماعي والسياسي ) المتزايد , وقد لازم عدم التسامح ( يستند عدم التسامح إلى العبارة الإنجيلية الشهيرة في انجيل لوقا "اجبرهم على الدخول" – في الحقيقة الوحيدة) المرحلة الأولى بالضرورة تقريبا كما لازمت المنافسات البشرية والمصالح المادية المرحلتين الأخريين , وتجلى كل ذلك بصورة تاريخ حافل بالإنقسامات والحروب والإضطهادات والإنحطاطات الوقتية و"اليقظات" ... ولهذا ندد الكثيرون من اعداء الكنيسة سواء من المعتقدين بالكنيسة أو الملحدين على السواء ولا سيما فولتير بالكاثوليكية ساخطين أو ساخرين لإبتعادها عن روح الإخاء التي كانت تسود المسيحيين الأوائل , ولكن لا ريب في أن حكم "مونتسكيو" كان خيرا من احكامهم حين أوضح أن ] من سوء المحاكمة تجميع ما نتج عن الدين من اخطاء في دفتر احصائي كبير فيما اغفلنا ذكر ما صنعه من حسنات [ . ومهما يكن من امر , فلو اعتبرنا هذا النمو من وجهة نظر اللتأمل الأخلاقي المحضة , لوجدناه يسير جنبا إلى جنب مع خط تطوري اتخذ اشكالا عديدة بصورة متلائمة مع التيارات الثلاثة التي ذكرناها وادت هذه الأشكال إلى انماط حياتية تختلف عن بعضها بعض الإختلاف .

1-اخلاق القلب والعاطفة – الله محبة قبل كل شيء , وتقليد يسوع المسيح هو "الإندماج في الله" كما قال القديس برنار , عن طريق نبذ العالم وما فيه من خيرات والصلاة والخشوع والممارسة الدائمة للإحسان وبذل النفس للغير ... وهذا مصدر " الرهبنة والكهنوت "النظامي" وهي مسيحية القديس فرنسوا الأسيزي التي تهاوت من ناحية إلى ذلك التدين السهل لدى اولئك اليسوعيين الذين هاجمهم باسكال ( وشوه صورتهم في الحقيقة ) , وبولغ فيها من ناحية اخرى حتى اصبحت تلك "السكينة الصوفية" لدى فينيلون (حيث الكمال الروحي هو التأمل في الله تأملا عاشقا ولكن لا فعالا .. ) , وفسرها تولتسوي من ناحيته بأخلاق قائمة على الغيرية الشاملة ... واخيرا فإن هذه المسيحية هي التي تشكل الإتجاه الحالي للكاثوليكية ( ولا سيما الفرنسية) التي ترغب بإستعادة الجماهير إليها عن طريق العودة إلى ديموقراطية المسيحية الأصلية .

2- اخلاق التزمت – الله قبل كل شيء هو الرب ذو المقدرة كل المقدرة وله نواياه واغراضه التي لا نستطيع لها ادراكا . وهو الذى ينقذ من يشاء انقاذه , أما الإنسان فهو مذنب قبل كل شيء . هذه هي المسيحية التي نادت بها "الجانسينية" , وهي مسيحية محمومة مبنية على الخشية . وكذلك فإنها ليست اعتقادا لا هوتيا بالقدر السابق المحتوم بمقدار ما هي مبدأ اخلاقي صارم لا يعرف التساهل وهذا ما اثار ضدها اضطهاد لويس الرابع عشر الذى كان ( يحب دينه ولكن لا يطيق تحمل اولئك الذين يقولون بالتشدد في تطبيق الدين بحذافيره ) كما كتب مونتسكيو .

3- الأخلاق العلمية – تشكل هذه الأخلاق خاتمة المطاف , على صعيد المذهبية الأخلاقية , بالنسبة لمفهوم "إله الفلاسفة" ذكل المفهوم الذى هاجمه باسكال والقائم على اعتبار الإله "عقلا محضا" بصورة اساسية .. وبذلك تتحدد الأخلاق على انها التطبيق العملي بصورة رئيسية لتلك المعرفة العقلية ب" المباديء " الإلهية , هذه الماديء التي يمتلكها الإنسان بصورة فطرية ( ولكن الأهواء غالبا ما تحجبها عنه) .. وهذا موقف القديس توماس , بشكل خاص بين الذين الكثيرين ممن اعتنقوا هذا الرأي الذى يمزج بين أرسطو والوحي المسيحي , مؤديا إلى تمييز اربع فضائل "طبيعية" يدخل في طاقة الإنسان اكتسابها بمفرده وهي ( العفة , الشجاعة , الحكمة, العدالة) وثلاث فضائل اخرى " لاهوتية" لا يستطيع اكتسابها إلا بفضل اللطف الإلهي وهي ( الإيمان , الإحسان , الأمل ) . بيد أن مفهوم "اللطف الإلهي " ( الذى يصبح مصدرا لمصاعب لا عداد لها حين يتعلق الأمر بتفسير طبيعة المسؤولية الإنسانية ) يعود بنا إلى فكرة "الإرادة الإلهية" التي تجابهنا بمشكلة اساسية لمحها افلاطون في حينه وهي التالية : هل الخير ما يريده الله فحسب , أم أن هناك خيرا اكثر علوية من الإله , فالإله يأمرنا فقط باحترام ذلك الخير ؟ ... واذا كانت هذه المسألة سهلة الحل بالنسبة للميتافيزياء القديمة التي تستبعد فكرة الإله كلي القدرة فإن اللاهوتيين والفلاسفة الحديثين طرحوا اجابات يشوبها الغموض , ولا ريب في أن الحل المنطقي الوحيد هو ذلك الذى جاء به امثال "ابيلار" و "دانز سكوت" و"ديكارت" .. أي الحل الذى يحترم القدرة الإلهية الكلية . أما اذا اتبعنا آراء القديس توماس و"لايبنيتز" فإن الإعتقاد بأن الخير خلق بشكل تحكمي مما "يشين الألوهية" إذ لا يجب اعتبار الإله اصلا للخير مستقلا بذاته ولكنه منبع الإلتزام المترتب علينا بالبحث عن الخير .. وفي الواقع فليس من المستحيل أو اللامعقول تخيل أن الله كان يستطيع لو شاء ايجاد جدول آخر للقيم في الكون مغاير للجدول الحالي . إذ أن كل ما يتضمنه هذا الإفتراض أن يخلق عالما آخر وانسانية اخرى متلائمين مع ذلك الجدول ومختلفين بالتالي عن العالم وعن الإنسانية اللذين نعرفهما . ولا بد لنا من أن نلحظ اخيرا أن فكرة "النظام " المستقل عن الإله قدر لها أن تشق الطريق لجميع تلك "الأديان العلمانية" الفريدة التي شهد القرن التاسع عشر ولادتها ..