تصنيف:علم النفس
النظرة العلمية في علم النفس
من المعروف – وبعد انفصال علم النفس عن الفسلفة – أن علماء النفس مهما اختلفت ميادين اهتمامهم فإنهم يتفقون على اتخاذ المنهج العلمي أسلوباً لدراستهم. قد يختلفون بالطبع في بعض التفاصيل وفي نظرتهم الفلسفية للمنهج العلمي إلا أنك لن تجد باحثاً أو عالماً نفسياً يرفض أن يوصف بأن نظرته تخضع للتفكير العلمي، أو أن أفكاره لم تلـتزم بما تتطلبه النظرة العلمية. فما هي النظرة العلمية؟ يقصد بالنظرة العلمية بشكل عام أي معرفة نستخدم في تحصيلها المنهج العلمي والنظرة العلمية بهذا المعني تتعارض ما يسمى بالنظرة الدارجة أو التفكير الشعبي الدارج. ولكي يتضح لك الفرق بين النظرتين : العلمية والدراجة، سنتجه لعدد من الأمثلة لموضوعات خاصة بالسلوك الإنساني كانت عرضة لبعض الأفكار الشعبية الدارجة ثم أمكن بعد ذلك تناولها بنظرة علمية، وأمكن إخضاعها للبحث العلمي.
النظرة العلمية والنظرة الدارجـة: من أمثلة التفكير الدارج تلك الفكرة القديمة عن الفراسة أي الاعتقاد بأنه يمكن فهم الشخصية والتنبؤ بها من خلال بناء أعضاء جسمه الخارجية كشكل الجمجمه، والأذن، أو حجم الكف، وشكل العينين … الخ. فيقال أن الشخص الكريم مثلاً ذو كف كبيرة الحجم، وأن الأذنين الكبيرتين يكون صاحبهما مجرماً فيما بعد، وأن الجبهة العريضة الممتدة إلى الأمام تكون علامة على سعة الخيال، وأن الرأس عندما تمتد إلى خلف تكون علامة على قوة الذاكرة …. الخ.
وقد شاعت بعض هذه الأفكار عند الفلاسفة اليونانيين، كما روج لها بعض الفلاسفة والكتاب العرب بعد ذلك. وامتد هذا التأثير إلى أوائل القرن التاسع عشر عندما ظهر العالم الألماني "جال" Gall ودعا إلى مايسمى بعلم الملكات أو الفرينولوجى(*).
أراد " جال " أن يكسب هذه الأفكار شكلاً علمياً فرأى أن العقل يتكون من عدد كبير من الملكات أو الوظائف، وأن كل وظيفة يمكن تحديد موقعها في المخ في منطقة معينة منه. وقد أشار "جال" إلى وجود ما يقرب من 60 ملكة عقلية تتوزع على مناطق المخ وأركانه المختلفة. فملكة الذاكرة تقع في مقدمة المخ ( أي الجبهة ) وكذلك ملكة التخيل. أما العـدوان، والمحاكاة، والموهبـة الشـعرية فلها ملكـات تقـع في التلافيف الدقيقة من المخ.
أما عن أساس هذه الملكات فإن " جال " يرى أنها موروثة. ويرى فضلاً عن هذا أن نمو أي ملكة من هذه الملكات تترك نتؤات في الجمجمة الخارجية. ولهذا كان "جال" يدعى أن بإمكانه معرفة الملكات القوية لدى الشخص من خلال إحصاء عدد النتوءات الخارجية للجمجمة بطريق اللمس والتدقيق باليد. هذا هو التصور الدارج الذي ظل مسيطراً على التفكير البشرى كمحاولة لفهم الشخصية الإنسانية، قبل أن يمكـن إخضـاع هذا الموضوع للدراسة العلمية وبالتالي اكتشاف الخطأ في مثل هذه التصورات الدارجـة.
ومن أمثلة التصورات الدارجة أيضاً الآراء التي سادت بعض المراحل التاريخية من المعرفة البشرية عن الفروق بين المرأة والرجـل لقد كان يعتقد – وما زالت بعض هذه المعتقدات تسود الخيال الشعبي حتى الآن – أن المرأة كائن يختلف اختلافاً نوعياً وشاسـعاً عن الرجل. فمزاجها أكثر غموضاً منه، وأكثر اصطناعاً، وأفكارها تعتبر لغزاً وسراً مستعصياً عن الفهم. والغريب أن كثيراً من الفلاسـفة والمفكرين، قد وقعوا في فخ هذه التصورات الغريبة للمرأة، وصاغوا كثيراً من النظريات، بل أن بعضهم حاول أن يكسب نظرياته شكلاً علمياُ، من خلال بعض المفاهيم البيولوجية وعلم الوراثة. وهذا الشكل من التفكير الدارج من أخطر أشكال التفكير على الإطلاق، ومن أكثرها مقاومة للتغيير بسبب الشكل العلمي المضلل الذي يصوغ به تصوراته. ومن أمثلته في تعليل الفروق الجنسية:
(أ) الفكرة التي دعا لها الفيلسوف "هربرت سبنسر " Spencer من أن المرأة والرجل كلاهما يرث تكويناً جسمانياً متشابها، ولكن التغير الذي يطرأ عند البلوغ على الجهاز التناسـلي في الأنثى يجلب معـه وقوفاً مبكراً في تطورها. وعلى هذا فالمرأة عند "سـبنسر" رجل سـاذج، أو ناقص التطور. وهي تبقي – في رأيه – طوال حياتها أشبه بالطفل وأقرب إلى الطبيعة المتوحشـة. (ب) الفكرة الغريبة التي تبناها المحلل النفسي النمساوي الشهير " سيجمند فرويد " Freud عن تلك الفروقعندما ذكر أن : " حظ النساء من النرجسية وحب الذات أكثر من حظ الرجال. وهذا يؤثر في اختيارهن لموضوع حبهن. بحيث أن حاجتهن إلى أن يكن موضوعاً لمحبة الغير أقوى من حاجتهن إلى أن يحببن الغير. وأن مايتسمن به من زهو وعجب هو إلى حد ما أثر من آثار حسد القضيب. وهن مدفوعات إلى الغلو في إظهار محاسنهن الجسمية، كما لو كان ذلك تعويضاً لاحقاً عما لديهن من نقص جنسي أصيل. أما ما يظهرن به من حياء فما هو إلا ذريعة تصطنع أصلاً لستر ما بأعضائهن التناسلية من نقص (مرجع6). ويستمر فرويد بهذا المنطق مفسراً أوجه الخلاف بين المرأة والرجل من حيث عجز النساء عن الابتكار وميلهن للغموض، وتحيزهن، وتوقف قدرتهن على التغير في سن مبكر (مرجع 6). وذلك قبل أن يهتم باكتشاف أن كانت هذه الفروق هي فروق حقيقية بالفعل بين المرأة والرجل.
لقد بينت البحوث الحديثة أن كثيراً من الفروق بين الرجال والنساء فروق مبالغ فيها فيما عدا بالطبع الفروق التشريحية وفرق التركيب العضوي. أما ما يبني على هذه الفروق التشريحية من فروق في الشـخصية والمزاج والذكاء وغـيرها فقـد كان محض افتراضات بعضها نسجه خيال خصب ولكنه لم يتفق والوقائع التي كشفت عنها بحوث العلماء. صحيح أن بعض الفروق تلاحظ بين الذكور والإناث، لكنها ليست بكاملها مرتبطة بما يسمي بالتركيب العضوي، حيث أننا نعرف الآن أن جانبا كبيرا من جوانب الاختلاف بين المرأة و الرجل في بعض جوانب الشخصية وطرق التفكير وأساليب التفاعل بالآخرين إنما تحكمه عوامل أخري لعل من أهمها التعـبير عن متطلبات الدور الاجتماعي وتوقعاتنا من الرجل والمرأة.
وكدليل علي أن هذه الفروق بين النساء والرجال تحكمها شروط أخرى أنه أمكن لباحثتين نفسيتين (مرجع 10) أن تتفحصا ما يقرب من ألفى كتاب وبحث عن هذه الفروق بين الذكور والإناث بهدف استخلاص ما هو حقيقي ويدعمه البحث، وما هو خرافي تشيعه الأوهام الدراجة. وفيما يلي الفروق التي تبين أنها غير صحيحة ولا يوجد فيها بين الجنسين اختلافات فعلية يعتد بها:
1. لا صحة للفكرة بأن النساء أميل للاهتمام بالناس والمجتمعات بينما الذكور أميل للاهتمام بالأفكار المجردة والأمور غير الاجتماعية. 2 - لا صحة للفكرة بأن المرأة أكثر استهواء وأكثر قابلية للإيحاء والتأثر من الرجل. 3 - كذلك لا يوجد دليل على أن المرأة تفتقد لدافـع الإنجاز وحب التحصيل والعمل الجـاد. 4 - أو أنها تفتقر للتفكير التحليلي أكثر من الرجـل. 5 - كذلك لا يوجد دليل على أن المرأة اقل ذكاء من الرجل. 6 - ولم توجد أدلة موضوعية تثبت أن المرأة أقل ثقة بالنفس أو أنها أكثر شعوراً بالنقص من الرجل. 7. ولا صحة كذلك للفكرة بأن المرأة أكثر سلبية من الرجل فكلا الجنسان يتساويان من حيث حب المجازفة والرغبة في اكتشاف البيئة الجديدة إذا ما توفرت لهما الحرية لذلك بشكل متساو. أما عن الحقائق فقد كشفت البحوث بيقين عن وجود فروق بين الجنسين في الجوانب التالية:
1 - الذكور أكثر عدواناً من الإناث في غالبية الحضارات الإنسانية المعروفة، سواء اتخذ العدوان الشكل اللفظي أو شكل العدوان الجسمي الفعلي (مرجع 10). 2 - تتفوق النساء على الذكور في القدرات اللفظية التي تتطلب طلاقة لغوية، وقدرة على الفهم، والإبداع اللفظي وتزداد الفروق في صالح المرأة خاصة بعد سن 11 حتى المراحل الجامعية. 3 - يتفوق الذكور على الإناث في القـدرات المكانية، وإدراك العلاقـات بين الأشكال والأحجام. 4 - كذلك يتفوق الذكور في القدرات الحسابية ومعالجة الأرقام.
كذلك توجد فروق بدرجة يقينيـة أقل من الفروق الأربعة السابقة في : 1 - مستوى المخاوف والقلق حيث ترتفع النساء عن الذكور. 2 - الحساسية اللمسية عند النساء أكثر منها عند الذكــور. 3 - يميل الذكور للألعاب التنافسية بينما تميل الفتيات للألعاب التعاونيـة. 4 - الذكور أكثر حباً للسيطرة من الإناث. 5 - الفتيات أكثر ميلاً للطاعة والانصياع للأوامر والتوجيهات من الأولاد. 6 - النساء أكثر تقبلاً للتقاليد والانصياع لها من الذكور ( على الأقل فيما تثبت البحوث في مصر. ومن الأمثلة الأخرى للتفكير الدارج الاعتقادات التي كان ينسجها الأقدمون عن وجود أرواح أو شياطين خيرة أو شريرة لها القدرة على أن تلج الجسم البشرى وتسيطر عليه على نحو ما. وبهذا التصور استطاع الأقدمون أن يفسروا بعض الجوانب الغريبة في السلوك البشرى مثل الأمراض النفسية، والعبقرية الفنية. فإذا كانت تلك الأرواح خبيثـة وشـريرة فهي توجه الإنسان وجهات نفسية وجسـمية سلبية فيتكون المرض الجسمي والنفسي. أما أن كانت خيرة ومحمودة فيتكون العبقري في الفن والشعر.
ويبدو أن نظرية اللبس الشيطاني سادت التفكير البشرى ما قبل التاريخ فيما تدل على ذلك الجماجم المثقوبة المتروكة لنا عبر الحفريات التي تنسب لهذه العصور القديمة. إن الثقوب التي كانت تلاحظ على تلك الجماجـم كانت فيما يبدو عملاً مقصوداً بهدف السـماح للشياطين المحبوسـة بالهروب ومغادرة الجسـم.
على أن أوضح ما تركته لنا هذه التفسيرات من آثار على التفكير البشرى تلك التصورات التي نسجها الفلاسفة اليونانيون للمبدع أو الشخص العبقري على أنه في حالة لبس شيطاني ولعل أهم ما يعبر عن هذه التصورات تلك العبارة التي أوردها " أفلاطون " في محاورة " أيون " حيث يقول سـقراط للشـاعر :
" إن الهبة التي تملكهــا ليســت فنـاً، ولكنها إلهـام. إن هنـاك شـيطان يحركـك، يشـبه تمـاماً ذلك الحجر الذي يسميه " أوربيدس " مغناطيساً. إنك لست بالصنعة الفنية تشدو أيها الشاعر بل بقوة شيطان الشعر.
لقد بقي هذا التصور للعبقرية حتى القرن التاسع عشر، ومشـارف القرن العشرين. ولا يزال كثير من الصحافيين وكتاب الثقافة العامة يكتبون حتى الآن عن شـيوع الأمراض الجسمية والنفسية بين العباقرة بصفتها من الأسباب الدافعة والمسببة للخلق والإبداع. ومن المعتقد أن شيوع مثل هذه الأفكار إنما يمثل امتدادا بالفكرة القديمة عن الفنان بأنه مجنون، وبأنه ينتج أعظم إبداعاته بتأثير قوة خارقة للطبيعة، وبعيدة تماماً عن مجال حسـه وتحكمه. وهو ما تدحضه الدراسات الحديثة للإبداع كما سنرى ( الفصل 10 ).
الفروق بين النظرة العلمية والنظرة الدارجة في نقاط
ماهي أوجه الخلاف بين التفكير الدارج والتفكير العلمي ؟ وكيف تكون النظرة العلمية لتلك الموضوعات؟ من الأمثلة على التفكير الخرافي في علم النفس الاعتقاد الذي كان سائداً في القرون القديمة وبدايات العصور الوسطى بأن المرض العقلي يحدث بكامله تقريباً نتيجة لوجود أرواح أو شياطين شريرة تتلبس الإنسان. وكمثال على هذا الشكل (أ) الذي يصور أحد الطقوس القديمة للتخلص من الجنون من خلال إيقاعات راقصة. وفى الشكل (ب) جمجمة مثقوبة كطريقة استخدامها الأقدمون للسماح بالأرواح الشريرة بالهروب.
أمـا الآن فعلينا أن نوجه الانتباه لبعض النقاط الأساسـية المميزة بين النظرة العلمية والنظرة الدارجـة :
قد تكون بعض التصورات الدارجة صحيحة أو غير صحيحة. فقد يكون المجرم كبير الأذن، وقد تكون المرأة ذات عقدة نقص دفينة، ويكون العبقرى المشبوب الخيال مريضاً نفسياً. لكن العالم لا يعنيه هذا الأمر أساساً. ما يعنيه هو الكيفية التي نتوصل بها لهذه الحقيقة أو تلك. فهو يتساءل بادئ ذي بدء عن الأسلوب الذي توصلنا به إلى تلك الحقيقة أو هذه الواقعة. " إن البدء بالسؤال : كيف نعرف ؟ يحظى اليوم بأهمية أكبر من السؤال : ماذا تعرف ؟ " … هكذا يقول العالم الإنجليزى والرياضى الفيلسوف " وايتهيد Whitehead" مدعما هذا الفرق بين التفكير العلمي وغير العلمي. هذه نقطة الخلاف الأساسية بين التفكير العلمي والتفكير الدارج. التفكير العلمي لا يهمه الاهتمام بتأكيد التصورات الشائعة بقدر ما يهمه أسلوب الوصول إلى هذه التصورات أي المنهج العلمي وما يشمله من عناصر مثل الملاحظة المضبوطة، والتجربة، والقياس فيما سنرى. أما النظرة الدارجة فتبنى على الخبرة العامة بالحياة والملاحظات العابرة الجزئية دون أن تهتم بما فيها من صدق أو صواب. وقد تكون قوة التقاليد، وجاذبية الشيوع العام للفكرة بين المحيطين من الأسس المقبولة لما نتحمس له من أفكـار دارجـة. 1 - وتؤدى النقطة الخلافية الأساسية السابقة إلى نقاط أخرى من الخلاف. فنحن نعجز – وفق التصور الدارج عن بناء استنتاجات دقيقة تساعدنا على التنبؤ بالوقائع المستقبلية. وهذه نقطة أسـاسـية يتطلبها التفكير العلمي: الاستدلال من الماضي والحاضر على المستقبل. فلكي تكون للعلم قيمة ينبغى عليه أن يتنبأ، وأن يستدل من ملاحظاته الدقيقة ووسائله في القياس والتجريب على معالم المستقبل. أما نقص المعلومات، والوقائع في التفكير الدارج فيجعلنا غير واثقين من المستقبل لا نستطيع مثلاً أن نتنبأ مثلاً من ملاحظة الجبهـة العريضة لمجموعـة من التلاميـذ في إحـدى المـدارس بأنهـم سـيكونون فيما بعد من ذوى الخيال المشبوب ومن قادة الفكر والفن. التفكير الدارج يقفز إلى التعميم السريع إذ تكفي بضع ملاحظات عن بعض المفكريـن والفنانين من أن بعضهـم كان يعاني من المرض الجسمي، أو النقـص الحسي أو الأمراض النفسية والعقلية حتى يقفز إلى تصور أن العبقرية قرينة المرض والنقص. والتفكير العلمي لايكتفى بملاحظة أن " طه حسين " و " أبا العلاء المعرى " كانا كفيفين، أو أن " نيتشه " و " وفان جوخ " كانا مجنونين ( أو أقرب للجنون ) أو أن حالات من الاكتئاب الحاد كانت تتملك " توماس مان " و " سكسبير " و " كافكا " و " جبران خليل خبران " و "هيمنجواى" ( الذي أنهي اكتئابه منتحراً بطلق نارى )، أو أن بعضهم كان فريسة للأمراض الجسيمة كالسل عند " تشيكوف " أو الزهرى الذي أصاب " بودلير " و "نيتشه". التفكير العلمي لايكتفي بهذه الملاحظات ليضع منها قانوناً أو نظرية. إذ لابد أن تكون الوقائع كافية قبل تبني أي تصور وأن تكون العينات ممثلة – وفق شروط معينة للجمهور الأصلي الذي سنعمم عليه نتائج ملاحظاتنا وتجاربنا. (3)
من الأمثلة الواضحة على التفكير الذي لم يلتزم بالأسلوب العلمي الاعتقادات التي كان ينسجها الناس في القرن السادس عشر حول إدانة الساحرات. فالساحرة في الشكل (أ) كانت توضع على سلم وتعتبر مذنبة إذا مال السلم على أي جانب وتعتبر بريئة إذا ظل في الوضع المستقيم. مقدمات التفكير الدارج لا تؤدى حتماً إلى الاستنتاجات المبنية عليها. فظهور بضعة من المفكرين أو الأدباء بمظهر التوتر النفسي او المرض العقلي لا يعني أن المرض سبب من أسباب الإبداع، بل قد يعني العكس: إن المبدع يبدع بالرغم من مرضه وليس بسببه. (4) من السهل أن يقع التفكير الدارج في التناقض. ونعنى بالتناقض هنا أن نفسر الظاهرة ونقيضها بنفس السبب الواحد. فالجنون كدرجة عليا من درجات الفوضي في التفكير – يفسره شيطان أو روح خبيثـة، والعبقرية – كدرجة عليا من درجات التنظيم العقلي والهروب من التشوش – تفسر بنفس السبب وهو وجود شيطان أو روح. وقد وقعت بعض الفلسفات النفسية في مثل هذا التناقض وذلك كنظرية التحليل النفسي لفرويد التي استخدمت بعض المفاهيم لتفسير الظواهر ونقائضها وذلك مثل مفهوم الكبت الذي ابتكره المحللون النفسيون لتفسير الإقبال الشديد على الجنس الآخر، أو النفور الشديد من الجنس الأمر. ومثل مفهوم تكوين رد الفعل الذي يظهر – فيما يرى فرويد (مرجع 6) – في صورة أفعال عنيفـة تحدث على نحو لا شعورى وتظهر في الاتجاه المضاد للرغبة المعلن عنها، أو يظهر كمحاولة من الفرد للدفاع عن ميل يعانيه ولكنه يرفضه. فقد استخدم المحللون النفسيون هذا المفهوم في تفسير العدوان الشديد على الآخرين على أنه رد فعل للتربية القاسية لقمع التعبير عن العدوان. وكذلك استخدموه لتفسير ظواهر متعارضة مع العدوان مثل الأدب المفرط بصفته أيضا رد فعل لأسلوب قاس من التربية. (5)
وسنرى فيما بعد أن جزءاً كبيراً من سياسة العلماء يتجه أساساً لتجنب هذا التناقض والنقص في التفكير، أو البحث عن شروط إضافية تؤدى إلى ظهور الأفعال ونقائضها في الموقف الواحد.
بعض المفاهيم الدارجة التي تتكون بهدف توضيح بعض الظواهر الغامضة تكون هي في ذاتها غامضة وغير مفهومة فأنا لا أعرف مثلاً ماذا يعـني مفهوم شيطان الشعر هذا الذي تحدث عنه " أفلاطون ". ولا أعرف ما هو المقصود بمفهوم المرض المفسر للعبقرية.. هل هو مرض جسمي ؟ أم نفسي، أم عقلي ؟ وعلى أي نحو يؤثر في ظهور العبقرية ؟ وما مقدار ما يتوافر منه للشخص حتى يكون عبقرياً ؟ …… الخ. (6)
والتفكير العلمي يتعامل مع أفكار واضحـة، ويجعل هدفه امتحان أفكاره، وإعادة التجارب. ولهذا فإن النظرية العلمية تنمو أو تتغير بكاملها أو تستبدل بنظرية أخرى إن ثبت عدم صمودها أمام الوقائع الجـديدة. أما الفكر الدارج فلا يهتم بامتحان أفكاره كثيراً. وقد يكون لهذا السبب ثابتاً متصلباً رافضاً لما يخالفه من وقائع. ولهذا من المتوقع دائما أن تكون الأخطاء المترتبة علي ممارسة التفكير غير العلمي أكبر بكثير من الأخطاء التي ترتبط بممارسة التفكير العلمي ومناهج بحثه. ومن ثم نحتاج للتعرف علي أبعاد الأسلوب العلمي وبعض مناهج البحث فيه كما تمارس في دراسة السلوك الإنساني. (7)
عبدالستار إبراهيم قرية الياسمين جرينلاند- مدينة 6 اكتوبر- الجيزة- مصر drsattaribrahim@yahoo.com 2008-01-16
هذا التصنيف لا يحتوي حالياً على أي صفحات أو ملفات.