حامد حنفي داود

من كتب

داود بن علي داود بن علي ابن خلف , الإمام , البحر , الحافظ , العلامة , عالم الوقت أبو سليمان البغدادي , المعروف بالأصبهاني , مولى أمير المؤمنين المهدي , رئيس أهل الظاهر . مولده سنه مائتين . وسمع : سليمان بن حرب , وعمرو بن مرزوق , والقعنبي , ومحمد بن كثير العبدي , ومسدد بن مسرهد , وإسحاق بن راهويه , وأبا ثور الكلبي , والقواريري , وطبقتهم . وارتحل إلى إسحاق [بن راهويه] وسمع منه "المسند" و "التفسير" , وناظر عنده ; وجمع وصنف , وتصدر , وتخرج به الأصحاب . قال أبو بكر الخطيب : صنف الكتب , وكان إماما ورعا ناسكا زاهدا , وفي كتبه حديث كثير , لكن الرواية عنه عزيزة جدا . حدث عنه : ابنه أبو بكر محمد بن داود , وزكريا الساجي , ويوسف بن يعقوب الداودي , وعباس بن أحمد المذكر , وغيرهم . قال أبو محمد بن حزم : إنما عرف بالأصبهاني , لأن أمه أصبهانية , وكان أبوه حنفي المذهب . قال أبو عمرو المستملي : رأيت داود بن علي يرد على إسحاق بن راهويه , وما رأيت أحدا قبله ولا بعده يرد عليه , هيبة له . قال عمر بن محمد بن بجير الحافظ : سمعت داود بن علي يقول : دخلت على إسحاق وهو يحتجم , فجلست , فرأيت كُتب الشافعي , فأخذت أنظر , فصاح بي إسحاق : أيش تنظر ؟ فقلت : مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ قال : فجعل يضحك , أو يتبسم . سعيد بن عمر البرذعي , قال : كنا عند أبي زرعة الرازي , فاختلف رجلان من أصحابنا في أمر داود الأصبهاني , والمزني , والرجلان : فضلك الرازي , وابن خراش , فقال ابن خراش : داود كافر . وقال فضلك المزني: جاهل . فأقبل أبو زرعة يوبخهما , وقال لهما : ما واحد منكما لهما بصاحب . ثم قال : ترى داود هذا , لو اقتصر على ما يقتصر عليه أهل العلم لظننت أنه يكمد أهل البدع بما عنده من البيان والآلة ولكنه تعدى , لقد قدم علينا من نيسابور , فكتب إلي محمد بن رافع , ومحمد بن يحيى , وعمرو بن زرارة , وحسين بن منصور , ومشيخة نيسابور بما أحدث هناك , فكتمت ذلك لما خفت من عواقبه , ولم أبد له شيئا من ذلك , فقدم بغداد . وكان بينه وبين صالح بن أحمد بن حنبل حسن , فكلم صالحا أن يتلطف له في الاستئذان على أبيه , فأتى صالح أباه , فقال : رجل سألني أن يأتيك , فقال : ما اسمه ؟ قال : داود . قال : من أين هو ؟ قال : من أصبهان . فكان صالح يروغ عن تعريفه , فما زال الإمام أحمد يفحص , حتى فطن به , فقال : هذا قد كتب إلى محمد بن يحيى في أمره أنه زعم أن القرآن محدث , فلا يقربني . فقال : يا أبة ! إنه ينتفي من هذا وينكره . فقال : محمد بن يحيى أصدق منه , لا تأذن له . قال أبو عبد الله المحاملي : رأيت داود بن علي يصلي , فما رأيت مسلما يشبهه في حسن تواضعه . وقد كان محمد بن جرير الطبري يختلف إلى داود بن علي مدة , ثم تخلف عنه , وعقد لنفسه مجلسا , فأنشأ داود يتمثل : فلــو أنـي بليـت بهاشـمي خُؤولتـه بنوة عبد المدان صـبرت علـى أذاه لـي ولكن تعالي فانظري بمن ابتلاني قال أحمد بن كامل القاضي : أخبرني أبو عبد الله الوراق : أنه كان يورق على داود بن علي , وأنه سمعه يسال عن القرآن , فقال : أما الذي في اللوح المحفوظ : فغير مخلوق , وأما الذي هو بين الناس : فمخلوق . قلت : هذه التفرقة والتفصيل ما قالها أحد قبله , فيما علمت , وما زال المسلمون على أن القرآن العظيم كلام الله , ووحيه وتنزيله , حتى أظهر المأمون القول : بأنه مخلوق , وظهرت مقالة المعتزلة , فثبت الإمام أحمد بن حنبل , وأئمة السنة على القول : بأنه غير مخلوق , إلى أن ظهرت مقالة حسين بن علي الكرابيسي وهي : أن القرآن كلام الله غير مخلوق , وأن ألفاظنا به مخلوقة , فأنكر الإمام أحمد ذلك , وعده بدعة , وقال : من قال : لفظي بالقرآن مخلوق , يريد به القرآن , فهو جهمي . وقال أيضا : من قال : لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع . فزجر عن الخوض في ذلك من الطرفين . وأما داود فقال : القرآن محدث . فقام على داود خلق من أئمة الحديث , وأنكروا قوله وبدعوه , وجاء من بعده طائفة من أهل النظر , فقالوا : كلام الله معنى قائم بالنفس , وهذه الكتب المنزلة دالة عليه , ودققوا وعمقوا , فنسأل الله الهدى واتباع الحق , فالقرآن العظيم , حروفه ومعانيه وألفاظه كلام رب العالمين , غير مخلوق , وتلفظنا به وأصواتنا به من أعمالنا المخلوقة , قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : زينوا القرآن بأصواتكم ولكن لما كان الملفوظ لا يستقل إلا بتلفظنا , والمكتوب لا ينفك عن كتابة , والمتلو لا يسمع إلا بتلاوة تالٍ , صعب فهم المسألة , وعسر إفراز اللفظ الذي هو الملفوظ من اللفظ الذي يعنى به التلفظ , فالذهن يعلم الفرق بين هذا وبين هذا , والخوض في هذا خطر . نسأل الله السلامة في الدين . وفي المسألة بحوث طويلة , الكف عنها أولى , ولا سيما في هذه الأزمنة المزمنة . قال أبو العباس ثعلب : كان داود بن علي عقله أكبر من علمه . وقال قاسم بن أصبغ الحافظ : ذاكرت ابن جرير الطبري , وابن سريج في كتاب ابن قتيبة في الفقه , فقالا : ليس بشيء , فإذا أردت الفقه , فكُتب أصحاب الفقه , كالشافعي , وداود , ونظرائهما . ثم قالا : ولا كتب أبي عبيد في الفقه , أما ترى كتابه في "الأموال" , مع أنه أحسن كتبه ؟ وقال ابن حزم : كان داود عراقيا , كتب ثمانية عشر ألف ورقة , ومن أصحابه : أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن رويم , وأبو بكر بن النجار , وأبو الطيب محمد بن جعفر الديباجي , وأحمد بن مخلد الإيادي , وأبو سعيد الحسن بن عبيد الله , صاحب التصانيف , وأبو بكر محمد بن أحمد الدجاجي , وأبو نصر السجسناني ثم سرد أسماء عدة من تلامذته . أخبرنا عمر بن عبد المنعم عن أبي اليمن الكندي , أخبرنا علي ابن عبد السلام , أخبرنا أبو إسحاق الفقيه , في "طبقات الفقهاء" له , قال : ذكر فقهاء بغداد , ومنهم : أبو سليمان داود بن علي بن خلف الأصبهاني , ولد في سنة اثنتين ومائتين ومات سنة سبعين ومائتين . أخذ العلم عن : إسحاق بن راهويه , وأبي ثور ; وكان زاهدا متقللا وقيل : إنه كان في مجلسه أربع مائة صاحب طيلسان أخضر , وكان من المتعصبين للشافعي , وصنف كتابين في فضائله والثناء عليه , وانتهت إليه رئاسة العلم ببغداد , وأصله من أصفهان , ومولده بالكوفة , ومنشؤه ببغداد , وقبره بها في الشونيزية . وقال أبو بكر الخلال : أخبرنا الحسين بن عبد الله , قال : سألت المروذي عن قصة داود الأصبهاني , وما أنكر عليه أبو عبد الله , فقال : كان داود خرج إلى خراسان , إلى ابن راهويه , فتكلم بكلام شهد عليه أبو نصر بن عبد المجيد وآخر , شهدا عليه أنه قال : القرآن محدث . فقال لي أبو عبد الله : من داود بن علي ؟ لا فرج الله عنه . قلت : هذا من غلمان أبي ثور . قال : جاءني كتاب محمد بن يحيى النيسابوري أن داود الأصبهاني قال ببلدنا : إن القرآن محدث . قال المروذي : حدثني محمد بن إبراهيم النيسابوري , أن إسحاق بن راهويه لما سمع كلام داود في بيته , وثب على داود وضربه , وأنكر عليه . الخلال : سمعت أحمد بن محمد بن صدقة , سمعت محمد بن الحسين بن صبيح , سمعت داود الأصبهاني يقول : القرآن محدث , ولفظي بالقرآن مخلوق . وأخبرنا سعيد بن أبي مسلم : سمعت محمد بن عبدة يقول : دخلت إلى داود , فغضب علي أحمد بن حنبل , فدخلت عليه , فلم يكلمني , فقال له رجل : يا أبا عبد الله! إنه رد عليه مسألة . قال : وما هي ؟ قال : قال : الخنثى إذا مات من يغسله ؟ قال داود : يغسله الخدم . فقال محمد بن عبدة : الخدم رجال , ولكن يُيمَّم , فتبسم أحمد وقال : أصاب , أصاب , ما أجود ما أجابه ! قال محمد بن إسحاق النديم : لداود من الكتب : كتاب "الإيضاح" كتاب "الإفصاح" , كتاب "الأصول" , كتاب "الدعاوى" , كتاب كبيز في الفقه , كتاب "الذب عن السنة والأخبار" أربع مجلدات , كتاب "الرد عل أهل الإفك" , "صفة أخلاق النبي" , كتاب "الإجماع" , كتاب "إبطال القياس" , كتاب "خبر الواحد وبعضه موجب للعلم" , كتاب "الإيضاح" , خمسة عشر مجلدا , كتاب "المتعة" , كتاب "إبطال التقليد" , كتاب "المعرفة" , كتاب "العموم والخصوص" . وسرد أشياء كثيرة . قلت : للعلماء قولان في الاعتداد , بخلاف داود وأتباعه : فمن اعتد بخلافهم , قال : ما اعتدادنا بخلافهم لأن مفرداتهم حجة , بل لتحكى في الجملة , وبعضها سائغ , وبعضها قوي , وبعضها ساقط , ثم ما تفردوا به هو شيء من قبيل مخالفة الإجماع الظني , وتندر مخالفتهم لإجماع قطعي . ومن أهدرهم , ولم يعتد بهم , لم يعدهم في مسائلهم المفردة خارجين بها من الدين , ولا كفرهم بها , بل يقول : هؤلاء في حيز العوام , أو هم كالشيعة في الفروع , ولا نلتفت إلى أقوالهم , ولا ننصب معهم الخلاف , ولا نعتني بتحصيل كتبهم , ولا ندل مستفتيا من العامة عليهم . وإذا تظاهروا بمسألة معلومة البطلان , كمسح الرجلين , أدبناهم , وعزرناهم , وألزمناهم بالغسل جزما . قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني : قال الجمهور : إنهم -يعني نفاة القياس- لا يبلغون رتبة الاجتهاد , ولا يجوز تقليدهم القضاء . ونقل الأستاذ أبو منصور البغدادي , عن أبي علي بن أبي هريرة , وطائفة من الشافعية , أنه لا اعتبار بخلاف داود , وسائر نفاة القياس , في الفروع دون الأصول . وقال إمام الحرمين أبو المعالي : الذي ذهب إليه أهل التحقيق : أن منكري القياس لا يعدون من علماء الأمة , ولا من حملة الشريعة , لأنهم معاندون , مباهتون فيما ثبت استفاضة وتواترا , لأن معظم الشريعة صادر عن الاجتهاد , ولا تفي النصوص بعشر معشارها , وهؤلاء ملتحقون بالعوام . قلت : هذا القول من أبي المعالي أداه إليه اجتهاده, وهم , فأداهم اجتهادهم إلى نفي القول بالقياس , فكيف يرد الاجتهاد بمثله , وندري بالضرورة أن داود كان يُقرئ مذهبه , ويناظر عليه , ويفتي به في مثل بغداد , وكثرة الأئمة بها وبغيرها , فلم نرهم قاموا عليه , ولا أنكروا فتاويه ولا تدريسه , ولا سعوا في منعه من بثه , وبالحضرة مثل إسماعيل القاضي , شيخ المالكية , وعثمان بن بشار الأنماطي , شيخ الشافعية , والمروذي , شيخ الحنبلية , وابني الإمام أحمد , وأبي العباس أحمد بن محمد البرتي شيخ الحنفية , وأحمد بن أبي عمران القاضي , ومثل عالم بغداد إبراهيم الحربي . بل سكتوا له , حتى لقد قال قاسم بن أصبغ : ذاكرت الطبري -يعني ابن جرير- وابن سريج , فقلت لهما : كتاب ابن قتيبة في الفقه أين هو عندكما ؟ قالا : ليس بشيء , ولا كتاب أبي عبيد , فإذا أردت الفقه فكتب الشافعى , وداود , ونظرائهما . ثم كان بعده ابنه أبو بكر , وابن المغلس , وعدة من تلامذة داود , وعلى أكتافهم مثل : ابن سريج , شيخ الشافعية , وأبي بكر الخلال , شيخ الحنبلية , وأبي الحسن الكرخي شيخ الحنفية , وكان أبو جعفر الطحاوي بمصر . بل كانوا يتجالسون ويتناظرون , ويبرز كل منهم بحججه , ولا يسعون بالداودية إلى السلطان . بل أبلغ من ذلك , ينصبون معهم الخلاف , في تصانيفهم قديما وحديثا . وبكل حال , فلهم أشياء أحسنوا فيها , ولهم مسائل مستهجنة , يشغب عليهم بها , وإلى ذلك يشير الإمام أبو عمرو بن الصلاح , حيث يقول : الذي اختاره الأستاذ أبو منصور , وذكر أنه الصحيح من المذهب , أنه يعتبر خلاف داود . ثم قال ابن الصلاح : وهذا الذي استقر عليه الأمر آخرا , كما هو الأغلب الأعرف من صفو الأئمة المتأخرين , الذين أوردوا مذهب داود في مصنفاتهم المشهورة , كالشيخ أبي حامد الإسفراييني , والماوردي , والقاضي أبي الطيب , فلولا اعتدادهم به لما ذكروا مذهبه في مصنفاتهم المشهورة . قال : وأرى أن يعتبر قوله إلا فيما خالف فيه القياس الجلي , وما أجمع عليه القياسيون من أنواعه , أو بناه على أصوله التي قام الدليل القاطع على بطلانها , فاتفاق من سواه إجماع منعقد , كقوله في التغوط في الماء الراكد وتلك المسائل الشنيعة , وقوله : لا ربا إلا في السنة المنصوص عليها فخلافه في هذا أو نحوه غير معتد به , لأنه مبني على ما يقطع ببطلانه . قلت : لا ريب أن كل مسألة انفرد بها , وقطع ببطلان قوله فيها , فإنها هدر , وإنما نحكيها للتعجب , وكل مسألة له عضدها نص , وسبقه إليها صاحب أو تابع , فهي من مسائل الخلاف , فلا تهدر . وفي الجملة , فداود بن علي بصير بالفقه , عالم بالقرآن , حافظ للأثر , رأس في معرفة الخلاف , من أوعية العلم , له ذكاء خارق , وفيه دين متين . وكذلك في فقهاء الظاهرية جماعة لهم علم باهر , وذكاء قوي , فالكمال عزيز , والله الموفق . ونحن : فنحكي قول ابن عباس في المتعة وفي الصرف وفي إنكار العول وقول طائفة من الصحابة في ترك الغسل من الإيلاج وأشباه ذلك , ولا نجوز لأحد تقليدهم في ذلك . قال ابن كامل : مات داود في شهر رمضان سنة سبعين ومائتين .