حصيلة الموسوية
كانت انتقادات "سبينوزا" مطلعا لعدد من أعمال التفسير العلمية التي تناولت الإنجيل بالبحث والرأي السائد اليوم يبدو وكانه يفرض تقبل فكرة أن "العهد القديم" عمل لا متجانس مكون من مجموعة من العناصر المنتمية إلى مصادر وأزمان شديدة الإختلاف , ليس هذا فحسب بل انها تتناقض احيانا فيما بينها , وتحمل في الغالب تواريخ سابقة لأزمنتها ( سواء كان ذلك عمدا أو دون عمد ) وليس من الممكن دائما نسبتها إلى اصحابها الذين تعزوها التقاليد إليهم ... فهي اشبه منها ب " تجميع تدريجي " يمكننا ان نلمح من خلاله التطور التدريجي في المفاهيم العبرية . ومن المعتقد أن العبرانيين السابقين للموسوية - والذين احتلوا فلسطين حوالي مطلع الألف الثاني قبل الميلاد - كانوا يمارسون ديانه "انيمية" يدخل فيها السحر على نطاق واسع وليست قائمة على تعدد الآلهة بمعناه الصحيح , بيد انها تؤمن بعبادة "ارواح الأموات . أما فكرة الإله الوحيد فلم تنشأ إلا ببطء ( تحت تأثير شخصيات اخلاقية مقتدرة مثل النبي موسى ) , وكان الإله الوحيد في الابدء قوميا و"غيورا" ثم اصبح كليا وفاديا في عصر الأنبياء منذ القرن التاسع ق .م ... وهذا منشأ نوع من الإلتباس نجده محيطا ب "يهوه" في الإنجيل : فهو في سفر "اشعيا" مثلا "الواحد" والمبدا الأخلاقي و "حَكَم الشعوب" ... معبده الكون بأجمعه الوسيلة المثلى لعبادته ليس القرابين بل طهارة القلب واحترام العدالة ... وسيأتي يوم ينقذ فيه الإنسانية بواسطة "مسيح" من آلامها التي تتخبط فيها ليقيم مملكة العدل والخير أما سفر "التكوين" وسفر "الخروج" سفر "تثنية الإشتراع" وسفر "اللاوين" فإنها تشيد اكثر ما تشيد بالقدرة الإلهية : فالله وحده خالق الكون والإنسان , ومن الأكيد انه إله اخلاقي , غير انه مهيمن جبار لا راد لمشيئته ويطلب الطاعة لا لشيء إلا لأنه( هو الرب , إلاهك) وهو يعد بالثواب أولئك الذين يحبونه ويحفظون وصاياه ويوقع عقابه كما يلي : " أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع من مبغضي" ومن المعلوم أن وصاياه تتضمن إلى جانب تعاليم طقوسية أو متعلقة بالصحة الخاصة والهامة , كما تتضمن بالإضافة إليها قواعد ذات قيمة اخلاقية رفيعة . وليس هناك من يجهل مضمون الوصايا العشر : الإحترام البنوي .. احترام زوجة الغير .. احترام الحياة البشرية .. تحريم السرقة .. تحريم الكذب .. تحريم الحسد ... وكلها فرائض واجبة لكونها اوامر صادرة عن إله يعلم حقوقه " لا يكن لك آلهة اخرى امامي " كما يعلم واجباته تجاه من ينصاع لهذه الأوامر . ويتضح من ذلك أن المثل العلى يقوم على العدالة الصارمة ( بلغ من صرامتها الأخذ بقانون العين بالعين والسن بالسن ) التي تشكل بالإضافة إلى الأمل "المسياني" - مجيء المسيح المنتظر - الذى اشاعه الأنبياء فيما بعد الميزة الخاصة بالتأمل الأخلاقي العبراني والتي نجد صدى بعيدا لها في الدور الهام - النظري والعملي- الذى اضطلعت به في تأسيس المذاهب الإشتراكية .