عين جالوت

تكاد الأمور تهدأ فى مصر فى بداية عهد المماليك حتى سقطت الخلافة فى بغداد على أيدى التتار الذين اجتاحوا بلاد المسلمين وسيطروا عليها، ولم يعد أمامهم سوى مصر، فسعوا إلى الإيقاع بها ليكون العالم الإسلامى كافة فى قبضتهم، فبعد سقوط بغداد زحف التتار بقيادة هولاكو تجاه سوريا، واحتلوا حلب، وحماه، ودمشق، وعقدوا معاهدة مع أنطاكية ضد المسلمين. فأرسل هولاكو إلى سلطان مصر يطلب منه التسليم، ويهدده بالقضاء على جيوش المسلمين كلها إن لم يسرع بذلك ظنًا منه دخول مصر بسهولة كما دخل بغداد إلا أن سيف الدين قطز أجبره على أن يفيق من أحلامه بصاعقة لم تكن متوقعة، ومزق رسالته وقتل رسله وعلق رءوسهم على مدخل القاهرة. خرج المظفر قطز فى أواخر شهر شبعان سنة (658هـ) لملاقاة التتار الذين وصلت طلائعهم إلى غزة بقيادة كتبغا، ودارت رحى المعركة بين الطرفين فى عين جالوت بفلسطين فى رمضان من سنة (658هـ)، وكان بجوار قطز بيبرسُ أعظمُ فرسانِ الماليك. ودارت المعركة وحدث ارتباك شديد بين صفوف المسلمين فى بداية المعركة، فلما رأى قطز ذلك عمل على رفع معنويات جنده وشد عزيمتهم، وألقى خوذته عن رأسه إلى الأرض وصاح بأعلى صوته: وا إسلاماه... وا إسلاماه، فاستجاب له الجند، ودوت الصيحة فى ميدان المعركة، ورفع المسلمون أصواتهم بالتكبير: الله أكبر، وعمدوا إلى قتال عدوهم، وجاهدوا بإخلاص وثقة فى سبيل الله للحفاظ على الدين والأرض والمال والولد، فكتب الله لهم النصر المؤزر على جحافل التتار، وقضوا عليهم قضاءًا مبْرحاً. ويعد الانتصار العظيم الذى حققه المسلمون على التتار فى عين جالوت من أعظم الانتصارات فى التاريخ الإسلامى على الاطلاق. فلم يكن مجرد انتصار عسكرى فحسب بل كان انتصاراً للحضارة، وإنقاذاً للمدنية الإسلامية والإنسانية كلها من أمة همجية، لم تكتف بالقتل والذبح والتشريد، بل عملت على الهدم والتخريب والدمار، فقتلت المسلمين بوحشية، وهدمت مكتبات بغداد، وألقت بأعظم المؤلفات العلمية والحضارية فى نهري دجله والفرات. ولولا رحمة الله تعالى بهذه الأمة بأن قيض لها قادة عظماء، ورجالاً يخشون الله تعالى، وفرساناً يعملون على إعلاء كلمة (لاإله إلا الله)، والحفاظ على وحدة الإسلام لتغيرت أحداث التاريخ، واختلفت مجريات الأمور، وتباينت صور الحضارة فى هذه البلاد، ولكن الله تعالى أراد السلامة لهذه الأمة من خطر التتار وهمجيتهم فردهم على أعقابهم مدحورين خاسرين. فاللهم أيد لهذه الأمة رجلاً عظيماً، وقائداً فاتحاً يجمع شتات الدول الإسلامية.